صحيفة الشرق العربي

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

آخر تحديث يوم الأربعاء 23 - 04 - 2003م

 ـمركز الشرق العربي |   التعريف  |   دراسات  |  متابعات  |   قراءات  |   هوامش   |  رجال الشرق  |  من أرشيف الشرق  |   ـ| مشاركات الزوار |ـجســـور |ـجديد الموقع | كــتب | مجموعة الحوار | البحث في الموقع |ـ

.....

   

رؤية

برق الشرق

العبرة الواجبة بعد حرب العراق

بقلم الدكتور محمد علي الهاشمي

لا يماري عاقل شهد أحداث الحرب على العراق،  وما سبقها من حرب نفسية شُنّت على الأمة العربية كلها، وما تبع ذلك من غزو أجنبي سافر، أسقط دولة، واحتلّ أرضاً، وأزال سيادة، وفرض واقعاً استعمارياً متحكّماً في كل شيء، والأمة بملايينها وإمكاناتها وقدراتها تقف عاجزة مكتوفة الأيدي أمام الغازي المغير، بصرف النظر عن الموقف من صدّام.

لا يماري عاقل في أن ما جرى على ساحة العراق وساحة الأمة العربية محنة كبيرة، كبيرة جداً، تدعو كل فرد يعيش في هذه البقعة العربية من العالم إلى العبرة والعظة، وبخاصة أولو الأمر، ممن بيدهم القرار التنفيذي، وأولو الأمر من العلماء والمفكرين وأصحاب الأقلام، ممن يُعَوّل عليهم في إسداء النصح وتقديم المشورة وتحمّل المسؤولية.

ذلك أن الأمم والشعوب التي تتعظ بما يمر بها من أحداث، وتستفيد من تجاربها، هي الأمم والشعوب التي تستحق الحياة الحرة العزيزة الكريمة، وهي التي تخرج من الفتن والمحن التي ألمّت بها أقوى عزيمة، وأكثر صموداً وحيوية.

إن المحنة التي تمر بنا في العراق لتضع أمامنا صُوَى النجاة، وعلامات النجاح، وعوامل الخلاص مما نتخبّط فيه من فرقة وضعف وتخلّف، إن أردنا أن نتخلص من ذلك التخبط المقيت الذي أزرى بنا، وأضاع هيبتـنا، وجعلنا لقمة سائغة لكل طامع مغير، كما صور ذلك الحديث الصحيح:

"يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أومن قلة يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل. ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت".

وصُوَى النجاة وعلامات النجاح واضحة لكل من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد، وتتلخص في النقاط الآتية:

الاعتصام بحبل الله:

ولا يكون الاعتصام بحب الله كلاماً وعظياً عاطفياً يسمعه الناس كثيراً من الخطباء، وإنما يكون تطبيقاً عملياً لقوله تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً".

فالاعتصام بحبل الله في حقيقته دعوة إلى وحدة العقيدة، والتلاحم ورصّ الصفوف، بحيث يغدو المسلمون في كل مكان كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً، وكالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، كما جاء في الهَدْي النبوي الصحيح.

ويوم تغدو هذه الحقيقة واضحة في حياة المسلمين، لا يستطيع عدو مهما بلغ من القوة والجبروت أن ينفرد بطائفة منهم، يغير عليها، ويذيقها الويلات.

الاحتكام إلى الشريعة الغراء:

وهذا يعنى أن يقيم المسلمون حياتهم في كل مكان على أساس من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الأصل العظيم والأساس المتين لنهضة المسلمين وقوتهم وتقدمهم؛ ذلك أن شريعة الله إذا حكمت حياة المسلمين دولاً وشعوباً، انتفى من حياتهم كل عوامل الفرقة والفساد والضعف والتخلف، وحل محلها عوامل الوحدة والصلاح والقوة والتقدم.

ذلك أن الأمة التي تحكم بما أنزل الله، لا يمكن أي يتربع على سدّة الحكم فيها طاغية مثل صدام وغيره من طواغيت هذا العصر؛ لأن هَدْي الإسلام يعدّ كل مَنْ ساعد  أو ولّى على المسلمين رجلاّ، وفيهم من هو خير منه، فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين.

ولا يمكن لهذه الأمة أن ترضى بالفرقة، ودستور حياتها يهتف بها: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا".

و لا تسكت على فساد، وهَدْي قرآنها يعلن: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض...".

"ولا تعثوا في الأرض مفسدين".

ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين".

ولا ترضى الأمة المستنيرة بهَدْي دينها الحق الضعف، وفي هَدْي دينها: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة".

"المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف".

إن أمة الإسلام حين تستوحي هَدْي دينها تبني القوة التي ترهب العدو، وتجعله يحسب ألف حساب لاقتحام حرماتها، ولا ترضى إلا أن تكون عزيزة كما وصفها الله بقوله: "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين".

ولا ترضى بالتخلف، وقرآنها يعلن أن الله أراد لها أن تكون خير أمة أخرجت للناس.

وهذه الخيرية لا تتحقق إلا إذا أخذت بكل أسباب القوة المادية والمعنوية والتقانية، بحيث تغدو متقدمة راقية مستغنية عن غيرها في كل جوانب الحياة.

وهكذا نجد أن الاحتكام الصادق الصحيح إلى الشريعة الغراء يجنّب الأمة المآسي والنكبات، ويقودها إلى حياة العزة والرفعة والسؤدد والتقدم والسعادة.

التمسك بأخوة الإسلام:

وهذا التمسك بأخوة الإسلام نتيجة حتمية لتطبيق الشريعة السمحة في حياة الأمة، فلا تجد فيها تفرقة بين عربي وكردي وتركماني وسني وشيعي، بل تجد كل من نطق بالشهادتين أخاً محباً لأخيه، عملا بقوله تعالى: "إنما المؤمنون إخوة".

ذلك أن الرابطة التي تربط المسلم بأخيه المسلم مهما كان جنسه ولونه ولغته ومذهبه هي رابطة الإيمان. وأخوّة الإيمان أوثق روابط النفوس، وأمتن عرى القلوب، وأسمى صلات العقول والأرواح.

وحين تسود هذه الرابطة في حياة المسلمين، لا ينشأ فيهم حزب أو تجمّع أو اتجاه يقوم على جاهلية جهلاء كالتي قام عليها حزب البعث العربي الاشتراكي في هذا العصر، الذي أدخل إلى حياة بعض العرب (أيديولوجية) جاهلية علمانية عرقية ملحدة، تقوم على تعظيم الجنس العربي وتقديس العروبة، وإنكار الوحي الرباني، حتى إن شاعرهم يقول بكل صفاقة ووقاحة وإلحاد:

آمنتُ بالبعث رباً لا شريك له                 وبالعُروبة ديناً ماله ثاني

إنها عروبة أبي جهل وأبي لهب وعتبة وشيـبة، تلك التي نادى بها البعثيون في هذا العصر، حينما خلعوا أخوة الإسلام من حياتهم. ولو أنهم تمسّكوا بأخوّة الإسلام لنادوا بعروبة أبي بكر وعمر وخالد وأبي عبيدة رضي الله عنهم أجمعين.

إن أخوّة الإسلام هي الضمانة الوحيدة للتعايش الأخوي بين الأجناس واللغات والقوميات والمذاهب، وهذا ما نحسّه اليوم بعمق، إذ نرى التحركات العرقية والمذهبية في العراق، بين الأكراد والتركمان والعرب، وبين السنة والشيعة. ولا يدخل الطمأنينة إلى النفوس إلا سيادة أخوّة الإسلام على هؤلاء جميعاً؛ فبها وحدها تُغسَل الصدور، وتزول الأحقاد، وتختفي النزعات والعصبيات.

إطلاق الحريات العامة والالتزام بالشورى:

وهاتان النعمتان: الحريات والشورى من النتائج الحتمية أيضاً لتطبيق الشريعة الغراء في المجتمع؛ فالمواطنون الذين يتمتعون بالحرية يحسّون بكرامتهم الإنسانية، ويذكرون نعمة الله عليهم، فيهبّون للعطاء والتثمير والإبداع في السلم والرخاء، وينـتفضون للبذل والتضحية والفداء أيام المحنة والشدة والعدوان.

وإذا ما رأوا انحرافاً أو جوراً أو فساداً سارعوا إلى النقد والتسديد والنصيحة، ولم يدفنوا رؤوسهم في الرمال خشية الكبت والسحق والتشريد؛ لأنهم يعيشون في جو الحرية الطليق، وليسوا رازحين تحت وطأة نظام حكم فردي شمولي ظالم، يصادر الحريات، ويكمّ الأفواه، ويقطع الألسنة، ويكسّر الأقلام. ومن هنا ينتفي الطغيان من حياة المسلمين حاملي لواء الحرية؛ فما ارتفعت شعلة للحرية إلا وانهار عرش للطغيان، وما كان للطغيان أن يعيش في مجتمعات المسلمين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطان جائر".

ولقد بقيت كلمة عمر بن الخطاب في الحرية محفورة في ذاكرة التاريخ: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"، تُصدَّر بها الدساتير ومواثيق حقوق الإنسان. ويقال: إن جان جاك روسو كان يستشهد بها.

أما الشورى فقد عدّها الإسلام من المكونات المهمة لحياة الأمة، وذكرها في أوصاف المؤمنين الأساسية التي لا يتم إسلامهم ولا إيمانهم إلا بها، وذلك في سورة خاصة، اسمها سورة الشورى، فقال تعالى: "والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم...". ولعظم مكانة الشورى أمر الله رسوله بها، فقال: "وشاورهم في الأمر..".

إن الإسلام الذي أقرّ مبدأ الشورى وألزم السلطة الحاكمة به، وحرّم الاستبداد والتسلط الفردي، ترك للبشر تحديد الطريقة والأسلوب اللذين تتم بهما الشورى، توسعةً ومراعاة لاختلاف الأحوال والأزمان؛ ولهذا يمكن أن تكون الشورى في أشكال متعددة وصيغ مختلفة باختلاف العصور والشعوب والأقوام والأعراف. والمهم أن تكون ممارسة الحكم ابتداء من رئيس الدولة إلى رسم سياسة الدولة والإدارة بإشراك الشعب وجمهور الأمة أو من يمثّلها من أولي الأحلام والنهى، وهم الذين اصطُلح على تسميتهم بأهل الحل والعقد، بحيث تكون السلطة الحاكمة مقيدة بقيدين، هما الشريعة والشورى، أي بحكم الله، ورأي الأمة.

توحيد السياسات والمواقف:

وهذا لا يكون إلا بالوصول إلى صيغة من صيغ الاتحاد الممكنة بين الدول العربية، تجعلها متعاونة متضافرة متكاملة، إذا حَزَبهَا أمر وقفت موقفا موحدا، وإن دهمتها مصيبة سارعت جميعا إلى دفعها، وإذا تعرض بعضها إلى خطر وقفت جميعاً في وجهه كالبنيان المرصوص يشد بعضها بعضاً.

وإذا كانت الوحدة الاندماجية هي الحلم الكبير الذي يتمنى العرب جميعاً أن يتحقق من المحيط إلى الخليج، ولكنه متعذر الآن، بل يكاد يبدو مستحيلاً، لأسباب كثيرة لا مجال لسردها الآن، فلا أقل من تحقيق شكل من أشكال الاتحاد، يُبقي على الكيانات القائمة، ويفتح باب التعاون والتكافل وتبادل المنافع بما يحقق الخير والنمو والرخاء والتقدم والقوة للأقطار العربية جميعاً.

إنها لخيبة أمل كبيرة أن تعلن الأمة العربية عن نيتها إقامة السوق العربية المشتركة عام 1953، وهي السنة التي أعلنت فيها أوربا عن عزمها على إقامة السوق الأوربية المشتركة، ثم تمر السنون، فإذا بأوربا تنفّذ ما أعلنته، بل إنها حققت الاتحاد بين دولها، وأصدرت عملتها الموحدة (اليورو)، ونحن معشر العرب لا نزال نغط في نومنا العميق لم نحقق شيئاً!!!

إن الأمة العربية بما حباها الله من خيرات ونعم وطاقات، لجديرة بحياة العزة والشرف والكرامة، إن هي أقامت حياتها على أساس قويم من هَدْي كتاب الله وسنة رسوله، وأخذت بأسباب القوة والعلم والتقانة الحديثة.

ويوم تصل إلى هذا المرتقى العالي لن تجرؤ دولة على أن تقتحم حماها، مهما كانت قوية متفوقة، ومهما كانت طامعة في خيراتها، وستتجنّب كثيراً من المآسي والنكبات. و إن فيما حل بالعراق من محن شديدة لعبرة لأولي الألباب، ما أحوجنا إلى تأملها والوقوف عندها طويلاً.

22 / 4 / 2003السابق

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

   

for

S&CS

 

 

المحتويات

 
  الموقف  
  برق الشرق  
  رؤية  
  اقتصاد  
  كشكول  
  غد الوطن  
  حوارات  
  تراث  
  بيانات وتصريحات  
  بريد القراء  
  قراءات  
  شآميات  
 

 

  اتصل بنا

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

للأعلى

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إليه ، أو غير معزو .ـ

   

 ـمركز الشرق العربي |   التعريف  |   دراسات  |  متابعات  |   قراءات  |   هوامش   |  رجال الشرق  |  من أرشيف الشرق  |ـمشاركات الزوار |ـجســـور |ـجديد ـالموقع | كــتب | مجموعة الحوار | ابحث في الموقع |ـ

| ـالموقف |  برق الشرق  | رؤية  | اقتصاد |  كشكول  | غد الوطن  |  حوارات  | تراث  | بيانات وتصريحات |  بريد القراء |  قراءات  | شآميات  |  ـ