ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد 14/06/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


أحاديث البحر وأغانيه وأمثاله في ذاكرة الساحل السوري 

رنا رفعت

يحتل البحر مكانة روحية عميقة في وجدان أهل الساحل السوري وتعبق ذاكرة الناس في هذه المنطقة بقصص البحر و حكاياه وأخباره من تلك التي عايشوها أو تناقلوها جيلاً بعد جيل حتى صار هذا الأزرق بكل شطآنه و موجه و مراكبه متنا لحياة الناس وأعمالهم و أرزاقهم و ملتقى لأهله و حاضناً لهم و حاملاً لجملة واسعة من الطقوس والعادات و المفاهيم المرتبطة به.

 

ويعتبر الصيادون أبناء البحر الأكثر علما بخباياه و أسراره وأحواله بين ساعة و أخرى فطالما كان مصدراً لأرزاقهم و لقمة عيشهم و حائلاً بينهم و بين العوز و الجوع و الحاجة ما جعلهم يحفظون خارطته على اتساعها و يدركون لغته على كثرة أبجدياتها فلا يفوتهم من أحاديثه أو أخباره أو أحواله من شيء.

 

وتقول الباحثة التراثية فريال الشويكي يطيب للبحار الهواء القبلي لأنه غالباً ما يكون دافئاً يعيد الصياد إلى المكان الذي انطلق منه و لو انقطع في عرض البحر و هو مناسب للصيد لأن الطقس يكون فيه لطيفاً معتدلاً أما الهواء الشمالي ويسميه الصيادون الأرماني أو التحتاني فهو هواء قوي و جاف شتاء و إذا حدث و رافقه المطر فإن السماء غالباً ما تثلج فلا يصلح هذا الهواء للصيد لأن السمك حسب قولهم لا يتحرك في الماء لشدة برودته.

 

والأمر ذاته لدى هبوب الهواء الشرقي الذي يسميه أهل الساحل بارد شلوق حيث يتعذر الصيد فيه لأن الأمواج كما يقول الصيادون تتراقص علواً و هبوطاً ما يؤرق البحارة و يزعجهم خلال الصيد أما الهواء الغربي فيسمى "البوغاظ" و كان القباطنة يحسبون له كثير حساب فيما مضى إذ تهتز سفنهم و زوارقهم البدائية الصنع لدى هبوبه.

 

ولأن البحر يقع في الجهة الغربية من مدينة اللاذقية فقد سمي ميناء اللاذقية القديم بـ باب البوغاظ و مازالت تلاحظ حتى اليوم في ذلك المكان الحلقات الحديدية الكبيرة التي كانت تستعمل لرسو السفن من أيام الفينيقيين وقد جاء الموال الساحلي في سورية على ذكر الهواء الغربي فغنى أهل الساحل..نسم يا هوا الغربي تحرك..لطم في جانبك يا بحر حرك .. يا شهر الصيف فارقنا ما حلك ..تغير لون حبيبي من التعب.. وقد عرف البحارة منذ القدم أماكن الصيد في البحر كما يعرف الإنسان كف يده فهناك ما أسموه المحجر و حرف السنارة و الضهر والجون و عرفوا أيضاً أحوال البحر كافة و منها النو التحتاني وهو الموج غير المتلاطم الذي يسبب إزعاجاً كبيراً للبحارة لأن حركته تكون داخلية و هو يحدث غالباً عندما يهيج البحر و ترتفع أمواجه.

 

وعندما يحدث هذا النوء يلجأ الصيادون إلى ما يعرف بـ تحصيل الفلايك أي رفع القوارب من الماء حتى لا تتحطم من جراء ارتطام الموج القوي و الهواء الجامح.. فكان البحارة يجتمعون لهذا الغرض و يقومون بدفع الزورق رويداً رويداً و على خمس دفعات يقفون في كل واحدة منها و يغنون..هيه..ليه..يد الله..هيه ليه.. يا مسعود.. يدك معنا..هيه ليه يا خضر.. هيه ليه.. يا بطرلي..

 

وفي النوء تتوقف البواخر في عرض البحر كما تضيف الشويكي ويرسو السمك إلى القاع فيستحيل صيده و تزداد وطأة الطقس و شدته على البحارة فيما يسمى بفرتونة آذار و هي فترة يحسب لها الصيادون كثير حساب لما تشهده من عواصف و أعاصير قوية فيسارعون فيها إلى تحصيل الفلايك و رفع زوارقهم من الماء كي لا تحطمها الأمواج و تأتي الفرتونة في السابع عشر من شهر آذار حسب التقويم الشرقي و ربما تقدم أو تؤخر أسبوعاً من الزمن.

 

ويتعذر الصيد أيضاً في القريات و هي حال تظهر فيها الغيوم من الشرق و ترتفع الأمواج و كذلك عندما يرتسم قوس القزح في السماء قبلة و شمالاً ما ينبئ بأمطار و ريح لكن الفترة الأخطر في الصيد البحري تكون عندما يبدأ ما يدعى السيكا و هو تيار بحري يبدأ من عرض البحر متجهاً إلى الشاطئ و يعود بشكل دائري وهي حركة بحرية تتسم بالخطورة العالية على الصيادين و أصحاب الفلايك وكل من يحاول السباحة أما في الغلينة فتهدأ الريح ويهدأ معها البحر و يسكن و تعتبر وقتاً مثالياً للصيد.

 

وتكثر العواصف كذلك فيما يسمى باللغة البحرية بأيام الحصون وهي أيام العجاز أي الأيام الأربعة الأخيرة من شباط و الثلاثة الأولى من آذار و يغني فيها الصيادون في دلالة على صعوبة الصيد في هذه الفترة الدلعونا التالية ..البحر يخابط .. البحر يخابط ..مركب حبيبي بالمينا رابط..ليرة مجيدي مني للضابط..يوصل مكتوبي للي يحبونا..

 

وهناك كذلك التنين حيث العواصف الشديدة المصحوبة بالأمطار.

 

وتنقل الشويكي عن أحد الصيادين أن التنين حمل مرة معه زورقاً يزن أربعة أطنان ليرميه في مكان آخر و كان يتحرك بشدة رافعاً معه كل ما يحويه قاع البحر و الموج و الهواء حيث شوهدت الأسماك في إحدى هذه المرات مرمية على الأرض في محلة الشيخ ضاهر في اللاذقية بعد أن رفعها التنين من عرض البحر إلى هناك.

 

ومن قصص الصيادين قديماً أيضاً أنهم كانوا يتصارعون و يتسابقون مع كلب البحر للفوز بالسمك عندما يتم الصيد بواسطة الديناميت فكان كلب البحر يحضر بسرعة البرق إلى مكان الصيد و يلتهم السمك المصاب قبل أن يجمعه الصيادون فيحصل على النصيب الأكبر و تروى العديد من الحكايات عن صيادين فقد واحدهم يداً أو أحد أعضاء جسده وهو يحاول التصارع مع كلب البحر لتحصيل حقه من السمك المصاب.

 

ويروى كذلك أنه منذ ما يقرب من خمس و عشرين سنة ألقى البحر على شاطئ رأس البسيط في اللاذقية سمكة نافقة من نوع السفرنة يصل طولها إلى خمسة عشر متراً و تقدر شوكتها الظهرية البيضاء بحجم شراع زورق و صادف هناك وجود أحد المصطافين من حلب فطلب إلى أحد الأشخاص من المنطقة أن يجردها من اللحم ليأخذ عظامها مقابل مبلغ مجز من المال و كانت النتيجة أربعاً و أربعين فقرة كل منها باتساع قاعدة كرسي خيزران حولها المصطاف الحلبي لاحقاً إلى طقم كراسي و طاولات فريد من نوعه وصل سعره نقلاً عن أحد الذين شهدوا الحادثة إلى 600 ألف ليرة سورية آنذاك و يقال إن رائحة السمكة بقيت عالقة في المكان لما يزيد عن ستة أشهر.

 

و تتنوع قصص البحر التي تروي صيد أسماك اكتشف في جوفها لدى تفريغ أحشائها أعضاء بشرية لأشخاص قضوا غرقاً في البحر إثر السباحة أو من جراء غرق سفينة من السفن كما يشاهد في جوف الأسماك ولاسيما القرش الكثير من الأشياء الغريبة أو من حمولات السفن التي ترمي ما ينفق من حيوانات على متنها أثناء الإبحار و تحتفظ ذاكرة الصيادين بقصة البحار الذي اهتزت صنارته بقوة شديدة عندما علقت بها سمكة ضخمة فلم يطق انتظاراً حتى يرفعها من الماء خوفاً من هروبها و رمى نفسه في الماء محتضناً إياها بكل ما أوتي من قوة و عزيمة.. و ظل يتصارع معها لساعات في البحر مبتعداً عن زورقه إلى عرض البحر حتى جزم رفاقه على متن المركب بغرقه و عادوا أدراجهم ليلتقطه و صيده الثمين بعد ساعات مركب آخر و كان قد أضناه التعب إنما دون أن تفلت السمكة من عناقه الطويل حتى تلك اللحظة ليحكي لاحقاً بفخر و حماس عن انتصاره الكبير في صيد السمكة التي بلغ وزنها خمسة و خمسين كيلوغراماً و كانت بالنسبة له كما تروي الشويكي قصة انتصار على البحر و موجه الهادر و طعام الأولاد و كسوتهم ما دفعه للمجازفة بحياته كي لا تلفت منه..

 

ويقول الصيادون إن البحر و الصيد يوحد بين رجاله بشكل لافت ولاسيما عندما يبتعدون لساعات في عرضه فيمد واحدهم يد العون إلى الآخر عند الحاجة حتى لو كان بينهم عداوة على اليابسة والصيد في نظرهم متعة و هواية و مصدر رزق لكنه يغدو أحياناً عملاً شاقاً لما يعتمل فيه من متاعب و مخاطر خاصة عندما يكون الطقس رديئاً وغير آمن حتى درجت في العرف الساحلي مقولة ..إذا كرهت إنساناً أرسله للصيد.

 

ومن العادات القديمة المرتبطة بالبحر أن الفتاة التي تأخرت في الزواج تذهب إلى شاطئ البحر وتردد .. يا بحر جيتك زايره .. وأنا بأمري حايره.. كل البنات تخطبوا.. و أنا لساني بايره.. في إشارة لما يتسم به البحر و ما يدل عليه من أنه كان و مازال كاتماً لأسرار أهله و مفرغاً لأحزانهم و أوجاعهم وقت الضيق.

 

وكان الفنار أو المنارة من أهم المفردات البحرية في البيئة الساحلية حيث يشاهد في الأماكن المرتفعة على ساحل البحر كبرج عال يهدي السفن من خلال قنديل من الزيت أو الشمع يضاء فيه خلال الليل و لم يتبق من تلك الأبراج اليوم سوى البرج الذي يجاور الطريق تحت قلعة المرقب قبيل مدينة بانياس و قد ذكر الفنار كثيراً في الدلعونا الساحلية و منها في محاورة طويلة بين السمراء و الشقراء ينهيها القاضي بقوله..بعق القاضي أنا المحتاري .. السمرا و البيضا ضيعوا أفكاري.. حدك يا بيضا يا ضو فناري و ريقك يا سمرا ورد المشموما.

 

وفي الأمثال التي تداولها أهل الساحل السوري و استقت محتواها من عالم البحر و أحواله يقال ..البحر إذا أعطى بهر و إذا أخذ بحر.. في دلالة على كرمه إذا أعطى و غدره إذا أخذ.

 

ويقال أيضاً .. اللي بيشرب البحر ما بتغصصو الساقية في إشارة إلى عزيمة من يقوم بالأعمال الكبيرة فلا تفتر همته عن الصغيرة منها و قيل أيضاً لمن ينتظر شيئاً لن يأتي ..مثل اللي ناطر سمك ببحر.. و في الدعوة إلى العمل قال أهل الساحل .. ياللي بدو ياكل سمك لازم يبل جسمو.

 

وقالوا أيضاً في وصف طبائع الأشخاص .. فلان بحر ما لو قرار .. فلان بحر علم .. فلان موجة بتاخدو و موجة بتجيبو.. فلان طلع على دفة من البحر..فلان نشف البحر.. فلان بياخدك عالبحر وبيرجعك عطشان .. فلان ما بيجي نقطة ببحر فلان.. فلان عنده البحر للخلخال.. و هناك كذلك .. البحر خزانة الفقير .. وزع البحر سواقي و شوف شو بتلاقي..لا تخاف إلا من البحر الجامد.. ومن أسماء البحر كما يرد في البيئة الساحلية و في سواها .. اليم و الجواد و القاموس والنوفل .. ويقال عن ساحل البحر السيف و جمعه أسياف و يدعو الكثيرون المرفأ البحري في الساحل بالسيف .. و تعددت الأغاني في وصف البحر و عوالمه السحرية فقالوا في الليا عن المراكب.. قومي العبي ما بلعب .. من كتر شغالك بتعب ..بيك رايح عالمركب ..حطي الخشب عالمياً.. و من الدلعونا نذكر..يا حب الآسي يا حب الآسي..مركب حبيبي بالمينا راسي..يوما يا يوما بيوجعني راسي.. صايبني هوا فطيما وأمونا.

ـــــــــ

المصدر : سانا - اللاذقية 12/6/2009

-------------------------

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها


السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ