ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 12/10/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


 

أبو حنيفة النعمان الإمام الأعظم

أبو حنيفة الإمام الأعظم لن نوفيه حقه ودوره في ورقات. نترك المقام للإمام أبي الأعلى المودودي ليحدثنا عن أبي حنيفة وطريقته ودوره ومكانته. من كتاب الخلافة والملك نقتبس لننقل كلام إمام عن الإمام الأعظم.

الباب السابع

الإمام أبو حنيفة وعمله المجيد

عرضنا على الصفحات السالفة أن قيادة الأمة انقسمت منذ بداية الملك إلى قيادتين أولاهما القيادة السياسية وهي التي كان يملك زمامها الملوك والأمراء والسلاطين، وثانيتهما القيادة الدينية وهي التي اضطلع بها العلماء والصالحون في الأمة. ثم عرضنا قبل ذلك أيضاً أسباب ونتائج هذا الانقسام عرضاً مفصلاً وذكرنا طبيعة القيادة السياسية ولونها في عصر الانقسام هذا. أما الآن فنود أن نعرض عليكم كيف كان أولئك الذين اضطلعوا بعبء القيادة الدينية في الأمة آنذاك وكيف حلوا المشاكل التي كانت تعن للأمة في ذلك العصر. من أجل هذا سنعرض العمل المجيد الذي قام به الإمام أبو حنيفة بصفته ممثلاً للقيادة الدينية وسنذكر فيما بعد كيف أتم تلميذه الإمام أبو يوسف هذا العمل الرائع.

موجز حياته:

هو النعمان بن ثابت ولد ـ حسب الروايات الصحيحة ـ في الكوفة عاصمة العراق في العام الثمانين للهجرة (699م). وكان عبد الملك بن مروان الأموي خليفة العصر إذ ذاك، والحجاج بن يوسف والياً على العراق. فعاش أبو حنيفة من حياته اثنين وخمسين عاماً تحت حكم بني أمية وثمانية عشر عاماً في ظل بني العباس. ولما مات الحجاج كان أبو حنيفة في الخامسة عشرة. وكان شاباً وقت خلافة عمر بن عبد العزيز وشاهد بعينيه من تداولوا ولاية العراق ـ يزيد بن المهلب وخالد بن عبد الله القسري ونصر بن يسار ـ وشهد عهدهم العاصف المائج بل تعرض لظلم ابن هبيرة ـ آخر ولاة بني أمية على العراق ـ ورأى قيام دعوة بني العباس وكانت الكوفة ـ مدينته ـ مركزها إذ كانت الكوفة في الواقع ـ قبل بناء بغداد ـ مركز الدولة العباسية اليافعة. وتوفي أبو حنيفة في العام المائة والخمسين بعد الهجرة (767م) في زمن الخليفة المنصور.

كانت أسرته ـ في البدء ـ تقطن كابل. وكان جده ـ والبعض يكتب اسمه زوطى بضم الأول وقصر الآخر والبعض يكتبه بفتح الأول ـ جاء إلى الكوفة أسيراً ثم أسلم وصار من موالي قبيلة بني تيم الله. وكان تاجراً وكان يلتقي بسيدنا علي ووصلت الصلة بينهما إلى حد أنه كان يبعث إليه بالهدايا[1]، كذلك كان ابنه ثابت (والد أبي حنيفة) يشتغل بالتجارة في الكوفة ويظهر من رواية أبي حنيفة نفسه أنه كان خبازاً في الكوفة[2].

أما عن تعليمه فقد تعلم في أول الأمر القراءة والحديث والنحو والأدب والشعر وعلم الكلام وسائر علوم عصره[3]. ثم انفرد بعلم الكلام وانقطع إليه زمناً حتى تقدم فيه وفاق وأصبح ـ في هذا الفن ـ يشار إليه بالبنان. ويروي تلميذه المشهور زفر بن الهذيل أن الإمام قال له: (كنت أنظر في الكلام حتى بلغت فيه مبلغاً يشار إلي فيه بالأصابع)[4]. ويقول الإمام أبو حنيفة في رواية أخرى (كنت رجلاً أعطيت جدلاً في الكلام فمضى دهر فيه أتردد وبه أخاصم وعنه أناضل وكان أصحاب الخصومات والجدل أكثرها بالبصرة فدخلت البصر نيفاً وعشرين مرة منها ما أقيم سنة وأقل وأكثر وكنت قد نازعت طبقات الخوارج من الإباضية والصفرية وغيرهم وطبقات الحشو)[5].

ونستنتج من هذا أن الإمام كان بالضرورة على علم كاف بالفلسفة والمنطق والخلافات المذهبية في ذلك العصر إذ ـ بغيرها ـ لا يمكن أن يدلي المرء بدلوه في علم الكلام ثم ما أظهره من كمال وتفوق بعد ذلك في الاستدلال المنطقي واستعمال العقل وما ناله من شهرة كبرى في حل المشاكل العويصة المعضلة. لم يكن سوى ثمار هذه التربية العقلية الأولى.

وبعد أن عاش حيناً كافياً يخوض معارك الجدل الكلامي سئم ذلك فانصرف إلى الفقه حيث لم يكن من الممكن ـ بالطبع ـ أن يكون متعلقاً بمدرسة أهل الحديث الفكرية. كانت الكوفة وقتذاك مجمع أصحاب الرأي في العراق فارتبط بها الإمام وكان أساطين مدرسة الكوفة الفكرية أول الأمر سيدنا علي رضي الله عنه وسيدنا عبد الله بن مسعود (المتوفي عام 32هـ ـ 652م) ثم اشتهر من بعدهم فيها تلاميذهم شريح (المتوفي عام 78هـ ـ 697م) وعلقمة (المتوفي عام 62هـ ـ 681) ومسروق (المتوفي عام 63هـ ـ 682م) وصاروا أئمة هذه المدرسة وطبق صيتهم العالم الإسلامي كله آنئذ وآلت زعامة المدرسة ـ فيما بعد ـ إلى إبراهيم النخعي (المتوفي 95هـ ـ 714م) ثم حماد من بعده. وحماد هذا هو الذي تتلمذ على يديه ـ إلى أن مات ـ أبو حنيفة وصاحبه ثمانية عشر عاماً كاملة. لكن أبا حنيفة لم يكتف بهذا العلم الذي أخذه عن أساتذته في الكوفة وإنما رحل إلى الحجاز عدة مرات واستفاد من أكابر شيوخ الفقه والحديث بها.

وفي عام 120هـ انتقل أستاذه حماد إلى جوار ربه فاتفق أهل مدرسة الكوفة كلهم على أن يجلس أبو حنيفة في مكان أستاذه رائداً وزعيماً للمدرسة. فبقي في هذا المنصب ثلاثين عاماً يدأب على التدريس والإفتاء فكان ذلك أساس المذهب الحنفي الذي نعرفه اليوم. وعبر هذه الأعوام الثلاثين قدم الإمام أبو حنيفة إجابات لمسائل قانونية ذكر البعض أنها ستون ألف مسألة وقال البعض الآخر أنها ثلاثة وثمانون ألفاً رتبها تحت عناوين قائمة برأسها[6]. وربى أبو حنيفة سبعمائة أو ثمانمائة تلميذ انتشروا في أرجاء العالم الإسلامي وتولوا عروش الدرس والإفتاء وصاروا مصابيح تبصر العامة بعقيدتهم فصار قرابة خمسين تلميذاً منهم قضاة في الدولة العباسية بعد ذاك، وأصبح مذهبهم قانوناً لقطاع عريض جداً من العالم الإسلامي فكان قانون الدولة العباسية والسلجوقية والعثمانية والمغولية ويتبعه اليوم عشرات الملايين من المسلمين المنتشرين من حدود الصين حتى تركيا.

اشتغل الإمام بحرفة آبائه ـ التجارة ـ فكان خزازاً في الكوفة وعلا شأنه في هذه الحرفة أيضاً يوماً بعد يوم فكان له مصنع خز كبير[7]، ولم يكن دكانه يبيع الخز في الكوفة وحدها وإنما وصلت بضاعته إلى مناطق بعيدة قاصية فلما فاقت أمانته ووثق الناس فيه صار محله مصرفاً يستأمنه الناس فيضعون عنده ملايين الدراهم والدنانير أمانة فكان فيه ـ حين وافته المنية ـ خمسون مليون درهم محفوظة كأمانات لأصحابها[8].

هذه الخبرة الطويلة في المعاملات المالية والتجارية أكسبته بصراً وبصيرة في كثير من أقسام القانون وشعابه مما لا يتيسر للعارفين بالقانون من الناحية العلمية النظرية فحسب. فلقد أعانته خبرته هذه عوناً كبيراً على تدوين الفقه الإسلامي إلى جانب أننا نستطيع تقدير فراسته ومهارته في المعاملات والأمور الدنيوية مما حدث حينما بدأ المنصور بناء بغداد عام 145هـ (762م) إذ خص أبا حنيفة بالإشراف عليها فظل المشرف العام على بنائها أربعة أعوام[9].

كان في حياته الشخصية نهاية في الورع والتقوى قمة في الأمانة. أرسل ذات مرة شريكه ليبيع متاعاً وكان فيه عيب فأعلمه له وطلب إليه ألا يستوفي ثمنه كاملاً لكن شريكه نسي وباع المتاع دون أن يبين العيب لمن اشتراه وأخذ ثمنه كاملاً. فلما وصل أبا حنيفة تصدق بالثمن كله وقيل إنه كان خمسة وثلاثين ألف درهم[10]. وقد نقل المؤرخون وقائع عدة تبين أن البسطاء ومن لا خبرة عندهم بالبيع والشراء كانوا إذا أتوا إلى دكانه ليبيعوا متاعهم بثمن بخس قال لهم الإمام بل أكثر من هذا ودفع إليهم قيمته الحقيقية[11].

ويثني معاصروه على تقواه وورعه كبير ثناء. فالإمام عبد الله بن المبارك يقول (لم أر أورع من أبي حنيفة فماذا يقال في رجل عرضت عليه الدنيا والأموال فنبذها وضرب بالسياط فصبر عليها ولم يدخل فيما كان غيره يستدعيه)[12]. ويقول القاضي ابن شبرمة (أن الدنيا غدت إليه فهرب منها وهربت منا فطلبناها)[13]. ويقول الحسن بن زياد (والله ما قبل أبو حنيفة لأحد منهم "يعني الأمراء" جائزة ولا هدية)[14].

قال هارون الرشيد لأبي يوسف ذات مرة صف لي أبا حنيفة فقال: (كان والله شديد الذب عن حرام الله، مجانباً لأهل الدنيا، طويل الصمت دائم الفكر لم يكن مهذاراً ولا ثرثاراً إن سئل عن مسألة كان عنده منها علم أجاب وما علمته يا أمير المؤمنين إلا صائناً لنفسه ودينه مشتغلاً بنفسه عن الناس لا يذكر أحداً إلا بخير)[15].

كان رجلاً كريماً جواداً ينفق بكرم وسخاء كبير خاصة على أهل العلم وطلابه. كان يخصص من أرباحه جزءاً يعطي منه ـ طول السنة ـ إعانات مالية منتظمة للعلماء والطلبة ثم يقسم بينهم ما يفضل منه وكان يقول وهو يعطيهم إياه (أنفقوا في حوائجكم ولا تحمدوا إلا الله سبحانه وتعالى فإنها أرباح بضائعكم مما يجريه الله لكم على يدي)[16]. وكان يتكفل بنفقات كثير من تلامذته مثل أبي يوسف الذي كان ينفق عليه وعلى بيته كله لأن أباه كان فقيراً ويريد إلحاقه بمهنة يتكسب منها معاشه[17].

تلك كانت سيرة وشخصية الرجل الذي تعرض في النصف الأول من القرن الثاني الهجري لكافة المسائل الهامة ـ تقريباً ـ التي ولدت في خضم الأحداث التي وقعت بعد الخلافة الراشدة.

آراؤه:

سنتناول ـ قبل كل شيء ـ المسائل التي دون الأمام آراءه فيها بنفسه ولما لم يكن الإمام مؤلفاً فيلزم علينا الرجوع كثيراً إلى المصادر الأخرى الموثوق بها فيما يتعلق بدوره ومهمته غير أن هناك بعضاً من المسائل التي أثارها الشيعة والخوارج والمرجئة اقتضت من الإمام أن يرد عليها بقلمه على غير عادته وأن يجلي ويرتب عقيدة ومذهب أهل السنة والجماعة (يعني السواد الأعظم من المجتمع المسلم) في ردود وأجوبة مختصرة لكنها واضحة ويتعين علينا بالطبع ونحن ندرس دور الإمام أن نؤثر ما دونه بيده على غيره ونخصه بأولوية في الدرس والبحث.

وقد ذكرنا أن الخلافات التي وقعت بين صفوف المسلمين في زمان وخلافة سيدنا علي رضي الله عنه وبداية ملك بني أمية تمخصت عن ظهور أربع فرق كبرى لم تكتف بإبداء آراء متطرفة بشأن بعض القضايا وإنما جعلت آراءها عقيدة دينية أثرت في تركيب المجتمع المسلم وفي شكل الدولة الإسلامية ومصادر القانون الإسلامي وضحت الأحكام السابقة التي أصدرتها الأمة فيما قبل. ومع أن مذهب السواد الأعظم إزاء قضاياهم تلك كان متعيناً ـ لأن كل المسلمين كانوا يسيرون عليه ولأن أكابر الفقهاء كانوا يبينونه من حين لآخر بأقوالهم وأفعالهم ـ إلا أن أحداً ـ حتى زمن أبي حنيفة ـ لم يكن قد رتبه ـ بطريقة صريحة جريئة ـ في هيئة تدوين واضح.

توضيح عقيدة أهل السنة:

إن الإمام أبا حنيفة هو أول من دون عقيدة أهل السنة والجماعة ـ في مواجهة هذه الفرق الدينية ـ في كتابه الفقه الأكبر[18].

وأولى المسائل التي بحثها الإمام فيه مسألة وضع الخلفاء الراشدين فلقد كانت الفرق المذهبية قد تجادلت في خلافة بعضهم وهل كانت صحيحة أم لا؟ وأيهم كان أفضل من الآخر؟ بل هل بقي أحد منهم مسلماً أم لا؟ ولم تكن هذه الأسئلة مجرد رأي تاريخي في شخصيات ماضية وإنما السؤال الأساسي الذي ولد من هذه الأسئلة في الحقيقة هو: هل كانت الطريقة التي صار بها هؤلاء الخلفاء أئمة للمسلمين هي الطريقة الدستوية لتعيين القيادة في الدولة الإسلامية أم لا؟ وإذا اعتبرت خلافة أحدهم خلافة مشكوكاً فيها فهل تقبل الأحكام الإجماعية التي صدرت في زمانه كجزء من القانون الإسلامي أم لا؟ وهل تعتبر أحكام هذا الخليفة ـ المشكوك في خلافته ـ نظائر قانونية أم لا؟ علاوة على أن السؤال عن صحة خلافتهم وعدم صحتها وإيمانهم وعدم إيمانهم بل وفضل بعضهم على بعض كان يتقرر عليه تلقائياً سؤال آخر وهو: هل يثق المسلمون ـ فيما بعد ـ في هذا المجتمع الإسلامي الأول ويسلمون بإجماعه ـ وهو المجتمع الذي تربى تحت إشراف وقيادة رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام مباشرة ووصلت إلى الأجيال التالية عن طريقة كافة المعلومات عن الأحكام الإسلامية والقرآن والسنة ـ أم لا؟

والمسألة الثانية هي موقف جماعة الصحابة ومنزلتهم وقد قالت فرقة من الفرق عن سوادها أنهم ظالمون ضالون بل كافرون لأنهم رضوا بالخلفاء الثلاثة الأول أئمة لهم كما قالت الخوارج والمعتزلة بكفر وفسق أكثر أفرادها. هذا السؤال أيضاً لم يكن مجرد سؤال تاريخي وإنما تمخض بذاته عن سؤال هام وهو هل يعترف بأحكام وأوامر النبي صلى الله عليه وسلم التي نقلها هؤلاء الناس كمصادر للقانون الإسلامي أم لا؟

والمسألة الثالثة ـ وهي مسألة رئيسية هامة ـ هي تعريف الإيمان. ما هو؟ وما الفرق الأساسي بين الإيمان والكفر ونتائج الذنوب وآثارها وهي مسألة نشب ـ على أساسها ـ جدل كبير بين الخوارج والمعتزلة والمرجئة ولم تكن مسألة لاهوتية محضة إنما كانت تتصل ببناء المجتمع المسلم وتركيبه اتصالاً عميقاً لأن القرار الذي يتخذ فيها تقع آثاره بالضرورة على حقوق المسلمين الاجتماعية وعلاقاتهم القانونية كما تترتب عليه مسألة أخرى وهي هل تقوم في دولة إسلامية يحكمها حكام عاصون مذنبون صلاة الجمعة والجماعة ـ وهي من الأعمال الدينية ـ على نحو صحيح؟ وهل تمضي فيها المحاكم والحرب والجهاد ـ وهو من الأمور السياسية ـ بصورة سليمة؟

ودونكم مذهب أهل السنة في هذه الأمور والذي دونه الإمام أبو حنيفة:

عن الخلفاء الراشدين:

(أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب غابرين على الحق ومع الحق)[19].

وهذا مشروح في العقيدة الطحاوية بدرجة أكبر:

(ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً لأبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلاً وتقديماً على جميع الأمة ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم لعثمان رضي الله عنه ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون)[20].

ويجدر بالذكر في هذا الصدد أن أبا حنيفة كان يكن في قلبه ـ على نحو شخصي ـ حباً لسيدنا علي أكثر من سيدنا عثمان[21] وكان رأيه الشخصي أنه لا يمكن تفضيل أحدهما على الآخر[22]. غير أنه قرر ـ عند اعترافه بقرار الأكثرية في انتخاب عثمان خليفة للمسلمين ـ أن ترتيب الأفضلية هو عين ترتيب الخلافة.

عن الصحابة الكرام:

(ولا نذكر الصحابة إلا بخير)[23].

وفي العقيدة الطحاوية تفصيل أكثر لهذا الأمر:

(ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم ولا نذكرهم إلا بخير)[24].

ومع ذلك لم يحجم أبو حنيفة عن إبداء رأيه في الحرب الأهلية التي نشبت بين الصحابة ولهذا يقول في صراحة ووضوح أن الحق كان مع علي أكثر من محاربيه (وفيهم بالطبع من اشتركوا في وقعة الجمل وصفين)[25] غير أنه احترز في طعنهم احترازاً كبيراً.

تعريف الإيمان:

(الإيمان هو الإقرار والتصديق)[26]

وقد شرح الإمام هذا في (الوصية) فقال: (الإيمان هو إقرار باللسان وتصديق بالجنان (القلب) ثم قال (والإقرار وحده لا يكون إيماناً لأنه لو كان إيماناً لكان المنافقون كلهم مؤمنين وكذلك المعرفة وحدها (أي التصديق) لا تكون إيماناً لأنها لو كانت إيماناً لكان أهل الكتاب كلهم مؤمنين).

ثم يفصل شرح هذا فيما بعد فيقول (العمل غير الإيمان والإيمان غير العمل بدليل أن كثيراً من الأوقات يرتفع العمل من المؤمن ولا يجوز أن يقال ارتفع عنه الإيمان فيجوز (مثلاً) أن يقال ليس على الفقير زكاة ولا يجوز أن يقال ليس على الفقير إيمان)[27].

وبهذا نفى قول الخوارج بأن الإيمان لا بد له من العمل وأن الذنب يعني بالضرورة عدم الإيمان.

الفرق بين الذنب والكفر:

(ولا نكفر مسلماً بذنب من الذنوب وإن كانت كبيرة إذا لم يستحلها ولا نزيل عنه اسم الإيمان ونسميه مؤمناً حقيقة ويجوز أن يكون مؤمناً فاسقاً غير كافر)[28].

ويذكر الإمام هذا المعنى في (الوصية) فيقول:

(والعاصون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلهم مؤمنون وليسوا بكافرين)[29].

وتفصيل هذا في العقيدة الطحاوية إذ يقول:

(ولا يخرج العبد المؤمن من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه)[30].

هذه العقيدة ونتائجها الاجتماعية تجليها لنا المناظرة التي دارت ذات يوم بين الخوارج والإمام أبي حنيفة حول مسألة من المسائل إذ دخل عليه المسجد عصبة من الخوارج فقالوا: (جنازتان بالباب أحدهما رجل شرب الخمر فمات سكران والأخرى امرأة حملت من الزنا فماتت في ولادتها قبل التوبة أهما مؤمنان أم كافران؟ فسألهم (من أي فرقة كانا؟ من اليهود؟) قالوا: (لا). قال: (من النصارى؟) قالوا: (لا). قال: (من المجوس؟) قالوا: (لا). قال: (من أي الملل كانا) قالوا: (من الملة التي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله) قال: (فأخبروني عن هذه الشهادة كم هي من الإيمان ثلث أو ربع أو خمس) قالوا: (إن الإيمان لا يكون ثلثاً ولا ربعاً ولا خمساً) قال (فكم هي من الإيمان) قالوا: (كله) قال (فما سؤالكم إياي عن قوم زعمتم وأقررتم أنهما كانا مؤمنين). قالوا: (دعنا عنك أمن أهل الجنة هما أم من أهل النار؟) قال: (أما إذا أبيتم فإني أقول فيهما ما قال نبي الله إبراهيم في قوم كانوا أعظم جرم منهما (فمن اتبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) إبراهيم 36 وأقول فيهما ما قال نبي الله عيسى في قوم كانوا أعظم جرم منهما (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) المائدة 118 وأقول فيهما ما قال نبي الله نوح (إذا قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون. قال وما علمي بما كانوا يعملون. إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون) الشعراء 111ـ112ـ113 وأقول فيهما ما قال نبي الله نوح عليه السلام وعليهم أجمعين وعلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب إلى قوله إني إذاً لمن الظالمين) فألقوا السلاح وقالوا: (تبرأنا من كل دين كنا عليه وندين الله بدينك)[31].

مصير المؤمن المذنب:

(ولا نقول إن المؤمن لا تضره الذنوب وإنه لا يدخل النار ولا إنه يخلد فيها وإن كان فاسقاً[32] ولا نقول إن حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة كقول المرجئة)[33].

وتضيف العقيدة الطحاوية على هذا:

(ولا ننزل أحداً منهم (من أهل القبلة) جنة ولا ناراً ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق ما لم يظهر منه شيء من ذلك ونذر سرائرهم إلى الله تعالى)[34].

نتائج هذه العقيدة:

هكذا قدم الإمام عقيدة متوازنة وسط الآراء المتطرفة التي قدمها الشيعة والخوارج والمعتزلة والمرجئة.. عقيدة تحمي المجتمع المسلم من التفسخ والتناخر والتنافر وتمنع أفراده من الجرأة على التحلل والتحرر الخلقي ومقارفة الذنوب والآثام. وإذا ما نظرنا إلى تاريخ عصر الفتنة الذي قدم فيه أبو حنيفة هذا التوضيح لعقيدة أهل السنة أمكننا تقدير هذا العمل الجليل الذي قام به الإمام واعتباره معجزته الكبرى التي جاهد ليقيم بها الأمة على طريق الاعتدال. إذ كان معنى هذه العقيدة أن تثق الأمة تماماً في المجتمع الإسلامي الأول الذي أسسه النبي عليه الصلاة والسلام وأن تسلم بالأحكام التي أجمع عليها أهل ذلك المجتمع أو قضت بها أكثريتهم وأن تقر بصحة خلافة أولئك الخلفاء الذين انتخبوا واحداً بعد الآخر وكذا بصحة أحكام عصرهم من الناحية القانونية والدستورية وأن تقبل كل التشريع الذي تلقته الأجيال فيما بعد عن طريق أفراد ذلك المجتمع (يعني الصحابة الكرام).

ومع أن هذه العقيدة لم تكن من اختراع أبي حنيفة وإنما كانت عقيدة السواد الأعظم من الأمة آنذاك إلا أن الإمام قد رتبها في شكل تحريري مدون فأدى بها خدمة نافعة جليلة إذ عرف منها المسلمون جميعاً مذهبهم المتميز في مواجهة أقاويل ومزاعم الفرق الكثيرة المتفرقة.

تدوين القانون الإسلامي:

غير أن أعظم أعمال أبي حنيفة المجيدة الذي بوأه في التاريخ الإسلامي عظمة خالدة لا تخبو شعلتها هو أنه ملأ ـ باجتهاده وقوته الخاصة ـ ذلك الفراغ العظيم الذي كان حدث في نظام الإسلام القانوني بانسداد باب الشورى بعد الخلافة الراشدة. وقد أشرنا ـ إلى آثاره ونتائجه فقد كان كل مفكر يشعر بالعيب الذي ظهر بمرور قرابة قرن على هذا الحال الراكد. ففي ناحية كانت الدولة الإسلامية قد امتدت من حدود السند إلى أسبانيا وضمت تحت جناحيها عشرات الشعوب بحضارتها واجتماعها وتقاليدها وعاداتها وأحوالها وبيئاتها وكان داخل الدولة يموج بالمشاكل المالية ومشاكل التجارة والصناعة والحرف ومشاكل الزواج ومشاكل القوانين الدستورية والعسكرية ولوائح الدواوين التي تتجدد يوماً بعد يوم. أما خارج الدولة فكانت تظهر مشاكل علاقات هذه الدولة ـ وهي أعظم الممالك وأكبرها آنذاك ـ بكل شعوب العالم وما في ذلك من مشاكل الحرب والسلام والصلح والعلاقات الدبلوماسية والمعاملات التجارية والأسفار البحرية والبرية والجمارك والمكوس وغيرها. ولما كان المسلمون يؤمنون بنظرية مستقلة بهم ومبادئ حياة وقانون أساسي خاص بهم لذا كان لا مفر أمامهم من حل هذه المشاكل الغريبة التي لا تحصى وفق نظام قانونهم باختصار كان في ناحية تحدي العصر الشديد الذي يواجهه الإسلام وفي ناحية أخرى لم تكن هناك في زمن الملك أية هيئة قانونية معترف بها يلتقي فيها أهل اثقة من العلماء والفقهاء والمستشارين المسلمين ليفكروا في هذه المشاكل ويقدموا لها حلولاً صحيحة ـ وفق مبادئ الشريعة وقانونها ـ تصبح قوانين تنفذها المحاكم الرسمية في الدولة كلها على حد سواء.

هذا العيب كان يدركه ويلمسه الخلفاء والولاة والحكام والقضاة كلهم ولم يكن في مقدور كل مفت وحاكم وقاض ورئيس محكمة أن يحل مختلف المشاكل المتجددة كل يوم اعتماداً على علمه واجتهاده الفردي وحتى لو حلها كل واحد منهم بصفته الفردية لصدرت عن ذلك قرارات وأحكام كثيرة جداً لا تعد ولا تحصى تتضاد وتتناقض فيما بينها.

غير أن المعضلة كانت تكمن في أن مثل هذه الهيئة في استطاعة الحكومة ـ والحكومة وحدها ـ أن تؤسسها وكانت الحكومة في يد قوم كانوا هم أنفسهم يعرفون أن لا وقار لهم ولا احترام في نفوس المسلمين فكان مجرد احتمال الفقهاء والصبر عليهم ـ وليس مواجهتهم ـ أمراً عسيراً شاقاً عليهم كذلك لم تكن القوانين التي كانت تصنع على أعينهم وتحت إشرافهم من الممكن أن تصبح ـ عند المسلمين ـ جزءاً من القانون الإسلامي بأي حال من الأحوال.

ولقد اقترح ابن المقفع على المنصور سد هذا الفراغ ـ الذي نتحدث عنه ـ بأن يكوّن الخليفة مجلساً من العلماء يقدم إليه كل عالم رأيه إزاء المشاكل الحادثة ثم يفصل الخليفة بنفسه في كل مشكلة منها فيكون فصله قانوناً غير أن المنصور لم يكن يجهل حقيقة نفسه حتى يرتكب هذه الحماقة لأن أحكامه ما كان لها أن تضارع أحكام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وما كان لها أن تعيش أكثر من عمره هو بل إن المنصور لم يكن يتوقع أن يخلص مسلم واحد في دولته ـ أثناء حياته ـ في اتباع قانونه هذا. ولقد كان من الممكن أن يكون قانونه وضعياً علمانياً لكنه ما كان من الممكن أبداً أن يكون جزءاً من القانون الإسلامي.

عندئذ خطر ببال أبي حنيفة حل للمشكلة ومخرج من هذه الورطة وهو أن يستغني عن الحكومة ويكون بنفسه هيئة تشريعية غير رسمية ولا غرو فإن هذا لا يفكر فيه إلا رجل قمة في الفكر المبدع الخلاق كما لا يجرؤ على القيام به إلا رجل معتد بكفاءته واثق من سلوكه ووقاره حتى إذا ما أسس هيئة تدون القوانين فإن قوانينها هذه ستنفذ من تلقاء نفسها دون أن تكون وراءها أية قوة سياسة منفذة. إنما تنفذ بقوة صلاحيتها وصوابها وملاءمتها للبيئة وتأثير واضعيها ومدونيها الأخلاقي. وسيرضى بها الناس من تلقائهم وستضطر الدولة ـ من نفسها ـ لقبولها والاعتراف بها فأبو حنيفة ما كان يعلم الغيب فيتنبأ بالنتائج التي وقعت بالفعل خلال نصف قرن بعده إنما كان عارفاً بنفسه وبأصحابه واقفاً على مزاج المسلمين الاجتماعي ذا نظر ثاقب عميق بصير بأحوال العصر وظروفه فقدر تقديراً سليماً ـ بصفته رجلاً على درجة عالية من العلم والفكر ـ أنه يستطيع سد هذا الفراغ بمفرده وأن هذا الفراغ سينسد ـ فعلاً ـ بسده إياه.

كان أعضاء هذه الهيئة تلاميذ الإمام الذين رباهم لسنين عديدة في مدرسته الفقهية على تناول وتدبر المشاكل القانونية والتحقيق العلمي واستنباط النتائج من الحجج والبراهين والأدلة. وكان كل واحد منهم تقريباً ـ إلى جانب تتلمذه على يد الإمام وتلقيه عنه ـ قد تعلم على أكابر أساتذة عصره علوم القرآن والحديث والفقه والعلوم الأخرى التي تعينه في هذا كاللغة والنحو والأدب والسير والتاريخ فكان التلاميذ خبراء مختصين في مختلف العلوم فهذا نابغة في القياس والرأي وذاك غزير العلم بالأحاديث وفتاوى الصحابة ونظائر الخلفاء والقضاة السابقين وثالث يختص بالتفسير أو إحدى شعاب الفقه الخاصة أو اللغة أو النحو أو المغازي. وقد ذكر الإمام نفسه ـ في حديث له ـ المنازل التي كان عليها تلاميذه أولئك فقال: (هؤلاء ستة وثلاثون رجلاً منهم ثمانية وعشرون يصلحون للقضاء وستة يصلحون للفتوى واثنان يصلحان لتأديب القضاة وأرباب الفتوى)[35].

ومنهاج هذا المجلس الذي دونه كتّاب السيرة الثقات الذين كتبوا سيرة الإمام ننقله لكم هنا كما جرت به أقلامهم:

يقول الموفق بن أحمد المكي (المتوفي 568 هـ 1172م):

(فوضع أبو حنيفة رحمه الله مذهبه شورى بينهم (بين تلاميذه) لم يستبد فيه بنفسه دونهم اجتهاداً منه في الدين ومبالغة في النصيحة لله ورسوله والمؤمنين فكان يلقي مسألة مسألة يقلبها ويسمع ما عندهم ويقول ما عنده ويناظرهم شهراً أو أكثر من ذلك حتى يستقر أحد الأقوال فيها ثم يثبتها القاضي أبو يوسف في الأصول حتى أثبت الأصول كلها فإذا كان كذلك كان المذهب)[36].

ويقول ابن البزاز الكردري (صاحب الفتاوى البزازية المتوفي 827 هـ):

(وكان أصحابه يكثرون الكلام في مسألة من المسائل ويأخذون في كل فن وهو ساكت فإذا أخذ في شرح ما تكلموا فيه كان كأنه ليس في المجلس أحد غيره)[37].

ويقول عبد الله بن المبارك:

(كنت أحضر مجلس أبي حنيفة بالغداة والعشي فابتدأوا في مسألة من الحيض فخاضوا فيها ثلاثة أيام بالغداة والعشي فلما كان اليوم الثالث بالعشي كبروا جميعاً قالوا الله أكبر فعلمت أن مسألتهم قد خرجت)[38].

ويظهر من بيان تلميذ آخر ـ أبو عبد الله ـ أن أبا حنيفة كان يجعل تلاميذه يقرأون آراءه فيسمعها منهم.. يقول:

(كنت أقرأ عليه أقاويله وكان أبو يوسف أدخل فيه أيضاً أقاويله وكنت أجتهد على ألا أذكر قول أحد بجنبه فزل لساني يوماً وقلت بعد ذكر قوله وفيها قول آخر فقال ومن هذا الذي الذي يقول هذا القول)[39].

وإلى جانب هذا يتضح مما يذكره المكي أيضاً أن قرارات وأحكام هذا المجلس التي كانت تدون كانت ترتب تحت عناوين مستقلة بذاتها في كتب وأبواب أثناء حياة أبي حنيفة.. يقول المكي:

(وأبو حنيفة أول من دون علم هذه الشريعة لم يسبقه أحد ممن قبله.. فجعله أبواباً مبوبة وكتباً مرتبة)[40].

هذا المجلس ـ كما نقلنا عن المكي فيما قبل ـ فصل في ثلاثة وثمانين الف مسألة فقهية ولم تكن المسائل التي تبحث فيه مما كان يعن للناس والدولة بالفعل آنذاك فحسب وإنما كان المجلس يفترض أوضاع الأمور وحالاتها المحتملة ثم يناقشها ويبحث لها عن حل حتى إذا جد أمر من الأمور أو حال من الأحوال لم يكن قد ظهر من قبل كان حله جاهزاً موجوداً وكانت هذه المسائل تتصل بكل شعاب الفقه والقانون تقريباً. فتجد في فهارس هذه الكتب القانون الدولي[41] (والذي يستخدم له اصطلاح السير) والقانون الدستوري والقانون العسكري الحربي وقوانين الدواوين وقانون الشهادة ولوائح المحاكم والقوانين الخاصة بكل جانب من جوانب الحياة الاقتصادية وكذا أحكام العبادات وقوانين الزواج والطلاق والمواريث وغيرها من قوانين الأحوال الشخصية والتي رتبها الإمام أبو يوسف ثم الإمام محمد بن حسن الشيباني ـ فيما بعد ـ من المواد الجاهزة التي أعدها هذا المجلس.

ولقد كان أثر هذا التدوين المنظم للقانون أن أضحت أعمال المجتهدين والقضاة والمفتين الفردية بلا اعتبار. لقد قام مجلس من العلماء ـ تحت رئاسة وإشراف أبي حنيفة ذلك الرجل النافذ البصيرة ـ بتحقيق أحكام القرآن والحديث ونظائر الفتاوى والقرارات والأحكام السابقة. واستخراج أحكام الشريعة ووضعها في صورة منقحة ثم اجتهد أعضاؤه اجتهاداً عريضاً ـ في  إطار مبادئ الشريعة ـ ورتبوا ـ من أجل الضرورات المحتمل حدوثها في كل شق من الحياة ـ القوانين اللازمة الصالحة للتطبيق فكان من الصعب ـ بعدها ـ أن تحظى الأحكام التي دونها أفراد متفرقون بالإجلال والاحترام.

لهذا ما إن ظهر هذا العمل إلى الوجود حتى اضطر عامة الناس والحكام والقضاة جميعاً إلى الرجوع إليه إذ كان هذا العمل مطلباً يطلبه العصر آنذاك ويحتاج إليه الناس منذ زمن لذلك يقول الفقيه المعروف يحيى بن آدم (المتوفي 203هـ ـ 818) إن أقوال الفقهاء الآخرين ـ بعد أبي حنيفة ـ كسدت سوقها إذ كان علمه ـ وحده ـ قد انتشر في مختلف المناطق وشرع الخلفاء والأئمة والحكام يقضون به وسارت الأمور وفقه[42]. ووصل الأمر أيام المأمون (198 ـ 218هـ/813ـ833م) أن أشار أحد الفقهاء من خصوم أبي حنيفة على الوزير الفضل بن سهل أن يصدر أمره بوقف العمل بالفقه الحنفي فدعا الوزير من هم على بصيرة ودراية بالأمير ليأخذ رأيهم في هذا فقالوا جميعاً (إن هذا الأمر لا ينفذ وينتقض جميع الملك عليكم ومن ذكر لك هذا فهو ناقص العقل) قال الوزير (هذا إن سمعه أمير المؤمنين لا يرضى به ويعاقب من ذكر له هذا وأنا أشد الناس كراهة لهذا)[43].

حقاً إنها لأهم واقعة في التاريخ أن يصبح القانون ـ الذي رتبته هيئة تشريعية غير رسمية أسسها رجل بمفرده ـ قانوناً للدولة والممالك اعتماداً على مواصفات القانون نفسه وصلاحيته وعلى مكانة واضعيه الأخلاقية. وكانت النتيجة الثانية الهامة لهذا العمل ـ إلى جانب هذا ـ أنه شق أمام الفقهاء وأهل القانون المسلمين طريقاً جديداً لتدوين القانون الإسلامي فاتخذته النظم الفقهية والقانونية التي جاءت بعده نموذجاً وضعته أمام عينيها وهي تبني نظمها رغم اختلافها في طراز اجتهادها ونتائجه.

 

الباب الثامن

مذهب أبي حنيفة في الخلافة وما يتعلق بها من مسائل

كان لأبي حنيفة في مضمار السياسة رأي مفصل شمل ـ تقريباً ـ كل منحى من مناحي الدولة وكان يختلف عن آراء الأئمة الآخرين في بعض الأمور السياسية. وسنعرف على الصفحات التالية آراء الإمام في كل شق من شقوق المسألة.

1ـ مسألة الحاكمية:

إن أول مسألة جديرة بالبحث في أية نظرية عن (الدولة) هي مسألة الحاكمية ومن الذي تقر له هذه النظرية بالحاكمية. ولقد كانت نظرية أبي حنيفة في الحاكمية هذه هي نفس نظرية الإسلام الأساسية المعروفة يعني أن الله هو الحاكم الأصلي والرسول مطاع بصفته نائبه وممثله وأن شريعة الله ورسوله هي القانون الأعلى الذي لا يمكن اختيار أي سبيل إزاءه سوى الطاعة والاتباع ولأن أبا حنيفة كان فقيهاً ـ أو رجل قانون ـ نجده قد أوضح هذا بلغة القانون والفقه لا بلغة علم السياسة وفنها فيقول:

(إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بقول أصحابه (يعني إجماعهم) فإن اختلفوا أخذت بقول من شئت وأدع قول من شئت ثم لا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم فإذا انتهى الأمر إلى أناس اجتهدوا فلي أن أجتهد كما اجتهدوا)[44].

يقول ابن حزم:

(جميع أصحاب أبي حنيفة مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث أولى عنده من القياس والرأي)[45].

ويظهر من هذا أن أبا حنيفة كان يتخذ القرآن والسنة سلطة نهائية فكان مذهبه أن الحاكمية القانونية لله ورسوله. ودائرة التشريع بالقياس والرأي ـ عنده ـ كانت قاصرة على ما ليس فيه حكم من الله ورسوله والسبب في ترجيحه لأقوال صحابة الرسول الفردية على غيرها من أقوال الآخرين هو أن الصحابي قد يكون على علم بأن هناك حكماً للرسول صلى الله عليه وسلم في المسألة فبنى عليه قوله. ومن أجل هذا التزم أبو حنيفة ـ في المسائل التي اختلفت فيها آراء الصحابة ـ باختيار رأي أحدهم ولا يقضي برأي يخالفهم كلهم خشية أن يكون فيه خلاف لسنة مجهولة. ولقد كان ـ بالطبع ـ يجتهد في إقامة الرأي على أقرب الأقوال إلى السنة. ومع أن الإمام قد اتهم ـ في حياته ـ بترجيح القياس على النص إلا أنه نفى هذا فقال:

(كذب والله وافترى علينا من يقول عنا أننا نقدم القياس على النص وهل يحتاج بعد النص إلى قياس).

وكتب إليه الخليفة المنصور ـ ذات مرة ـ يقول سمعنا أنك تقدم القياس على الحديث فرد عليه:

(ليس الأمر كما بلغك يا أمير المؤمنين إنما أعمل أولاً بكتاب الله ثم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بأقضية أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ثم بأقضية بقية الصحابة ثم أقيس بعد ذلك إذا اختلفوا).

2ـ الطريقة الصحيحة لانعقاد الخلافة:

يرى الإمام أبو حنيفة ـ في مسألة الخلافة ـ أن الاستيلاء على السلطة بالقوة ثم أخذ البيعة بعد ذلك غصباً ليس هو الصورة الشرعية الصحيحة لانعقاد الخلافة. والخلافة الصحيحة هي ما تقوم باجتماع وشورى أهل الرأي وقد قال الإمام رأيه هذا في موقف دقيق لم يكن من يعلن فيه مثل هذا الرأي يضمن بقاء رأسه على كتفيه.

يروي ربيع بن يونس حاجب الخليفة المنصور أن المنصور دعا الإمام مالك وابن أبي ذئب والإمام أبا حنيفة وقال لهم: (كيف ترون هذا الأمر الذي خولني الله تعالى فيه من أمر هذه الأمة هل أنا لذلك أهل؟)

قال الإمام مالك: (لو لم تكن أهلاً لما ولاك الله تعالى)

وقال ابن أبي ذئب: (ملك الدنيا يؤتيه الله تعالى من يشاء وملك الآخرة يؤتيه الله تعالى لمن طلبه ووفقه الله تعالى والتوفيق منك قريب إن أطعت الله تعالى وإن عصيته فبعيد وأن الخلافة تكون بإجماع أهل التقوى لمن وليها وأنت وأعوانك خارجون عن التوفيق عادلون عن الحق فإن سألت الله تعالى السلامة وتقربت إليه بالأعمال الزاكية كان ذلك وإلا فأنت المطلوب).

قال الإمام أبو حنيفة: (كنت أنا ومالك نجمع ثيابنا مخافة أن يقطر علينا من دمه) ثم قال المنصور لأبي حنيفة (ما تقول أنت؟) فقال: (المسترشد لدينه يكون بعيد الغضب إن أنت نصحت نفسك علمت أنك لم ترد الله باجتماعنا فإنما أردت أن تعلم العامة أنا نقول فيك ما تهواه مخافة منك ولقد وليت الخلافة وما اجتمع عليك اثنان من أهل الفتوى، والخلافة تكون باجتماع المؤمنين ومشورتهم فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه أمسك عن الحكم ستة أشهر حتى جاءته بيعة أهل اليمن).

فأمرهم المنصور فانصرفوا ثم أمر لهم بثلاث بدر (أكياس من المال) واتبعهم بها وقال لحاجبه (إن أخذها مالك كلها فادفعها له وأن أخذها ابن أبي ذئب أو أبو حنيفة فجئني برأسيهما) فقال ابن أبي ذئب (ما أرضى بهذا المال له كيف أرضاه لنفسي) وقال أبو حنيفة (والله لو ضرب عنقي على أن أمس منه درهماً ما فعلت) فقبله كله مالك فأعطاه له. فلما علم المنصور بذلك قال: (بهذه الصيانة أحقنوا دماءهم)[46].

3ـ شروط استحقاق الخلافة:

لم تكن شروط استحقاق الخلافة حتى زمن أبي حنيفة مفصلة مثلما فصلها المحققون فيما بعد أمثال الماوردي وابن خلدون لأن أكثرها كان مسلماً به في عصره مثل شرط أن يكون المرء مسلماً رجلاً حراً عالماً سليم الحواس والبدن وغيره. غير أن هناك أمرين كانا موضع بحث وجدل أيام أبي حنيفة وكان إيضاحهما أمراً مطلوباً. الأول: هل يمكن أن يكون الظالم والفاسق خليفة شرعياً أم لا؟ والثاني: هل لا بد من أن يكون الخليفة قرشياً أم لا؟

أ‌)                       إمامة الفاسق والظالم:

إن لرأي الإمام فيما يتعلق بالأمر الأول جانبين ينبغي فهمهما فهماً سليماً. فالعصر الذي أوضح فيه الإمام أبو حنيفة رأيه في هذه المسألة كان عصر صراع شديد بين نظريتين متطرفتين في العالم الإسلامي عامة والعراق خاصة. أحداهما تقول ـ في شدة وصرامة ـ إن إمامة الظالم والفاسق لا تجوز أبداً ولا يصح للمسلمين أي عمل جماعي في ظلها. والثانية تقول إن الظالم والفاسق إذا استولى على زمام البلاد بأي طريقة فإمامته وخلافته ـ بعد تسلطه واستيلائه ـ صحيحة تماماً. وقد قدم لنا الإمام أبو حنيفة نظرية وسطاً متوازنة بين هاتين نفصلها كالآتي:

يقول أبو حنيفة في الفقه الأكبر:

(والصلاة خلف كل بر وفاجر من المؤمنين جائزة)[47]

ويقول الإمام الطحاوي في شرح هذا المذهب في العقيدة الطحاوية:

(والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة لا يبطلها شيء ولا ينقضها)[48]

هذا الجانب من هذه المسألة. والجانب الثاني أن العدالة ـ عند أبي حنيفة ـ شرط لا بد منه للخلافة فلا يكون الظالم أو الفاسق خليفة شرعياً أو قاضياً أو حاكماً أو مفتياً وإن صار كذلك فإمامته باطلة ولا تجب على الناس طاعته أما هل ستكون الأعمال التي يقوم بها المسلمون في حياتهم الجماعية على نحو شرعي تحت حكمه ـ بعد استيلائه وتوليه ـ أعمالاً شرعية جائزة أم لا وهل تنفيذ الأحكام التي يصدرها بالعدل قضاة عينهم هو بنفسه أم لا فهذا أمر آخر، وقد شرح الإمام الحنفي أبو بكر الجصاص هذه المسألة في (أحكام القرآن) شرحاً وافياً فقال:

(فلا يجوز أن يكون الظالم نبياً ولا خليفة لنبي ولا قاضياً ولا من يلزم الناس قبول قوله في أمور الدين من مفت أو شاهد أو مخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم خبراً فقد أفادت الآية (لا ينال عهدي الظالمين) أن شرط جميع من كان في محل الائتمام به في أمر الدين العدالة والصلاح. فثبت بدلالة هذه الأية بطلان إمامة الفاسق وأنه لا يكون خليفة وأن من نصب نفسه في هذا المنصب وهو فاسق لم يلزم الناس اتباعه ولا طاعته وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ودل أيضاً على أن الفاسق لا يكون حاكماً وأن أحكامه لا تنفذ إذا ولي الحكم وكذلك لا تقبل شهادته ولا خبره إذا أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا فتياه إذا كان مفتياً)[49].

ثم يصرح الجصاص بعد ذلك بأن هذا هو مذهب الإمام أبي حنيفة ثم يذكر بالتفصيل أن اتهام أبي حنيفة بتجويز إمامة الفاسق ظلم اقترف في حقه:

(ومن الناس من يظن أن مذهب أبي حنيفة تجويز إمامة الفاسق وخلافته.. فإنما جاء غلط من غلط في ذلك إن لم يكن تعمد الكذب من جهة قوله وقول سائر من يعرف قوله من العراقيين أن القاضي إذا كان عادلاً في نفسه فولي القضاء من قبل إمام جائر أن أحكامه نافذة وقضاياه صحيحة وأن الصلاة خلفهم جائزة مع كونهم فساق وهذا مذهب صحيح ولا دلالة فيه على أن من مذهبه تجويز إمامة الفاسق)[50].

وقد نقل الإمام الذهبي والموفق بن أحمد المكي قول أبي حنيفة إن (أيما أمام غل (يعني استخدام خزانة الدولة بطرق غير مشروعة) أو جار في حكمه بطلت إمامته ولم يجز حكمه)[51].

يتضح من تفحص هذه الأقوال أن أبا حنيفة يفرق ـ على عكس ما تقول الخوارج والمعتزلة ـ بين الإمام (بالحق) والإمام (بالفعل) إذ كان مذهب الخوارج والمعتزلة يعطل نظام الدولة والمجتمع المسلم كلية إذا لم يكن هناك إمام عادل صالح (يعني إمام بالحق). فلا حج ولا جمعة ولا جماعة ولا محاكم ولا يتم أي عمل من أعمال المسلمين ـ دينياً كان أم سياسياً أم اجتماعياً ـ في غيابه على نحو شرعي قط فقوّم أبو حنيفة هذا الاعوجاج حيث قال إذا لم يتيسر وجود إمام بالحق فإن نظام حياة المسلمين الجماعية يمضي على نحو شرعي تحت من هو إمام بالفعل حتى ولو كانت إمامته غير شرعية.

لقد أنقذ أبو حنيفة المسلمين من نظرية المرجئة المتطرفة في الإرجاء ونتائجها والتي كانت نداً مقابلاً في وجه نظريات الخوارج والمعتزلة وكان بعض أهل السنة ذاتهم يعتقدونها ويقولون بها. لقد كان هؤلاء القوم ـ المرجئة ـ يخلطون بين الإمام بالحق والإمام بالفعل ويقولون بجواز إمامة الفاسق ـ إذا كان إماماً بالفعل ـ كما لو كان إماماً بالحق. فكانت النتيجة الحتمية لهذا أن يقعد المسلمون مطمئنين راضين بحكومة الحكام المستبدين الظالمين ذوي السلوك المشين والخلق الذميم ويتركون ـ لا محاولة تغييرهم بل حتى مجرد التفكير في ذلك وفي سبيل تصحيح هذه الفكرة الخاطئة أعلن أبو حنيفة بكل شدة وقوة وإصرار أن إمامة من هم كذلك باطلة بطلاناً قطعياً.

ب‌)                   شرط (القرشية) للخلافة:

أما رأي أبي حنيفة في المسألة الثانية فكان ضرورة أن يكون الخليفة من قريش[52] وليس هذا رأيه وحده بل هو رأي يتفق عليه أهل السنة[53]. وليست علة ذلك أن الخلافة الإسلامية ـ من وجهة نظر الشريعة ـ حق دستوري لقبيلة واحدة من قبيلة قريش وإنما علته ظروف ذلك العصر حينما كان من اللازم للمسلمين أن يكون الخليفة قرشياً من أجل بناء المجتمع وإقامته واستتبابه. ولقد وضح ابن خلدون هذا الأمر إيضاحاً تاماً إذ رأي أن العرب كانوا عضد الدولة الإسلامية وحماتها آنذاك وأن اتفاق العرب ـ إذا كان ميسوراً ـ فهو بدرجة أكثر على خلافة قريش. وكانت احتمالات النزاع والاختلاف والتفرق كبيرة في حالة استخلاف رجل من قبيلة أخرى فلم يكن من المعقول تعريض نظام الخلافة لمثل هذا الخطر[54]، لهذا نصح الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يكون (الأئمة من قريش)[55] ولو كانت الخلافة لا تجوز لغير القرشي شرعاً لما قال سيدنا عمر عند وفاته لو كان سالم حياً لوليته (وسالم هو عتيق حذيفة)[56] والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه حين نصح بأن تكون الخلافة في قريش أوضح أن هذا المنصب يبقى فيها ما بقيت في أهلها صفات مخصوصة[57] فينتج من هذا تلقائياً أن تكون الخلافة لغير قريش في حالة انعدام هذه الصفات وهذا هو الفرق الأصلي بين مذهب أبي حنيفة وجميع أهل السنة وبين مذهب الخوارج والمعتزلة الذين أجازوا الخلافة لغير القرشي بإطلاق بل لقد وصلوا إلى أبعد من هذا فجعلوا غير القرشي أحق بها إذ كانت الديمقراطية شاغلهم الأول ولو كانت نتيجتها التفرق والاختلاف. أما أهل السنة والجماعة فكان همهم استحكام الدولة إلى جانب الديمقراطية أيضاً.

4ـ بيت المال:

كان تصرف الخلفاء غير المشروع في الخزانة الرسمية للدولة وتعديهم على أملاك الناس من بين الفعال التي كان الخلفاء يفعلونها في عصر أبي حنيفة وكان يعترض على ذلك اعتراضاً شديداً لأنه كان يرى الظلم في الحكم والخيانة في بيت المال من الأمور التي تبطل إمامة الإمام ـ مثلما ذكرنا فيما سلف نقلاً عن الذهبي ـ كذلك لم يكن أبو حنيفة يبيح تملك الخليفة للهدايا التي ترسل إليه من الدول الأخرى بل كانت ـ عنده ـ من نصيب خزانة الشعب لا من نصيب الخليفة وأسرته فلولا أن الخليفة خليفة المسلمين وأن صيته ذاع بسبب قوتهم الاجتماعية لما أهديت إليه هذه الهدايا لأن الناس لا يهدون من قعد في بيته[58]. كذلك كان أبو حنيفة يعترض على ما يعطيه الخليفة من العطايا والهبات من بيت المال وما ينفق فيه من وجوه غير مشروعة وكان ذلك سبباً قوياً من الأسباب التي جعلته يرفض قبول عطايا الخلفاء وهداياهم إليه.

وحين كان الخلاف قائماً بينه وبين الخليفة المنصور سأله المنصور: (لم لا تقبل صلتي) فأجابه (ما وصلني أمير المؤمنين من ماله بشيء فرددته ولو وصلني بذلك لقبلته إنما وصلني أمير المؤمنين من بيت مال المسلمين ولا حق لي في بيت مالهم إني لست ممن يقاتل من ورائهم فآخذ ما يأخذ المقاتل وليست من ولدانهم فآخذ ما يأخذ الولدان ولست من فقرائهم فآخذ ما يأخذ الفقراء)[59].

ثم لما جلده المنصور ثلاثين جلدة لرفضه تولي منصب القضاء واختضب كل جسمه بالدم لامه عمه عبد الصمد بن علي على ذلك لوماً شديداً وقال له (يا أمير المؤمنين ماذا فعلت سللت على نفسك مائة ألف سيف فهذا فقيه أهل العراق هذا فقيه أهل المشرق) فندم المنصور وأمر له بثلاثين ألف درهم مكان كل سوط ألف درهم فرفضها قيل له خذها وتصدق بها فقال (وعندهم شيء حلال؟ وعندهم شيء حلال) وأبى أن يقبلها[60].

ولما راحت المتاعب تتعاقب وتتوالى عليه في آخر عمره أوصى ألا يدفن في الجزء الذي اقتطعه المنصور من الناس غصباً لبناء بغداد فلما سمع المنصور بوصيته هذه صاح (من يعذرني منك حياً وميتاً)[61].

5ـ تحرر السلطة القضائية من السلطة التنفيذية:

أما عن رأيه في القضاء وسلطته فكان يرى ـ من أجل تحقيق العدالة ـ لا ضرورة تحرره من ضغوط أو تدخلات السلطة التنفيذية فحسب بل لا بد وأن يكون في استطاعة القاضي تنفيذ حكمه في الخليفة نفسه إذا ما تعدى على حقوق الناس. لهذا عندما استيقن أبو حنيفة في آخر حياته أن الحكومة ستقضي عليه جمع تلاميذه وخطب فيهم فكان من جملة الأمور الهامة التي قالها: (وإذا أذنب (الإمام) ذنباً بينه وبين الناس أقامه عليه أقرب القضاة إليه)[62].

وأعظم الأسباب التي كانت وراء رفضه قبول المناصب الحكومية ـ وخاصة القضاء ـ في دولة بني أمية وبني العباس أن القضاء في حكومتهم ليس حراً طليقاً من سطوة الخلفاء (السلطة التنفيذية) فلم يكن أبو حنيفة يرى في ذلك المنصب استحالة تنفيذ الأحكام على الخليفة فحسب وإنما كان يخشى كذلك أن يجعلوا منه آلة للظلم فيستصدرونه أحكاماً خاطئة ويتدخل الخليفة بل وأهل قصره ورجالاته في أحكامه وأقضيته.

وأول تجربة في ذلك وقعت لأبي حنيفة كانت في عهد بني أمية عام 130 هجرية حين أراد يزيد بن عمر بن هبيرة أن يكرهه على قبول منصب من المناصب الحكومية وقت أن كان طوفان التمرد والثورة على بني أمية يجتاح العراق وهو الطوفان الذي أطاح بعرشهم في عامين اثنين وكان ابن هبيرة يريد جمع أكابر الفقهاء والاستفادة من نفوذهم وتأثيرهم ولهذا دعا ابن أبي ليلى وداود بن أبي الهند وابن شبرمة وغيرهم من الفقهاء وولاهم أهم المناصب ثم دعا أبا حنيفة وقال له جعلت في يديك خاتم الدولة لا ينفذ حكم ما لم تمهره. ولا يخرج من الخزانة مال لم تعتمده فرفض أبو حنيفة هذا فقيده وجلده وهدده وتوعده فقال له الفقهاء الآخرون ارفق بنفسك وارحم حالك فنحن لا نرضى بهذه الوظائف وإنما قبلناها جبراً واضطراراً فاقبلها كما قبلناها فقال لهم (لو أرادني أن أعد له أبواب مسجد واسط لم أدخل في ذلك فكيف وهو يريد مني أن يكتب بضرب عنق رجل وأختم أنا على ذلك الكتاب فوالله لا أدخل في ذلك أبداً).

فعرض عليه ابن هبيرة في هذا الشأن مناصب أخرى فرفضها فأصدر قراره بتعيينه قاضياً على الكوفة وأقسم إذا رفض أبو حنيفة لأجلدنه فقال أبو حنيفة (ضربة لي في الدنيا أسهل علي من مقامع الحديد في الآخرة والله لا فعلت ولو قتلني) وفي النهاية جلده ابن هبيرة عشرين أو ثلاثين جلدة على رأسه وجاء في بعض الروايات أنه ظل عشرة أيام متوالية يضربه في كل يوم عشر جلدات وأبو حنيفة متمسك برفضه. وأخيراً قالوا له أن أبا حنيفة سيموت فقال (ألا ناصح لهذا المحبوس أن يستأجلني فأوجله فينظر في أمره) فلما بلغ ذلك أبو حنيفة قال (دعوني أستشير إخواني وأنظر في ذلك) فلما بلغ ذلك ابن هبيرة أطلقه فغادر الكوفة إلى مكة حيث لم يرجع منها إلى أن زال ملك بني أمية[63].

ولما قامت دولة بني العباس راح المنصور يلح عليه في توليته منصب القضاء ويصر على ذلك إصراراً بالغاً كما سبق أن ذكرنا. وكان أبو حنيفة قد ساعد النفس الزكية وأخاه إبراهيم في خروجهما على المنصور علانية فأوغر ذلك صدر المنصور وكان ـ على حد قول الإمام الذهبي ـ (لا يصطلى له بنار)[64] غير أن احتواء وتكبيل مثل هذا الرجل المؤثر لم يكن سهلاً عليه يسيراً. وكان المنصور يعلم كيف جعل قتل إمام من الأئمة ـ الحسين بن علي ـ قلوب المسلمين تنفر وتشمئز من بني أمية وكيف أطيح بعرشهم ـ بسببه ـ في سهولة تامة لذلك كان لا يرى قتل أبي حنيفة وإنما آثر تكبيله بسلاسل المال والذهب ثم استخدامه في أغراضه وبهذه النية عرض عليه منصب القضاء مرات ومرات حتى أنه عرض عليه منصب قاضي قضاة الدولة العباسية لكن أبا حنيفة ظل زمناً يحتال ويتملص منه بشتى فنون الحيل[65]. فلما أصر المنصور على ذلك إصراراً كبيراً عدد له الإمام أسباب رفضه فاعتذر له ذات مرة اعتذاراً رقيقاً قال فيه (لا يصلح للقضاء إلا رجل يكون له نفس يحكم بها عليك وعلى ولدك وقوادك وليس تلك النفس لي إنك لتدعوني فما ترجع إلي نفسي حتى أفارقك)[66].

وفي مرة أخرى اشتد الحديث بينهما فقال له أبو حنيفة:

(اتق الله ولا ترع في أمانتك إلا من يخاف الله والله ما أنا بمأمون الرضى فكيف أكون مأمون الغضب ولو اتجه الحكم عليك ثم تهددني على أن تغرقني في الفرات أو أزيل الحكم لاخترت أن أغرق ولك حاشية يحتاجون إلى من يكرمهم لك)[67].

فلما تأكد المنصور ـ من هذا القول ـ أن هذا الرجل لن يسلم زمام نفسه لأصابع الذهب والفضة توجه حيث تشاء انتقم منه انتقاماً شديداً فضربه بالسياط وألقاه في السجن وآذاه في رزقه إيذاء شديداً ثم اعتقله في منزل حيث مات موتاً طبيعياً على حد قول البعض أو مات مسموماً حسب قول بعض آخر[68].

6ـ حق حرية الرأي:

حظيت حرية الرأي ـ إلى جانب حرية القضاء ـ في المجتمع المسلم والدولة الإسلامية بأهمية كبرى كذلك عند أبي حنيفة. وهي الحرية التي استخدم لها القرآن والسنة اصطلاح (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وقد يكون التعبير عن الرأي وإظهاره ـ مجرد تعبير ـ غير مستساغ البتة وقد يكون باعثاً للفتنة مثيراً لها وقد يكون ضد الأخلاق والأمانة الإنسانية مما لا يصبر عليه أو يطيقه أي قانون لكن النهي عن المنكر والأمر بالمعروف هو تعبير عن الرأي بالمعنى الصحيح وقد اختار الإسلام له هذا الاصطلاح ولم يجعل هذه الصورة بصفة خاصة ـ من بين سائر صور التعبير عن الرأي ـ حقاً من حقوق الشعب فحسب بل فرضاً عليه كسائر الفروض. ولقد كان الإمام أبو حنيفة يدرك أهمية هذا (الحق) وهذا (الفرض) إدراكاً كبيراً إذ كان المسلمون في أيامه قد سلبوا هذا الحق وصاروا مترددين في (فرضيته) أيضاً. فالمرجئة ـ في جانب ـ كانوا يجعلون الناس ـ بعقائدهم ـ يتجرأون على ارتكاب الذنوب والمعاصي. والحشوية ـ في الجانب الآخر ـ كانوا يقولون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وجه الحكومات فتنة. وفي الجانب الثالث حكومات بني أمية وبني العباس تقتل في المسلمين ـ بقوتها وسلطانها ـ روح الاعتراض على فسق الأمراء وفجورهم وظلمهم وجورهم. لكل هذا حاول أبو حنيفة ـ بقوله وعمله ـ إحياء هذه الروح وتوضيح حدودها ويذكر الجصاص أن أبا حنيفة أجاب إبراهيم الصائغ (أحد مشاهير الفقهاء في خراسان) ـ حين سأله ـ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض ثم تلا الحديث النبوي الذي رواه عكرمة عن ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله) فأثر قول أبي حنيفة في إبراهيم تأثيراً قوياً فلما رجع إلى خراسان نهى أبا مسلم الخراساني مؤسس الدولة العباسية (المتوفي 136هـ ـ 754م) جهاراً عن ظلمه وإراقته الدماء بغير الحق وظل ينهاه إلى أن قتله أبو مسلم[69].

ولما خرج إبراهيم بن عبد الله أخو النفس الزكية عام 145 هجرية (موافق 763م) جهر أبو حنيفة بتأييده ومناصرته ضد المنصور وبينما كان المنصور في الكوفة كان جيش إبراهيم يتقدم من البصرة صوبها وظل حظر التجول في المدينة الليل كله ويروي زفر بن الهذيل تلميذ أبي حنيفة المعروف أن أبا حنيفة كان ـ في ذلك الوقت الحرج الدقيق ـ يجهر بأفكاره في قوة وثبات حتى قلت له ذات يوم (والله ما أنت بمنته حتى توضع الحبال في أعناقنا)[70].

وفي عام 149 هجرية (الموافق 765م) ثار أهل الموصل وكان المنصور قد أخذ عليهم عهداً قبل ذلك ـ حين ثاروا عليه ذات مرة ـ أن لو فعلوها مرة أخرى حل له دماؤهم وأموالهم فلما ثاروا عليه في المرة الثانية دعا المنصور أجلة الفقهاء ـ وكان أبو حنيفة بينهم ـ واستفتاهم أتحل له أموالهم ودماؤهم حسب ما عاهدوه أم لا؟ فاستند الفقهاء إلى المعاهدة وقالوا (إن عفوت فأنت أهل العفو وإن عاقبت فبما يستحقون) وسكت أبو حنيفة عن الجواب فقال له المنصور (ما تقول أنت يا شيخ) فرد عليه:

(إنهم شرطوا لك ما لا يملكونه ـ يعني دماءهم ـ فإنه قد تقرر أن النفس لا يجري فيها البذل والإباحة وشرطت عليهم ما ليس لك لأن دم المسلم لا يحل إلا بإحدى معان ثلاث. أرأيت إن أحلت امرأة نفسها لرجل بغير نكاح أتحل له؟ وإذا قال رجل لآخر اقتلني أيحل له قتله؟ قال المنصور: لا. قال: فكف يدك عن أهل الموصل فلا تحل لك دماؤهم).

فلم يرض المنصور عن هذا وأمرهم بالقيام فتفرقوا ثم دعاه وحده وقال له: (القول ما قلت انصرف إلى بلادك ولا تفت الناس بما هو شين على إمامك فتبسط يد الخوارج (يعني الثائرين) على إمامك)[71].

كان أبو حنيفة يمارس حرية الرأي هذه ضد المحاكم أيضاً فكان إذا أصدرت إحدى المحاكم حكماً خاطئاً جهر بما فيه من خطأ لأن احترام القضاء عنده ليس معناه ترك المحاكم وقضاتها يصدرون أحكاماً غير صحيحة لقد منعوه ذات مرة من الفتيا زماناً لارتكابه هذه (الجريمة)[72].

ويذهب أبو حنيفة في حرية الرأي إلى أن من اعترض على الخلافة الشرعية وحكومتها الشرعية العادلة وسب إمام العصر بل وجهر بقتله فإن سجنه أو معاقبته ـ عنده لا تجوز. ما لم يعتزم القيام بثورة مسلحة ـ فعلاً ـ أو بث الرعب والإرهاب في البلاد. ويستدل في هذا بما حدث مع سيدنا علي رضي الله عنه حينما قبض رجاله على خمسة كانوا يشتمونه في الكوفة ـ وهو خليفة ـ علناً وقال أحدهم (أعاهد الله لأقتلنه) فأمر سيدنا علي بإطلاقهم قال له رجل (أتخلي عنه وقد عاهد الله ليقتلنك) قال: (أفأقتله ولم يقتلني) قال (وإنه قد شتمك) قال (فاشتمه إن شئت أو دعه).

كذلك يستدل أبو حنيفة ـ في أمر معارضي الحكومة ـ بما أعلنه سيدنا علي في شأن الخوارج إذ قال: (لن نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ولن نمنعكم الفيء مادات أيديكم مع أيدينا ولن نقاتلكم حتى تقاتلونا)[73].

7ـ الخروج على الحكومة الظالمة:

ظهرت في ذلك الوقت مسألة هامة وهي: (إذا كان إمام المسلمين ظالماً فاسقاً فهل تجوز الثورة عليه؟ وبين أهل السنة أنفسهم اختلافاً حول هذه المسألة. فقالت جماعة كبيرة من أهل الحديث بجواز الاعتراض على ظلمه باللسان والنطق أمامه بالحق ولكن لا تجوز الثورة عليه ولو أراق الدماء بغير الحق وتعدى على حقوق الناس وارتكب فسقاً صريحاً[74]، لكن أبا حنيفة يقول إن إمامة الظالم ليست باطلة فحسب وإنما تجوز الثورة عليه أيضاً بل وينبغي ذلك بشرط أن تكن ثورة ناجحة مفيدة تأتي بالعادل الصالح مكان الظالم الفاسق وبشرط أن لا تكون نتيجتها مجرد تبديد القوى وضياع الأنفس والأرواح. ويشرح أبو بكر الجصاص مذهب أبي حنيفة في هذا القول:

(وكان مذهبه مشهوراً في قتال الظلمة وأئمة الجور ولذلك قال الأوزاعي احتملنا أبا حنيفة على كل شيء حتى جاءنا بالسيف يعني قتال الظلمة فلم نحتمله وكان من قوله وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض بالقول فإن لم يؤتمر له فبالسيف)[75].

وينقل الجصاص في موضع آخر قولاً لأبي حنيفة نفسه عن عبد الله بن المبارك، وكان ذلك وقت أن بلغ أبو مسلم الخراساني ـ في عهد أول خليفة عباسي ـ شأواً بعيداً في الظلم والعسف. حينئذ جاء إبراهيم الصائغ فقيه خراسان إلى أبي حنيفة وناقشه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد ذكر أبو حنيفة نفسه هذا النقاش والتباحث لعبد الله بن المبارك فيما بعد على النحو التالي:

(قال أبو حنيفة): (فسألني عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أن اتفقنا على أنه فريضة من الله تعالى فقال لي (يعني إبراهيم) مد يدك حتى أبايعك فأظلمت الدنيا بيني وبينه) قال ابن المبارك: (ولم) قال (أبو حنيفة): دعاني إلى حق من حقوق الله فأمتنعت عليه وقلت له إن قام به رجل وحده قتل ولم يصلح للناس أمر ولكن إن وجد عليه أعواناً صالحين ورجلاً يرأس عليهم مأموناً على دين الله لا يحول. قال (أبو حنيفة): وكان يقتضي ذلك كلما قدم علي تقاضاني تقاضي الغريم الملح فأقول له هذا أمر لا يصلح بواحد ما أطاقته الأنبياء حتى عقدت عليه من السماء وهذه فريضة ليست كسائر الفرائض لأن سائر الفرائض يقوم بها الرجل وحده وهذا متى أمر به الرجل وحده أشاط بدمه وعرض نفسه للقتل فأخاف عليه أن يعين على قتل نفسه وإذا قتل الرجل لم يجترئ غيره أن يعرض نفسه)[76].

مذهب الإمام في الخروج (الثورة)

يظهر هذا رأي أبي حنيفة المبدئي النظري في هذه المسألة غير أننا لا نستطيع فهم وجهة نظره فهماً تاماً ما لم نقف على سلوكه الذي سلكه ـ في الواقع ـ تجاه أهم الثورات التي هبت في عصره.

خروج زيد بن علي:

والثورة الأولى هي ثورة زيد بن علي والذي إليه تنسب الشيعة الزيدية نفسها وهو أخو الإمام محمد الباقر حفيد الإمام الحسين. وكان أجل علماء عصره فقيهاً ورعاً صالحاً. وقد استفاد الإمام أبو حنيفة نفسه منه استفادة علمية وفي عام 120 هجرية (738م) حين عزل هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله القسري من على العراق وأجرى معه تحقيقات ومساءلات واستدعى زيداً من المدينة إلى الكوفة ليدلي بشهادته في هذا الأمر. وكانت هذه هي المرة الأولى ـ منذ سنين ـ التي يأتي فيها إلى الكوفة ـ مركز شيعة علي ـ شخص جليل من آل سيدنا علي. لهذا انبعثت الروح ـ بمجيئه ـ في الحركة العلوية واحتشد الناس حوله ومن ناحية أخرى كان سكان العراق يضيقون ذرعاً بظلم بني أمية وقد عاشوا فيه سنوات طويلة فكانوا يريدون عموداً يعتمدون عليه في ثورتهم فرأوا توفر وجود فقيه عالم صالح من البيت العلوي غنيمة لا بد من اقتناصها فأكدوا له أن بالكوفة مائة ألف رجل يقفون إلى جواره وبايعه على ذلك خمسة عشر ألفاً وكتبوا ـ بالفعل ـ أسماءهم في سجلات وصحائف وأثناء هذا كانت ترتيبات هذه الثورة تتم سراً علم بها الوالي الأموي فلما عرف زيد أن الحكومة علمت بأمرهم فجر الثورة في صفر عام 122 هجرية (740م) قبل موعدها المحدد فلما تقابل الفريقان تخلى شيعة علي في الكوفة عنه فبقي معه ـ وقت الحرب ـ مائتان وثمانية عشر رجلاً لا غير فقاتل إلى أن أصابه سهم فجرح ومات[77].

ساعد الإمام أبو حنيفة زيداً في خروجه هذا وأمده بالمال وكان ينصح الناس ويأمرهم بالوقوف إلى جانبه[78] وشبه خروجه بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر[79] بمعنى أن الرسول عليه الصلاة والسلام كما لم يكن هناك شك في كونه على الحق كذلك ليس من شك في كون زيد على الحق في خروجه هذا. لكنه لما جاءته رسالة زيد يطلب فيها العون منه قال لحاملها: (لو علمت أن الناس لا يخذلونه ويقومون معه قيام صدق لكنت أتبعه وأجاهد معه من خالفه لأنه إمام حق ولكني أخاف أن يخذلوه كما خذلوا أباه (سيدنا الحسين) لكني أعينه بمالي فيتقوى به على من خالفه)[80].

هذا المسلك الذي سلكه أبو حنيفة إذن كان مطابقاً تماماً لما ذكره من الناحية النظرية في مسألة الثورة على الأئمة الظالمين فلقد كان يعرف تاريخ شيعة علي في الكوفة وكان خبيراً بنفسيتهم كما كانت سيرتهم التي درجوا عليها منذ زمن سيدنا علي واضحة معروفة للناس أجمعين حتى لقد حذر داود بن علي (حفيد ابن العباس) زيداً من غدر أهل الكوفة آنذاك وحاول منعه من الخروج[81] كذلك كان أبو حنيفة يعلم أن هذه الحركة قاصرة على الكوفة وحدها أما بقية الدولة الأموية فليس فيها شيء منها كما أنها حركة ليس لها أي تنظيم في مكان آخر تستطيع استمداد العون منه وأنها تكونت في الكوفة نفسها في ستة أشهر لا أكثر وبالتالي لم تكن ناضجة على الإطلاق، لهذا حين نظر أبو حنيفة في ملامحها الظاهرية كلها لم يتوقع أن تحدث ثورة ناجحة علاوة على أن أحد أسباب قعود أبي حنيفة عن هذه الحركة غالباً أنه هو نفسه لم يكن قد اتفق له من النفوذ والتأثير ما يجعل اشتراكه فيها مصدر قوة لها إذ كان أبو حنيفة وقتها ـ عام 120 هجرية ـ ليس إلا تلميذاً من تلاميذ مدرسة أهل الرأي التي يترأسها حماد أستاذه. وحين خرج زيد لم يكن مضى على انعقاد إمامة هذه المدرسة لأبي حنيفة غير قرابة عامين ونصف عام ولم يكن قد نال بعد رتبة (فقيه أهل المشرق) أو تأثيراً ونفوذاً.

خروج النفس الزكية:

أما الثورة الثانية فكانت ثورة محمد بن عبد الله الملقب بالنفس الزكية وأخيه إبراهيم وهما من أولاد الحسن بن علي وقد حدثت ثورتهما عام 145 هجرية (762 ـ 763م) وقت أن كان أبو حنيفة قد وصل إلى قمة الرسوخ وارتفاء المكانة والتأثير.

كانت حركة هذين الأخوين تتحرك منذ عهد بني أمية حتى لقد بايع النفس الزكية المنصور نفسه وأناس كثيرون غيره مما كانوا يريدون الثورة على الدولة الأموية[82] فلما قامت الدولة العباسية تخفى هؤلاء الناس ـ عن أعين الدولة ـ وراحوا يبثون دعوتهم في السر وتفرق دعاتهم في خراسان والجزيرة والري وطبرستان واليمن وشمال أفريقية وجعل النفس الزكية الحجاز مركزه كما كان في الكوفة أيضاً ـ حسب رواية ابن الأثير ـ مائة ألف سيف على استعداد لأن تحمي ظهره[83]، وكان المنصور يعرف مدى دعوتهم ويخافهم أشد الخوف إذ كانت دعوتهم تضارع وتوازي دعوة بني العباس التي أسفرت عن قيام الدولة العباسية وهذا ما جعله يتصدى لقمعها ودكها عدة سنوات ويرتكب أقسى ألوان العنف في سبيل سحقها والقضاء عليها.

ولما خرج النفس الزكية فعلاً في رجب من عام 145 هجرية ترك المنصور بناء بغداد وذهب إلى الكوفة فازعاً هلوعاً إذ كان يشك في بقاء دولته واستمرارها ما لم تسأصل هذه الحركة من جذورها وكثيراً ما كان يقول ـ في حيرته وفقدان رشده ـ (والله لا أدري ما أنا فاعل) فكانت تترامى إليه أخبار سقوط البصرة وفارس والأهواز وواسط والمدائن وغيرها ويخشى اندلاع الثورة من كل مكان فعاش شهرين كاملين لا يغير لباسه ولا يأوي إلى فراشه ويقضي ليله كله في مصلاه[84] وكان يتخذ عدته ويجهز فرساناً ماهرين ليفر من الكوفة على عجل ولو كان الحظ لم يحالفه لأفلحت هذه الحركة وقلبت عرشه وأطاحت بسلطان البيت العباسي[85].

كان موقف أبي حنيفة هذه المرة مختلفاً تمام الاختلاف عن موقفه في المرة السابقة. ولقد قلنا من قبل إنه ساند هذه الحركة علانية حين كان المنصور في الكوفة يفرض حظر التجول كل ليلة حتى كان تلاميذ أبي حنيفة يخشون أن يقبض عليهم أجمعين.

كان أبو حنيفة ينصح الناس ويحثهم على مبايعة ومساندة إبراهيم بن عبد الله أخي النفس الزكية[86] وأفتى بأن الخروج معه أفضل من الحج النفل خمسين أو سبعين مرة[87] بل لقد قال لرجل اسمه أبو اسحق الفزاري (مخرج أخيك أحب إلي من مخرجك) يعني مساندة أخيك لإبراهيم بن عبد الله أفضل من جهادك الكفار[88]. وقد نقل لنا أبو بكر الجصاص والموفق المكي وابن البزاز صاحب الفتاوى البزازية وهم من أجلة الفقهاء آراء أبي حنيفة هذه ومعناها الواضح الجلي أن الجهاد لتخليص النظام الداخلي للمجتمع المسلم من سطوة القيادة المنحرفة ـ عند أبي حنيفة ـ أفضل من قتال الكفار خارج المجتمع المسلم.

ولعل أهم وأخطر ما فعله أبو حنيفة في هذا الخروج نهيه الحسن بن قحطبة ـ القائد الأعلى لجيوش المنصور وأعظم ثقاته ومشيريه ـ عن الذهاب لقتال النفس الزكية وأخيه وكان سيف أبي قحطبة وبطولته الحربية ـ إلى جانب دهاء أبي مسلم الخراساني وحنكته السياسية ـ قد رفع قوائم دولة بني العباس وأقامها فصار الحسن ـ بعد موت أبيه ـ قائداً في مكانه فكان المنصور يعتمد عليه ويثق به أكثر من غيره من القادة لكنه عاش في الكوفة وأحب أبا حنيفة وتعلق به تعلقاً كبيراً.

قال ذات مرة لأبي حنيفة:

(عملي لا يخفى عليك (يعني الظلم والجور الذي حدث على يدي أثناء خدمتي للمنصور) فهل لي من توبة) قال الإمام (نعم إذا علم الله أنك نادم على ما فعلت ولو خيرت بين قتل مسلم وقتلك لاخترت قتلك على قتله وتجعل مع الله عهداً على أن لا تعود فإن وفيت فهي توبتك) فلما سمع من أبي حنيفة عاهد الله على ذلك وتاب. ولم تمض على هذا مدة وجيزة حتى حدثت ثورة النفس الزكية وأخيه إبراهيم فأمره المنصور بالخروج لقتالهما فذكر ذلك لأبي حنيفة فقال له (جاء أوان توبتك فإن وفيت بما عاهدت فأنت تائب وإلا أخذت بالأول والآخر) فجدد الحسن توبته مرة أخرى وقال لأبي حنيفة لن أسير إلى هذا ولو كان قتلي ثم ذهب إلى المنصور، وقال له في صراحة (لا أسير إلى هذا الوجه إن كان لله تعالى طاعة في سلطانك فيما فعلت فلي منه أوفر الحظ وإن كان معصية فحسبي) فغضب المنصور من ذلك غضباً شديداً وقبض عليه فقال حميد أخو الحسن للمنصور ـ بعد ذلك ـ (إنا أنكرنا عقله منذ سنة وكأنه خلط عليه أنا أسير وأنا أحق بالفضل منه) فدعا المنصور بعد ذلك أهل ثقته وسألهم (من يدخل عليه من هؤلاء الفقهاء) قالوا له (إنه يتردد إلى الإمام (أبي حنيفة) )[89].

هذا الموقف العملي الذي وقفه أبو حنيفة كان منطقباً تماماً مع مبدئه ونظريته التي تقول إن الثورة إذا كان من المحتمل أن تكون ثورة ناجحة صالحة فالاشتراك فيها ليس جائزاً مشروعاً فحسب بل هو فرض وواجب أيضاً ولم يكن موقف الإمام مالك في هذا الشأن يختلف عن موقف أبي حنيفة وحين قال له الناس ـ وقت خروج النفس الزكية ـ إن بيعة المنصور في رقابنا فكيف نخلعها ونساعد الآن غيره أفتى ببطلان البيعة جبراً أو الحلف كرهاً أو الطلاق قهراً وبالتالي بطلان بيعة العباسيين[90] وبسبب هذه الفتوى انضم كثير من الناس إلى جانب النفس الزكية ونال مالك عاقبة فتواه بأن جلده والي المدينة العباسي جعفر بن سليمان ومدت يده حتى خلعت كتفه[91].

ليس أبو حنيفة وحده:

ويخطئ من يحسب أن أبا حنيفة وحده ـ بين أهل السنة ـ الذي رأى هذا الرأي في مسألة الثورة إنما الواقع أن رأيه الذي عبر عنه قولاً وفعلاً كان بعينه رأي أكابر أهل الدين في القرن الأول الهجري فأول خطبة خطبها أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد بيعته قال فيها:

(أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم)[92].

ويقول سيدنا عمر رضي الله عنه:

(من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا)[93].

وحين خرج الحسين على يزيد كان كثير من الصحابة أحياء وكانت جماعة فقهاء التابعين موجودة كلها تقريباً وما رأينا قولاً لصحابي أو تابعي يقول فيه إن الحسين ارتكب بخروجه هذا حراماً حرمه الله أما من كانوا ينهونه عن الخروج فكان رأيهم أن أهل العراق لا يعتمد عليهم وأنه لن يفلح في خروجه بل سيضع نفسه في محف الخطر. وبألفاظ أخرى كان رأيهم ـ جميعاً ـ في هذه المسألة هو ما أوضحه أبو حنيفة فيما بعد من أن الخروج على الإمارة الفاسدة أمر مشروع في ذاته لكن ينبغي ـ قبل الإقدام على هذه الخطوة ـ أن نتدبر الأمر وننظر هل هناك إمكان لإقامة نظام صالح بعد قلب النظام المنحرف وتغييره أم لا. ولقد كان الحسين رضي الله عنه يحسب ـ بناء على رسائل أهل الكوفة المتتالية إليه ـ أنه وجد حماة مناصرين يستطيع بعونهم القيام بثورة ناجحة فخرج من المدينة لكن الصحابة الذين نهوه عن ذلك كانوا يرون ـ عكس هذا ـ أن أهل الكوفة لا ينبغي الثقة بهم بعد الغدر الذي غدروه ـ من قبل ـ بوالده (سيدنا علي) وبأخيه (سيدنا الحسن) فالاختلاف الذي كان بين الإمام الحسين وأولئك الصحابة إذن ـ كان اختلافاً حول التدبير والتخطيط لا حول مشروعية الخروج وعدم مشروعيته.

كذلك حين ثار عبد الرحمن بن الأشعث على الدولة الأموية في زمن ولاية الحجاج الظالمة وقف إلى جانبه ـ آنذاك ـ أكابر الفقهاء أمثال سعيد بن جبير والشعبي وابن أبي ليلى وأبي البختري ويذكر ابن كثير أن فرقة عسكرية من القراء (يعني العلماء والفقهاء) وقفت معه ولم يقل واحد من العلماء الذين قعدوا عن القيام معه إن خروجه هذا غير جائز. والخطب التي ألقاها هؤلاء الفقهاء أمام جيش ابن الأشعث تترجم نظريتهم ترجمة أمينة. قال ابن أبي ليلى:

(أيها المؤمنون إنه من رأى عدواناً يعمل به ومنكراً يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ ومن أنكره بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى ونور في قلبه اليقين فقاتلوا هؤلاء المحلين المحدثين المبتدعين الذين قد جهلوا الحق فلا يعرفونه وعملوا بالعدوان فلا ينكرونه).

وقال الشعبي:

(يا أهل الإسلام قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم فوالله ما أعلم قوماً على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أجور منهم في الحكم فليكن بهم البدار).

وقال سعيد بن جبير:

(قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم بنية ويقين وعلى آثامهم قاتلوهم على جورهم في الحكم وتجبرهم في الدين واستذلالهم الضعفاء وإماتتهم الصلاة)[94].

أما أكابر الأمة الذين لم يقفوا مع ابن الأشعث في خروجه على الحجاج ـ عكس ما فعل أولئك الفقهاء ـ فلم يقولوا إن هذا الخروج حرام في ذاته وإنما قالوا إنه ـ بهذا الشكل ـ عكس ما تقتضيه المصلحة ولذلك حين سئل الحسن البصري عن هذا قال:

(إنه والله ما سلط الله الحجاج عليكم إلا عقوبة فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف ولكن عليكم السكينة والتضرع)[95].

كان هذا هو الرأي العام لأهل الدين في القرن الأول الهجري وهو القرن الذي ولد فيه أبو حنيفة فكان رأيه عين رأيهم. ثم بدأ يظهر فيما بعد ـ في آخر القرن الثاني الهجري ـ ذلك الرأي الذي يسمى الآن (رأي جمهور أهل السنة) وليس سبب ظهور هذا الرأي العثور على نصوص قطعية بشأنه كانت خافية على أكابر القرن الأول أو أن أهل القرن الأول ـ معاذ الله ـ كانوا يذهبون مذهباً يخالف النصوص وإنما كان له ـ في الحقيقة ـ سببان: الأول أن الجبابرة لم يتركوا أي طريق مفتوح أمام التغيير بطرق ديمقراطية سليمة والثاني أن المحاولات التي كانت تتم لإحداث التغيير عن طريق السيف أسفرت عن تلك النتائج المتوالية التي لم يبق بعد رؤيتها توقع صدور الخير عن هذا الطريق أيضا[96].



[1] ـ الكردري، مناقب الإمام الأعظم ج1 ص 65 ـ 66.

[2] ـ المكي، الموفق بن أحمد، مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة ج1 ص 162.

[3] ـ المكلي ج1 ص 57 ـ 58.

[4] ـ  المكي ج1 ص 55 ـ 59.

[5] ـ المكي ج1 ص 59.

[6] ـ  المكي ج1 ص 96، ج2 ص 132 ـ 136.

[7] ـ اليافعي، مرآة الجنان وعبرة البقظان ج1 ص 310.

[8] ـ المكي ج1 ص 220.

[9] ـ الطبري ج6 ص 238، ابن كثير البداية والنهاية ج10 ص 97. مع احترامي لهذين المؤرخين الجليلين ومع احترامي أيضاً لأستاذي المودودي الذي نقل عنهما هذه الرواية أظن أنها رواية غير صحيحة فالإمام الأعظم الذي رفض منصب قاضي القضاة وضرب بالسياط ليكره على قبوله فثبت على رفضه واستمر في انفصاله ومقاطعته للحكومة حتى دست له السم ـ كما قيل ـ مثل هذا الإمام الذي اضطهده المنصور نفسه لرفضه منصب القضاء كيف بالله يرضى بالعمل (كملاحظ مباني) وعند من؟ عند المنصور؟ أظن هذا مستحيلاً ـ المترجم.

[10] ـ الخطيب تاريخ بغداد ج13 ص 358، ملا علي القاري ذيل الجواهر المضيئة ص 488.

ويروى أن أبا حنيفة حين فعل شريكه ما فعل أبى إلا انفصالاً عن شركته وتتاركا ـ المترجم.

[11] ـ  المكي ج1 ص 219 ـ 220.

[12] ـ الذهبي مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه ص 15.

[13] ـ الراغب الأصفهاني محاضرات الأدباء ص 206.

[14] ـ  الذهبي ص 26.

[15] ـ الذهبي ص 9.

[16] ـ الخطيب ج13 ص260، المكي ج1 ص 262.

[17] ـ ابن خلكان ج5 ص 23، 422 ــ المكي ج2 ص 212.

[18] ـ كان لفظ (الفقه) يطلق على العقائد وأصول الدين والقانون كلها قبل رواج اصطلاح علم الكلام وقد كان التفريق بينهما ـ بالطبع ـ بتسمية العقائد وأصول الدين (الفقه الأكبر) وقد استخدم أبو حنيفة هذا الاسم نفسه لرسالته هذه وقد ارتاب المحققون في العهد القريب في بعض أجزاء هذا الكتاب زعماً بأنها ملحقة به إلا أننا نسلم بصحة هذه الأجزاء ونحن ندرسها هنا لأن مذهب الإمام أبو حنيفة تجاه هذه القضايا والذي يتضح من المصادر الأخرى أيضاً ـ مثل رسالة الوصية لأبي حنيفة و(الفقه الأبسط) الذي رواه أبو مطيع البلخي والعقيدة الطحاوية الذي ذكر فيها الإمام الطحاوي 239 ـ 321هـ 853 ـ 933م العقائد المنقولة عن أبي حنيفة وتلميذيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني ـ يطابق هذه الأجزاء.

[19] ـ ملا علي القاري شرح الفقه الأكبر ص 74 ـ 87، المغنيساوي شرح الفقه الأكبر ص 25 ـ 26.

[20] ـ ابن أبي العز الحنفي شرح الطحاوية ص 403 ـ 416.

[21] ـ الكردري، مناقب الإمام الأعظم ج2 ص 72.

[22] ـ ابن عبد البر، الانتقاء ص 163، السرخسي شرح السير الكبير ج1 ص 157 ـ 158 وهذا رأي الإمام مالك ويحيى بن سعيد القطان كذلك (ابن عبر البر، الاستيعاب ج 2 ص 467).

[23] ـ ملا علي القاري ص 87، المغنيساوي ص 26.

[24] ـ ابن أبي العز ص 398.

[25] ـ المكي ج2 ص 83 ـ 84، الكردري ج2 ص 71 ـ 72. وليس هذا رأي أبي حنيفة وحده وإنما كان بين أهل السنة اتفاق عليه كما قال ابن حجر في الإصابة (ج2 ص 502).

[26] ـ ملا علي القاري ص 103، المغنيساوي ص 33.

[27] ـ ملا حسين، الجوهرة المنيفة في شرح وصية الإمام أبي حنيفة ص 3، 6، 7.

[28] ـ ملا علي القاري ص 86 ـ 89، المغنيساوي ص 27 ـ 28.

[29] ـ ملا حسين ص 6.

[30] ـ ابن أبي العز ص 265.

[31] ـ المكي ج1 ص 124 ـ 125.

[32] ـ ملا علي القاري ص 92، المغنيساوي ص 28 ـ 29.

[33] ـ ملا علي القاري ص 93، المغنيساوي ص 29.

[34] ـ ابن أبي العز ص 312 ـ 313.

[35] ـ المكي ج2 ص 246.

[36] ـ  المكي ج2 ص 133.

[37] ـ الكردري ج2 ص 108.

[38] ـ المكي ج2 ص 54.

[39] ـ الكردري ج2 ص 109.

[40] ـ المكي ج2 ص 136.

[41] ـ يعتقد الناس ـ خطأ ـ في عصرنا هذا أن القانون الدولي شيء حديث وأن أول من وضع أسس هذا القسم من القانون هو جروتيس الهولندي 1583 ـ 1645م. غير أن من قرأ كتاب السير لمحمد بن حسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة (132ـ 189 هـ ـ 749 ـ 805م) يعرف أن هذا العلم قد دون ـ بتفصيل دقيق ـ على يد الإمام أبي حنيفة قبل جروتيس بتسعمائة عام وبحثت فيه أكثر جوانب القانون الدولي وأدق مشاكله، وقد اعترف بهذه الحقيقة جماعة من العلماء وأسست في ألمانيا جمعية سميت (جمعية الشيباني للقانون الدولي).

[42] ـ المكي ج2 ص 41.

[43] ـ المكي ج2 ص 157ـ 158، الكردري ج2 ص 106 ـ 107.

[44] ـ الخطيب البغدادي تاريخ بغداد ج13 ص 368، المكي مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة ج1 ص 89، الذهبي ص 20.

[45] ـ الذهبي ص 21.

[46] ـ الكردري مناقب الإمام الأعظم ج2 ص 15 ـ 16. وفي رواية الكردري هذه أمر لم أستطع فهمه إلى الآن وهو أن أبا بكر الصديق امتنع عن الحكم ستة أشهر حتى مجيئ أهل اليمن لبيعته.

[47] ـ ملا علي القاري شرح الفقه الأكبر ص 91.

[48] ـ ابن أبي العز شرح الطحاوية ص 322.

[49] ـ أحكام القرآن ج1 ص 80.

[50] ـ نفس المصدر السابق ج1 ص 80 ـ 81. وقد أوضح شمس الأئمة السرخسي في المبسوط مذهب أبي حنيفة هذا أيضاً، ج10 ص 130.

[51] ـ الذهبي ص 17، المكي ج2 ص 100.

[52] ـ المسعودي ج2 ص 192.

[53] ـ الشهرستاني الملل والنحل ج1 ص 106، البغدادي الفرق بين الفرق ص 340.

[54] ـ المقدمة ص 195 ـ 196.

[55] ـ ابن حجر فتح الباري ج13 ص 93، 96 ـ 97، مسند أحمد ج3 ص 129، 183 ج 4 ص 421، مسند أبي داود حديث رقم 946 ـ 2133.

[56] ـ الطبري ج 3 ص 192.

[57] ـ ابن حجر فتح الباري ج13 ص 95.

[58] ـ السرخسي شرح السير الكبير ج1 ص 98. وهناك حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم رواه أبو حميد رضي الله عند قال أن النبي استعمل رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا أهدي إلي فقال النبي ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدى إليه أم لا والذي نفسي بيده لا يأخذ منه شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاء تيعر ـ المترجم.

[59] ـ المكي ج1 ص 215.

[60] ـ المكي ج1 ص 215 ـ 216.

[61] ـ المكي ج2 ص 180.

[62] ـ المكي ج2 ص 100.

[63] ـ المكي ج 1 ص 21ـ 24، ابن خلكان ج5 ص 41، ابن عبد البر، الانتقاء ص 171.

[64] ـ مناقب الإمام ص 30.

[65] ـ المكي ج2 ص 73 ـ 173 ـ 178.

[66] ـ  المكي ج1 ص 215.

[67] ـ المكي ج2 ص 170، الخطيب البغدادي ج13 ص 320.

[68] ـ المكي ج2 ص 173ـ 174 ـ 182، ابن خلكان ج5 ص 46، اليافعي مرآة الجنان ص 310.

[69] ـ أحكام القرآن ج1 ص 81.

[70] ـ الخطيب ج13 ص 330، المكي ج2 ص 171.

[71] ـ ابن الأثير ج 5 ص 25، الكردري ج2 ص17، السرخسي كتاب المبسوط ج 10 ص 129.

[72] ـ الكردري ج 1 ص 160 ـ 165 ـ 166، ابن عبد البر الانتقاء ص 125 ـ 153، الخطيب ج 13 ص 351.

[73] ـ السرخسي كتاب المبسوط ج 10 ص 125.

[74] ـ  انظر الأشعري مقالات الإسلاميين ج 2 ص 125.

[75] ـ أحكام القرآن ج 1 ص 81.

[76] ـ أحكام القرآن ج 2 ص 39.

[77] ـ الطبري ج 5 ص 482 ـ 505.

[78] ـ الجصاص ج 1 ص 81.

[79] ـ المكي ج 1 ص 260.

[80] ـ المكي ج 1 ص 260.

[81] ـ الطبري ج 5 ص 487 ـ 491.

[82] ـ الطبري ج 6 ص 155 ـ 156.

[83] ـ الكامل ج 5 ص 18.

[84] ـ ذكر الكبري في ج 6 ص 155 حتى 263 تاريخ هذه الحركة وهو ما سقنا خلاصته في هذه السطور.

[85] ـ اليافعي ج 1 ص 299.

[86] ـ الكردري ج 2 ص 72، المكي ج 2 ص 84.

[87] ـ الكردري ج 2 ص 71، المكي ج 2 ص 83.

[88] ـ الجصاص أحكام القرآن ج 1 ص 81.

[89] ـ الكردري ج 2 ص 22.

[90] ـ كان العباسيون عند أخذ البيعة يستحلفون الناس بطلاق نسائهم إن هم نقضوا بيعتهم وذلك ذكر الإمام مالك مسأله الحلف والطلاق كرهاً إلى جانب مسألة البيعة.

[91] ـ الطبرى ج 6 ص 190، ابن خلكان ج 3 ص 385، ابن كثير ج 10 ص 84، ابن خلدون ج 3 ص 191.

[92] ـ ابن هشام ج 4 ص 311، البداية والنهاية ج 5 ص 248.

[93] ـ هذه ألفاظ رواية البخاري في كتاب المحاربين باب رجم الحبلى من الزنا. وقال عمر أيضاً في رواية أخرى (من دعى إلى إمارة من غير مشورة فلا يحل له أن يقبل) (فتح الباري ج 12 ص 125). ونقل الإمام أحمد كذلك قولاً لسيدنا عمر أن: (من بايع أميراً من غير مشروة المسلمين فلا بيعة له ولا بيعة للذي بايعه) مسند أحمد ج 1 حديث رقم 391.

[94] ـ الطبري ج 5 ص 163.

[95] ـ طبقات ابن سعد ج 7 ص 164، البداية والنهاية ج 9 ص 135.

[96] ـ ارجع ـ لمزيد من شرح هذه المسألة ـ إلى كتاب تفهيمات الجزء الثالث من ص 300 حتى 320 وكذلك تفهيم القرآن سورة الحجرات.

 


 

السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ