ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد 04/03/2007


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

        

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


قضايا المجتمع (2)

مشكلة التفكير

(المجتمع المفكر)

ونظرية المعرفة الإسلامية

زهير سالم

تمهيد:

تعتبر حرية التفكير أحد أقانيم الحرية الأساسية. بالطبع لا يمكن أن يكون التفكير حبيس ذهن صاحبه أو وجدانه، أي حديث عن حرية التفكير كمعطى أساسي من معطيات الحرية العامة لا بد أن يترافق مع الحديث عن حرية التعبير. والحديث عن هذا وذاك لا بد أن يتردد بين تصورين اثنين: انطلاقة بلا ضابط ربما تقود إلى الفوضى، أو ضوابط أولية تضيّق أو توسّع مما يعني مصادرة مساحة ما من الحرية، لمصلحة عقيدة المجتمع وثوابته. تشكل هذه الثنائية إحدى القضايا الأساسية التي تسعى هذه الدراسة إلى مقاربتها.

الأهم في هذه الدراسة هو متابعة المنهج القرآني في محاولة جادة لتعميم حالة التفكير إنسانياً ومجتمعياً، بمعنى التصدي لظاهرة أن يكون التفكير حكراً نخبوياً، يقتصر على فئة محدودة من الناس. إذ من ملامح تكريم القرآن الكريم للإنسان أن فرض عليه واجباً عينياً بأن يأخذ حظه من التفكير والتأمل والتدبر؛ ليصير المجتمع الإنساني إلى ما يمكن أن نطلق عليه بحق اسم (المجتمع المفكر).

التفكير، حسب المنهج القرآني، فرض عيني. ويحاسب الإسلام كل إنسان على أساس مخرجات تفكيره الخاص وحقيقة التزامه بها. (الذين آمنوا وعملوا الصالحات).

يعتبر القرآن الكريم مدخلات عملية التفكير ، والظروف المحيطة بها جزءاً أساساً من عملية التقويم الشاملة للموقف الإنساني. حين سنمضي مع دلالة قوله تعالى (لأنذركم به ومن بلغ) وقوله (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) سندرك أن أن بين هذه الآية وتلك مدى واسعاً في رؤية الفقهاء للتقويم الإسلامي للموقف الإنساني. في ضوء تفسير المعتزلة لقوله (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) يؤكدون هنا بأن الرسول هو العقل ، وأن كل إنسان مكلف بمقتضى القانون الطبيعي الفطري أن ينقاد لما تقتضيه بدائه العقول من التزام بالعدل والقسط ومجانبة للظلم والعدوان.

المجتمع المفكر أساس لمشروع النهوض:

في حركتنا الدائبة، لبناء مجتمع قادر على تحمل عبء مشروع نهضوي، ينبغي أن نأخذ بالحسبان بناء الفرد المفكر الذي يعتبر هدف المشروع وأداته، ليصبح التفكير حالة اجتماعية عامة. نحب أن نميز منذ البداية بين المجتمع المفكر والمجتمع المتعلم، أو بين التفكير والتلقين، بين المعارف المكتسبة وبين القدرة الأولية على إدراك الحقائق واكتناه الأسرار.

كان الفيلسوف الفرنسي ديكارت قد اعتبر التفكير شاهد الوجود الأول ، بمقولته الشهيرة: أنا أفكر فأنا موجود. إن حظوظ الأفراد من ملكة التفكير الأساسية متفاوتة إلى حد كبير. فكثير من الناس يعيشون حياتهم بنجاح، منقادين لمقتضى الخلق الغرائزي والفطري ، دون أن يشعروا بحاجة إلى ارهاق عقولهم في تتبع ما لا يخطر لهم أصلاً على بال. يمضون في حياتهم لا يبحثون عن حقيقة ، ولا يرتادون أفقاً ، ولا يقلقهم شيء من أمر المبدأ أو المصير، ولا يتساءلون قط: من أين وكيف ومتى ولماذا؟! لقد حرص القرآن الكريم في آيات كثيرات على أن يتجاوز في بنائه المجتمعي أمثال هؤلاء. حتى يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم الفتاة البكماء: أين الله ؟

عندما نميز بين المجتمع (المتعلم) و(المجتمع المفكر) في الإطار الذي أوضحناه ، هل نستطيع أن نطلق الدعوة إلى التأسيس لمجتمع حر مفكر، وأن نتحمل مسؤولية مثل هذه الدعوة على أهميتها وخطورتها؟! بالتالي هل نستطيع توسيع وتعميق رقعة التفكير الاجتماعي ، ودمج أكبر شريحة من أفراد المجتمع في تحمل عبء النهوض ببعديه الرسالي والتنموي؟! في الكثير من المجتمعات الإنسانية المتقدمة أو المتطورة سنلحظ ، لو أمعنا النظر ، خللاً في معادلة مثل هذه. ودون أن ننبهر بأضواء النجاح المادي، ستلقي امبريالية النخبة الثقافية بظلالها في تلك العوالم على آليات التربية والتعليم والتوجيه والتثقيف ، بحيث تكون الكثرة الكاثرة من أبناء تلك المجتمعات أدوات في مشروع انتاجي، أكثر منهم شركاء فيه.

في مجتمعات يتقدم فيها الهم الرسالي، كما نريد، تنشأ ضرورة أكثر إلحالحاً لجعل التفكير حالة اجتماعية أوسع شيوعاً ، وأبعد عمقاً. وبين توسيع رقعة التفكير وتعميقه ضروريات ومقتضيات وحاجيات ، لا يجوز أن تغيب عن نظريات (التكوين العام)، التي تشرف عليها الأسرة والمدرسة والمسجد وأجهزة الإعلام، وكذا جميع وسائل التثقيف. قبل مناهج التعليم ينبغي أن تكون هناك مناهج معتمدة لحفز ملكة التفكير الأولي عند الفرد ، واستفزازه للسعي لطرح الأسئلة، وتحليل الظواهر ، واكتناه الأسباب ، بمنطق أولي رشيد..

قبل التلقين ، وفي إطار بناء الفرد القادر على حمل مشروع النهوض ؛ ينبغي أن تكون هناك رعاية أولية لتنمية ملكة الإحساس بالجمال ، وإدراك التناسق ، والوقوف على أسرار الإعجاز في الكون والحياة.

كان القرآن الكريم الأول الذي سعى إلى بناء إنسان يمتلك إحساساً حياً بالوجود، فدعا الأميين إلى التفكر والتدبر، معتبراً التعليم بمعنى اكتساب المعارف أو الخبرات ، مع كونه عملية أساسية في بناء الفرد، تالياً في اعتبار نظرية المعرفة الإسلامية. العقل المحفز للتفكير، والباحث عن الحقيقة، والقلق للمعرفة؛ هو عقل في أفضل حالاته لقبول المعارف واستيعابها والاستفادة منها. في حديثنا عن مجتمع نهضوي حر وقوي سنفصل بعض الشيء في نظرية الإسلام المعرفية اقتباساً من معين القرآن الكريم.

نظرية القرآن في المعرفة: الفكر أولاً

أقام القرآن الكريم نظريته في المعرفة الإيمانية على ثلاث ركائز أساسية: الركيزة الأولى التفكير في الكون والحياة والإنسان أوحسب تعبير القرآن الكريم في (الأنفس والآفاق) . و الركيزة الثانية هي تدبر آيات الكتاب المعجز بكل وجوه الإعجاز ما ظهر منها وما بطن، وما تقدم منها وما تأخر أو حسب تعبير القرآن الكريم أيضاً (من بين يديه ومن خلفه). والركيزة الثالثة هي شخصية الرسول المبلغ إخلاصه وتجرده وصدقيته وأمانته.

احتلت الركيزة الأولى المساحة الأوسع والأعمق في النص القرآني، فحيثما تنقلت في آيات القرآن الكريم تسمع دعوة إلى النظر والتفكير والتدبر والتأمل، وإلى استخدام العقل والتجرد من كل المعوقات التي تعطل (السمع) و(البصر) و(الفؤاد)، وهي قنوات المعرفة الأساسية بالنسبة للإنسان.

اعتبر القرآن الكريم كما تؤكد نصوصه القطعية التفكيرَ المدخل الأساس (للحقيقة) أو (لللإيمان). بينما احتل التلقين أو التعليم مرتبة تالية في خطاب القرآن الإيماني. وميز القرآن الكريم بين الحقائق الدينية والحقائق الدنيوية. وسلم للعقل البشري بارتياد الحقائق الدنيوية والخوض فيها وكشف أسرارها. ورسم الطريق إلى النوع الأول من الحقائق على محورين. المحور الأول اكتناه الحقيقة الدينية في قاعدتها الأولى كتاب الكون المفتوح الذي ألح على التفكر في أسراره ثم الكتاب المنزل الذي طالب بالإلتزام بحقائقه.

اعتبر القرآن الكريم العقل مناط التكليف ، فحيث فقد العقل ، أو غاب ، أو عجز لصغر أو مرض أو غضب أو نوم.. سقط التكليف حتى يستعيد العقل مكانته. ثم ، وهذا هو الأهم في هذا السياق ، ألح القرآن الكريم على التفكر والتدبر كمدخل أساسي لللإيمان وللمعرفة. يطالب القرآن الكريم المسلمين بالتفكير في خلق السموات والأرض وفي خلق الناس والأحياء كمدخل أولي لتعزيز صدقيته والبرهان على صحته. يقول القرآن الكريم في أكثر من موطن إن شواهد صحته ويقينيته قائمة في نصوصه، وفي صدقية المبلغ له، كما هي قائمة في هذا الكون المخلوق. ومن هنا يأتي الإلحاح المتواصل على التفكير في خلق السموات والأرض وما فيهما.

وفي إطار التوكيد على هذه الركيزة كان القرآن الكريم يوجه الإنسانية دائماً إلى ميادين التفكير العملية التي يجب أن يستغرق الفكر الإنساني فيها (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) أو في الحياة في صورة بعوضة صغيرة (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها) أو في الصورة الضخمة للإبل، حسب تصور المخاطبين، (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت). كان إلحاح القرآن الكريم واضحاً على ضرورة أن يتوجه العقل الإنساني إلى اكتشاف أسرار الكون (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) (وفي أنفسكم أفلا تبصرون).

كان التوجيه الرباني يلح على توظيف العقل الإنساني في ميدانه الحقيقي (الكون ـ والحياة ـ والإنسان) ليثبت من خلال معرفة حقيقية في هذه الأطر صدقية الوحي في نفوس المخاطبين من جهة، وليفتح أمام الناس سبل المعرفة المثمرة من جهة أخرى. سنلحظ في القرآن الكريم محفزات كونية واضحة للعقل الإنساني ليتأمل في اختلاف الليل والنهار، في السماء ذات البروج ، في السماء المنفطرة ، والكواكب المنتثرة كوعد قادم ، في الرياح المثقلة بالسحاب أو في الريح عقيماً، في الأرض وما دحاها، والجبال أرساها أخرج منها ماءها ومرعاها، في الماء أصل الحياة، وفي البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج، في الفلك تجري في البحر بما ينفع الناس، في النفس الإنسانية وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، في الإنسان المخلوق في أحسن تقويم، في السمع والبصر والفؤاد، في أطوار الخلق من نطفة ثم من علقة، وفي أصله من طين لازب، وفي قوله والله أنبتكم من الأرض نباتا، في النفس، في الروح في الجسد في النشأة الأولى، في النشأة الأخرى...

إن القرآن الكريم يدعو إلى التفكير الأولي الحر في كل هذا، ويتحدى به، ويقبل التحدي، ويبشر بأن في آياته خبر من مضى ونبأ من سيأتي؛ وأنه ستظل تتكشف أسراره حتى قيام الساعة.

وفي سياق هذه الدعوة الربانية المطلقة سنتوقف عند ثلاثة أمور:

الأول أن القرآن الكريم يلح على هذه الدعوة إلى التفكير الأولي لإدراك المعطى الإيماني في أساسه (حقيقة الألوهية ـ صدقية الرسالة).

وسنلحظ ثانيا- أن القرآن الكريم يفصل بين الدعوة إلى التفكير: كنشاط بشري أولي وبين الدعوة إلى المعرفة المكتسبة كنشاط تال أو تابع للنشاط الأول ومعزز له.

وسيؤكد لنا هذا المعنى ثالثاً أن القرآن الكريم قد توجه أصلاً إلى أمة أمية محدودة المعارف ، قليلة المصادر ، فخاطب العقل الأوليّ فيها وحرضه ، وحثه على التأمل والنظر ، وفتح أمامه آفاق التفكير ، ومعالم السنن ليتعامل مع كل ما حوله بعين بصيرة وقلب مفتوح. اعتبر الإسلام التأمل عبادة ، والتفكر والفهم شرطاً أساسياً لإدراك حقيقة الإيمان أو عقده.

وهنا ومع الأسف كان للترجمات المختلفة لعلوم وثقافات الآخرين مع بعدها الحضاري الإيجابي الكبير بعض الأثر السلبي، إذ قادت الفكر الإسلامي في متاهات مضللة من الشغب الفلسفي أو الكلامي. فكم يشعر المسلم بالحسرة وهو يجد عقول علماء عظام تحترق في قضايا (كلامية) لغة واصطلاحاً. كم صفحة سودت لمناقشة قضية من طراز: هل الاسم عين المسمى أو غيره؟ أو هل الصفات عين الذات أو هي وصف زائد على الذات؟ وبالتالي، هل الله عليم بذاته أو عليم بعلمه؟ وهل هو قدير بذاته أو قادر بقدرته؟ استغرقت هذه الأبحاث عصوراً واستهلكت عقولاً أيضاً، وصرفتها عن السبيل الذي نبه بل ألح القرآن الكريم عليه.

سار الانحراف عن منهج القرآن المعرفي في طريقين ؛ الأول الإغراق في المسائل الكلامية والنظرية التي نجدها في كتب مثل (تهافت الفلاسفة) للغزالي أو (تهافت التهافت) لابن رشد. إن مسألة مثل هل وجود المخلوق ملازم لوجود الخالق، والتي عبر عنها بعنوان قدم العالم، كما وردت في كتاب التهافت ؛ لا تضيف إلى المعرفة العملية التي كان يلح عليها القرآن الكريم شيئاً كثيراً.

أما الانحراف الثاني فكان بالانتقال من المنهج العلمي القائم على أدواته (السمع والبصر والفؤاد) إلى المنهج الذوقي سواء بما أطلق عليه الغزالي (العلم اللدني) أو ما أطلق عليه السهروردي الإشراق المعرفي. في الحالتين ظل الفكر الإسلامي في دوامة بعيداً عن الواقع الذي ساق القرآن الكريم العقل إليه. لقد اختصر المتصوفة منهجهم الذوقي في المعرفة بحقيقتهم النهائية (العجز عن الإدراك إدراك). أو بما لخصه فريد الدين العطار في رمزيته عن (السيمرغ) في منطق الطير حيث يجد الراحلون أنفسهم بعد قطع المفاوز ومعاناة ضروب المجاهدات أنهم في حضرة ذواتهم المجردة من الادعاء.

وفي إطار الحديث عن مفارقة الحياة الفكرية للمسلمين للمنهج القرآني في المعرفة الإيمانية الذي قام أصلاً على الدعوة إلى التفكير في خلق السموات والأرض وخلق الناس.. كما أسلفنا وكما تؤكد ذلك عشرات الآيات الكريمات لا بد أن نشير إلى أن هذه النظريات عطلت الفكر الإسلامي عن أن ينفذ من أقطار السموات والأرض الذي دعت إليه آيات القرآن الكريم. والتي جعلت التأمل في كتاب الكون المدخل الأول والأساس للإيمان بالألوهية، وبصدقية الوحي الذي تنزل بهذا القرآن الكريم. (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير) (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض..).

وكانت الركيزة الثانية للمعرفة الإيمانية حسب المنهج القرآني، النص الموحى نفسه، إذ أقامه دليلاً على صدقيته بألوان لا تكاد تنتهي من وجوه الإعجاز لعل أبلغها أنه وثق علاقة هذا النص بالحقائق المطلقة في إطاري الماضي والمستقبل في قوله تعالى (وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..) أو في أنه ربط إعجازه بما يتكشف من آفاق المعرفة في الكون والحياة والإنسان (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق..) وعلى هذا الأساس كان المنهج القرآني أيضاً يلح على تدبر آيات القرآن الكريم وتفهمها كدليل على صدقية الوحي وعلى أنها تمثل مصدراً مستقلاً للمعرفة الربانية توضع بين يدي البشر (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً).

ثم تأتي الركيزة الثالثة وهي صدقية الرسول المبلغ عن الله تعالى، نرى القرآن الكريم ينفي عن الرسول الكريم كل ما اتهم به ليثبت له الصدق والأمانة والخلق العظيم (نون والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجراً غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم) (وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون) (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة..) (أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة..).

*   *   *

إن الذي يمكن أن يلحظه المرء أن النص القرآني الذي مهد السبيل للمعرفة الإيمانية القائمة على أساس التفكير الحر في مستوياته الثلاثة، في كتاب الكون المخلوق كما يقول سيد قطب رحمه الله تعالى، أو في كتاب الله المنزل، أو في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، يظل يتحدث إلى البشرية حديث المهيمن المتعالي، فنحن لا نلمح في النص القرآني أي (قلق) إذا جازت العبارة على من يختار طريق الإيمان أو طريق الكفر، بل إن القرآن الكريم بعد أن يذلل طريق الهداية، ويدل عليه ويعد عليه الوعد الحسن، ويحذر من طريق الغواية ويوعد عليه، بما شاء الله من وعيد، يترك للإنسان حرية الاختيار بين قوسي الوعد والوعيد (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) إنها حالة يمثلها الحديث القدسي أصدق تمثيل (هؤلاء للجنة ولا أبالي وهؤلاء للنار ولا أبالي).

بل إننا نلحظ القلق والضيق والحزن في نفس الداعية الأول صلى الله عليه وسلم، ونلحظ أن آيات القرآن الكريم تلح عليه أن يتجرد من هذه الشفقة البشرية (فلا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون) (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً) (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر). وهو توجيه ينبغي أن يلازم الدعاة في كل العصور. إن هذا التعالي القرآني يحتم المؤاخذة على مخرجات التفكير. فحين تكون مدخلات المعرفة الإيمانية الحقيقية متوفرة أمام عقل سوي،  فإن اعوجاج المخرجات أو انحرافها عن سبيلها الصحيح ستكون له أسباب غير موضوعية بدون شك.

وإذا استثنينا حالتي غياب البلاغ أو القصور فيه كما يقول الفقهاء، فإن المخرجات المنحرفة للتفكير الإنساني ستقتضي أشكال الوعيد التي يطرحها النص القرآني (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون ولهم آذان لا يسمعون بها..) أولئك الذين عطلوا ملكات الفقه والسمع والبصر لديهم، فاستحقوا بذلك أشكال الوعيد التي نص عليها القرآن.

 

***

ستمضي قرون على عصر الإسلام الأول ، حتى نلحظ الجدل الفقهي أو الأصولي حول جواز تلقي حقائق الإيمان أو الإسلام (أصول الدين) بالتقليد. جدل لم يخل من تساهل كبير وإن كان قد مال في حدوده الدنيا إلى أن المسلم ينبغي أن يمتلك حداً أدنى من النظر. وأن (إيمان العجائز) كما يتملح المتملحون لا يجوز أن يفارق حظاً أدنى من الفهم والإدراك الحقيقيين. بينما سنجد أن الموقف سيكون أكثر تسامحاً في قضايا الفروع، ما دق منها وما غمض.

إن ثمرة هذا الخلاف الأصولي تتجسد في حقيقة هل يقبل المجتمع المسلم في بنيته فرداً غير مؤهل للتفكير والنظر. جمهور علماء المسلمين على أن هذا الفرد غير مقبول في المنظومة الإسلامية إن لم يمتلك الحدود الدنيا من القدرات والتصورات.

سننتظر عصراً آخر حتى نقرأ عند عالم مثل الغزالي نظرية عن (علم لدني) يدرك بالمجاهدة من صوم وصلاة وزهد وعبادة تفسيراً خاصا لقوله تعالى (واتقوا الله ويعلمكم الله) أو قوله (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً) . أو لنسمع إلى نظرية السهروردي المقتول بالإشراق المعرفي. نعتقد أن هذه الطروحات قد تجاوزت أو أغرقت الأمة المسلمة وحولتها عن منهج الإسلام الأولي في حفز ملكة التفكير في الإنسان، وفتح الآفاق أمامها، وحث الإنسان على النظر والتأمل في كل أحواله..

وعلى أساس هذه الرؤية سنلحظ أن القرآن الكريم في تعزيز صدقيته وإثباتها قد اختص نصه بدور تال، حيث يأتي الطلب في التأمل بالنص القرآني ذاته، كشاهد على صدقية هذا النص، في مرحلة تالية. وحسب السياقات القرآنية يبدو أن هذه الدعوة تحتل مساحة أقل من تلك التي تحتلها الدعوة العامة للنظر في ملكوت السموات والأرض أو الدعوة إلى السير في الأرض للاعتبار والنظر. فالآيات في سياق قوله (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) أقل في المساحة من الدعوة إلى التفكير والتدبر والسير في الأرض (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق).

وفي مستوى ثالث ، يكون الاستثمار العملي لقاعدة الإيمان اليقينية الوطيدة ، القائمة على أساس الفكر الحر في الانتقال إلى (التقريرات) القرآنية، أو فرض التشريعات أو وضع الأسس لمعالم الخير والشر، الحق والباطل، القبح والجمال ، والمطالبة بالالتزام بها.

على قاعدة الإيمان المبني على اليقين يكون التلقين ، ويكون التعليم ، وتكون التزكية ، ويكون التهذيب (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ..)

*   *   *

إن نظرية الإسلام في المعرفة المؤسسة على التفكير الذي يحرر طاقات العقل ، ويطلق أشواق الإنسان ، ينبغي أن تكون مدخلاً لبرنامج اجتماعي لبناء مجتمع حر مفكر، قادر على الاختيار الرشيد، وعلى القيام بمقتضيات هذا الاختيار وتحمل  تبعاته.

إن قولنا اختيار رشيد!! سيثير مشكلة معرفية ، ما تزال قائمة منذ كان الخير والشر ، أو البيّن والبيّن والأمور المشتبهات ، فعلى أي أساس إذا أطلقنا حرية الفكر سنصف هذا الاختيار أو ذاك بأنه اختيار رشيد!!

حين نعتبر التفكير الحر المطلق في خلق السموات والأرض وفي خلق الناس فريضة إسلامية أولية ، فهل نستطيع مع إقرارنا بتفاوت مدارك البشر ، وبتسرب الضعف إلى نفوسهم ، وسيطرة الهوى على بعضهم ، أن نتحمل من منظور إسلامي نتائج المطالبة بموقف مثل هذا؟!

إلى أي مدى سنثق بعقل الإنسان ، وبحسن اختياره ، وبمدخلات تفكيره الأولية وبمخرجاته ، في عصر توارت فيه قواعد الفطرة الأولية تحت ركام الكثير من الثقافات؟!

النص القرآني من مصدره الرباني كان دائما فارضاً للتحدي على عقل الإنسان وقلبه وفكره ، وقابلاً لنتيجة هذا التحدي. قد يكون على الطريق بعض الضحايا ، وقليل من الخسارة هنا وهناك. ولكننا نؤكد بيقين أن المجتمع الحر المفكر هو مجتمع القرآن، وأن الدعوة إلى التفكير الحر هي دعوة الإسلام. ونعتقد حسب منهج القرآن الكريم أن المزيد من التفكير سيقود مجتمعاتنا إلى المزيد من الإيمان، وخلع (الأوثان)!! وأن المزيد من الحرية ستقودنا إلى المزيد من الإلتزام.

--------------------

*مدير مركز الشرق العربي  

  للاتصال بمدير المركز

00447792232826

zuhair@asharqalarabi.org.uk

04/03/2007

 


أضف تعليقك على الموضوع

: الإسم

: التعليق

 


تعليقات القراء

نجوى البحيري

الموضوع أكثر من رائع وجزاك الله خيرا على الاستفادة الكبيرة من الموضوع


السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ