صحيفة الشرق العربي

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

آخر تحديث يوم الأحد 11 - 05 - 2003م

 ـمركز الشرق العربي |   التعريف  |   دراسات  |  متابعات  |   قراءات  |   هوامش   |  رجال الشرق  |  من أرشيف الشرق  |   ـ| مشاركات الزوار |ـجســـور |ـجديد الموقع | كــتب | مجموعة الحوار | البحث في الموقع |ـ

.....

   

برق الشرق

وصل إلى مركز الشرق العربي : 

الحوار مع إسرائيل يكمل سيرورة دشنتها "الحركة التصحيحية"

النظام السوري بين مشقّة الشطرنج وذعر الدومينو

صبحي حديدي

إذا صحّت الأنباء التي أماطت اللثام عنها صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، حول اجتماع ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري وأبرز أعوانه الحاليين مع المدير العام السابق لوزارة خارجية الدولة العبرية إيتان بن تسور في العاصمة الأردنية عمّان، فإنّ هذا التعاطي السوري المتأخّر مع الإسرائيليين (ولكن المبكّر بالنسبة إلى الغزو الأمريكي للعراق، كما يقتضي المغزى التذكير) تجارة بائرة ولن تسفر إلا عن حصيلة خاسرة.

ومن أسف أنّ ضعف النظام التكويني والبنيوي، القائم في الأساس على علاقته الاستبدادية بالمجتمع والشعب وضربه عرض الحائط بكل مرتكزات اللحمة الوطنية والتحصين الجماعي، لن يكون سوى العامل الأوّل في سلسلة العوامل المتراكمة المترادفة المتلازمة التي تزيده وهناً على وهن، وضعفاً على ضعف، واستسلاماً على استسلام. فإذا صحّت أنباء رفض رئيس وزراء الدولة العبرية أرييل شارون إجراء أيّة تجارة تفاوضية مع دمشق "في هذه الأزمنة الرخوة"، كما يُقال إنه يصف حال العرب الراهنة، فليس فقط لأنّ شارون هو سفّاح إسرائيل الأشدّ وحشية، ومجرم الحرب الأكثر إيغالاً في دماء الفلسطينيين والعرب. الأمر أيضاً عائد، أو هكذا يقول المنطق البسيط، إلى أنّ هذا النظام يبدو اليوم مكشوفاً تماماً، مجرّداً من أوراق قوّته، نافلاً في لعبة الشطرنج الإقليمية، عليه الدور في لعبة انهيار قطع الدومينو حين يحقّ الاستحقاق، مثقلاً بأوزار سياسات لاح ذات يوم أنها أقصى "الشطارة" في المناورة والالتفاف و"الخروج من عنق الزجاجة"، حسب التعبير الشهير لنائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام.

وما دام هذا النظام قد أرسل شقيق الرئيس إلى عمّان، إذا صحّت المعلومات دائماً، فإنّ من الطبيعي أن ترسل تل أبيب إيتان بن تسور! ماهر الأسد لا يتولى أي منصب رسمي سياسي، وإنْ كان يشاطر شقيقه قسطاً لا بأس به من مقاليد السلطة والحكم، ولكنّ الآلة السياسية في الدولة العبرية لا تعمل على نحو شبيه بما اعتاد عليه القصر الجمهوري السوري: من الطبيعي، إذاً، أن ترسل تل أبيب موظفاً سابقاً في وزارة الخارجية، ليس أكثر! الرسالة مزدوجة بالطبع، وهي تقول في وجه أوّل إنّ الدولة العبرية لم تعد تهوى مفاوضات الأروقة السرية، لأنّ وضوح الشرق الأوسط هذه الأيام يعمي الأبصار ولم يعد يتناسب البتة مع العتمة والتكتّم والحياء؛ كما تقول في وجه ثانٍ، إنّ أرييل شارون يأبى التعاطي مع "ختيار" عتيّ رفيع التجارب عالي المراس مثل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، فما الذي يجبره على التعامل مع الهواة من أمثال ماهر الأسد... وما الذي يجبره في سياقات الهزائم العربية الراهنة تحديداً؟

فلماذا يقبل النظام السوري بالتفاوض السرّي مع موظف سابق في وزارة الخارجية الإسرائيلية، وهو ينبغي أن يعرف أنّ أوان هذا "التراسل" وجهاً لوجه (وهو في واقع الأمر ليس بالمفاوضات أبداً) قد مضى وانقضى في عرف شارون؟ ولماذا يفعل ذلك قبيل غزو العراق بأسابيع، وكأنه يستبق العاصفة بأسوأ أشكال الفرار منها، وليس أفضل أشكال الإنحناء أمامها؟ وكيف يحدث أنه يستجدي في الأروقة المغلقة، حين تكون وسائل إعلامه طنّانة ضدّ الدولة العبرية، عالية الصخب والعنف ضدّ العرب المتخاذلين أمام شارون؛ ويكون خطاب الرئيس ذاته "معارضاً" و"كفاحيا"ً و"نهوضياً"؟

ولقد بات من باب السخرية المفرطة حقاً، تلك التي تنطوي أيضاً على الكثير من اللامسؤولية الأخلاقية، أن يواصل البعض الحديث عن سورية بوصفها "قلعة الصمود والتصدي".

والحال أنّ ما يجري في سورية اليوم، من ركوع (زائد بكثير عن الحاجة وعن المطلوب، كما في تسليم ساجدة طلفاح) أمام اشتراطات واشنطن، وعودة المظاهر الأمنية والحواجز الليلية، والتنكيل بالمواطنين (كما في منع المحاميين هيثم المالح وعبد المجيد منجونة من السفر مؤخراً)، واستمرار اعتقال المثقفين الأكراد المطالبين بحقوق مدنية وثقافية مشروعة، واستدعاء المواطنين والتحقيق معهم حول خلفيات تأييد الشعب العراقي (سواء في مستوى تنظيم التطوّع وتأبين الشهداء السوريين على الأرض العراقية، أو في مستوى تنظيم اللقاءات الجماهيرية البسيطة التي كانت قبل أسابيع مدعاة تفاخر السلطة)، والشروع في إغلاق المكاتب الفلسطينية، وفرض قيود غير عادية على اجراءات الدخول إلي العراق وأياً كانت الأسباب... كلّ هذه ليست سوى مظاهر تكميلية لسيرورة غير طارئة أبداً، وكانت تجري منذ فجر "الحركة التصحيحية" التي جاءت بالرئيس السوري الراحل حافظ الأسد إلى السلطة.

ولسوف أضع جانباً السجل الحافل للنظام في ميادين انتهاك حقوق الإنسان والحرّيات المدنية الأساسية، واعتماد الشخصية الإستبدادية للدولة، وهيمنة الأجهزة الخاصة العابرة للمجتمع وللقانون، ومجازر حماه وحلب وجسر الشغور (التي سكتت عنها الولايات المتحدة وبريطانيا ومعظم الغرب، سكوت أهل الكهف). كذلك سوف أضع جانباً سلسلة المواقف التي اتخذها النظام منذ أواسط السبعينيات وحتى يومنا هذا، في ما يخصّ ملفات عربية كبرى ذات طابع إقليمي قومي إجمالاً (حرب الخليج الأولى والثانية)، والتدخّل التدميري في الحرب الأهلية اللبنانية (احتلال البلد عسكرياً، وإخضاعه سياسياً وعسكرياً وأمنياً، وتخريب الحركة الوطنية اللبنانية، والتخاذل أمام الاجتياح الإسرائيلي 1982)، ومحاربة منظمة التحرير الفلسطينية على نحو خاص (حرب المخيمات، وشقّ المنظمة، ومطاردتها الي سواحل طرابلس)... وكلها سياسات كانت تصبّ الماء في الطاحونة الأمريكية ـ الإسرائيلية.

لسوف أكتفي، تالياً، باستذكار (وليس حتى استقراء) سلسلة من الثوابت التي كانت تحكم تفكير حافظ الأسد في السلام السوري ـ الإسرائيلي، ومن الطبيعي أنها ما تزال تحكم تفكير ورثته أينما كانوا في موقع القرار. وهذه الثوابت ـ الحسابات لم تكن بيضاء أو سوداء، بل ظلّت رمادية متقلّبة سريعة التلوّن، ولكنها بأجمعها تدفع إلى خيار السلام وإن كانت لا تخضع لمنطق اللهاث الذي بدت عليه المسارات الأخرى في الواقع. وثمة ما يلي من أسباب وراء هذا الامتياز في البطء والتباطؤ تارة، والخبب والعدو طوراً:

1 ـ الأسد الأب لم يكن على عجلة من أمره، وحاله لم تكن وليست حال منظمة التحرير أو المملكة الأردنية، سواء لجهة الماكرو أو الميكرو ـ اقتصاد، أو لجهة الاقتصاد السياسي البسيط والحاسم. وحين كانت معدلات محصول القطن والفوسفات تزيد بنسبة 20 إلى 25% في عام 1992، كان الرئيس السوري يجتمع بوفد من أبناء الجولان ليقول: لا تفريط في حبة رمل واحدة من تراب بلادنا، والاستسلام ليس في قاموسنا. فوق ذلك، كانت مغانم الاشتراك في "عاصفة الصحراء" تلوح في الأفق قبل أن يشيح الحلفاء الخليجيون بوجوههم وجيوبهم... خاوية الوفاض على أية حال.

2 ـ ولكن الإقتصاد كان ويظلّ في أزمة عضوية ليست حديثة العهد، والرئيس السوري أقام معادلته على أساس خطوة سلام واحدة، مقابل خطوة انفتاح وليبرالية اقتصادية واحدة . لا شيء يسبق، لا شيء يتخلّف. ذلك جعلنا نشهد رئيس غرفة التجارة بدر الدين الشلاح يهلل للسلام، ورئيس غرفة الصناعة يحيي هندي يشكك في السلام: الأول من منبر "وول ستريت جورنال" امتداحاً للعبقرية التجارية المرتقبة بين السوريين وجيرانهم الإسرائيليين، والثاني من منبر إذاعة دمشق رثاء للصناعيين المحليين والمانيفاكتورات الوطنية التي سيبتلعها المال الخارجي المضمخ برائحة يهودية. وفي الحالتين كان التهليل والتشكيك يعكسان أعراض التأزم، مثلما كانت تعكسه غمغمة كوادر حزب البعث الحاكم التي تربّت على مبدأ "فلسطين قبل الجولان" ويُراد لها الآن أن تقول: "مرصد في صفد مقابل مرصد في قاسيون، والله يحبّ المحسنين"!

3 ـ اقتضت المفارقة أن يكون السلام مطلوباً بشروط قائمة على حسابات خارجية باردة (اعتبرها البعض "مشرفة" و"وقفة عزّ" لا تشبه خضوع الفلسطينيين والأردنيين). أما الظروف الداخلية فقد وضعت السلام على جدول أعمال الحياة اليومية، التي لا تقبل سوى الحسابات الساخنة والحلول العاجلة.

4 ـ هذا الوضع الجدلي كان يفضي بدمشق إلي واحد من راعيين، أو إلى كليهما معاً: واشنطن أوالرياض. وغني عن القول أن الراعيين يملكان من أسباب الاتفاق بينهما (وأي اتفاق!!) ما يجعل خيارات دمشق في المناورة تمرّ من خرم إبرة. وفي السياسة يحدث كثيراً أن تضطر الميكيافيللية الماهرة إلى قدر كبير من التواضع، لكي تمرّ من ذلك الخرم الذي ينصبه التاريخ في البرهة القاتلة.

5 ـ ومنذ أن نطق حافظ الأسد بـ "كلمة السحر"، علي حدّ تعبير المعلق الاسرائيلي زئيف شيف، في لقائيه مع الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون (في جنيف ودمشق)، والموقف واضح على النحو الذي كان يحلو للرئيس الراحل أن يصمّم مشهده: ما من دخان يتصاعد ويعمي العيون أو حتي يدلّ على الأثر البعيد، ولكن ثمة نار تحت الرماد... في عالم كان حافظ الأسد يعرف أنه بات قرية صغيرة تدور داخل أسوارها الوشايات وتُهتك الأسرار.

ما حظّ هذه الثوابت من الديمومة اليوم؟ ما يتوالى من أنباء الخنوع السوري أمام واشنطن، مقترناً بالتجاهل الإسرائيلي المهين، يقدّم لنا المؤشر الأول. ثمة، في العمق أكثر، القراءة الإسرائيلية للسلام مع دمشق، والتي تختصرها جيّداً تلك الرسالة المفتوحة التي بعث بها ذات يوم غير بعيد المؤرخ والصحافي الاسرائيلي توم سيغيف إلي الرئيس السوري الراحل، عبر صفحات "هآرتس"، وقال فيها "إنّ الرأي العام الإسرائيلي كان مطلوباً منه أن يعتقد أن المحادثات بين سورية وإسرائيل عالقة عند مرحلة مشابهة للوضع الذي يقول فيه طفل لآخر:

دعني أرى ما لديك، لكي أدعك ترى ما لديّ". ولكن حوار الأسد – في أواسط التسعينيات – مع عضو الكونغرس الأمريكي توم لانتوس (نعم، أيها السادة: هو نفسه الذي زار دمشق قبل أيام وحمل رسائل سورية إلى شارون!) كان ينبغي أن يقنع الرأي العام الإسرائيلي بما اقتنع به سيغيف: الأمور متقدمة أكثر من ذلك بكثير، وهي ليست عند الأسد أقلّ مغزى من مدلولات عبارته البليغة الواضحة التي قالها لعضو الكونغرس: "ان مفهومي للسلام واضح، وحين أتحدث عن السلام الكامل فإنني أقصد السلام الطبيعي من النوع القائم اليوم بين 187 دولة في العالم".

وتابع سيغيف مخاطبة الأسد هكذا: "لقد بدأتَ طور الطمأنة الجديد بحديث صريح مع يهودي طيّب من أمريكا هو توم لانتوس. ولكن لانتوس لن يعيش معك، بل نحن الذين يتوجب أن نعيش معك وتعيش معنا، فتحدّث إلينا يا سيادة الرئيس". وكيف؟ يقول سيغيف: "أقترح عليك استدعاء مجموعة من الصحافيين الإسرائيليين إلى دمشق. ويسرّني أن أكون أحدهم. إسمح لنا بالتجوّل الحرّ يوماً أو يومين في مدينة دمشق، ودعنا نتحدث مباشرة مع الناس في الشوارع ونكوّن انطباعاتنا الخاصة. عرّفنا على من تعتقد أنه يجدر بنا التعرّف إليه، مثل البروفيسورات ورجال الإقتصاد وضباط الجيش والوزراء، ثم تحدّث إلينا أنت ساعتين أو ثلاث ساعات. أقنعنا أن السلام جزء لا يتجزأ من نظريتك الاستراتيجية لمستقبل سورية، وأن السلام يعكس مصلحة سورية حقيقية. من الممكن جداً أن نثق بك في هذه الحالة، وأن نكون عوناً لك أكثر من لانتوس".

كان هذا كلّه أيّام الأسد الأب، المكيافيللي الحاذق الذي عاش عمره وهو يمارس رياضة الحسابات الشاقة حتى أتت علي قواه؛ وحين لم يكن أرييل شارون في السلطة، بل لم يكن يحلم بما منحه إياه الناخب الإسرائيلي مرّتين على التوالي؛ وحين لم تكن الإدارة الأمريكية تعجّ بكلّ هؤلاء الصقور الكواسر الجوارح، وهؤلاء الصهاينة الغلاة؛ وحين كان أنبوب النفط العراقي يضخّ العملة الصعبة، ويمدّ النظام السوري بالكثير من أسباب الحياة..... فكيف اليوم، في أزمنة ماهر الأسد وإتيان بن تسور؟ وكيف حين يكون الخيار حادّاً، حادّاً، بين مشقّة الشطرنج وذعر الدومينو؟

"القدس العربي"  9/5/2003

السابق

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

   

for

S&CS

 

 

المحتويات

 
  الموقف  
  برق الشرق  
  رؤية  
  اقتصاد  
  كشكول  
  غد الوطن  
  حوارات  
  تراث  
  بيانات وتصريحات  
  بريد القراء  
  قراءات  
  شآميات  
 

 

  اتصل بنا

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

للأعلى

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إليه ، أو غير معزو .ـ

   

 ـمركز الشرق العربي |   التعريف  |   دراسات  |  متابعات  |   قراءات  |   هوامش   |  رجال الشرق  |  من أرشيف الشرق  |ـمشاركات الزوار |ـجســـور |ـجديد ـالموقع | كــتب | مجموعة الحوار | ابحث في الموقع |ـ

| ـالموقف |  برق الشرق  | رؤية  | اقتصاد |  كشكول  | غد الوطن  |  حوارات  | تراث  | بيانات وتصريحات |  بريد القراء |  قراءات  | شآميات  |  ـ