ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 23/11/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


 

الإمام الفقيه

زيـد بـن علـي

(80 ـ 122 هـ)

زهير سالم*

هذه الترجمة مقتبسة عن الإمام محمد أبو زهرة في كتابه عن الإمام زيد ابن علي بتصرف يسير جدا

 

مولده:

هو زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فجده الأعلى من قبل أبيه علي بن أبي طالب فارس الإسلام. وأقضى الصحابة، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخوه عند المؤاخاة، وجده من قبل أمه محمد بن عبد الله، ورسول الله ورسول الله وخاتم النبيين، فهو بهذا ذو النسب الرفيع الذي لا يدانيه نسب، ولا يقاربه شرف إذا تفاخر الناس بالنسب، ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم خاطب بني هاشم، فقال لهم: يا بني هاشم، لا يأتيني الناس بالأعمال وتأتوني بالأنساب، ولذلك ضمت العترة النبوية إلى ذلك النسب الطاهر العمل الصالح، فكان نورهم بالعمل الصالح يسعى بين أيديهم.

وقد ولد زيد رضي الله عنه في سنة 80 من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر العلماء تاريخ مولده، ولكن جل الروايات على أنه قتل شهيداً في الميدان للدفاع عن الحق سنة 122 وأجمع المؤرخون على أن سنه يوم مقتله كانت لا تتجاوز الثانية والأربعين، وبذلك يكون استشهاده وهو شاب مقبل على الحياة، ولكن حب الحق دفعه إلى الثورة على الظلم، كما سنبين عند الكلام في مقتله رضي الله عنه. وأمه كانت أمة سندية أهداها إلى أبيه المختار الثقفي.

 

أبوه:

وإذا كنا لا نستطيع التعريف الكامل بأمه، فإنا نستطيع التعريف المقرب لأبيه، وأبوه هو علي زين العابدين بن الحسين رضي الله عنهما، وهو الابن الذكر الذي بقي من أولاد الحسين رضي الله عنه، فقد قتل أخ له في المعركة الفاجرة التي شنها عمال يزيد على الحسين ابن الطاهرة فاطمة الزهراء.

ولم يحضر المعركة علي هذا، لأنه كان مريضاً، وقد كان في الثالثة والعشرين من عمره أو يزيد على ذلك، ولعل الله سبحانه وتعالى أبقاه من هذه السيوف الآثمة لتبقى ذرية الحسين الصلبة من بعده في عقب علي هذا، ولقد هم عمال يزيد أن يقتلوه، ولكن الله كف أيديهم عنه، فقد ذهب بعد هذه المقتلة التي كانت في أهل البيت بعض الفجرة إلى يزيد، فحرضه على قتله، ولكن نجاه الله، ولقد جاء في تاريخ أبي الفداء: (وأشارت بعض الفجرة على يزيد بقتله أيضاً، فمنعه الله تعالى منه، ثم كان يزيد بعد ذلك يكرمه ويجلسه معه، ولا يأكل إلا معه، ثم بعثهم إلى المدينة، وكان علي بالمدينة محترماً معظماً).

وأم علي هذه كانت من سبايا الفرس، من أولاد كسرى، وقد ذكر الزمخشري في كتابه ربيع الأبرار: (إن يزدجرد كان له ثلاث بنات سُبين في زمن عمر بن الخطاب، فكانت إحداهن لعبد الله بن عمر فأولدها سالماً، والأخرى لمحمد بن أبي بكر الصديق، فأولدها القاسم، والأخرى للحسين بن علي فأولدها علياً زين العابدين).

وإن الثلاثة كانوا من العلماء الأجلاء ذوي الفضل في العلم والتقى.

وقد كان علي بن الحسين دائم الحزن شديد البكاء، لأنه عاش بعد أن قُتل الأحبة من قومه وآله، وقد قيل له في ذلك، فقال رضي الله عنه: (إن يعقوب عليه السلام بكى حتى ابيضت عيناه على يوسف، ولم يعلم أنه مات، وإني رأيت بضعة عشر من أهل بيتي يذبحون في غداة يوم واحد، أفترون حزنهم يذهب من قلبي؟[1]).

وإن الحسرات التي أصابت نفسه عقب مقتل أسرته ترتب عليها ثلاثة أمور، كل واحد منها كان فيه خير وفير.

أولهاـ أنه لم تنزع نفسه إلى الاشتغال بالسياسة، لأنه رأى ما ترتب على ذلك في أسرته، بيد أنه مع ذلك لم يقر ظالماً في ظلمه، وما كان يرضى عن حق يهدر، ولكنه شغل نفسه بإسداء الخير، ودرس الدين، ، قال رضي الله عنه : (التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنابذ كتاب الله تعالى وراء ظهره، إلا أن يتقى منهم تقاة، وقد قيل له: (وما التقاة) قال: (يخاف جباراً عنيداً أن يستطيل عليه أو أن يطغى).

وثانيهاـ أنه انصرف إلى العلم والدراسة والفحص، لأنه وجد في ذلك غذاء قلبه وسلوان نفسه، وصرفاً لها عن الهم الدائم، والألم الواصب المستمر، ولذلك طلب الحديث، واتجه إليه، وطلب الصالحين، وأخذ عنهم وقد كان يطلب العلم من كل شخص سواء أكان رفيعاً في أعين الناس أم كان غير رفيع مادام عنده علم ينتفع به، وقد روى أنه كان إذا دخل المسجد تخطى الناس حتى يجلس في حلقة زيد بن أسلم، فقال نافع بن جبير بن مطعم القرشي عاتباً: (غفر الله لك، أنت سيد الناس تأتي تتخطى خلق الله وأهل العلم وقريش، حتى تجلس مع هذا العبد الأسود، فقال له علي بن الحسين: إنما يجلس الرجل حيث ينتفع، وإن العلم يطلب حيث كان).

وقد روى أنه كان يسعى للالتقاء بسعيد بن جبير التابعي الذي كان مولى من الموالي، فقيل له ما تصنع به؟ قال: أريد أن أسأله عن أشياء ينفعنا الله بها، ولا منقصة، إنه ليس عندنا ما يرمينا به هؤلاء..

الأمر الثالث: أنه من وسط صخرة من الأحزان والآلام نبعت الرحمة، ففاض قلبه بها، فكان رحيماً بالناس، كثير الجواد والسخاء، فما علم أن على أحد ديناً، وله به مودة إلا أدى عنه دينه، ودخل على محمد بن أسامة بن زيد بن حارثة يعوده، فوجده يبكي، فقال ما يبكيك، فقال عليّ دين، فقال وكم هو؟ قال: خمسة عشر ألف دينار، فقال زين العابدين هي عليّ.

وقد قال محمد بن اسحق: (كان ناس بالمدينة يعيشون لا يدرون من أين يعيشون ومن يعطيهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك، فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم بالليل بما يأتيهم به، ولما مات وجدوا في ظهره وأكتافه أثر حمل الجراب إلى بيوت الأرامل والمساكين).

ولقد كانت صدقاته كلها ليلاً، وكان يقول رضي الله عنه: (صدقة الليل تطفئ غضب الرب، وتنير القلب والقبر، وتكشف عن العبد ظلمة يوم القيامة).

ولم تكن رحمة زين العابدين بالناس وبالمتصلين عطاء يعطى، بل كانت مع ذلك سماحة وعفواً، يعفو عن القريب وعن البعيد، وعمن ظلمه وأساء إليه، نال منه ابن عمه حسن بن حسن وهو ساكت، فلما كان الليل ذهب إلى منزل ابن عمه، وقال له: يا ابن العم إن كنت صادقاً يغفر الله لي، وإن كنت كاذباً يغفر الله لك، والسلام عليك، ثم رجع، فلحق به ابن عمه فصالحه.

وتروى الأعاجيب عن رحمته وسماحته، ومنها أن جارية كانت تحمل الإبريق وتسكب منه الماء ليتوضاً، فوقع على وجهه وشجه، فرفع رأسه إليها لائماً، فقالت الجارية له: إن الله تعالى يقول (والكاظمين الغيظ)، فقال: قد كظمت غيظي، فقالت: (والعافين عن الناس)، فقال: عفا الله عنك، فقالت: (والله يحب المحسنين)، قال: أنت حرة لوجه الله تعالى.

وقد كان رضي الله عنه لا يساير الذين يذمون الأئمة الراشدين ولم يعلم عنه رضي الله عنه أنه قال في أبي بكر وعمر وعثمان إلا خيراً، وكان يعتبر محبة المتشيعين لآل علي الذين يذمون أولئك الأئمة غير سائغة، بل يعتبرها عاراً، ولذا روى عنه أنه قال لبعض الشيعة: (أيها الناس أحبونا حب الإسلام، فما برح حبكم حتى صار علينا عاراً، وحتى بغضتمونا إلى الناس) فهو في هذا الكلام القيم يدعو الذين يغالون في المحبة إلى أن تكون محبتهم في دائرة الإسلام وآدابه، فلا يذموا العادلين الذي قربهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا منه بمنزلة الحواريين من عيسى بن مريم عليه السلام.

ويروى أنه جلس إلى قوم من أهل العراق، فذكروا أبا بكر وعمر فنالوا منهما، ثم ابتدءوا في عثمان، فقال لهم رضي الله عنه: أخبرونا أأنتم من المهاجرين الأولين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله؟ قالوا: لا. قال: أفأنتم من الذين (تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم). قالوا: لا. فقال لهم: أما أنتم فقد أقررتم على أنفسكم وشهدتم على أنفسكم أنكم لستم من هؤلاء ولا من هؤلاء وأنا أشهد أنكم لستم من الفرقة الثالثة الذين قال الله فيهم: (والذين جاءوا من بعدهم يقولوا ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا) فقوموا عني لا بارك الله فيكم، ولا قرب دوركم، أنتم مستهزئون بالإسلام، ولستم من أهله)[2].

ولم تكن محبته لجده علي كرم الله وجهه فيها مغالاة، ولم تدفعه إلى أن ينحله من الأحوال ما لم يثبت من الدين عنده.

ولقد ادعى بعض الشيعة في عهده أن علياً سيرجع، فسئل في ذلك علي زين العابدين، قال له قائل: (متى يبعث علي؟ فقال رضي الله عنه: (يبعث والله يوم القيامة وتهمه نفسه).

بهذه الخلال السمحة الكريمة، وبهذا الاعتدال في التفكير والرأي وبهذه التقوى التي لا تعرف سوى الله تعالى، اشتهر علي زين العابدين فأجله الناس وأحبوه، حتى إنه كان إذا سار في مزدحم أفسح الناس له الطريق.

في ظل هذه الدوحة الكريمة نشأ زيد وترعرع وتربى، وإنه يلاحظ في وسطه الذي نشأ فيه ثلاثة أمور كلها يؤدي إلى أعظم تهذيب، وأكمل خلق، وأعلى المكارم.

أول هذه الأمورـ هو ذلك الشرف النسبي الذي لا يعلو إليه نسب في العرب أو غير العرب، فهو عترة النبي صلى الله عليه وسلم ويجري في عروقه دم النبي صلى الله عليه وسلم الطاهر، وإن ذلك النسب يعلو به عن سفساف الأمور، ويتجه بهم إلى معاليها وعظمائها.

وثانيهاًـ أنه وآل بيته أصيبوا بشدائد ومحن لا تتفق مع ما يستحقونه من تكريم، فكانت تلك المحن سبباً في أن يتطامنوا للناس من غير ذلة، وأن يعطفوا، وأن يكونوا رحماء بهم، وإن أعاظم الرجال دائماً يلتقي فيهم شرف النسب وعزته، مع صقل المحن وتجاربها، وقد رأيت كيف دفعت الملمات علياً زين العابدين أبا زيد إلى ما كان فيه من رحمة ورفق بالناس، وقد رأى زيد في تربيته الأولى هذه المكارم وذلك السمو الروحي.

الأمر الثالث ـ اتجاه الأسرة إلى العلم، فإن المحن وويلاتها جعلتهم يتجهون إلى أمر يكون فيه سلوان لهم عما هم فيه، فلم يجدوا إلا العلم ملاذاً يلوذون به، ولقد جربوا السياسة فلم يجدوها إلا عوجاء لا تستقيم، فاتجهوا إلى العلم يستفرغون فيه كل قواهم، وهم حفدة علي رضي الله عنه، وعترة النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الرسالة الإلهية.

فإن اتجهوا إلى العلم، فقد اتجهوا إلى المعين الذي جرى إليهم من أسلافهم، وهم بيت النبوة وبيت العلم معاً، وذلك لا نجد غرابة إذا وجدنا العلماء البارزين والأئمة المجتهدين في ذلك البيت الكريم، ففي عصر ذلك الشاب المهتدي كان يتلاقى في هذا البيت أكثر من أئمة أربعة في العلم والفقه، بعضهم في مثل سنه أو قريب، وبعضهم أكبر منه. ففي عصر واحد، كان في البيت الإمام زين العابدين كبير الأسرة، وابنه محمد الباقر الذي بقر العلم وشقه، والذي كان يكبر زيداً، وقد كان له أستاذاً بعد أبيه، وكان في البيت أيضاً جعفر بن محمد رضي الله عنهما، وهو في سن زيد، وإن كان ابن أخيه، وكان مع هؤلاء في المدينة أيضاً عبد الله بن حسن، وهو في مثل سن زيد أيضاً، وكل هؤلاء أئمة أخذ عنهم فقهاء العصر، وأئمة الفقه، فعن محمد الباقر أخذ أبو حنيفة، وكتاب الآثار لأبي حنيفة فيه الروايات الكثير عنه وعن ابنه جعفر، وأخذ أيضاً عن عبد الله بن حسن، وكانت له به صحبة.. وهكذا.

 

روايته عن أبيه:

في هذا البيت الذي يعد مهد العلم النبوي نشأ زيد وتكونت ميوله ومنازعه في الحياة، واتجاهاته، ولعله كانت من نعمة الله على العلم أن أبعد أولئك الأئمة عن السياسة وما فيها من مشاغل، إلى العلم، وقد تلقى زيد علمه الأول فيه، ولا شك أنه حفظ القرآن الكريم، فإنه عتاد كل مؤمن وخصوصاً إذا كان يطلب فقه الدين ويطلب حقائقه ويتعمق في دراسته، وقد اتجه من بعد القرآن إلى الحديث يتلقاه عن أبيه وعن أخيه. وأبوه قد روى عن كثيرين من آل البيت فقد روى عن علي رضي الله عنه كثيراً والطريق إليه إما أن يكون من آل البيت أو من غير آل البيت، وقد يكون الطريق إلى علي رضي الله عنه الحسين نفسه، ومن ذلك حديث مجمع عليه في الصحاح الستة، وهو ما رواه زين العابدين بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "أصبت بكراً (أي جملاً) يوم بدر وأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم شارفاً، فأنختهما بباب رجل من الأنصار، وأنا أريد أن أحمل عليه اذخراً (أي حطباً يعد من العطر) أستعين به على وليمة فاطمة، ومع رجل من بني قينقاع، وفي البيت حمزة بن عبد المطلب، وقينة تغنيه، فخرج حمزة بالسيف، فجب أسنمتها، وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما، فرأيت منظراً عظيماً، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فخرج يمشي ومعه زيد بن حارثة حتى وقف على حمزة، فتغيظ عليه، فرفع حمزة رأسه، فقال: ألستم عبيد آبائي!! فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي القهقرى).

وواضح من سياق الحديث أن ما كان من حمزة إنما كان من الخمر، وقد كان ذلك قبل أن ينزل النص القاطع بتحريمها، ولهذه الحوادث وأشباهها كان عمر رضي الله عنه يضرع إلى ربه قائلاً: (اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً).

ومن روايته عن غير علي رضي الله عنه وعن طريق آل البيت ما رواه بسند متصل بأسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يرث المسلم الكافر).

وأحياناً كان الإمام علي زين العابدين يروي الحديث مرسلاً لا يذكر فيه الصحابي الذي رواه، وذلك لأنه في عهد لم يكن التشدد في وصل السند ثابتاً، لقرب العهد من النبي صلى الله عليه وسلم، ولعدم فشو الكذب، ولوجود الثقات الذين يطمأن لنقلهم، ولا يسألون من أين جاءوا بهذا.

وقد ذكر المحدثون أنه روى مع من روى من آل البيت من ابن عباس وجابر، ومروان، وصفية أم المؤمنين، وأم سلمة وغيرهم من الصحابة.

وقد روى عن علي زين العابدين الزهري رضي الله عنه، وهو بحر العلم كما قال الإمام مالك رضي الله عنه، فقد كان أوثق الناس نقلاً وأدقهم علماً بما أثر عن الصحابة والتابعين الذين كانوا أكبر منه كسعيد بن المسيب، ونافع مولى عبد الله بن عمر وعكرمة مولى عبد الله بن عباس ومن ذلك ما رواه عبد الرزاق عن ابن شهاب الزهري عن علي بن الحسين أن صفية (أم المؤمنين) رضي الله عنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً تزوره، وهو معتكف بالمسجد، فحدثته ثم قامت فقام معها، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلكما، إنها صفية بنت حيي، فقالا سبحان الله يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً).

وهكذا نرى أن الإمام زين العابدين كان محدثاً، وقد أخذ ابنه عنه علم الحديث، كما أخذ عن غيره، وقد أخذ عن أبيه أيضاً الفقه كما أخذ عنه الحديث، وقد كان زين العابدين فقيهاً، كما كان محدثاً، وكان ذا إحاطة فيما يدرسه من مسائل في الفقه وكان له شبه بجده علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في قدرته على الإحاطة بالمسائل الفقهية من كل جوانبها، والتفريع عليها. وقد كان ابن شهاب الزهري يتلقى عنه الفقه، كما أخذ عنه الحديث، وقد روى سفيان بن عيينه عن ابن شهاب الزهري أنه قال: (دخلنا على علي بن الحسين بن علي. فقال فيم كنتم؟ قلت: تذاكرنا الصوم فأجمع رأيي ورأي أصحابي على أنه ليس من الصوم شيء واجب إلا شهر رمضان، فقال يا زهري ليس كما قلتم، الصوم على أربعين وجهاً، عشرة منها واجبة، كوجوب شهر رمضان، وعشرة منها حرام، وأربع عشرة خصلة منها صاحبها بالخيار، إن شاء صام وإن شاء أفطر، وصوم النذر واجب، وصوم الاعتكاف واجب قال الزهري قلت: فسِّرهن يا ابن رسول الله. قال: أما الواجب فصوم شهر رمضان، وصيام شهرين متتابعين ـ يعني في قتل الخطأ لمن لم يجد العتق قال تعالى (ومن قتل مؤمناً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلَّمة إلى أهله) إلى قوله تعالى: (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليماً حكيماً). صيام ثلاثة في كفارة اليمين لمن لم يجد الإطعام، قال الله عز وجل: (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم)، وصيام حلق الرأس، قال الله عز وجل: (فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك). وصوم دم المتعة لمن لم يجد الهدي، قال الله تعالى: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة). وصوم جزاء الصيد، قال الله عز وجل: (ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً ليذوق وبال أمره)، وإنما يقوّم ذلك الصيد بقيمته ثم يقضى الثمن على الحنطة. وأما الذي صاحبه بالخيار فصوم يوم الاثنين والخميس، وصوم ستة أيام من شوال بعد رمضان، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء، كل ذلك صاحبه بالخيار، إن شاء صام، وإن شاء أفطر. وأما صوم الإذن، فالمرأة لا تصوم تطوعاً إلا بإذن زوجها، وكذلك العبد والأمة، وأما صوم الحرام، فصوم يوم الفطر، ويوم الأضحى، وأيام التشريق، ويوم الشك نهينا أن نصومه كرمضان، وصوم يوم الوصال، وصوم الصمت حرام، وصوم نذر المعصية حرام، وصوم الدهر حرام، والضيف لا يصوم تطوعاً إلا بإذن صاحبه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نزل على قوم، فلا يصومن تطوعاً إلا بإذنهم). ويؤمر الصبي بالصوم، إذا لم يراهق تأنيساً، وليس بفرض، وكذلك من أفطر لعلة من أول النهار، ثم وجد قوة في بدنه أمر بالإمساك، وذلك تأديب من الله عز وجل وليس بفرض، وكذلك المسافر إذا أكل من أول النهار ثم قدم أمر بالإمساك. وأما صوم المريض وصوم المسافر، فإن العامة اختلفت فيه فقال بعضهم يصوم، وقال قوم لا يصوم، وقال قوم إن شاء صام، وإن شاء أفطر، وأما نحن فنقول: يفطر في الحالين جميعاً، فإن صام في السفر والمرض فعليه القضاء، قال الله عز وجل: (فعدة من أيام أخر)[3]. ( تأمل)

تلقى إذن زيد في نشأته الأولى الفقه عن أبيه فقد كان فقيهاً واسع العلم والمعرفة، وكان يأخذ بكتاب الله تعالى ثم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان راوية للحديث تلقى عنه العلماء فقه الحديث، وكان يجتهد برأيه، ولسنا في مقام من يبين نوع اجتهاده بالرأي، لأن وجوه الرأي في ذلك العصر لم تكن تميزت، ومناهج الاستنباط لم تكن قد أحصيت ودونت، ولكن بمراجعة هذه المسائل التي سردناها في الصيام يتبين أنه كان يدرس الآراء في كل الاتجاهات خصوصاً آراء الذين عاصروه في العراق أو في المدينة، وإن هذا يدل على قربه في فقهه من فقه التابعين الذين عاصروه كسعيد بن المسيب ونافع، وكان حريصاً على أن يأخذ من بعضهم كسعيد بن جبير، وقد رأيت في تاريخ حياته، كيف كان يتخطى الرقاب حتى يجلس قريباً من حلقة زيد بن أسلم.

كان هذا هو الأستاذ الأول الذي تلقى عليه الإمام زيد رضي الله عنه، فقد تلقى عند حديثاً أخذه عن الثقات، وتلقى عليه فقهاً نقياً مستقيم التفكير محيطاً، وإذا كان قد لزم أباه أمداً، فإنه بمقدار ذلك الأمد تكون استفادته، ولكن أباه قد مات وسن زيد لم تتجاوز الرابعة عشر، فقد توفي زين العابدين في سنة 94 من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان زيد قد ولد في سنة 80 كما نرجح فإنه يكون حين توفى أبوه قد أوفى على الرابعة عشر، وتلك سن تتفتح فيها المدارك، وتعى وتحفظ وهي كافية لأخذ الكثير، وخصوصاً عند من يكون في مثل همة زيد وتفرغه، وانصرافه لطلب الحقائق.

وإذا كان أبوه قد تركه يافعاً، فإن أخاه محمد الباقر قد خلف أباه في إمامة العلم والفقه والحديث، وكانت له مثل أخلاقه ومثل ورعه، ومثله في احترامه لسلف هذه الأمة، وخصوصاً أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، يروي عروة بن عبد الله: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن حلية السيف، فقال: (لا بأس بها، قد حلى أبو بكر الصديق سيفه، قال: قلت وتقول الصديق؟ قال: فوثب واستقبل القبلة ثم قال: نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل الصديق فلا صدق الله له قولاً في الدنيا والآخرة) وقال لأحد المتشيعين، وهو جابر الجعفي: يا جابر، بلغني أن قوماً بالعراق يزعمون أنهم يحبوننا، ويتناولون أبا بكر وعمر، ويزعمون أني أمرتهم بذلك، فأبلغهم عني أني إلى الله منهم بريء، والذي نفس محمد بيده (يعني نفسه) لو وليت لتقربت إلى الله بدمائهم، لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، إن لم أكن أستغفر لهما، وأترحم عليهما، إن أعداء الله لغافلون عن فضلهما وسابقتهم، فأبلغهم أني بريء منهم، وممن تبرأ من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقال (ومن لم يعرف فضل أبي بكر وعمر فقد جهل السنة)، وقال في قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) وفسر الذين آمنوا فقال هم أصحاب محمد، فقال له جابر الجعفي: (يقولون هو علي) قال: (علي من أصحاب محمد)[4].

وإن هذه الأخبار التي يرويها الثقات ويجمع عليها المؤرخون وكتّاب السير، إلا من انحرفوا عن الجادة ـ تدل على أن ذلك الإمام الجليل قد ابتدأ بمس السياسة عن بعد، فقد صار له أتباع يتلقون عنه أوامر، ويتزيدون عليها أقوالاً، وينكر سقيمها، ويصوب صحيحها، وبذلك يكون آل البيت قد خرجوا عن العزلة التي التزمها، وشدد في التزامها كبيرهم في عصره علي زين العابدين وذلك لأن الصدمة التي أصابتهم بمقتل الحسين رضي الله عنه كانت عنيفة، بل إنها كانت عنيفة في قلوب المسلمين أجمعين إلا من طمس الله على بصيرته، فكان عنف الصدمة باعثاً للصمت العميق، وشغل الوقت بالعلم والانصراف للعبادة، وسنتكلم عن ذلك باستفاضة في عصر زيد رضي الله عنه.

ولقد كانت وفاة زين العابدين بعد أن اكتمل محمد الباقر، وصار رجلاً سوياً له ابن من سن زيد، وهو جعفر الصادق رضي الله عنه، وبعد أن صار في العلم إماماً يتبع ويقصد إليه أمثال أبي حنيفة، ولقد أخذ عنه زيد بعد أبيه، فقد كمل الرواية عن أبيه إذ لم يكن معقولاً أن يكون في هذه السن المبكرة قد أخذ عن أبيه كل ما تلقاه من حديث، وقد كان زين العابدين حريصاً على أن يتلقى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم من كل التابعين الذين التقى بهم، فكان هو راوية للحديث، ولقنه أبناءه، وقد ناله كاملاً محمد، وناله من الأب والابن الأكبر ـ الشاب زيد رضي الله عن الجميع.

وكما أخذ عن أخيه محمد حديث أبيه وغيره أخذ عنه الفقه، فقد كان محمد فقيهاً يؤخذ عنه، وينتقد الآراء ويتفحصها، وينقد كبار الفقهاء ويقدمون حساباً لآرائهم إن بلغه عنهم مخالفة.

يروى أن أبا حنيفة التقى في المدينة بمحمد الباقر، فلما رآه قال الباقر رضي الله عنه: (أنت الذي حولت دين جدي وأحاديثه بالقياس، فقال أبو حنيفة: معاذ الله، فقال محمد: بل حولته، فقال أبو حنيفة: اجلس مكانك كما يحق لك حتى أجلس كما يحق لي، فإن لك عندي حرمة، كحرمة جدك صلى الله عليه وسلم في حياته على أصحابه، فجلس ثم جثا أبو حنيفة بين يديه، ثم قال إني سائلك عن ثلاث كلمات، فأجبني: الرجل أضعف أم المرأة، فقال محمد: المرأة، فقال أبو حنيفة، كم سهم المرأة؟ فقال الإمام للرجل سهمان، وللمرأة سهم، فقال أبو حنيفة: هذا قول جدك، ولو حولت دين جدك لكان ينبغي في القياس أن يكون للرجل سهم، وللمرأة سهمان، لأن المرأة أضعف من الرجل، قال أبو حنيفة: الصلاة أفضل أم الصوم، فقال الإمام: الصلاة أفضل، فقال هذا قول جدك، ولو حولت قول جدك لكان القياس أن المرأة إذا طهرت من الحيض أمرتها أن تقضي الصلاة ولا تقضي الصوم. ثم قال: البول أنجس أم النطفة؟ قال: البول أنجس، قال: فلو كنت حولت دين جدك بالقياس لكنت أمرت أن يغتسل من البول، ويتوضأ من النطفة، ولكن معاذ الله أن أحول جين جدك بالقياس، فقام محمد فعانقه)[5].

وإذا كان الباقر له هذه المنزلة الفقهية والاجتماعية التي جعلته يحاسب الفقهاء على آرائهم، ويحاكمهم عليها، فقد كان لأخيه الأستاذ بعد أبيه.

وفي البيت كان عالم فاضل جليل لاقاه العلماء بالتقدير، والعامة بالإجلال، والأمراء بالإكرام، ذلك هو عبد الله بن الحسن بن الحسن، ابن ابن عم زين العابدين، وفي طبقة أولاده، فقد كان محدثاً ثقة صدوقاً، روى عن التابعين وعن ابن عم أبيه علي زين العابدين، وروى عنه جمع من المحدثين، منهم سفيان الثوري، ومالك رضي الله عنه، وكان معظماً عند العلماء، وكان عابداً زاهداً، وفد على عمر بن بعد العزيز في خلافته فأكرمه، ووفد على السفاح في أول عهد العباسية، فعظمه، وأعطاه ألف ألف درهم، ووتتلمذ عليه أبو حنيفة، وكانت له به مودة خاصة، وقد توفي عبد الله في محبس أبي جعفر المنصور سنة 145، بالغاً من السن خمساً وسبعين سنة، إذ قد ولد سنة 70 هجرية.

 

استقلاله العلمي:

تخرج زيد في تلك المدرسة العلمية بالمدينة، إذ أن أولئك الأجلاء بعد أن امتحنهم الله تعالى ذلك الامتحان الشديد في السياسة، وفتك بكبرائهم الغدر وسوء الجند، وظلم الحكام ـ اعتزلوا كل شيء إلا علم الإسلام والتفقه فيه ورواية الحديث، فزاد قدرهم، وعظم نفعهم، وقد كان زيد هو وجعفر الصادق ابن أخيه أصغر هؤلاء سناً، فاقتبس منهم الكثير.

ولكنه لم يلتزم البقاء في المدينة بعد أن نضج، وقد ثبت أنه ذهب إلى البصرة، والتقى بعلمائها، وقد قال الشهرستاني في الملل والنحل إنه تتلمذ لواصل بن عطاء، وأخذ عنه الاعتزال، فقد قال في زيد رضي الله عنه: (أراد أن يحصل الأصول والفروع، حتى يتحلى بالعلم، فتتلمذ في الأصول لواصل بن عطاء الغزال رأس المعتزلة مع اعتقاد واصل بأن جده علي بن أبي طالب في حروبه التي جرت بينه وبين أصحاب الجمل، وأصحاب الشام ما كان على يقين من الصواب، وأن أحد الفريقين منهما كان على الخطأ لا بعينه، فاقتبس منه الاعتزال)[6].

وإن هذا الخبر فيه ما يدل على أمور ثلاثة:

أولهاـ أنه التقى بواصل بن عطاء، وتتلمذ عليه، أو اقتبس منه، وأن الذي دفع زيداً إلى لقائه والدراسة عليه هو رغبته في أن يحصل الأصول مع الفروع، وقد حصل علم الفروع في المدينة، وبقي أن يحصل علم الأصول في البصرة، لأن البصرة كانت مهد الفرق الإسلامية، وأبو حنيفة عندما كان يدرس علم الكلام كان يذهب إلى البصرة ليجادل ويناقش، حتى إنه ليذكر أنه ذهب إليه نحو اثنتين وعشرين مرة.

ثانيهاـ أنه أخذ عن واصل مع أنه كان يعلن أن جده علي بن أبي طالب في قتاله مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ومع معاوية ـ مع ثبت أنه على الحق بيقين، وأن فريقاً من الناس قد اعتزلوا الفريقين، وأنهم الذين سموا المعتزلة، وهذا يدل على الاستقلال الفكري عند زيد بن علي.

وثالث الأمور التي يدل عليها أن زيداً بعد أن اكتمل غادر المدينة وأخذ يتلقى العلم من أي مكان، ومن أي شخص كان، وذلك شأن طالب العلم، فهو كطالب الجواهر لا يتقيد بمكان، ولا يتقيد بغواص واحد يهديه إليها، ويدله عليها.

ولكن أيصح أن نقول إن زيداً تتلمذ على واصل في هذه المرحلة؟ إن الرجلين كانا في سن واحدة، فقد ولد كلاهما في سنة 80 من الهجرة النبوية أو قريباً من ذلك، ويظهر أنهما عندما التقيا كان زيد في سن قد نضجت، لأن واصلاً لا يمكن أن يكون في مقام من يدرس مستقلاً إلا إذا كان في سن ناضجة.

ولهذا نرى أن التقاء زيد رضي الله عنه بواصل بن عطاء كان التقاء مذاكرة علمية، وليس التقاء تلميذ يتلقى عن أستاذ فإن السن متقاربة، وزيد كان ناضجاً فهو قد أراد أن يعرف النواحي المختلفة حول أصول العقائد، كما تلقى فروع الأحكام عن أسرته، وفي المدينة مهد علم الفروع.

وزيد عندما اعتزم العلم بأصول العقائد عند الفرق المختلفة كان موفقاً إذ اختار البصرة، فإن البصرة كانت موطن الفرق المختلفة حول العقيدة الإسلامية، فكان فيها طائفة من الشيعة مستترة، وفيها المعتزلة، وفيها القدرية، وفيها الجهمية، وفيها كل الذين تكلموا في صفات الذات العلية، فمن أراد علم العقائد للفرق المختلفة فليقصد إليها، ولذلك عندما كان أبو حنيفة في صدر حياته متجهاً إلى علم الكلام كان يذهب إلى البصرة ويجادل فقهاءها ـ حتى لقد روى أنه ذهب إلى البصرة نحو اثنتين وعشرين مرة للمناظرة في علم العقائد كما ذكرنا، وإنه بذلك ليذكر أنه بلغ شأواً يشار إليه فيه بالأصابع، ولكنه عدل من بعد إلى الفقه وانصرف إليه.

وقبل رحلة زيد إلى البصرة أيسوغ لنا أن نقول إنه ما كان من قبل على علم بأصول المعتزلة؟ لعل الإجابة عن هذا السؤال توجب علينا أن نرجع إلى علماء آل البيت قبل زيد أو الذين عاصروه، وهنا نجد من الأخبار من يذكر أن علماء آل البيت تكلموا في العقائد، وكانوا قريبين مما قاله واصل بن عطاء، بل إنا نجد من يقول إن واصلاً تلقى عقيدة الاعتزال عن آل البيت فقد كانوا على علم به، وخصوصاً محمد بن الحنفية، ابن علي رضي الله عنهما، فقد كان عالماً غواصاً في العلوم، وقد قال فيه الشهرستاني في الملل والنحل:

(كان كثير العلم غزير المعرفة، وقاد الفكر، مصيب الخواطر، قد أخبر أمير المؤمنين (أي علي) عن أحوال الملاحم، وأطلعه على مدارج المعالم، قد اختار العزلة، وآثر الخمول على الشهرة)[7].

وقد ذكر المرتضى في كتاب المنية والأمل عند بيان طبقات المعتزلة أن الطبقات الأولى كانوا من آل البيت، فعلي زين العابدين وابنه الباقر، والحسن والحسين من قبلهما، ومحمد بن الحنفية أخوهما، كانوا من المعتزلة:

وليس عندنا ما يكذب هذا، بل عندنا ما يزكيه، فإن مذهب المعتزلة هو في الجملة مذهب الزيدية في العقائد، ومذهب الاثنا عشرية في الجملة، ويغلب على الظن لذلك أن هذا كان مذهب السلف من آل البيت، إذا كانوا قد خاضوا في أصول الاعتقاد، ودخلوا في هذه الحرمة.

ومن المؤكد أن الإمام زيداً رضي الله عنه قد خاض في هذا خوضاً.

وإذا لم يوجد ما ينفي أن آل البيت تكلموا في العقائد على النحو الذي تكلم به واصل بن عطاء أو ما يقاربه، فإنه لا بد أن نفرض أن زيداً عندما ذهب إلى البصرة ما كان خالي الوفاض من علم العقائد، بل كان على علم بها، وما كان لقاؤه بواصل بن عطاء كبير المعتزلة بالبصرة إلا لقاء مذاكرة، وليس لقاء تلقي علم لم يكن به عهد من قبل.

تلقى زيد من العلم ما يتلقاه مثله، وقد قال أبو حنيفة رضي الله عنه لمن سأله عمن تلقى علمه. فقال: (كنت في معدن العلم، ولزمت فقيهاً من فقهائهم)[8].

وإن ذلك بالنسبة لزيد رضي الله عنه، فقد كان في معدن علم الإسلام ومنزلة الوحي، وموطن الشريعة الإسلامية الذي فيه نزلت، وفيه طبقت، وعمل بها الصحابة، وتوارث أهلها أعمال السلف الصالح، تلك هي المدينة، التي كانت موطن الإسلام، وموطن أهل الزهادة والمعرفة، ومن انقطعوا عن عوجاء السياسة ومن فيها، ولزم فيها أباه أولاً، ثم أخاه ثانياً. وفي المدينة تلقى علم الفروع والحديث، وحفظ القرآن، وعلم قراءاته، وكان من أعلم عصره بقراءات القرآن، وأكثرهم فهماً وإدراكاً لمراميه وغايته التي يجب أن يتلقاها كل مؤمن بالله، طالب للحق، وعلم ما فيها أيضاً من أقوال العلماء في أصول العقائد.

ولكنه لم يكتف بما تلقاه في المدينة، بل خرج منها إلى العراق، وهنالك في البصرة التقى بالفرق المختلفة، وذاكر أهلها وعلم منها أحوالها، ودرس في هذه الأثناء العراق وما فيه، درس العراق الذي قتل فيه جده الحسين مخذولا مظلوما، وقتل فيه جده من قبل غيلة، وبذلك ازداد علماً، علم الناس، وعلم الحقائق الإسلامية، وفي العراق كان قد شب عن الطوق، وخرج من مرتبة الطالب للعلم إلى مرتبة المتبوع فيه.

 

زيد في ميدان العمل

خرج السيف المصقول من غمده، وتقدم لميدان العمل في السياسة التي كانت الشقة الحرام على أبيه، إذ قد تحاماها، وامتنع عن الخوض فيها، ولم يتجه إليها أخوه الذي خلف أباه في القيام على شئونه؛ وهو محمد الباقر، بل التزم المدينة، وهنا يتساءل القارئ، أدخل زيد في السياسة العملية مختاراً، أن أنه اضطر إليها اضطراراً، إذ أحرج في كرامته، وأحس بأنه نيل من عزته وهو من سلالة الصناديد الأبطال الذين لم يرادوا على الذل، ولم يرضوا بالظلم، فهو من سلالة فارس الإسلام علي بن أبي طالب، وحسب ذلك وكفى.

لكي نجيب عن ذلك السؤال لا بد أن تتبع الحوادث، فهي التي تهدينا إلى الإجابة عن ذلك السؤال إجابة صحيحة وهي التي تكشف لنا المعمي من هذه القضية.

كانت الحوادث تجر آل البيت إلى الكلام في السياسة مع الرغبة الملحة في اعتزالها، فقد ظهر في البلاد الإسلامية طوائف قد انحرفت، وكانت تدعي أنها تتكلم باسم آل البيت، وقد رأيت كيف كانوا يلعنون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما.

ولما علم بأمرهم علي زين العابدين نفى عن نفسه ذلك القول، ولما حضروا مجلسه، وسمع قولهم طردهم من المجلس وقد كان ابنه محمد الباقر رضي الله عنه يعلم مثل تلك الأقوال عن بعض أهل العراق فينفي ذلك عن آل البيت ويبالغ في نفيه.

وقد كان آل البيت على حق في هذا النفي، لأن زعماء المتشيعين كانوا يدعون أنهم يتكلمون باسم أولئك الأئمة الذين كانوا زاهدين في السياسة منصرفين إلى العلم انصرافاً تاماً مطلقاً، فادعى بيان بن سمعان التميمي المتوفي سنة 119 هجرية الذي كان يدعو إلى آراء منحرفة أنه كان يحكي آراء أبي هاشم بن محمد بن علي، ولما علم بحاله أبو هاشم كذبه، وأعلن البراءة منه ومن أقواله، والمغيرة بن سعيد المتوفي سنة 119 الذي كان يدعو إلى مثل ما يدعو  إليه بيان كان يكذب على محمد الباقر بن علي زين العابدين، حتى اضطر إلى إعلان البراءة مما يقوله وينسب إليه.

ولقد كان الادعاء بأنهم يتكلمون باسم أولئك الأئمة ثم انحرافهم، ثم ففي ذلك الانحراف مدعاة لأن يتظنن بنو أمية في أمر أئمة آل البيت وقد كان هذا التظنن تبدده قوة الأمويين، وعدم ظهور حركات إيجابية، وإقامة آل البيت بالمدينة لا يخرجون منها، ولا يتجاوزون الحرمين بها، إلا إذا طلبهم أحد من بني أمية في دمشق، فإنهم يذهبون ثم يعودون إلى محراب العلم الذي التزموه.

ولكن كل قوة لا تستمد من الحق والمعونة الإلهية مآلها إلى ضعف ثم إلى زوال، فلما أخذت الدولة الأموية في الضعف بعد عهد الوليد بن عبد الملك، وسليمان وعمر بن عبد العزيز، أخذ التظنن بأئمة آل البيت يقوى ويشتد، إذ لا قوة تبدده، وخصوصاً أنه قد ابتدأت الدعوة إلى تغيير الخلافة الأموية، تنمو وتزيد، وقد ظهرت في خراسات بدعاة أقوياء، وقد أشار  إليها المؤرخون في حوادث سنة 102 هجرية، ولعلها ابتدأت قبل ذلك، وقد ابتدأت دعوة هاشمية غير واضحة، وكان المفهوم أنها علوية لقد قالوا إنها علوية، ولما انتلقت إلى العباسية ذكروا أنها بوصية من إمام العلويين، وقد قالوا إنه أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، فقد كانت له الإمامة وأوصى بها إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.

وإنه إذا علم أن زيداً قد اختار مذهب المعتزلة منهاجاً في فهم العقائد، وإن من المقررات الثابتة عندهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصولهم، وأنه كان يكرر أن من أهم مقاصده إصلاح ما بين هذه الأمة، وإقامة صرح الحق وهدم بناء الباطل، ولعله كان يجوس خلال العراق بين الوقت والآخر، لا للعلم فقط، بل لهذا، ولأنه كان ينوي أن يعالج الأمر بالتدبير المحكم الذي ينهي حكم الأمويين، ولكن عين هشام المترصدة دفعته إلى الخروج دفعاً، لكيلا يتخذ الأهبة، ويدبر الأمر في أناة، وخصوصاً أن أخبار الدعوة العباسية كانت تسري في قوة وخفاء، كالماء يسرى من تحت الجدران فيقضها، وتنهدم من حيث لا يشعر أحد، وهشام يتتبعها بالسيف إذا ظهرت، وهيهات قد يعلم أنه إن قطع الثمار الظاهرة، لا يقطع الجذور التي تسري عروقها في باطن الأرض، وهي نامية، فلا بد أن يعالج الثمار، ويتفرغ للجذور، وهيهات فقد كانت أحكم وأخفى.

 

الخروج والشهادة

خرج ذلك الشاب مطرحاً من كل خوف، قاصداً طلب الحق أو الموت، وأيهما أصاب فهو خير له وأهدى سبيلاً.

ولقد جاء في مروج الذهب للمسعودي ما نصه: (قد كان زيد شاور أخاه أبا جعفر بن علي بن الحسين بن علي، فأشار عليه بألا يركن إلى أهل الكوفة، إذ كانوا أهل غدر ومكر، وكان بها قتل جدك علي، وبها طعن عمك الحسن، وبها قتل أبوك الحسين (لعله أراد جده القريب) فأبى إلا ما عزم عليه من المطالبة بالحق، فقال: إني أخاف عليك يا أخي أن تكون غداً المصلوب بكناسة الكوفة، وودعه أبو جعفر وأعلمه أنهما لا يلتقيان)[9].

ثم كان الخروج وكان الخذلان وكان الظلم وكانت الشهادة...

رحم الله الإمام زيدا وتقبله في الصالحين



[1] ـ البداية والنهاية لابن كثير ج 9 ص 107 طبع السلفية.

[2] ـ البداية والنهاية ج9 ص 107 وقد رويت هذه الرواية منسوبة إلى محمد الباقر بن علي زين العابدين، ولعل الواقعة تكررت فتكرر معها القول، مرة مع الأب ومرة مع الابن.

[3] ـ المسألة كلها مدونة في حلية الأولياء ج 3 ص 142.

[4] ـ تاريخ أبي الفداء ج9 ص 311.

[5] ـ مناقب أبي حنيفة لابن البزازي، والمناقب للمكي.

[6] ـ الملل والنحل ص 208 على هامش الفصل ج2.

[7] ـ الملل والنحل ج 1 ص 199 هامش الفصل لابن حزم.

[8] ـ تاريخ بغداد ج 13 ص 333.

[9] ـ مروج الذهب ج 2 ص 181.

----------------

*مدير مركز الشرق العربي

 


 

السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ