صحيفة الشرق العربي

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

آخر تحديث يوم السبت 03 - 05 - 2003م

 ـمركز الشرق العربي |   التعريف  |   دراسات  |  متابعات  |   قراءات  |   هوامش   |  رجال الشرق  |  من أرشيف الشرق  |   ـ| مشاركات الزوار |ـجســـور |ـجديد الموقع | كــتب | مجموعة الحوار | البحث في الموقع |ـ

.....

   

رؤية

برق الشرق

عشية وصول باول وقبيل الخضوع التامّ للشروط الأمريكية

سورية بشار الأسد أمام كبرى هواجس حافظ الأسد

صبحي حديدي

قد تبرهن الأشهر، وربما الأسابيع، القادمة أنّ واحداً من كبريات هواجس الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وتحديداً ذلك الطراز من الهواجس النادرة المحورية المعقدة التي تقتضي منه مزج المخاوف المحسوبة بالحسابات الشاقة، إنما يتجسد اليوم على نحو دراماتيكي.

ذلك الهاجس الكبير كانت تختصره الأسئلة التالية:

ـ كيف سيفلح نجله وخليفته بشار الأسد في مواجهة استحقاقات السلام مع الدولة العبرية، أو السلام الأمريكي ـ الإسرائيلي في التسمية الأدقّ، حين تتسع أكثر فأكثر دائرة الهيمنة الأمريكية على المنطقة، وتبدّل الولايات المتحدة سياساتها السابقة التسامحية تجاه النظام السوري، ويصبح الرضوخ أمام شروط واشنطن وتل أبيب بمثابة بديل يعادل بقاء أو إمحاء النظام؟

ـ وكيف سيفعل حين تتهاوي، واحدة تلو الأخرى، أوراق قوّة دمشق في التوازنات الجيو ـ سياسية والعسكرية الإقليمية، أو حين تنقلب هذه إلى وبال وعبء ومأزق، أو ــ بصفة محدّدة وجوهرية ــ حين يُغلق الملفّ العراقي على الوجه المتوقع (هيمنة أمريكية مطلقة)؟

ـ وأيّ خيارات، في الصمود والمناورة والهجوم المضادّ، سوف تتبقى أمام الخليفة الشابّ، الوافد الجديد على مشاقّ عظمى في السياسة والأمن والاقتصاد، المفتقر إلى الكثير من مراس أبيه، والحاكم الذي جاء إلى الحكم من بوّابة الوراثة العائلية وحدها ولهذا فهو لم يجد الفرصة والوقت لامتلاك الحدّ الأدنى من الخبرة المطلوبة: الواسعة، الحاسمة، التي لا غنى عنها؟ ـ وهل سيساعده، أم ينقلب ضدّه، نظام خاصّ في الحكم ــ استبدادي وقمعي وأمني ـ عسكري قائم على هرمية مركّبة من عناصر الخضوع والولاء والاستزلام والتكسب والنهب ــ كان الأسد الأب يقبض عليه بيد الترغيب والترهيب في آن، ولكن بيد حديدية لا يملكها النجل في كلّ حال؟

كان الأسد الأب يقلّب الرأي في هذه الأسئلة لأنّ واقعة غير محسوبة طرأت على حساباته الدقيقة في ترتيب الخلافة وترتيب البيت داخلياً وخارجياً، وهي الوفاة المفاجئة لنجله البكر وخياره الأوّل في الخلافة باسل الأسد، واضطراره تالياً إلى دفع ابنه التالي في السنّ بشار الأسد إلى واجهة التوريث، مع إدراكه التامّ أن الأخير ليس مؤهلاً بعد ــ وفي الحدّ الأدنى ــ لمخاطرة جسيمة كهذه. وكما بات معروفاً اليوم، دخل الأسد الأب في سباق قاتل مع الزمن، استهدف إزالة أكبر قدر ممكن من العراقيل في وجه خلافة بشار، وتذليل ما تيسّر من صعاب، وتسريع تدريب الفتى على شؤون الحكم، وتطويع ما يتيح الزمن تطويعه ــ أو إزالته تماماً ــ من أفراد الحرس القديم الذين قد يقفون في صفّ معارضة الخليفة الشاب، أو مزاحمته، أو التشويش عليه.

والحال أنّ كلّ هذه المهامّ كانت في كفة، وكان التعاطي مع الدولة العبرية والولايات المتحدة في الكفة الأخرى، هذه التي كانت وتظلّ أثقل وزناً وأشدّ إحراجاً وأكثر استعجالاً. والحال أنّ الأسد الأب كان يعرف أنّ عقد اتفاقية سلام سورية ـ إسرائيلية في حياته وبرعايته هو شخصياً سوف يجعل شروط تلك الإتفاقية ــ أيّاً كانت ــ أفضل بكثير من شروط أية اتفاقية أخرى تُعقد في غيابه ويديرها سواه.

ولكنه، في ختام قمة جنيف التي جمعته بالرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، في آذار(مارس) 2000، أدرك أنه لن يحصل على مطالب الحدّ الأدنى التي تجعل عقد مثل تلك الإتفاقية مصدر قوّة لنجله وخليفته بدل أن تكون مصدر ضعف، ولهذا فقد قرّر أن يذهب مذهباً آخر مختلفاً تماماً: لقد عاشت سورية في سياقات اللاحرب ـ اللاسلم منذ 32 عاماً، 29 منها في عهده هو، ولم تلعب تلك السياقات أيّ دور في المسّ بمعادلات الوضع الداخلي كما رسمها ونفذّها بدقّة هندسية صارمة. في وسع سورية، استطراداً، أن تعيش طوراً إضافياً في ظلّ السياقات ذاتها، حتى إذا كانت أساليب معالجة أخطار انعزال البلد في غيابه لن تكون شبيهة بأساليبه هو في معالجة تلك الأخطار.

ما لم يكن في حسبان الرئيس السوري هو، على الأرجح، ما يجري هذه الأيام بالذات من تبدّل جذري في موقف الولايات المتحدة من أنظمة المنطقة إجمالاً، والنظام العراقي السابق بصفة محددة. فهل في وسع نظام الرئيس السوري بشار الأسد أن يعيش الحقبة الحالية، فما بالك بالقادمة، في ظلّ المعطيات الأمنية والعسكرية والسياسية التي طرأت على بنيته بعد رحيل حافظ الأسد؟ وهل في وسع الولايات المتحدة، فما بالك بالدولة العبرية، أن تواصل حقبة التسامح القديمة ذاتها إزاء التجاوزات السورية التي اقتضت الأوضاع السابقة غضّ النظر عنها، مثل الوجود العسكري السوري في لبنان، وتغطية حزب الله أمنياً وسياسياً ولوجستياً أحياناً، والسماح بأن تكون دمشق مستقرّاً لمنظمات فلسطينية تصنّفها واشنطن وتل أبيب في خانة "الإرهاب"؟

المنطق البسيط، أي ذاك الذي يتضح شيئاً فشيئاً كلّ يوم، يقتضي الإجابة بالنفي على السؤالين السابقين. فبالنسبة إلى صلابة بنية النظام، يكفي أن يتذكّر المرء ما جرى لنظام صدام حسين، وكيف تحوّلت الأجهزة الأمنية العراقية (التي تتبارى مع الأجهزة الأمنية السورية في البطش والتنكيل والوحشية) إلى أثر بعد عين حين زحفت الدبابات الأمريكية على جسور بغداد، حتى يدرك أنّ ما لحق بزيد يمكن أن يلحق بعمرو، سواء بسواء. فهذه الأجهزة منشغلة أساساً في حفظ معادلات أمن النظام الداخلية، أي صيانة توازنات القوى، والمحاصصة في ثروات الوطن، وشَرْعَنة النهب، وحماية الفساد، وقهر الشارع، وقمع الأصوات المعارضة، والإمعان في انتهاك الحقوق.

وفي الجانب الإقتصادي بلغت المبادلات التجارية بين سورية والعراق ما قيمته 500 مليون دولار، ويعدّ النفط في طليعة هذه التبادلات، إذْ كان العراق يصدّر إلى سورية 170 ألف برميل يومياً، وكان من المتوقع أن ترتفع إلى 800 ألف برميل. وسورية تشتري البرميل الواحد بمعدّل 10 ـ 14 دولاراً، وتعيد تصديره بالسعر الدولي الراهن، فتحقق بذلك هامش ربح كبير لا يقلّ عن عشرة دولارات في البرميل الواحد. ويقدّر أحد التقارير الصادرة حديثاً عن معهد "شاتام هاوس" أنّ نسبة 60% من بند الموارد في الميزانية السورية يعتمد على ما يقارب 1.200 مليار دولار قيمة أرباح النفط العراقي، و800 مليون دولار قيمة المبادلات التجارية الأخرى. وهذا المنبع جفّ تماماً الآن، وحتى إشعار آخر طويل كما يبدو.

وثمة تلك الحقيقة المؤلمة، المسكوت عنها بهذا القدر أو ذاك، والتي تقول إنّ الجيش السوري (الذي لا يقلّ وطنية عن الجيش العراقي، وسبق للمقاتلين العراقيين أن قاتلوا العدوّ الإسرائيلي مع أشقائهم السوريين في بطاح الجولان، وامتزج الدم بالدم) ليس أقلّ من الجيش العراقي في الخضوع لإذلال أجهزة النظام السوري الأمنية، وتكبيل أيدي مقاتليه، والحطّ من كرامتهم وحقوقهم. وإذا كان هذا الجيش سوف يقاتل حتماً للدفاع عن أرض الوطن إذا تعرّض الوطن للغزو الخارجي، فإنّ من المسلّم به أنّ النظام لن يمنح هذا الجيش فرصة مشرّفة كهذه، وسيسلّم ويستسلم حتى قبل اقتراب الغازي من الحدود!

والثابت أنّ هموم المواطن السوري، وعلى رأسها حقوقه وحرّياته وكرامته، ليست البتة على لائحة المطالب الأمريكية التي يتوجب أن ينفذها النظام السوري إذا شاء العيش أكثر في هذا الشرق الأوسط الجديد الذي تبنيه واشنطن وتل أبيب. ومع ذلك فإنّ أقطاب اليمين الجديد في أمريكا ليسوا على استعداد لاحتمال المزيد من الرطانة البعثية، التي كانت تتعالى من بغداد ودمشق، حول القضية الفلسطينية بالذات، وحول "الرسالة الخالدة"، والثالوث الشهير (وحدة، حرية، اشتراكية)، ومحاربة الإمبريالية والصهيونية... حتى إذا كانت هذه الرطانة مجرّد قعقعة إيديولوجية جوفاء. ورغم أنّ حزب البعث لا يحكم في سورية عملياً، وهذه كانت حاله في العراق أيضاً، فإنّ محاق العقيدة البعثية مطلوب هنا مثلما كان مطلوباً هناك.

وأمّا في الإجابة عن السؤال الثاني، فيكفي استعراض التصريحات الأمريكية المتباينة (من الرئيس وأعوانه المباشرين، إلى أعضاء الكونغرس وأدمغة اليمين الجديد) لكي يدرك المرء أنّ التسامح الأمريكي العتيق إزاء تجاوزات سورية حافظ الأسد لن يواصل المنحى ذاته في سورية بشار الأسد، أو سورية ما بعد صدام حسين كما ينبغي أن نقول. فالرئيس جورج بوش، وبعد ساعات معدودات على سقوط مدينة تكريت، آخر معاقل صدّام حسين، وجّه إلى سورية تحذيراً جديداً مزدوج الإتهام: إيواء مسؤولين عراقيين سابقين، وحيازة أسلحة كيميائية، وقال: "نعتقد أنّ في سورية أسلحة كيميائية، ونحن جادّون حول منع أسلحة الدمار الشامل. كلّ وضع يتطلب رداً مختلفاً... أمر يأتي بعد أمر... الآن نحن في العراق والأمر الثاني في ما يتعلّق بسورية هو أننا ننتظر تعاونها التامّ".

وزير الخارجية كولن باول، وقبل وقت قصير من تصريحات بوش، قال "إننا، وطيلة سنوات، اعتبرنا سورية ضمن الدول التي ترعى الارهاب، ولن يكون من الحكمة أن تصبح سورية فجأة ملاذاً لكلّ هؤلاء المطلوبين للعدالة". وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد ذكّر بأنّ سورية "تملك أسلحة كيميائية، وأنها على اللائحة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، وهي ارتكبت الكثير من الأخطاء وتورطت في الكثير من التقديرات غير الصحيحة". وفي تعداد هذه الأخطاء والتقديرات غير الصحيحة يسرد المسؤولون الأمريكيون ثلاثة: تهريب السلاح إلى العراق، وتسهيل مرور المتطوّعين العرب عبر حدودها، والموافقة على إيواء العشرات من المسؤولين العراقيين الفارّين بعد انهيار النظام.

وفي الخلفية الأبعد ثمة، بالطبع، رغبة واشنطن في أن تبادر دمشق إلى إغلاق أو تصفية أو تحجيم وجود منظمات مثل "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة"، "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين"، "فتح ـ الإنتفاضة"، "حماس"، و"الجهاد الإسلامي". أمّا على الأرض اللبنانية فإنّ "حزب ال"له يظلّ على رأس أهداف أمريكا في لبنان، ليس بسبب المطالب الإسرائيلية الملحّة ووجود الحزب على لائحة المنظمات الإرهابية التي تعتمدها وزارة الخارجية الأمريكية فحسب، بل أيضاً بسبب اسم محدّد هو عماد مغنية، الذي اعتبرت وزارة العدل الأمريكية أنه على صلة مباشرة مع أسامة بن لادن. والتُهم الموجهة إلى مغنية كثيرة ومتعددة: أنه العامل في لبنان بالنيابة عن الإستخبارات الإيرانية، والمسؤول عن تفجير السفارة الأمريكية ومقرّات المارينز في بيروت سنة 1983، وخاطف عدد من الأمريكيين في لبنان خلال الثمانينات، والدماغ المخطط لخطف طائرة TWA إلى بيروت سنة 1985، وتفجير أهداف إسرائيلية في الأرجنتين، إلى جانب وجود جائزة بقيمة مليوني دولار لقاء معلومات تفضي إلى القبض عليه. وإلى جانب "حزب الله"، هنالك منظمات أخرى أصغر وأقلّ شأناً، ولكنها أيضاً تظلّ على اللائحة الأمريكية: "عصبة الأنصار الإسلامية" السنّية الفلسطينية، "منظمة التكفير والهجرة"، ومجموعة الفلسطيني منير مقدح في مخيم عين الحلوة، وسواها.

والمؤشرات المتوفرة حتى اليوم، أي قبل وصول كولن باول إلى دمشق غداً، تقول إنّ دمشق لم تعرب عن الرغبة في التعاون الإيجابي التامّ في معظم هذه الملفات فحسب، بل هي أدهشت السناتور توم لانتوس (ويُقال أنها أصابت رئيس وزراء الدولة العبرية أرييل شارون بدهشة مماثلة) في مدى استعدادها لتعاون مماثل في ملفّ استئناف المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية، عاجلاً وسريعاً، وحتى قبل الكشف عن محتوى "خارطة الطريق"! كأنّ النظام السوري، وإلى حين بروز علائم أخرى، يجسّد على نحو مدهش الحالة السريرية المطلوبة أمريكياً للعلاج، والتي وصفها وزير الخارجية الأمريكي في شهادته أمام لجنة الإعتمادات الخارجية في الكونغرس: "تجربة الصحو من السُكْر".

ولكن هيهات أن يكون الصحو وحده معادل التوازن والثبات والوقوف على القدمين!

القدس العربي 2/5/2003

السابق

 

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

   

for

S&CS

 

 

المحتويات

 
  الموقف  
  برق الشرق  
  رؤية  
  اقتصاد  
  كشكول  
  غد الوطن  
  حوارات  
  تراث  
  بيانات وتصريحات  
  بريد القراء  
  قراءات  
  شآميات  
 

 

  اتصل بنا

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

للأعلى

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إليه ، أو غير معزو .ـ

   

 ـمركز الشرق العربي |   التعريف  |   دراسات  |  متابعات  |   قراءات  |   هوامش   |  رجال الشرق  |  من أرشيف الشرق  |ـمشاركات الزوار |ـجســـور |ـجديد ـالموقع | كــتب | مجموعة الحوار | ابحث في الموقع |ـ

| ـالموقف |  برق الشرق  | رؤية  | اقتصاد |  كشكول  | غد الوطن  |  حوارات  | تراث  | بيانات وتصريحات |  بريد القراء |  قراءات  | شآميات  |  ـ