ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الثلاثاء 02/06/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


يا نور الدين...

تأملات في سيرة

البطل الشهيد / نور الدين محمود زنكي

بقلم : يسري عبد الغني عبد الله

(1)

في انتظار الذي سيأتي .. !

نحن الآن في القرن السادس الهجري .. الناس تتكلم في المساجد والأسواق والساحات والبيوت .. في كل مكان من الشام ومصر والعراق .. الناس تتكلم عن اجتياح الفرنجة لبلاد الشام .. تتكلم عن فظائعهم ، عن انتهاكهم لكل الحرمات دون هوادة .

يقولون : إن الغارات الأوربية قد استشرى داؤها .. وانتشر بلاؤها في أقطارنا العربية بوجه عام .. وفي أرض الشام بوجه خاص .. والشام كانت تشمل سورية ولبنان وفلسطين العربية والأردن ، وجزءاً من شمال العراق ..

قال الناس : العرب والمسلمون يلاقون الأمرين من أولئك الغزاة الدخلاء الذين أقبلوا لاحتلال أرضنا واستوطانها .. ونهب خيراتنا .

إنهم يدعون كذباً وبهتاناً أنهم جاءوا لحماية الصليب وأهله ، والصليب منهم بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب ..

الناس كلها كانت تعلم أن الحروب الصليبية أو تلك الحملات الحربية التي وجهها المسيحيون في أوربا ضد المسلمين في الشرق ، كان هدفها الأول هدف اقتصادي بحت ، لن يصل إليه إلا باستخلاص الأراضي المقدسة من أيديهم .

لقد نشبت هذه الحروب خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي وعلى وجه التحديد بدأت سنة 1056 م ، وانتهت 1291 م ، وسميت بهذا الاسم لأن المحاربين الأوربيين اتخذوا في هذه الحروب من الصليب شارة لهم .

الناس تعرف جيداً أن من أسباب الحروب الصليبية ظهور الأتراك السلاجقة وارتفاع شأنهم في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي واتساع ملكهم على حساب الدولة البيزنطية ، فانتزعوا منها أرمينية و أسيا الصغرى ، بل هددوا القسطنطينية نفسها ، مما حمل الإمبراطور البيزنطي الكسيوس علي الاستنجاد بالبابا وملوك غرب أوربا وأمرائها .

ويقول الناس : عندما استولى السلاجقة على بيت المقدس عاملوا الحجاج المسيحيين أفضل معاملة ، ووفروا لهم الأمن والأمان ، ولكن الفرنجة ادعوا كذباً وبهتاناً عكس ذلك ، ودعوا بزعامة رجال الدين إلى خوض الحروب الصليبية ، كما أثارت الكنيسة حماسة الأمراء والفرسان فبدلاً من أن يحاربوا بعضهم بعضا يجاهدوا في سبيل استرداد بيت المقدس العربي لحماً ودماً .

وعرف الناس من أهل العلم : أن البابا رأى في الحروب الصليبية فرصة لمد نفوذه على الكنائس الشرقية والسيطرة على جميع العالم المسيحي في ظل حكومة دينية واحدة هو رئيسها ، كذلك رأى الأشراف في تلك الحروب فرصة لتكوين إمارات لهم في الشرق ، كما وجد الفرسان فيها ميداناً جديداً للحروب في سبيل الدفاع عن الكنيسة .

وتيقن الناس أيضاً : إن رغبة الأوربيين في الرحيل إلى المشرق أساسها الحياة الاقتصادية الرغدة في أنحائه ، كما أن المدن الإيطالية طمعت في الحصول على منتجات الشرق ومتاجره بدون وساطة .

وأكد الناس في كلامهم أن بلادنا منذ أن دخلها الإسلام لم تعرف فرقاً بين مسلم ومسيحي .. فالكل في حق الحياة سواء .. الدين لله تعالى والوطن للجميع .. فالكل أخوة ..

والمسيحية نفسها دين حب وسلام لا تعرف البطش أو العنف أو العدوان .. والإسلام كذلك دين تسامح وحب ، دين صفاء ونقاء ..

لقد أقبل هؤلاء الغزاة من الغرب يحملون في صدورهم الحقد والغيظ ، وفي أيديهم السلاح والعتاد ..

وفي أذهانهم التدبير الآثم للقضاء على أمتنا الإسلامية من أجل أن يخلو لهم الطريق .. وليفرقوا بين عنصري الأمة .. وليعزلوا الدين عن الحياة ..

ومازالت الناس تتكلم .. وتتكلم ، ومادامت الناس تتكلم فالأمر سائر إلى الخير ، معنى أن يتكلم الناس إذن عقولهم تفكر ، عقولهم تعي وتدرك وتفهم ، وقلوبهم تحس وتشعر ، وهذه هي البداية الصحيحة للفعل الإيجابي ..

الناس تحلم ، والحلم حق مشروع ، الناس في بلادنا الإسلامية كانت تتطلع إلى محرر للبلاد والعباد ، وتحرير العباد من الفقر والجهل والمرض والخمول والخوف هو البداية لتحرير البلاد من المستعمر الباطش ، أو المهيمن عليها ..

كان الناس يتطلعون إلى من ينقذ الديار من هذا السرطان الغربي الخبيث الذي يمتد في أرضنا ويتوغل .. الطامع في خيراتنا .. والهادف إلى إذابتنا فيه .. وإلى القضاء على هويتنا ..

***

وشاءت إرادة الله تعالى أن يتألق في سماء هذا الحمى نجم .. نعم ، نجم كان له حديث .. كان له تاريخ .. تاريخ كتب بحروف من نور .. وكان له مع هؤلاء الطامعين الدخلاء مواقف صراع ونضال .. بل مواطن ردع وتأديب ..

ذلك هو البطل ، المجاهد ، الملك العادل : نور الدين محمود زنكي .. الذي لقبه التاريخ بالشهيد .. نور الدين محمود الذي جمع تحت حكمه الموحد سورية ومصر واليمن وغيرها ..

لقد أدرك الرجل منذ اللحظة الأولى لوعيه على الواقع أن الوحدة هي الطريق الشرعي للتحرر والخلاص والنهوض والتحرر من التبعية .

إن الوحدة هي الطريق لحل مشاكلنا العربية والإسلامية ، هي الطريق لمواجهة الأعداء ، هي الخلاص من معوقات مسيرتنا ، هي السبيل لحرية الأرض ، هي الأمل لأن نحتل مكانتنا تحت الشمس كما كنا ..

لقد أمن نور الدين مثله في ذلك مثل سائر قادة الإسلام العظماء عبر عصور التاريخ المختلفة ، آمن بأن الضعيف ليس له أشياع ، ليس له أتباع ، الضعيف لا يحترم ، لا يقدر ، بل قد يهان ويستضعف ..

والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، والقوة معنى عام وشامل ، هناك قوة المال ، وقوة العلم ، وقوة الأخلاق ، وقوة الجاه ، وقوة السلطان ، وأيضاً قوة الاتحاد والاعتصام بحبل الله المتين ، وبهذه القوة الأخيرة يكون طريق الفلاح والنجاح ، في دنيا لا تعترف بالفردية قدر ما تعترف بالروح الجماعية ، وروح الفريق ، والتكتلات الكبرى ..

كل ذلك أدركه نور الدين محمود ، وسعى إلى أن يحققه طوال حياته ، حتى قابل ربه راضياً مرضياً ..

***

نحن لا نحاول عبر هذه السطور أن نضفي من عندنا على نور الدين محمود حلل الثناء وأثواب التقدير .. بل أن كبار المؤرخين السابقين عرفوا له قدره ومكانته .. كتبوا عنه .. ترجموا له .. وهذا أكبر دليل على مكانته ، وعلى ألمعيته ، وعلى علو شأنه ، وعلى جدارته بالتمجيد والتخليد بين قادة التاريخ الإسلامي ..

لقد كتب عنه أبو شامه ، وابن الأثير ، وابن خلدون ، وابن الوردي ، وابن خلكان ، والمقدسي ، والسيوطي ، وغيرهم وغير هم ، وكلهم من كبار المؤرخين المشهود لهم بالثقة والأمانة ، وعليهم اعتمدنا في كتابة هذه السطور ، ومن كلامهم أخذنا ..

لقد نعتوا كلهم نور الدين محمود بما يلفت البصر ، وينير الفكر ، وعرفوا له مكانته بين أبطالنا التاريخيين ، فنوهوا بها ، ولفتوا الانتباه إليها ..

***

هذا هو ابن الأثير في تاريخه يقول لنا : إنه طالع تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وحتى يومه الذي كتب فيه عن نور الدين خلال تاريخه ، لم ير بعد الخلفاء الراشدين (رضوان الله عليهم) ، وعمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين محمود ، ولا أكثر تحرياً للعدل والإنصاف منه ..

ويواصل ابن الأثير كلامه عن نور الدين قائلاً : لقد قصر ليله ونهاره عن عدل ينشره وجهاد يتجهز له ، ومظلمة يزيلها ، وعبادة يقوم بها ، وجميل يوليه ، وإحسان يسديه .

ثم يأتي ابن خلكان في وفياته ليؤكد ما قاله ابن الأثير في تاريخه ، مضيفاً أن نور الدين كان لا يتصرف في الذي يخصه إلا من ملك كان له قد اشتراه من سهمه في الغنيمة ، ولا يمس الأموال المرصدة لمصالح المسلمين .

ولقد طلبت منه زوجته فأعطاها ثلاثة دكاكين بحمص السورية كراها بنحو عشرين ديناراً في السنة فاستقلتها ، فقال : ليس لي إلا هذا ، وجميع ما أنا فيه خازن المسلمين . !!

وقد تغنى شعراء عصره بالمدائح فيه ما بين قصيرة وطويلة ، ونذكر على سبيل المثال بيتين للشاعر الفارس الأمير / أسامة بن المنقذ ، قالهما في نور الدين محمود ، وهما

[ سلطاننا زاهد ، والناس قد زهدوا

له ... فكل عن الخيرات منكمش

أيامه مثل شهر الصوم طاهرة من المعاصي ، وفيها الجوع والعطـــش ]

وهذا هو أبو حامد عماد الدين محمد بن محمد الأصفهاني يمدح نور الدين محمود بقصيدة منها :

[ أدركت من أمر الزمان المشتهى

وبلغت من نيل الأماني المنتهى

وبقيت في كنف السلامة آمناً

متكرماً بالطبع لا متكرهــاً

يا محيي العدل الذي في ظله

من عدله رعت الأسود مع المها

يا من أطاع الله في خلوته

متأدباً من خوفه متأوهاً ]

ويقال : إن الأصفهاني أنشأ هذه القصيدة في نور الدين حين أقام مدة في بلدة (الرها ) التي كان قد حررها والده عماد الدين من الاحتلال الصليبي .

إن الحاكم الحق من كان مثالاً أعلى ، وقدوة حسنة لرعيته ، يعيش بهم ولهم ، يتقي الشبهات ، يسير في ركاب العدل والخير والحق ، لا يفضل أهله أو أولاده أو زوجته على شعبه أو على أمته ، والتاريخ دائماً لا يكذب ولا يتجمل ، التاريخ يقول الحق ، وإن زيفه البعض إلى حين ، إلا أنه يعود إلى رشده وسرعان ما ينطق بالصدق والحق ، وأبطال التاريخ ليس بملائكة ، هم بشر لهم سلبياتهم وإيجابياتهم ، فلنأخذ خيرهم ، وننحي شرهم حتى نستفيد منهم ومن سيرهم .

(2)

تعريف المعرف به

نور الدين هو الملك العادل ، الشهيد المجاهد ، أبو القاسم نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي أتابك أبو سعيد زنكي بن قسيم الدولة آق سُنقر التركي ، ويلقب زنكي أيضاً بلقب والده (قسيم الدولة) ، ويقال لنور الدين (ابن القسيم) .

وجد نور الدين آق سُنقر كان والياً على مدينة حلب ، ومدينة منبج ، ومدينة اللاذقية في سورية ، ولم يرزق من الأولاد غير عماد الدين زنكي والد نور الدين محمود .

وقد نشأ زنكي في العراق ، ثم ولي ديار الموصل العراقية ، والبلاد الشامية بعد ذلك ، وظهرت كفايته في مقاتلة العدو الصليبي عند نزوله مدينة (شيزر) ، حتى رجع العدو خائباً ، وفتح (الرها) ، و (معرة النعمان) ، مسقط رأس الشاعر / أبو العلاء المعري ، و (كفر طالب) , وغيرها من الحصون الشامية ، واستنقذها من أيدي أدعياء حماية الصليب من الإفرنج الغربيين .

ويعتبر عماد الدين زنكي من أبرز زعماء المسلمين الذين دعوا إلى قيام جبهة إسلامية موحدة ، من اجل قتال الصليبيين وطردهم من بلاد الشام ، وقد أظهر عماد الدين منذ مطلع شبابه شجاعة وجرأة وحب للعروبة والإسلام لا نظير لهما ، وقد نشأ على مقربة من الحوادث التي جرت بين المسلمين والصليبيين ، ولمس مدى التنافر بين القوى الإسلامية ، وحظي بعطف السلطان السلجوقي / محمود ، ووقع اختيار السلطان عليه لتولي آتابيكية الموصل العراقية سنة 521 هـ .

وقبل أن نستمر في كلامنا عن عماد الدين زنكي والد نور الدين ومعلمه الأول ، نحب أن نعطي القارئ فكرة موجزة عن الدولة السلجوقية (442 هـ ـ 590 هـ ) حيث يرجع أصل السلاجقة إلى الترك الذين كانوا يقيمون في الصحراء الواسعة التي تمتد من حدود الصين حتى شواطئ بحر قزوين ، وكثرت هجراتهم إلى شواطئ نهر جيحون في وقت انهيار الدولة السامانية حيث المراعي الوفيرة ، واقتربوا بذلك من حدود الدولة الغزنوية (351 هـ ـ 582 هـ) ، وازدادت قوة السلاجقة ، وأصبحوا مصدر خطر على الغزنويين ، وتولى أبناء سلجوق زعامة هؤلاء السلاجقة الرعاة الذين هاجروا إلى هذه الجهات . وأذن لهم السلطان محمود الغزنوي بعبور نهر جيحون ، والاستقرار في إقليم خُراسان ـ التابع لدولته ـ ولم يشكل السلاجقة خطراً على الدولة الغزنوية في عهد السلطان محمود .

كان السلاجقة يخشون بأس السلطان محمود ، فلما توفي ، وخلفه ابنه مسعود في حكم الدولة الغزنوية ، لم يأبه للسلاجقة ، لأنه كان يختلف عن أبيه في صفاته وأخلاقه ، فتمرد السلاجقة على السلطان مسعود الغزنوي ، وحاولوا أن يستقلوا بالبلاد التي نزلوا فيها كضيوف .

ورأى السلطان مسعود ضرورة التخلص من السلاجقة وطردهم من إقليم خُراسان ، فجرد لهم جيشاً مني بهزيمة ساحقة ، ودخل السلاجقة نيسابور ـ عاصمة إقليم خُراسان ـ وأعلنوا استقلالهم ، واختاروا طغرلبك سلطاناً عليهم .

وبذلك استطاع السلاجقة انتزاع إقليم خُراسان من الدولة الغزنوية ، وتكوين دولة جديدة تشمل هذا الإقليم ، واعترف الخليفة العباسي بطغرلبك سلطاناً على الدولة السلجوقية الجديدة ، وأخذ طغرلبك يدير شئون البلاد مراعياً قواعد الإسلام ، والعمل على نشر العدل ، ومكارم الأخلاق .

وقد اتسعت الدولة السلجوقية في عهد أول سلاطينها طغرلبك حتى ضمت بلاد جُرجان وطبرستان وخوارزم والري وهمذان وأصفهان ، واستنجد به الخليفة العباسي لتخليصه من العناصر الثائرة ضده ، فدخل بغداد عاصمة الخلافة العباسية سنة 447 هـ ، وتغلب على أعداء الخليفة العباسي .

خلف طغرلبك في حكم الدولة السلجوقية ، ابن أخيه ألب أرسلان ، وقد زاد اتساع هذه الدولة في عهده بما ضمه إليها من البلاد ، على أن أهم أعماله الحربية التي خلدت اسمه كان انتصاره الرائع في واقعة (ملاز كرد) سنة 463 هـ ، على الإمبراطور البيزنطي / رومانوس ، وسبب هذه الواقعة أن البيزنطيين هددوا أطراف البلاد السلجوقية .

يحكي لنا التاريخ أن ألب أرسلان سار على رأس جيش كبير ، والتقى بالروم في ملازكرد ، وعلى الرغم من أن جند الروم كانوا أكثر من جند السلاجقة إلا أن ألب أرسلان أحرز انتصاراً رائعاً على أعدائه .

ووقع الإمبراطور البيزنطي أسيراً في أيدي السلاجقة ، غير أن ألب أرسلان أحسن معاملة خصمه كما تقضي بذلك تعاليم الإسلام ، ولم يمض وقت طويل حتى أطلق ألب أرسلان سراح الإمبراطور معززاً مكرماً ، بعد أن وعد بدفع فدية كبيرة .

ومن أبرز نتائج هذه الواقعة اتساع رقعة الدولة السلجوقية في أسيا الصغرى ، بينما انكمشت الدولة البيزنطية ، وأصبحت تخشى نهايتها على أيدي السلاجقة ، لذلك استنجد الأباطرة البيزنطيون عقب واقعة ملازكرد بزعماء أوربا لدفع خطر الأتراك السلاجقة عنه .

ويرى غالبية المؤرخين أن هزيمة أوربا في هذه الواقعة كانت من أهم أسباب الحروب الصليبية فيما بعد .

وعندما جاءت سنة 465 هـ ولي ملكشاه حكم الدولة السلجوقية فوجه اهتمامه إلى القضاء على الثورات والفتن الداخلية .

وبذل ملكشاه في سبيل ذلك جهوداً مضنية حتى عم الأمن والسلام أرجاء دولته ، كما واصل سياسة والده ألب أرسلان على مد نفوذه إلى كثير من أراضي الدولة الإسلامية .

لقد بلغت الدولة السلجوقية أوج عظمتها في عهد السلطان ملكشاه ، ثم أخذت في الضعف والتدهور بعد وفاته سنة 485 هـ ، نتيجة النزاع بين الأمراء السلاجقة على العرش ، والمحاولات المتكررة التي بذلها حكام الأقاليم للاستقلال عن الدولة السلجوقية .

وكثرت المؤامرات والدسائس في قصور السلاجقة ، فضلاً عن سوء الأحوال الاقتصادية وحملات الصليبيين على بلادهم ، ولما ازدادت الدولة السلجوقية ضعفاً عمل الخلفاء العباسيون على استرداد نفوذهم على البلاد التي انتزعها منهم سلاطين السلاجقة ، فحرص الخليفة الناصر لدين الله علاء الدين محمد خوارزم شاه ـ سلطان الدولة الخوارزمية ـ على التخلص من طغرلبك الثالث ، فسار علاء الدين إلى السلطان السلجوقي واشتبك معه سنة 590 هـ في معركة انتهت بهزيمة السلطان السلجوقي وقتله ، وبذلك انتهت الدولة السلجوقية .

وبعد هذا الاستطراد الذي يشاركنا القارئ الكريم الرأي في أنه كان ضرورياً ، نعود إلى عماد الدين زنكي والد نور الدين محمود ، وإلى حركة الجهاد الإسلامي ضد أدعياء حماية الصليب ، فنقول : ما أن استقر عماد الدين زنكي في الموصل العراقية الذي ولاه إياها السلطان السلجوقي ، حتى أخذ يعمل على بسط نفوذه على القلاع والمدن المجاورة ، حتى يكون آمناً في زحفه على بلاد الشام ، كما هادن الصليبيين فترة من الزمان .

وعندما وجه اللوم الشديد إلى عماد الدين على هذه المهادنة ، كان يقول : إنما أفعل ذلك حتى أتمكن من فرض نفوذي على ما تبقى من الحصون والقلاع المجاورة لي .

ونجح عماد الدين في السيطرة على حلب السورية ودخلها في سنة 522 هـ ، وكان ضمه لحلب ضربة كبرى للصليبيين لما يترتب على ذلك من قطعه الصلة بين الرها ( أهم مستعمرة بالنسبة لهم من الناحية الاستراتيجية) من جهة وباقي الإمارات الصليبية بالشام من جهة أخرى ، كما استطاع ضم حماة السورية سنة 523 هـ ، واستولى على مدينة بعلبك اللبنانية ، وبعض الحصون شرق إمارة إنطاكية ( أحد الإمارات الصليبية ) في نفس العام .

وأدرك الصليبيون أن عماد الدين يهدف إلى تكوين جبهة إسلامية ضدهم ، ولذلك عقدوا تحالفاً مع البيزنطيين لمهاجمة حلب ، وصرف عماد الدين عن تحقيق مشروعه الوحدوي ، ولكن ما لبث هذا التحالف أن انهار بعد أن كشف كل فريق عن عدائه للأخر ، وعن أطماعه .

في هذه الظروف هب عماد الدين زنكي لاستئناف جهاده ضد الصليبيين ، وذلك بتوجيه ضربته إلى إمارة الرها الصليبية والتي كانت تشكل خطراً على خطوط المواصلات بين الموصل العراقية وحلب السورية ، وبين بغداد عاصمة الخلافة العباسية وسلاجقة الروم .

وكان حاكم الرها الصليبي في ذلك الوقت يدعى (جوسلين الثاني) ، وكان سيئ السمعة، منغمساً دائماً في الملذات والفجور والاستهتار ، مولعاً بالخمر والنساء ، وكان قد ترك الرها وأقام في قلعة (تل باشر) على الضفة الغربية لنهر الفرات ، وترك أمر حراسة الرها والدفاع عنها إلى السكان الأصليين من المسيحيين الذين مارسوا التجارة ، ولم تكن لهم دراية بشئون الدفاع أو الحرب والقتال ، أضف إلى ذلك أنهم كانوا لا يحبونه لأنه كان فظاً غليظاً ، وتولى الدفاع كذلك عن الرها الجند المرتزقة الذين يخونون بسهولة لصالح من يدفع لهم .

كان عماد الدين يتابع عن طريق عيونه (جهاز استخباراته) خطوات (جوسلين) ، ويعرف عنه ، وعن الرها كل شيء ، فانتهز هذه الظروف المواتية ، وأسرع بجنوده إلى الرها ، وضرب الحصار عليها في شهر نوفمبر 1144 م = 539 هـ ، واستمر الحصار 28 يوماً ، سقطت بعدها الرها عنوة في يد عماد الدين زنكي في شهر ديسمبر من نفس العام .

وعمل عماد الدين على المحافظة على المدينة المفتوحة المحررة ، وأحاط سكانها المسيحيين المحليين بعطفه ورعايته ، وطلب من قواده إكرامهم وتكريمهم والإحسان إليهم .

لقد كان لانتصار عماد الدين هذا واسترداده لإمارة الرها أصداء ترددت في أنحاء الشرق والغرب ، فإمارة الرها كانت أول إمارة يؤسسها الصليبيون في الشرق الإسلامي ، وها هي تسقط في يد المسلمين بعد أن بقيت في حوزة أدعياء حماية الصليب نحو نصف قرن (46) عاماً . ولذا كان من أبرز نتائج سقوط الرها : خوف أوربا وقادتها من انهيار الإمارات الصليبية بالشام .

كما جعل هذا الانتصار من عماد الدين زنكي هو المدافع عن الدين الإسلامي ، بطل الإسلام المتوج ، لأن ما قام به من أعمال لم يستطع جميع أمراء الصليبيين بالشام هدمه ، كما أنه بدأ حركة الجهاد الإسلامي بشكل جاد وواقعي ، خاصة وأن بقاء الرها كمستعمرة صليبية في أيدي الفرنجة كان من شأنه أن يحول دون تحقيق الوحدة الإسلامية في أقاليم العراق والشام .

لقد أثار سقوط الرها في يد عماد الدين في شهر ديسمبر سنة 1144 م الروح الصليبية المتعصبة في الغرب، وقام البابا بدعوة لحملة صليبية جديدة من أجل استرداد الرها من المسلمين ، وسارع ملوك أوربا وقادتها إلى دعم هذه الحملة ، وسرعة إرسالها إلى الشرق .

وخرجت الحملة الصليبية الجديدة (الثانية) من أوربا في عام 1147 م ، وكانت بقيادة كل من (كونراد الثالث) إمبراطور ألمانيا ، و( لويس السابع ) ملك فرنسا .

وصلت هذه الحملة إلى أسيا الصغرى أوائل عام 1148 م ، إلا أنها ما لبثت أن تعرضت لهزيمة ساحقة ماحقة على يد السلاجقة بالقرب من (أسكي شهر) وفقدت الحملة عدداً كبيراً من جنودها ، ولم يبقى معها سوى أعداد قليلة لا تمكنها من تحقيق الهدف الذي جاءت من أجله وهو استرداد الرها .

ولذلك تحولت الحملة لمساندة الإمارات الصليبية بالشام ، فقد نجح أمراء بيت المقدس في توجيه الحملة إلى دمشق العاصمة السورية لمهاجمتها لصالح مملكتهم .

وعاد كل من لويس السابع وكونراد الثالث إلى أوربا بعد فشلهما في تحقيق أي هدف لحملتهما سواء استعادة الرها من أيدي المسلمين ، أو الاستيلاء على دمشق كموقع استراتيجي جديد يطمعون في الاستيلاء عليه .

لقد كان من أبرز النتائج التي ترتبت على فشل هذه الحملة : تقوية الوحدة بين صفوف المسلمين ، وارتفاع الروح المعنوية لهم ، وإظهار ضعف الفرنجة بالشام ، وبداية تداعي البناء الصليبي كله ، وليس أدل على ذلك من أنه انقضى أربعون عاماً دون القيام بحملة صليبية كبرى على الشرق الإسلامي من جانب الغرب .

وشاءت الأقدار أن يختطف الموت عماد الدين زنكي ، فخيب الآمال الإسلامية في مواصلة الكفاح والنضال ، ومع ذلك ظل الأمل في ظهور قائد جديد يستكمل المسيرة .

وفرح الفرنجة بموت عماد الدين زنكي ، ظناً منهم بأن ذلك سيعيد أهل الإسلام إلى الفرقة والتخاذل ، ولكن بذور الثورة التي ألقيت في أرض الإسلام قد سقيت بمياه الحرية ، فأنبتت بطلاً جديداً هو نور الدين بن عماد الدين ليتم رسالة أبيه ، وسرعان ما التف حوله فرسان أشداء يصيحون : لبيك يا عماد الدين ، نحن مع ابنك نور الدين لتحقيق الأهداف ، ولتحرير بيت المقدس الشريف ، أولى القبلتين ، وثالث الحرمين ، ومسرى النبي الأمين ( صلى الله عليه وسلم ) .

***

ولأن التربية الصالحة لابد أن تنبت العظماء والعباقرة ، فإن هذه التربية أساسها الأسرة الصالحة ، والأسرة تعني الأب والأم في المقام الأول ، وقد أحسن عماد الدين زنكي تربية ولده نور الدين محمود ، حيث ورث نور الدين العديد من صفات والده ، نضيف إلى ذلك والدته التي أسمها الخاتون صفوة الملك زمُرد ، وهي ابنة جاولي بن عبد الله ، وهي أخت الملك (دقاق) لأمه ، وأبوها جاولي كان مملوكاً تركياً من مماليك محمد بن ملكشاه السلجوقي .

وقد ورد في كتاب (الدارس في تاريخ المدارس) للنعيمي، أن هذه السيدة كانت تعشق سماع الحديث النبوي المطهر وتحفظه ، وتحب استنساخ الكتب ، وقد قرأت القرآن الكريم حفظاً وتجويداً ، وبنت المسجد الكبير في مدينة صنعاء العاصمة اليمنية .

كما وقفت مدرسة كبيرة لمذهب الحنفية وطلابه ، وكانت وافرة الحرمة ، عظيمة الخلق ، ورعة ، تقية ، وحجت أكثر من مرة ، وجاورت في بيت الله الحرام ، وكانت كثيرة العطف على الفقراء والمساكين ، راعية للأرامل واليتامى .

في نفس الوقت الذي أسهمت فيه بقسط وافر في تربية وتهذيب وتعليم نور الدين محمود ، وتابعت رحلته العلمية والتثقيفية مع أساتذته الذين رتبهم له والده عماد الدين .

وتوفيت السيدة / زمرد في المدينة المنورة وهي تؤدي مناسك الحج ، ودفنت بمقابر البقيع ، سنة 557 هـ ، وكانت دائماً تدعو الله تعالى أن تدفن في الأراضي الحجازية المطهرة .

والمعروف لنا أن نور الدين محمود ولد في مدينة حلب السورية سنة 511 هـ ، وعليه فإن والدته توفيت إلى رحمة الله تعالى وعمره 16 عاما ، حيث تكفل والده بعد ذلك برعايته وتعليمه وتربيته ، إلى أن توفي عماد الدين سنة 541 هـ ، وكان عمر نور الدين ثلاثين عاماً حيث خلف والده .

ونستشف من المراجع التي بين أيدينا أن نور الدين نشأ نشأة دينية صالحة ، هيأته لأن يكون ذلك البطل المذكور في تاريخ الإسلام ، فقد حفظ القرآن الكريم في سن باكرة ، ودرس الحديث والتفسير والفقه على يد أساتذته الذي انتقاهم له والده من بين علماء عصره ، إلا أن والدته لعبت دوراً كبيراً في تثقيفه وتعليمه ، في نفس الآن الذي تعلم فيه الفروسية والرماية وفنون القتال على يد والده والمعلمين الذي كلفهم بتعليمه وتدريبه .

كان نور الدين أسمر اللون ، طويل القامة ، حسن الصورة ، حلو العينين ، واسع الجبهة ، مهيب الطلعة برغم تواضعه الشديد ، له لحية خفيفة في أسفل ذقنه ، لم يلبس الحرير ولا الذهب ولا الفضة طوال حياته ، وعاش حياته أقرب إلى الزهد ، ولو أراد أن يعيش حياة الرفاهية والنعيم لتمكن من ذلك بسهولة ويسر .

(3)

الوحدة والطريق إلى النصر

إذا أردنا الحديث عن دور نور الدين محمود في توحيد الجبهة الإسلامية بهدف مواجهة أدعياء حماية الصليب ، لقلنا : إنه كان يدرك عن وعي كامل أن الوحدة الجزئية التي حققها والده عماد الدين زنكي بين شمال العراق وشمال الشام لا تكفي الباتة لتحقيق آمال المسلمين في طرد المحتلين الصليبيين من بلاد الشام ، وأنه من الضروري تكوين جبهة إسلامية قوية تمتد من نهر الفرات العراقي إلى نهر النيل المصري شاملة الشام ومصر معاً .

وكان على نور الدين أن يتجه أولاً صوب الجنوب ليدخل دمشق العاصمة السورية لتكون الجبهة الجنوبية ذات وحدة واحدة .

وكان حاكم دمشق المدعو / معين الدين آثر قد توفي سنة 544 هـ ، وجاءت الفرصة بذلك لنور الدين محمود ليدخل دمشق ، خاصة أن (بلدوين الثالث) الصليبي ملك مملكة بيت المقدس قام بمهاجمة دمشق عقب وفاة معين الدين آثر .

وتأهب نور الدين لصد الصليبيين عن دمشق ، غير أنه عاد وتراجع . ونقرأ في التاريخ عن أسباب هذا التراجع من جانب نور الدين .

قالوا : إن سوء الأحوال الجوية هو السبب الرئيسي لهذا التراجع ، وقالوا : إن نور الدين خشي من استنجاد حاكم دمشق الجديد وهو/ مجير الدين آبق بالصليبيين من ناحية أخرى .

وعليه اكتفى نور الدين بعقد صلح مع مجير الدين في عام 545 هـ ، تقرر فيه : طاعة أهل دمشق لنور الدين محمود ، وإقامة الخطبة له على منابرها ، وضرب العملة باسمه .

على أن مجير الدين ما لبث أن حنث في وعده السابق مع نور الدين ، وحالف الصليبيين ، وعندئذ دخل نور الدين دمشق .

ويكتب بعض المؤرخين والباحثين عن دخول نور الدين إلى دمشق ، فيدعون أن الرجل أمر بإتلاف مزارع دمشق ، وهذا محض افتراء ، لأن هذا ليس من أخلاق نور الدين الذي كان يحسن إلى أعدائه كل الإحسان ، فما بالك بمسلمين وأشقاء . !!

ولعل ما يؤكد دحض هذا الادعاء أن نور الدين أرسل رسله بمجرد اقترابه من أبواب دمشق ، أرسلهم إلى ولاة الأمور وإلى الناس في أماكن تجمعهم داخل دمشق ، ليؤكدوا لهم على أنه ما أتى إلا لجمع شمل الأمة الإسلامية ، وصلاح أمر المسلمين ، وجهاد الصليبيين المغتصبين لأرضنا العربية الإسلامية ، وأنه لا يفكر الباتة في الإساءة إليهم بأي حال من الأحوال .

ولكن ولاة الأمور في دمشق أصموا آذانهم عن هذا النداء خائفين على مصالحهم الخاصة، في الوقت الذي كان فيه أهل دمشق مع نور الدين قلباً وقالباً ، فما كان من نور الدين إلا أن استخدم القوة ، وزحفت جيوشه على دمشق عندئذ اضطر حاكمها مجير الدين آبق إلى مراسلة بلدوين الثالث وتحالف معه على قتال نور الدين محمود .

ولم يعد أمام نور الدين سوى أن يجنح إلى السلم ، ففي نفس العام وهو 545 هـ ، وقع صلحاً مع مجير الدين .

وبمقتضى هذا الصلح أصبحت دمشق تقريباً لنور الدين أما صاحبها فقد أصبح نائباً عنه فيها .

وفي عام 549 هـ استطاع نور الدين محمود أن يستولى على قلعة دمشق ، وأن يخرج منها آبق وحاشيته ، وبمساعدة كثير من الأمراء له من ناحية ثانية ، والحيلة والخداع من ناحية ثالثة .

وهكذا استطاع نور الدين أن يحقق حلم والده الخاص بالاستيلاء على دمشق .

وكان الاستيلاء على دمشق نقطة تحول خطيرة في تاريخ الحروب الصليبية .

وذلك لما ترتب عليه من تحقيق وحدة بلاد الشام الإسلامية ، وإغلاق الباب أمام توسع الفرنجة في الاتجاه الشمالي الشرقي ، ولم يبق سوى مصر حتى يستكمل نور الدين محمود تكوين الجبهة الإسلامية ، ويحيط الإمارات الصليبية من الشمال والشرق والجنوب ، وبهذا يضع الصليبيين بين شقي الرحى .

وتطلع نور الدين محمود إلى مصر ، وكان الصليبيون أكثر تطلعاً إليها منه رغبة منهم في عزلها عن العالم الإسلامي ، وقطع طريق التجارة بينها وبين دول العالم الإسلامي ، وليحولوا دون قيام جبهة إسلامية متحدة .

ولتحقيق هذه الأهداف الاستعمارية الأوربية أرسل الصليبيون حملة لغزو مصر ، اتخذت الطريق الساحلي من غزة الفلسطينية وحتى العريش المصرية ، ومنها إلى الفرما المصرية أيضاً ، وكان على رأس هذه الحملة بلدوين ملك مملكة بيت المقدس الصليبية ، ودخل الصليبيون الفرما وأحرقوا مساجدها ثم اتجهوا نحو (تينيس) على بحيرة المنزلة ، إلا أن بلدوين ما لبث أن توفي وهو في طريقه إلى القاهرة على أثر أكلة سمك من بحيرة المنزلة ، ولذلك اضطرت الحملة للعودة من حيث أتت .

ويقال إن بحيرة البردويل سميت باسم بلدوين وحرف الاسم مع مرور الزمن إلى بردويل ، وهي تقع على بعد 90 كيلومتراً شرقي مدينة بورسعيد المصرية .

وعندما ارتقى عموري عرش مملكة بيت المقدس الصليبية اتجه بنظره صوب مصر مرة أخرى ، خاصة بعد أن أغلقت أمام الصليبين كل الأبواب للتوسع في بلاد الشام ، وبعد أن أتم نور الدين محمود وحدتها ، أراد عموري أن يحقق أمل سلفه بلدوين في الاستيلاء على مصر ، وبالتالي القضاء على كل أمل لنور الدين محمود في الوصول إلى مصر بموقعها الاستراتيجي المهم للأمة الإسلامية .

وجاءت الفرصة على طبق من ذهب لكل من نور الدين محمود وعموري ملك بيت المقدس للتدخل في شئون مصر الداخلية والاستيلاء عليها وتحقيق أهدافهما ، إذ أن الخلافة الفاطمية كانت تعاني آلام الموت البطيء أو بمعنى آخر في حاجة إلى من يصلح أحوالها المتردية أو يطلق عليها رصاصة الرحمة ، وذلك بسبب سوء أحوالها السياسية والاقتصادية ، الناجمة عن ضعف الخلفاء وسيطرة الوزراء على شئون الحكم ، وأصبحوا هم أصحاب السلطة الفعلية وأصحاب الأمر والنهي في الدولة دون الخلفاء الذين أصبحوا ألعوبة في أيديهم لا حول لهم ولا قوة ، وعليه فقد أطلق المؤرخون على هذا العصر من تاريخ الدولة الفاطمية مصطلح (عصر الوزراء العظام) .

لقد أدى الصراع والتنافس على منصب الوزارة وكذلك تزايد نفوذ الوزراء ، أدى ذلك إلى أن انغمست مصر في حالة من الفوضى وسوء الأوضاع ، كما أدى إلى استعانة الطامعين في هذا المنصب بقوى خارجية مما ترتب عليه إتاحة الفرصة لهذه القوى ممثلة في : الصليبيين ، ونور الدين محمود لبسط سلطانهما على مصر .

فقد حدث في عام 558 هـ أن نشب نزاع بين كل من شاور والي الصعيد وضرغام أحد قادة الجيش حول منصب الوزارة ، واستنجد شاور بنور الدين محمود في حين استنجد ضرغام بالصليبيين في مملكة بيت المقدس .

وأرسل نور الدين محمود إلى مصر ثلاث حملات عسكرية على رأسها رجله القوي وأقرب المقربين له / أسد الدين شيركوه ، ومعه ابن أخيه الجندي الشاب / صلاح الدين الأيوبي ، ونجح شيركوه في الحملة الثالثة في أن يدخل القاهرة ، وبصحبة صلاح الدين ، واضطر الصليبيون للانسحاب منها خوفاً من هزيمة محققة على أيدي قوات نور الدين ، وخوفاً من تهديد نور الدين محمود نفسه لهم في بلاد الشام .

واستطاع أسد الدين شيركوه القائد المخضرم أن يقبض على زمام الأمور في مصر ، وولاه الخليفة الفاطمي الضعيف / العاضد بالله الوزارة بمصر ، وبهذا أصبحت مصر تابعة لنور الدين محمود ، وأصبحت الجبهة الإسلامية المتحدة تمتد من الفرات العراقي إلى النيل المصري ، وعلى رأسها رجل قوي هو / نور الدين محمود زنكي الذي جمع في قبضة : القاهرة المصرية ، ودمشق وحلب وحمص السورية ، والموصل العراقية ، ولم يبقى أمامه سوى أن يوجه جهوده نحو طرد الصليبيين نهائياً من بلاد الشام ، وشاءت عناية الله تعالى أن يتولى هذه المهمة الكبرى الناصر صلاح الدين الأيوبي .

ونحب أن نشير هنا إلى أن نور الدين محمود عندما انتصر على الصليبيين في موقعة (حارم) استبشر خيراً ، وقال : الحمد لله لقد اقتربنا من القدس ، وكلف بعض المهندسين بعمل منبر عظيم للمسجد الأقصى ببيت المقدس لتلقى من فوقه خطبة النصر بعد فتح القدس .

وعندما فتح صلاح الدين القدس وقبل صلاة الجمعة بالمسجد الأقصى ، أمر بإحضار منبر الشهيد نور الدين من حلب السورية ، ليقيمه حيث أراد أستاذه ومعلمه / نور الدين محمود ، نور الدين الذي لم يشك يوماً في أن ذلك المنبر سيأخذ مكانه من المسجد الأقصى بالقدس الشريف ، ولقد كان هذا المنبر تحفة فنية رائعة تليق بأولى القبلتين ، وثالث الحرمين ، ومسرى محمد النبي الأمين (صلى الله عليه وسلم) .

(4)

الأستاذ والتلميذ

لقد صحب أسد الدين شيركوه في حملاته على مصر ابن أخيه الجندي الشاب صلاح الدين الأيوبي الذي كان في السابعة والعشرين من عمره ، والذي ولد في قلعة تكريت العراقية سنة 532 هـ = 1137 م ، حيث كان والده نجم الدين أيوب حاكماً عليها .

ودخل نجم الدين وأسد الدين في خدمة عماد الدين زنكي حاكم الموصل العراقية ، ولما فتح عماد الدين زنكي بعلبك اللبنانية سنة 534 هـ = 1139 م عهد بها إلى نجم الدين أيوب وعينه والياً عليها .

وفي بعلبك قضى صلاح الدين يوسف بعض سني طفولته ، وتدرب على الحرب والسياسة وتدبير الأمور ، وعندما استولى نور الدين محمود زنكي على دمشق السورية سنة 549 هـ = 1154 م ، يذكر لنا المؤرخ ابن الفرات في تاريخه ، أن الأمير نجم الدين أيوب وولده صلاح الدين يوسف لازما نور الدين وظلا في خدمته ، وكانت مخايل السعادة على صلاح الدين لائحة ، واستجابة تقدمه من حال إلى حال ، والملك العادل نور الدين يرى له ويأمر ، ومنه تعلم صلاح الدين طريق الخير ، وفعل المعروف ، والاجتهاد في أمور الجهاد .

هكذا عاش صلاح الدين تلميذ نور الدين في ذروة عصر الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين ، وتعلم من نور الدين فضائل كثيرة أهمها الاجتهاد في أمور الدين .

وأظهر صلاح الدين كفاءة كبيرة ، وخبرة عسكرية نادرة أثناء مصاحبته لعمه شيركوه في حملاته الثلاث على مصر، عندما اشتد التنافس بين نور الدين والصليبيين من أجل الاستيلاء على مصر , حيث كان نور الدين يدرك جيداً أهمية موقع مصر ودورها كلبنة أساسية في بناء الوحدة الإسلامية .

 

 

***

 

 

كان نور الدين محمود زنكي أستاذاً حقيقياً ، يعرف معدن الرجال ، يربي ، يعلم ، يوجه ، وكان نعم الأستاذ المعلم لصلاح الدين الأيوبي التلميذ النابه الذكي ، علمه الكثير والكثير ، فكان بحق نعم التلميذ .

نعود لنقول : إن المؤرخين القدماء يحلوا لهم دائماً أن يعقدوا مقارنة من عدة وجوه بين الأستاذ نور الدين محمود ، والتلميذ صلاح الدين الأيوبي ، ويقولون أنهما كالعمرين ، أي كأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب ، أو كعمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز (رضي الله عن الجميع) .

وقد تعاقب البطلان وتشابها في روح الصلاح والإصلاح ، ومن العجائب في المصادفة أن الرجلين متقاربان في العمر ، ومدة الولاية .

فسن نور الدين محمود تزيد سنة واحدة عن سن صلاح الدين ، لأن نور الدين ولد في سنة 511 هـ ، وتوفي سنة 569 هـ ، بينما ولد صلاح الدين سنة 532 هـ ، وتوفي سنة 589 هـ ، فيكون عمر نور الدين الذي عاشه 58 عاماً ، وعمر صلاح الدين 57 عاماً .

ونقرأ في كتاب (الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية) لأبي شامة شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي حديثاً مطولاً عن نور الدين وصلاح الدين ، واستعراضاً مستفيضاً لتاريخهما ودولتيهما .

لقد وجد أبو شامة الرجلين في المتأخرين كالعمرين (رضي الله عنهما) في المتقدمين ، فإن كل ثان من الفريقين حذا حذو من تقدمه في العدل والجهاد ، واجتهد في إعزاز الدين أي اجتهاد .

ويضيف أبوشامة : أنهما ملكا بلدتنا ، وسلطانا خطتنا ، خصنا الله تعالى بهما ، فوجب علينا القيام بذكر فضلهما .

ومن هنا عزم أبو شامة على أن يفرد ذكر دولتيهما بكتاب يتضمن التقريظ لهما والتعريف بهما ، فلعله يقف عليه من الملوك من يسلك في ولايته ذلك السلوك ، فلا يبعد أنهما حجة من الله على الملوك المتأخرين ، وذكرى منه سبحانه وتعالى ، فإن الذكرى تنفع المؤمنين .

ويوضح أبو شامة وغيره من المؤرخين الذين كتبوا عن الدولتين النورية والصلاحية ، أنه اتفق أن بين وفاتيهما عشرين سنة ، وبين مولديهما إحدى وعشرين سنة .

وملك نور الدين محمود زنكي دمشق السورية سنة 549 هـ ـ وملكها صلاح الدين الأيوبي سنة 570 هـ ، فبقيت دمشق في المملكة النورية (نسبة إلى نور الدين) عشرين سنة ، وفي المملكة الصلاحية (نسبة إلى صلاح الدين) تسع عشرة سنة ، تمحى فيها السيئة وتكتب الحسنة .

وهذا من عجيب ما اتفق في العمر ومدة الولاية ببلدة معينة لملكين متعاقبين مع قرب الشبه في سيرتيهما ، والفضل المستقدم منهما ، فكانت زيادة مدة نور الدين كالتنبيه على زيادة فضله ، والإرشاد إلى عظم محله ، فإنه أصل ذلك الخير كله .

لقد مهد نور الدين محمود بعدله وجهاده ، وهيبته في جميع بلاده ، مع شدة الفتق ، واتساع الخرق ، وفتح من البلاد ما استعين به على مداومة الجهاد ، فهان على من بعده على الحقيقة سلوك تلك الطريقة .

ويرى بعض المؤرخين الذين كتبوا عن الرجلين أن صلاح الدين كان أكثر جهاداً ، وأعم بلاداً ، وصبر وثابر ، ورابط وتحمل ، وزخر الله له من الفتوح أنفسها ، وهو الذي فتح البلاد المقدسة .

وفي رأينا أن لكل مرحلة تاريخية ظروفها وملابساتها ، وهذه طبيعة حركة التاريخ ، فدور نور الدين محمود في توحيد الجبهة الإسلامية من أجل مواجهة أدعياء حماية الصليب لا يقل بحال من الأحوال عن دور صلاح الدين الأيوبي ، لقد كان نور الدين هو الأستاذ الممهد الذي لولا جهوده ما استطاع صلاح الدين أن يستكمل المسيرة ، وما تمكن من مداومة الجهاد ، وما سهل عليه سلوك هذه الطريقة ، ومن هنا تحتم علينا أن نقيم الدور التاريخي لأي قائد أو زعيم أو مصلح أو مفكر انطلاقاً من الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية المحيطة به .

ويبقى في النهاية أن نور الدين محمود كان نعم الأستاذ الموجه المعلم لصلاح الدين ، ولولا نور الدين ما كان صلاح الدين ...

(5)

طراز فريد

ذكر المؤرخون عن نور الدين محمود أنه كان ذا عقل متين ، ورأي رصين ، وخلق كريم ، وكان مقتدياً بسيرة السلف الصالح (رضوان الله عليهم) ، يقرأ كثيراً عنهم ، كما كان متشبهاً بالعلماء والصالحين .

من رآه شاهد من جلالة السلطة ، وهيبة الملك ما يبهره ، وإذا فاوضه أو حاوره أو ناقشه رأى من لطافته وتواضعه ما يحيره ، وكان متديناً متعبداً ، كثير الصيام والقيام ، له أوراده بالليل والنهار .

كان يأكل من عمل يده ، ينسج تارة ، ويصنع العلب تارة أخرى ، ويلبس الصوف أو الملابس المتواضعة ، ويلازم السجادة والمصحف .

ويقال إن نور الدين محمود كان يعرف بعض العجائز اللواتي يعملن في بيع الأشياء بدمشق وحلب ، وكان يخيط الكوافي ، ويعمل السكاكر (أقفال من الخشب) ، وكان يذهب متخفياً إلى السوق ويعطيها للعجائز سراً ، ويأخذ ثلث ثمنها ويترك الباقي لهن ، دون أن يعرفن من هو ذلك الرجل ، وكان يوم يصوم يفطر من ثمنها .

وذات يوم ذهب إلى السوق ولم يجد إحدى العجائز ، فسأل عنها ، فأشاروا إليه على ابنة أختها ، فتوجه إليها بالسؤال فعرف بوفاتها ، فذهب إلى دارها ، وقدم واجب العزاء إلى أهلها ، كما أنه سعى إلى أن يزوج ابنة أختها الشابة التي كانت ترعاها من أحد خلصائه ، وقام بتجهيزها على نفقته الخاصة ، كما قام برعايتها ورعاية أهلها طوال حياته .

ويحكي لنا شرف الدين يعقوب بن المعتمد أن في دارهم سكرة أي قفل خشبي من عمل نور الدين محمود يتبركون بها ، وكانت هذه السكرة موجودة سنة 650 هـ أي بعد وفاة نور الدين بقرابة ثمانين سنة .

وكان من تدينه وتقواه يشدد في حمل الناس على الدين والتزام حدوده ، وذلك بعيداً عن الغلو والتطرف والتشدد ، متخذاً الدعوة بالتي هي أحسن طريقة وأسلوبا .

كما كان يرى أن أمن الناس على أموالهم وأعراضهم ودمائهم مسئولية الحاكم ، في نفس الوقت الذي يجب على الحاكم أن يحفظ الطرق من اللصوص وقطاع الطريق ، ويمنع بكل السبل الأذى الذي قد يترتب على أي خلل أمني يضر بالناس، قائلاً : إذا كنا نحفظ الطرق من اللصوص ، أفلا نحفظ الدين ، ونمنع عنه ما يناقضه وهو الأصل ؟!

ويروى أن رجلاً اسمه يوسف بن آدم كان يتظاهر بالنُسك والزهد والورع حتى كثر أتباعه ، ثم أظهر بعض البدع التي لا تتفق مع منهج الإسلام ، فادعى كذباً أنه قادراً على شفاء الأمراض ، وحل معضلات الأمور ، وتمادى في غيه فادعى أنه يعلم الغيب ، ويوحى إليه ، فأمر نور الدين بأن يقبض عليه على الفور ، وأنه يركبوه حماراً ، ويطوفوا به في المدينة جميعها ، وينادوا عليه : هذا جزاء من أظهر البدع في الدين ، ثم نفاه من دمشق .

كان نور الدين يقول دائماً : إن الدنيا تهرب ممن يطلبها ، وتطلب من يهرب منها . !!

ولقد ذكر الأمير بهاء الدين علي بن السكري ، وكان من المقربين لنور الدين ، موقفاً طريفاً ذكر فيه مدى حرص نور الدين على الهروب من الدنيا ، وزهده فيها .

قال الأمير : لقد كنت معه يوماً في ميدان القتال ، وكانت الشمس في ظهورنا ، فلما سرنا تقدمنا الظل ، فلما عدنا صار ظلنا وراء ظهورنا ، فأجرى نور الدين فرسه وهو يلتفت وراءه ، وقال لي : أتدري لأي شيء أجري فرسي ، وألتفت ورائي ؟ ، قلت : لا ، قال : قد شبهت ما نحن فيه بالدنيا ، تهرب ممن يطلبها ، وتطلب من يهرب منها . !!

ويعلق المؤرخ شهاب الدين المقدسي على هذه الحادثة بقوله : رضي الله عن ملك يفكر في مثل هذا ، وقد أنشدني بيتين في هذا المعنى :

{مثل الرزق الذي تطلبه

مثل الظل الذي يمشي معـك

أنت لا تدركه متبعاً

فإذا وليت عنه تبعــــك}

لقد كان نور الدين محمود كثير القراءة والإطلاع، وكانت كتب الدين والفقه والتاريخ من أحب الكتب لنفسه ، أضف إلى ذلك حرصه الشديد على حفظ الآثار النبوية ، مواظباً على الصلوات في الجماعات ، عاكفاً على تلاوة القرآن الكريم ، حريصاً على فعل الخيرات في كل الأوقات .

كان عفيف البطن والفرج ، مقتصداً في الإنفاق ، متحرياً في المطاعم والملابس ، لم تسمع منه كلمة فحش لا في رضاه ، ولا في ضجره ، وما سمع منه قط لفظ يخدش حياء الآخرين .

كان أشهى شيء لديه كلمة حق يسمعها ، أو إرشاد إلى سنة يتبعها ، أو إلى طريق خير يسلكه .

كان كثير الابتهال إلى الله تعالى ، كثير الاستغفار في كل الآونة ، يرجو الله في سرائه وضرائه أن يوفقه إلى الخير والصواب والعدل ، ولما فيه صالح الأمة .

ومن أمثلة ذلك في موقعة حارم سنة 559 هـ ، قبل المعركة سجد نور الدين فأطال السجود ، وبكى فأطال البكاء ، وكانت جبهته في التراب ، وجعل يتضرع إلى ربه قائلاً : يا رب ، هؤلاء عبيدك ، وهم أولياؤك (يشير إلى المسلمين) ، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك (يشير إلى أعداء المسلمين) ، فانصر أولياءك على أعدائك ، إنك يا رب إن نصرت المسلمين فدينك نصرت ، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود (يعني نفسه) إن كان غير مستحق للنصر ، اللهم انصر دينك ولا تنصر محموداً ، ومن محمود هذا حتى ينصر .. ؟ !!

وإذا كانت الأعمال بالنيات ، وأن لكل امرئ ما نوى ، كما علمنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فقد كان نور الدين محمود رجلاً حسن النية فيما يقول ، وفيما يفعل ، حتى في الأعمال التي تبدو في ظاهرها لعباً أو لهواً بريئاً لا غبار عليه ، كان نور الدين يأخذها على نية الاستعانة بها في وجه من وجوه الخير أو الصلاح والنفع للأمة .

ولقد كان يثق برجل ورع تقي يسكن الجزيرة العراقية ، وبلغ هذا الرجل أن نور الدين يدمن اللعب بالكرة (كانوا يلعبون الكرة من فوق الحصان بعصا ، وهذه اللعبة تشبه لعبة البولو في عصرنا) ، فكتب إليه معاتباً : ما أظنك تلهو وتلعب ، وتعذب الخيل لغير فائدة دينية ، أو لصالح الناس !!

فكتب إليه نور الدين على الفور : والله ما يحملني على اللعب بالكرة اللهو والبطر ، وإنما نحن في ثغر (حدود العدو) والعدو قريب منا ، وبينما نحن جلوس إذ يقع صوت ، فنركب في الطلب (أي القتال) ، ولا يمكننا أيضاً ملازمة الجهاد ليلاً ونهاراً ، وشتاءاً وصيفاً ، إذ لا بد من الراحة للجند ، ومتى تركنا الخيل في مرابطها صارت جماماً (أي مرتاحة مستطيبة الراحة والكسل) ، لا قدرة لها على إدمان السير في الطلب ، ولا معرفة لها أيضاً بسرعة الانعطاف والطاعة لراكبها في الحرب ، فهذا والله الذي بعثني على اللعب بالكرة .

كان نور الدين حسن الرأي ، بعيد النظر ، كأن فيه عنصراً من عناصر الإلهام والشفافية ، ومن شواهد ذلك : أن ملك الإفرنج وقع في أسر نور الدين ، فأشار الأمراء والمستشارون ببقائه في أسره خوفاً من شره ، فعرض الملك أن يدفع فداءاً كبيراً مقابل إطلاق سراحه ، فطلب منه نور الدين سراً أن يحضر المال ، فأحضر ثلاثمائة ألف دينار ، فأطلق نور الدين سراحه على الفور ، وتوجه الملك إلى بلاده ، وما كاد يبلغها حتى مات .

وكأن نور الدين لم يجد أي خطورة في إطلاق سراح الملك الإفرنجي ، فأراد أن ينتفع بالمال لصالح المسلمين وتنمية البلاد ، وزاد ربه له في الخير فأهلك عدوه قبل أن يستقر في بلاده .

وعرف الأمراء القصة فسارعوا إلى نور الدين يطلبون سهمهم في مال الفدية ، فقال لهم نور الدين : ما تستحقون منه شيئاً ، لأنكم نهيتم عن الفداء ، وقد جمع الله تعالى لي في الحسنيين ، الفداء وموت العدو ، وخلاص المسلمين منه . !!

ثم بنى نور الدين بذلك المال المستشفى الخيري الكبير الذي خصصه لعلاج الفقراء والمحتاجين ، ودار الحديث الكبرى الذي اهتم فيه بتعليم الحديث النبوي المطهر بجميع علومه وفروعه لكل من يطلبه من المسلمين ، وكذلك بنى المدرسة النورية الكبرى بدمشق لتعليم العلم لجميع أهل الإسلام .

ومما يرتبط بهذا الموضوع أن نور الدين محمود كان يعود من معاركه ضد الصليبيين بالأسرى الكثيرين من الفرنجة ، حتى قيل : إن الأسير كان يباع في سوق حلب السورية بدينار واحد .

وفادى نور الدين الملوك الإفرنج ليستعين بفدائهم على إتمام ما تتطلبه البلاد من إصلاحات وتعميرات ، وتحقيق الخير لكافة الناس .

وكان يبني بهذه الأموال المدارس والمستشفيات ، ويعمر الأرض الخراب ، ويعطي منها للفقراء والمساكين والأيتام والأرامل وأهل السبيل ، وكل صاحب حاجة .

كما كان يعمل على توفير فرص العمل للشباب في أنحاء البلاد ، ويساعد الناس من أجل أن يزوجوا أولادهم عندما يصلوا إلى سن الزواج ، كما كان يكرم المسنين إكراماً خاصاً ، ويوفر لهم العلاج والرعاية والراحة .

نعود إلى موضوع الأسرى ، يقال: إن نور الدين استفتى الفقهاء في موضوع الأسرى ، فقالت جماعة منهم : يقتل جميع الأسرى لاتقاء شرهم ، وقالت جماعة أخرى : نقبل منهم الفداء .

تدبر نور الدين الأمر جيداً ثم أخذ بالرأي الثاني ، وهو الفداء ، وكان دائماً يطلب من الذين يشترون الأسرى حسن معاملتهم ، والرفق بهم ، وتحريرهم إن قدروا على ذلك ، كما كان يطلب منهم كذلك عدم تكليفهم بما لا طاقة لهم به ، ويقول لهم : ارحموا عزيز قوم ذل ، فهم أخوة لنا في الله مهما فعلوا .

وأخذ نور الدين ذات مرة من بعض الأسرى الفرنجة فداء لهم : ستمائة ألف دينار معجلة ، وخيلاً ، وسلاحاً ، وغير ذلك ، واستغل هذا كله في أعمال الخير وإصلاح البلاد والعباد .

وقد أقسم ذات مرة أن جميع ما بناه من المدارس ، والملاجئ ، والتكايا ، والأوقاف ، وأماكن إقامة الجند وغيرها من فداء الأسرى .

يؤكد التاريخ أن نور الدين محمود كان على درجة كبيرة من الذكاء ، وكان صاحب حيلة بارعة ، رغم أنه كان طيب القلب ، هادئ الطباع ، لا يتكلم كثيراً ، وتجلت هذه الحيلة في براعته من أجل اكتساب أعدائه الذين يتميزون بالعناد والشراسة .

ومن أمثلة ذلك : أن (مليح بن ليون) كان ملك الأرمن ، وكانت بلاده على درجة كبيرة من الحصانة يصعب الوصول إليها أو مهاجمتها ، واعرة المسالك ، لها قلاع مستعصية على الاقتحام ، وليس لنور الدين إليها سبيل .

كان في إمكان مليح هذا أن يهاجم بلاد الإسلام في أي وقت يريد منطلقاً في ذلك من حصونه المنيعة ، وهو آمن تماماً ، وعليه فلم يكن هناك بد من الحيلة معه ، ومصانعته بقدر الإمكان حتى يأمن المسلمون شره أو غدره ، فظل نور الدين يستميله ويصادقه ويعطيه بعض العطايا ، حتى خضع له ، وصار يستخدمه ، ويقاتل به الفرنجة .

لم يكن نور الدين بالماكر أو الخبيث ، ولم يكن المكر أو الخبث طبعاً فيه ، بل كان رجلاً واضحاً ، صريحاً ، مباشراً ، صادقاً ، ولكن شيئاً من الدهاء مع العدو لا يضر على الإطلاق ، وإن كان له فائدة من جانب أو آخر .

كان نور الدين رجلاً كريماً جواداً ، يهب الكثير ، ويمنح الجليل ، ولقد أهديت إليه ذات يوم من مصر عمامة مذهبة بالقصب الرفيع ، ولم يحضروها عنده ، واكتفوا بوصفها له ، فلم يهتم برؤيتها ، وبينما هو جالس إذ أقبل عليه شيخ الصوفية في زمانه / عماد الدين أبو الفتح بن حمويه ، فأمر له بها ، فقالوا له : إنها لا تصلح لهذا الرجل ، ولو أعطي غيرها كان أنفع له !، وكأنهم إستكثروها عليه ، فقال : أعطوها له ، فإني أرجو أن أعوض عنها في الآخرة .

وأخذها الشيخ / ابن حمويه فباعها في بغداد بستمائة دينار ، وقيل : إنه باعها أو بعثها لتباع في همذان بألف دينار ، المهم أنه تصدق بها كلها على الفقراء والمساكين .

وهناك مواقف كثيرة مماثلة جاد فيها نور الدين بالكثير من المال والهبات على الناس باختلاف طبقاتهم ، وبالذات أهل العلم والفقراء والمحتاجين .

كان نور الدين يحب العدل والعدالة ، مردداً دائماً : أن العدل أساس الملك ، لذلك كان يحرص على الإنصاف حتى من نفسه ، وقد حدث أن شكاه أحد أفراد الرعية ، إلى القاضي / كمال الدين بن الشهرزوري الذي عرف عنه الجدية وتطبيق العدالة بحسم وشدة على الجميع ، فأرسل القاضي إلى نور الدين يستدعيه لحضور الجلسة ، فوافق نور الدين مرحباً ، وكتب رسالة إلى القاضي طالباً منه أن يعامله في أثناء المقاضاة كخصمه تماماً دون أدنى تفرقة ، فطمأنه القاضي على ذلك .

وبحث القاضي /كمال الدين القضية ، وكانت حول التنازع على ملكية بعض العقار ، وتأكد له بالأدلة الثبوتية أن هذا العقار ملك لنور الدين ، وأصدر القاضي حكمه بذلك في جلسة علانية ، حضرها المدعي والمدعى عليه .

وهنا قال نور الدين لجمهور الحضور : اشهدوا أنني قد وهبت له هذا الملك الذي قد حاكمني عليه ، وهو له دوني ، وقد كنت أعلم علم اليقين أنه لا حق له عندي ، وإنما حضرت معه مجلس القضاء احتراماً للعدل والعدالة والقضاء ، ولئلا يظن أني ظلمته ، فحيث ظهر أن الحق لي ، وهبته له . !

لقد كان نور الدين إذا أرسل إليه القاضي يستدعيه ليحضر قضية ضده ، لا يتأبى عليه ، بل يذهب إليه على الفور ، وهذا أكبر دليل على تقديره للعدل والعدالة ، وعنوان واضح على عدم تجبره أو تكبره ، فهو لا يتعالى على عامة الرعية ، بدعوى أنه الملك الحاكم .

(6)

تكليف لا تشريف

كان نور الدين محمود ينظر إلى الحكم على أنه تكليف لا تشريف ، كما كان يرى أن الحكم هو خدمة الناس جميعاً لا تحكم فيهم .

كان يشعر دائماً بأنه راع سيسأله الله تعالى عن رعيته يوم الموقف العظيم ، وإذا أصاب الأمة الإسلامية هم أو غم ، شعر بهذا على الفور ، وشغل نفسه به ، وربما عكر عليه صفو حياته ولذة عيشه .

ومن أمثلة : ذلك أنه لما نزل الإفرنج بمدينة دمياط المصرية حزن نور الدين من ذلك واهتم له ، وحدث أن قرأوا عليه حديثاً لرسول الله (_صلى الله عليه وسلم) جاء فيه ذكر لتبسم الرسول ، فطلبوا من نور الدين أن يبتسم على عادة أهل الحديث من التبسم عند ذكر الحديث تشبهاً بالرسول الكريم ، وبهذا تتم سلسلة التبسم عند الذين رووا هذا الحديث وسمعوه ، لأن كل راو له قبل ذلك قد تبسم عند روايته وسماعه .

فقال نور الدين : إني لأستحي من الله تعالى أن يراني مبتسماً والمسلمون محاصرون في دمياط المصرية . !

ويروى أن شيخاً من الذين درس وتعلم عليهم نور الدين رأى في ليلة جلاء الإفرنج عن دمياط ، رأى في منامه النبي محمد (صلى الله عليه وسلم ) ، فقال له النبي : إعلم نور الدين أن الإفرنج قد رحلوا عن دمياط في هذه الليلة .

فقال الشيخ : يا رسول الله ربما لا يصدقني فاذكر لي علامة يعرفها ، فقال النبي : قل له بعلامة ما سجدت على تل حارم ، وقلت : يارب انصر دينك ، ولا تنصر محموداً ، من هو محمود هذا حتى ينصر ؟ ! .

فانتبه الإمام ، وتوضأ ، وصلى لله شكراً ،وخرج على الفور إلى المسجد ، فوجد نور الدين يتعبد ويتهجد كعادته كل ليلة ، فاقترب منه وأخبره بالمنام ، وذكر له العلامة ، ولم يذكر لفظة (من هو محمود هذا ؟ !) ، فقال له نور الدين : أذكر العلامة كلها ، وألح في ذلك ، فقال الرجل الكلمة ، فبكى نور الدين ، وصدقت الرؤيا ، فجلا الإفرنج عن دمياط المصرية في ذلك التاريخ .

ومما يؤكد حرص نور الدين محمود على نشر العدالة والأمن بين جميع أفراد الأمة ، أنه بنى لأول مرة داراً أطلق عليها (دار العدل) ، لمحاكمة الكبراء الذين يستغلون سلطتهم أو وظيفتهم أو مكانتهم الاجتماعية أو قرابتهم من الحاكم في ظلم الناس ، والبغي عليهم ، وتحقيق منافعهم الشخصية .

وكان سبب بناء هذه الدار أن مقام نور الدين طال في دمشق العاصمة السورية ، وأقام بها أمراؤه ، وفيهم الأمير / أسد الدين شيركوه ، الذي يعتبره البعض الذراع اليمنى لنور الدين محمود ، وهو من أكثر الأمراء قرباً منه ، وقد عظم شأنه ، وعلى مكانه ، حتى صار كأنه شريك لنور الدين في الملك ، في نفس الوقت الذي اقتنى الأمراء الأملاك ، وتعدى بعضهم على من يجاوره في القرى أو غيرها ، وبمعنى آخر تحول شيركوه والأمراء إلى مراكز قوى دون رادع لها .

فكثرت الشكاوى من الناس إلى القاضي / كمال الدين بن الشهرزوري الذي عرف عنه الحسم والحزم ، فأنصف بعضهم من بعض قدر إمكانه ، ولم يقدر على إنصاف الناس من شيركوه وأتباعه لشدة بأسه وعلو مكانته ، مما اضطره إلى أن يعرض الأمر برمته على نور الدين ، الذي أمر على الفور ببناء دار العدل ليفصل هو بنفسه داخلها في القضايا التي يتحرج غيره من القضاة الحكم فيها .

وسمع شيركوه بذلك ، وفهم الهدف من بناء دار العدل ، فسارع بإحضار نوابه وأتباعه ، وقال لهم : اعلموا أن نور الدين ما أمر ببناء هذه الدار إلا بسببي وحدي ، وإلا فمن هو الذي يمتنع عن القاضي / كمال الدين ؟ ! .

وواصل شيركوه كلامه لأتباعه قائلاً : والله لئن أحضرت إلى دار العدل هذه بسبب أحدكم لأصلبنه ، فامضوا إلى كل من بينكم وبينه منازعة في ملك ، فافصلوا في الحال معه ، وأرضوه بأي شئ أمكن ، ولو أتى ذلك على جميع ما بيدي .

فقالوا له : إن الناس إذا علموا هذا اشتطوا وغالوا في الطلب . فقال شيركوه : خروج أملاكي عن يدي أسهل على نفسي وأهون من أن يراني نور الدين بعين أبي ظالم ، أو يساوي بيني وبين أحاد العامة في الحكومة . ففعلوا ما أراد على الفور .

وعندما تم بناء دار العدل جلس فيها نور الدين للفصل في الخصومات وبجواره كبار القضاة و الفقهاء ، وكان يجلس في الأسبوع يومين ، وبقي كذلك مدة ، فلم يحضر أحد من الناس يشكو من أسد الدين شيركوه أو من غيره من الأمراء ، فقال نور الدين للقاضي / كمال الدين : ما أرى أحداً يشكو من شيركوه أو من الأمراء ، فذكر له كمال الدين ما حدث من شيركوه ، فسجد نور الدين لله شكراً ، وقال : الحمد لله تعالى الذي جعل أصحابنا ينصفون من أنفسهم قبل حضورهم عندنا .

لقد كان نور الدين محمود حريصاً كل الحرص على نشر العدل في أرجاء دولته ، كما كان حريصاً على معرفة المظالم التي تقع في أي مكان من الدولة ، حتى يتتبعها بالبحث والدرس والإنصاف ، فتحس الأمة بالعدل والأمن والرعاية ، وتحس أن الحاكم يشعر بها ، ولا يعيش في برج عاجي معزولاً عنها .

يروى أن (شاذبخت) و (سنقرجا) الخادمين عند نور الدين كانا واقفين في خدمة نور الدين ، وقد صلى صلاة المغرب ، وأتبعها بسنتها ، وقرأ بعد التسبيح ما تيسر له من آيات القرآن الكريم ، ثم أخذ يفكر في عمق ، فتعجب الخادمان من ذلك , وزاد عجبهما حينما رأياه ينكث بإصبعه في الأرض ، وقالا في نفسيهما : في أي شيء يفكر نور الدين ؟ ، هل يفكر في عائلته ؟ ، أو في وفاء دين عليه ؟ .

وكأنما فطن نور الدين لما يدور في خلدهما ، فرفع رأسه نحوهما ، وقال لهما: ما تقولان في نفسيكما ؟ ، فأجابا : عجبنا من إفراطك في الفكر ، وقلنا : يفكر في عائلته أو في دين عليه ، فقال نور الدين : والله إنني أفكر في وال وليته أمراً من أمور المسلمين ، فلم يعدل فيهم ، أو في من يظلم المسلمين من أعواني ، وأخاف أن يطالبني الله تعالى بذلك يوم الحساب .

ثم وجه نور الدين كلامه مرة أخرى إلى الخادمين قائلاً : فبالله عليكما ـ وإلا فخبزي عليكما حرام ـ لا تريان قصة ترفع إلي ، أو تعلمان مظلمة ، إلا وأعلماني بها ، وارفعاها إلي على الفور .

كان نور الدين محمود حريصاً كل الحرص على صيانة أموال المسلمين ، يكره الإسراف والتبذير ، ويعلم جيداً حرمة المال العام .

يروى أن زوجته أرسلت إليه تشكو قلة النفقة ، وتطلب المزيد منها لتوسع على نفسها وعلى أسرتها ، فاحمر وجهه ، وقال لرسولها الذي جاء يطلب هذا الطلب : من أين أعطيها ؟ ، أما يكفيها مالها الخاص ؟ ، والله لا أخوض نار جهنم في هواها ، إن كانت تظن أن الذي بيدي من الأموال لي فبئس الظن ، وإنما هي أموال المسلمين ، مرصدة لمصالحهم وخيرهم ، ومعدة لأي هجوم من عدو الإسلام ، وأنا مجرد خازن عليها ، فلا أخونهم فيها أبداً .

وصمت نور الدين قليلاً ثم قال : لي بمدينة حمص السورية ثلاثة دكاكين ملكاً ورثتها عن والدي رحمه الله ، وقد وهبتها إياها فلتأحذها ، ولكن قل لها : إن الذي يؤخذ منها إيجاراً قليلاً .

ومن المعروف لنا أن زوجته كانت على درجة عالية من التقوى والصلاح ، وكانت تعطف على الفقراء والمساكين ، ولم يعرف عنها أي نوع من الإسراف أو التبذير .

ومن حسن رعايته للأمة ومصالحها ، أنه كان يحسن التصرف في الأوقاف ، فيلحق بعضها ببعض لتزداد استثماراتها ، وكان يرى أنه طالما في ذلك خير المسلمين ومنفعة الأمة فلا ضرر ولا ضرار فيه .

ومن أمثلة ذلك : أنه أضاف إلى أوقاف (المسجد المعلق) الأوقاف التي لا يعرف واقفها ، ولا تعرف شروط أصحابها فيها ، وجعلها قسماً أو إدارة واحدة ، تسمى (مال المصالح) ، ورتب لذوي الحاجات من الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام وغيرهم راتباً شهرياً يقيهم مذلة سؤال الناس ، وكان هذا الراتب يزداد في المواسم والأعياد .

كما أن نور الدين اهتم بالأطفال والطفولة والأمومة ، وكان يعمل دائماً على رعاية الأطفال ، وبالذات الأيتام منهم ، ويطلب من الناس ومن أولياء الأمور ضرورة تعليم الأطفال علوم الدنيا والدين ،والرفق بهم ، وتعليمهم صالح الأخلاق ، كما أنه فرض لليتامى منهم من الأوقاف فرضاً شهرياً ، ودعا كل قادر من المسلمين أن يساعدهم ويعطف عليهم ويحسن إليهم .

كان نور الدين صاحب ورع وتقوى ، ويخشى الحرام ، ويتباعد عن مواطن الريب والشكوك ، وقد دخل بيته مرة فرأى فيه مالاً كثيراً ، فسأل عن مصدره ، فقالوا له : بعث هذا القاضي كمال الدين بن الشهرزوري من فائض الأوقاف ، مؤكداً على أنه لم يجد فقيراً أو محتاجاً في طول البلاد وعرضها في حاجة إلى المال .

فقال : ردوه الآن إليه ، وقولوا له : إنما رقبتي رقيقة ، لا أقدر على حمله غداً ، وأنت رقبتك غليظة تقدر على حمله ، فهذا المال مال المسلمين يجب أن يحفظ لمنافعهم في بيت مالهم .

كما كان يضرب بيد من حديد على المفسدين ، وعلى المنفلتين ، وعلى المرتشين ، واضعاً في اعتباره أنه في منصبه مجرد خادم للناس ، وإن قوته مستمدة من الأمة ، فإذا ناله تكريم أو تعظيم بسبب هذا المنصب ، وجب أن يعود الفضل فيه إلى الأمة التي هي مصدر جميع السلطات .

وقد عبر عن ذلك تعبيراً عملياً رائعاً ، فكان إذا جاءته هدايا من الملوك أو غيرهم لا يتصرف في شيء منها ، بل يخرجها إلى مجلس كبير القضاة ، ويطرحها للبيع في مزاد علني ، ويحصل ثمنها ، ثم يصرفه في عمارة المساجد المهجورة ، وبهذا استطاع أن يصلح قرابة مائة مسجد في دمشق السورية ، أن يقف عليها وقوفاً مختلفة لصالح الناس .

والمسجد في عهده لم يقتصر على كونه دوراً للعبادة ، أو مدرسة للعلم والتعلم ، بل كان يلعب دوراً اجتماعياً في حل مشاكل الناس ومساعدتهم ، ذلك بالإضافة إلى الدور التربوي في الإرشاد والتوجيه من أجل الرقي والتقدم .

كان نور الدين يحذر من فرض الضرائب أو المكوس على الناس ، حتى لا يرهقهم ذلك ، ويعوق قدرتهم على العمل والإنتاج والحياة الآمنة المستقرة .

ويروى أن وزيره / موفق الدين خالد بن القيسراني ، رأى نور الدين في منامه يغسل ثيابه ، وذكر ذلك لنور الدين ، الذي فكر فيه جيداً ، ثم فهم أن هذا رمز إلى ضرورة إزالة ما يرهق الناس من ضرائب ومكوس ، فأمر بإسقاطها على الفور ، وكتب منشوراً عاماً بذلك ، نادى به المنادي .

وقال لوزيره القيسراني : هذا تفسير منامك ، الضرائب تكون على الأغنياء والأثرياء ، أما الفقراء فأولى بنا أن نساعدهم ، ونقدر ظروفهم .

ونور الدين كان دائماً يخشى أن يحاسبه ربه سبحانه وتعالى على ما كان موضوعاً على الناس من ضرائب ، فكان يدعو ربه ويقول : الهم ارحم العشار والمكاس .

وبعد أن أبطل المكوس في جميع أرجاء الدولة ، طلب من الناس أن يسامحوه على ما جمعه منهم في الماضي ، قائلاً لهم : والله ما أخرجته إلا في جهاد عدو الإسلام ، وكأن نور الدين يعتذر بذلك عن أخذها منهم .

(7)

إصلاح من الداخل

منع نور الدين بيع الخمور في دولته ، وضرب بيد من حديد على صانعها ، وبائعها ، وشاربها ، كما منع أي نوع من المفترات أو المخدرات أو المسكرات في أنحاء الدولة .

وأظهر السنة وأمات البدعة ، كما بنى المدارس في حلب السورية وأوقف الأوقاف العديدة لصالح الفقراء والمساكين وأهل العلم و المتعلمين .

وعندما فتح دمشق ضبط أمورها ، وحصن أسوارها ، وبنى بها المدارس والمساجد والمستشفيات ، وأصلح طرقها ، ووسع أسواقها ، ومنع من أخذ ما كان يؤخذ من أهلها من المغارم ، ونشر الأمن والآمان في ربوعها .

ومن المستشفيات التي بناها مستشفى عظيم جداً ، جعله لعلاج الفقراء بالمجان ، أياً كانوا مسلمين أو غير مسلمين ، كما بنى الكتاتيب لتعليم الأيتام وغير القادرين ، وأجرى عليهم ، وعلى معلميهم الجرايات الوافرة ، وبنى مدرسة أو دار لتعليم الحديث النبوي الشريف بدمشق السورية ، وهو بحق أول من بنى داراً متخصصة في تدريس علم الحديث .

كما أمر نور الدين بإكمال سور المدينة النبوية المطهرة على صاحبها الصلاة والسلام ، واستخرج عين الماء التي بأحد ، وكانت قد دفنتها السيول ، وفتح سبيل الحجاج من بلاد الشام إلى الأراضي الحجازية موفراً لهم كل ما يحتاجون من طعام وشراب ودواب وأمن وأمان .

لقد كسر الفرنجة ، وكسر الأرمن ، والتاريخ مازال يذكر دوره وجهده في موقعتي (حارم) و (بانياس) ، كما فتح مصر وطهرها من أصحاب التيارات الهدامة التي لا تتفق مع سماحة واعتدال وعقلانية الإسلام ، وانتزع من أيدي أدعياء حماية الصليب الفرنجة أكثر من خمسين مدينة ، وحصناً في بلاد الشام ، وكان يعتزم ويخطط بجدية وعزم ليحرر بيت المقدس الشريف من الاحتلال الصليبي ، ولكن الأجل لم يمهله لتحقيق تلك المهمة الجليلة .

وبنى جامعاً كبيراً في الموصل العراقية ، إليه النهاية في الحسن والإتقان ، وبنى جامعاً في حماة السورية على نهر العاصي هو من أحسن الجوامع بناءاً ، وأجملها منظراً .

كان انحياز نور الدين الكامل للفقراء وغير القادرين ، لذلك أوقف وقوفاً عديدة على المرضى والمحتاجين ، كما أوقف وقوفاً على معلمي ومحفظي ومفسري ومدرسي القرآن الكريم ، والخط العربي الجميل ، وساكني بلاد الحرمين الشريفين ، وبنى المساكن للجنود ، وأقام الجسور ، والخانات (الاستراحات والفنادق والمحال) ، وجدد كثيراً من مجاري السيول ، وأنشأ مكتبات كثيرة ، زودها بألاف مؤلفة من الكتب داعياً الناس إلى العلم والتعلم والاطلاع على ما فيها من علوم ومعارف ، حتى يستنيروا ويتقدموا .

ويذكر التاريخ لنا أنه في سنة 569 هـ ، كلف نور الدين مساعديه في هذه السنة بإفادة الألطاف ، وزيادة الأوقاف ، وتكثير الصدقات ، وتوفير النفقات ، وكسوة النسوة والبنات ، ورعاية الأيتام ، ومساعدة الأرامل ، وإغناء الفقراء من الرعية قدر الإمكان ، وإنجادهم من الحاجة ومزلة الطلب ، وعون الضعفاء في كل مكان .

ومع عدله وإصلاحه وتقواه كان يخاف ربه سبحانه وتعالى ، ويتواضع له كل التواضع ، وكان يطلب من الخطباء أن يدعوا له من فوق المنابر بهذه الصيغة : اللهم أصلح عبدك ، عبدك الفقير ، الفقير دوماً إلى رحمتك وإلى رضاك ، الخاضع دوماً لهيبتك ، المعتصم دوماً بقوتك ، المجاهد في سبيلك ، المرابط لأعداء دينك ، أبا القاسم محمود بن عماد الدين زنكي .

إذن ما كان يقوم به نور الدين من إصلاح بهدف تحسين أحوال الناس في كل أرجاء دولته ، لا يقل بحال من الأحوال عن ما كان يقوم به من جهاد من أجل الوحدة الإسلامية ، ومن أجل تحرير بلادنا من براثن أعداء حماية الصليب ، فالإصلاح من الداخل يقينا شر الهيمنة والاستغلال ، يقينا شر الذوبان في الآخر ، ويجعلنا نحافظ على ذاتيتنا وهويتنا انطلاقاً من ثوابتنا وقيمنا وأخلاقنا الإسلامية . (8)

العلم والطريق إلى النهضة

كان نور الدين محمود محباً للعلم والمعرفة ، ويرى أن العلم أساس النهضة والنهوض ، وهو كما علمنا الإسلام فرض عين على كل مسلم ومسلمة ، وعلينا أن نطلبه في أي مكان من الأرض .

كما كان محباً للعلماء والصوفية ، كان يكرمهم ويحتفل بهم ويهبهم ما تيسر له ، وكان الأمراء وقادة الجيش يحسدون أهل العلم على قربهم من نور الدين محمود ، وكانوا يحاولون أحياناً أن يوغروا صدره من جهتهم فلا يستطيعون ذلك .

ونقرأ طائفة من المواقف التي أوردها أهل التاريخ الذين كتبوا عن نور الدين ، تبرهن على ذلك وتؤكده ، ومن هؤلاء المؤرخ / أبو شامة في كتابه (الروضتين) ، حيث يذكر لنا العديد من مظاهر تكريم نور الدين لأهل العلم والعلماء .

وأحب أن أوضح هنا أن الصوفية الذين نقصدهم والذين أحبهم نور الدين وكان يقربهم منه ، هم أهل العلم والتقوى والصلاح ، الذين يجاهدون في سبيل الله تعالى حق جهاد ، ويسعون لنشر العلم والأخلاق الفاضلة والحق والخير ، الذين يسعون للصلاح والإصلاح بين الناس ، بعيداً عن الدجل والبدعة والشعوذة والخزعبلات التي لا تتفق مع العقل السليم والمنطق المستقيم ، هؤلاء الذين يلتزمون بتعاليم الله تعالى كما وردت في كتابه المجيد ، وبسنة رسوله الهادي البشير (صلى الله عليه وسلم) .

وقد أشرنا من قبل إلى قصته مع أحد العلماء ، حين غلب عليه أن نور الدين محمود يعذب الخيل باللهو ولعب الكرة بغير فائدة دينية ترتجى ، وقد تقبل نور الدين هذا النقد بصدر رحب ، ورد عليه بالتي هي أحسن ، موضحاً حقيقة الأمر ، وهذا هو سلوك الحاكم الحق الذي لا يضيق بالنقد ، ويتقبل الرأي الأخر ، ويستمع في رحابة صدر وعقل إلى أهل الخبرة والكفاءة ، ليصل إلى بر الأمان بأمته .

كما ذكرنا لك من قبل إيثاره الشيخ / عماد الدين أبو الفتح بن حمويه ، بعمامة ثمينة حملت إليه من أرض مصر المحروسة ، وكأنه أدرك في سريرته أن أعطاء العمامة للشيخ الطيب فيه الخير كل الخير ، وبالفعل باع الشيخ العمامة ، وتصدق بثمنها على المحتاجين .

ويروى أن صبياً جاء إلى نور الدين وهو يبكي بكاءاً شديداً ، ولما استوضح نور الدين الأمر من الصبي ، عرف منه أن أباه قد جبس لعدم دفعه أجرة حجرة من حجر الوقف ، والآن أسرته تجلس في العراء ، تفترش الأرض ، وتلتحف السماء .

فسأل نور الدين وزيره عن أمر الصبي وأسرته ، فأخبره أنه ابن الشيخ أبي سعد ، وهو عالم فاضل زاهد في الدنيا ، يسكن مع أسرته في حجرة الوقف ، وليست له القدرة على دفع إيجار الحجرة ، وقد استصدر وكيل الوقف حكماً فورياً بطرده من الحجرة ، وحبسه لاجتماع أجرة سنة كاملة عليه .

فسأل نور الدين : وكم أجرة السنة ؟ ، فقالوا له : مائة وخمسون قرطاساً ، فسألهم عن الرجل وسيرته ، فأكدوا له أنه حسن السيرة ، طيب الأخلاق ، فقيهاً ، غزير العلم ، إلا أنه شديد الفقر .

فما كان من نور الدين أن رق قلبه ، وقال لوزيره : نحن نعطيه كل سنة هذا القدر ليصرفه إلى أجرة الحجرة ، ويقعد فيها .

ووجه كلامه لوزيره : أليس من واجبنا أن نوفر للناس المأكل والمشرب والمسكن والحرفة المناسبة ؟ ! ، ثم رفع ووجهه إلى السماء قائلاً : اللهم ساعدني على ذلك .

ثم أمر بإخراج الشيخ من محبسه على الفور ، وهو يقول : العلماء هم مصابيح الأمة ، ومن واجبنا أن نرعاهم ونكرمهم حتى يتمكنوا من إعطاء نورهم للأمة .. ثم أصدر قراره بألا يطرد أحد من مسكنه بعد اليوم .

فوصل ما حدث وما جرى بشأن الشيخ إلى الناس ، فعمهم السرور والفرح والانشراح .

وفي سنة 564 هـ ورد على نور الدين شيخ الشيوخ / عماد الدين أبو الفتح بن حمويه والذي أعطاه العمامة التي جاءت له من مصر ، وباعها وتصدق بثمنها ، فأمر بتعينه على مشيخة المشايخ ، ورغبه في أن يقيم في أرض الشام معززاً مكرماً ، فشكره الشيخ معتذراً عن قبول المنصب في أدب ولطف ، قائلاً : إنني أريد السياحة في بلاد الله بين خلق الله ، أعلمهم ، وأرشدهم ، وأدعوهم إلى طريق الحب والحق والخير والجمال ، طريق القرآن الكريم ، طريق السنة النبوية السمحاء ، فلعلي أوفق في ذلك .

فوافقه نور الدين وشكره مؤكداً له أن هذا هو دور العالم العامل ، ودعا له بالسداد والتوفيق .

وذات يوم قالت طائفة من الأمراء والأعوان لنور الدين : إن لك في البلاد إدارات كثيرة ، وصلات عظيمة للفقهاء والفقراء والقراء والعلماء ، فلو استعنت بها في ظروفنا الاقتصادية العصيبة التي تمر بها البلاد لكان ذلك أحسن وأمثل .

فغضب نور الدين من هذا الرأي ، وقال : والله إني لأرجو بأؤلئك النصر من عند الله ، فإنما نرزق وننصر بضعفائنا ، كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عني ، وأنا نائم في فراشي ، بسهام لا تخطئ ، وأصرفها إلى من يقاتل عني إذا رآني بسهام قد تخطئ وتصيب ، ثم أن هؤلاء القوم لهم نصيب معلوم في بيت المال أصرفه إليهم ، كيف أعطيه لغيرهم ؟

ونظر نور الدين إليهم قائلاً : أليس من واجب الأمراء والأثرياء أن ينفقوا من أموالهم المكنوزة لمساعدة الأمة في جهادها ، وتجهيز جيوشها ، وتنمية عمرانها ، لقد كونوا ثرواتهم من خير هذه الأمة ، أليس أولى بهم تقديم العون ، بدلاً من هؤلاء الضعفاء ؟! . فسكتوا بعد أن أفحمهم ، ولم يردوا عليه .

وروي أن نور الدين بنى العديد من نقاط الحدود وحصنها ، كما بنى أماكن لإقامة العلماء والفقراء ، وتكفل بكسوتهم وإطعامهم ورعايتهم هم وأولادهم ، ووقف عليهم الوقوف الكثيرة ، وأدر عليهم الإدارات الصالحة ، وكان يحضر المشايخ عنده ، ويقربهم ويدنيهم ، ويقوم لهم تحية واحتراماً مذ تقع عينه عليهم ، ويعانقهم بعد أن يصافحهم ، ويجلسهم معه على سجادته ، ويقبل عليهم بحديثه .

وكذلك كان نور الدين يعظم ويوقر أهل العلم والمعرفة ، ويحترمهم ويجلهم ، ويقدر رأيهم وفكرهم ، ويجمعهم عند بحث أو نظر أي مسألة من المسائل التي تقابله في السياسة أو الاجتماع أو الحرب أو الدين ، ويأخذ برأيهم ومشورتهم في كل كبيرة وصغيرة ، وهو يردد دائماً : ما خاب من استشار ، وفوق كل ذي علم عليم .

لذلك قصده العلماء من كل حدب وصوب ، من كل أرجاء المعمورة الإسلامية ، من خراسان والسند والهند ومصر وغيرها وغيرها ، وبالجملة كان أهل الدين والعلم والفكر عنده في أعلى محل ، وأعظم مرتبة ، وكان أمراؤه يحسدونهم على ذلك ، ويقعون عنده فيهم فينهاهم ويزجرهم ، وإذا نقلوا عن عالم منهم عيباً ، يقول : ومن المعصوم منا ؟ ، إنما الكامل من تعد ذنوبه ! .

ولقد حسد بعض الأمراء قطب الدين النيسابوري الفقيه الشافعي ، وكان نور الدين قد استقدم هذا الفقيه من خراسان ، وبالغ في إكرامه والإحسان إليه ، فحسده هذا الأمير ، فنال منه يوماً عند نور الدين ، فقال له نور الدين : يا هذا ، إن صح ما تقول فله حسنة تغفر له كل زلة تذكرها ، وهي العلم والدين ، وأما أنت وأصحابك ففيكم أضعاف ما ذكرت ، ولكن ليست لكم حسنة تغفرها ، ولو عقلت لشغلك عيبك عن عيوب غيرك ، وأنا أحتمل سيئاتكم مع عدم حسناتكم ، أفلا أحتمل سيئة هذا الرجل ـ إن صحت ـ مع وجود حسنة ؟ ! .

ويواصل نور الدين كلامه إلى الأمير الحسود قائلاً : على أني والله لا أصدقك فيما تقول ، فلله الحمد والشكر أنني أتابع وأتقصى ـ قدر طاقتي وإمكاني ـ كل ما يحدث ويدور فوق أرض هذه البلاد ، فأنا ليس في غفلة أيها الأمير ، وإن عدت إلى الانتقاص من قدر قطب الدين أو غيره من عباد الله ، أو قمت بالإساءة إليهم ، لأؤد بنك .

فكف الأمير عن سعايته بالشر ولم يعد إلى ذلك مرة أخرى ، ويعلق لنا المؤرخ / ابن الأثير في تاريخه على هذه القصة بقوله : هذا والله هو الإحسان ، والفعل الذي يجب أن يكتب على العيون بماء الذهب .

ونفهم من هذه الحادثة أن نور الدين كان لا يفتح أذنيه لكل من هب ودب ، كان يرفض الوشاية والنميمة ، فاهماً كل الفهم ما قد يبدو من النفوس المريضة الحاسدة ، بارعاً في سد الباب على السعي في الشر والفساد ، حريصاً على أن يعرف كل كبيرة وصغيرة تدور في بلاده .

ويؤكد المؤرخون على أن نور الدين كان كثير النزول إلى الناس ليعرف أحوالهم وأمورهم ، ويستمع إليهم ، يعرف ما الذي يشكون منه ؟ ، ما الذي يفرحهم أو يحزنهم ؟ ، ماذا يريدون ؟ ، وهذا هو دور الحاكم الصالح الذي لا يسكن برجاً عاجياً بعيداً عن الناس ، فالحاكم الصالح يكون من الناس ، وإلى الناس ، وبالناس .

ولا ننسى اللقاءات الدائمة التي كانت تتم بين نور الدين وأهل العلم والفقهاء والفقراء ، كان يسألهم ويستمع إليهم ، ويعرف من خلالهم أيضاً أحوال الناس ومعايشهم .

نؤكد على أن نور الدين كان لا يستمع إلى الوشاة والنمامين ، ويتخذ قراره بعد فحص وتدقيق وبحث ، ويدل على هذا الخلق فيه ، أنه كان بحلب السورية تاجر موسر ، فمات وخلف من ورائه ثروة كبيرة ، وولد صغير ، فأراد بعض الناس أن يحرم هذا الولد من ثروة أبيه ، فكتب إلى نور الدين محمود يخادعه ، ويقول له :

ها هنا في حلب مات رجل تاجر موسر ، وخلف عشرين ألف دينار أو فوقها ، وله ولد عمره عشر سنين ، ومن الأحسن ولصالح هذا الولد يجب أن يرفع المال إلى خزانة الدولة إلى أن يكبر هذا الصغير ، يرضى منه بشيء ويمسك الباقي للخزانة .

وما كان من نور الدين بعد أن تلقى هذه الرسالة أن سارع بإرسال مندوب عنه إلى نائبه على حلب ، ليتقصى بالتفصيل قصة هذا الرجل الشاكي ، على وجه السرعة .

وبالفعل عاد مندوب نور الدين ليقدم له تقريراً وافياً ، جاء فيه أن هذا الشاكي هو عم الطفل الصغير ، وبعد أن توفى والد الطفل طمع هذا العم في الثروة كلها ، فتقدم للزواج من أرملة أخيه ، ولأنها تعرف أنه رجل سيء الطبع ، شرير في سلوكه ، طامع في كل شيء ، غير محبوب من الناس ، رفضت الزواج منه رغم إلحاحه وتهديده لها ، فما كان منه إلا أن أرسل شكواه التحريضية الكيدية إلى نور الدين ، فما كان من نور الدين بعد أن عرف حقيقة الأمر إلا أن كتب إلى الشاكي : ( أما الميت فرحمه الله ، وأما الولد فأنشأه الله ، وأما المال فثمره الله وكثره ، وأما الساعي فلعنه الله .) . !!

(9)

فارس لكل العصور

كان نور الدين من أقوى الناس بدناً وقلباً ، وقد كان يألف ركوب الخيل الذي تعلمه منذ نعومة أظفاره على يد والده عماد الدين زنكي وقواده وفرسانه الذين علموه فنون القتال والفروسية .

كان يحب ركوب الخيل في جده ولهوه ، ولذلك لم ير معاصروه على ظهر الجواد أشد منه ، وكأنما خلقه الله عليه لا يتحرك .

فنور الدين فارس بمعنى الكلمة ، أخلاقه هي الفروسية التي جوهرها النبل والأخلاق العالية ، بمعنى آخر الفروسية بتمام معناها وكامل مبناها .

فهو شجاع ، قوي ، نبيل ، يقتحم الوقائع بنفسه ، ويتقدم جيشه ، صابراً ، مثابراً ، منكراً لذاته ، مضحياً من أجل الآخرين عن قناعة تامة ورضا كامل ، محباً لجيشه ، ناسباً كل نصر إليه ، لا يهمه المكسب المادي ، بقدر ما يهمه الدفاع عن الدين والوطن ، عن العروبة والإسلام .

كان إذا حضر الحرب أخذ قوسين وكنانتين للسهام ، وحارب بكل ذلك في شجاعة وفدائية لا نظير لها .

وكان يقول دائماً : طالما تعرضت للشهادة فلم أدركها ، اللهم امنحني الشهادة في سبيل إعلاء كلمة الحق ، وإزهاق كلمة الباطل .

وقد علق الإمام / الذهبي على ذلك فقال : وقد أدرك نور الدين محمود الشهادة على فراشه ، وبقى ذلك في أفواه الناس ، نراهم يقولون : نور الدين الشهيد ، وذلك لأنه مات شهيد مرض يسمى (الخوانيق) ، أي ضيق التنفس الحاد .

وكان نور الدين في ميدان القتال ثابت القدم ، حسن الرمي ، صليب الضرب ، يتقدم أصحابه دون خوف أو فزع .

وكان يسأل الله تعالى دائماًً أن يحشره في بطون السباع ، وحواصل الطير ، وهذه كناية عن استشهاده وموته في ساحة الجهاد .

وقد سمعه يوماً الإمام / قطب الدين النيسابوري ، الفقيه الشافعي ، وهو يقول : طالما تعرضت للشهادة فلم أدركها .

فقال الإمام : لا تخاطر بنفسك وبالإسلام وبالمسلمين ، فإنك عمادهم ، ولئن أصبت ـ والعياذ بالله ـ في معركة لا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف ، وأخذت البلاد .

فرد عليه نور الدين في عتاب شديد قائلاً : يا قطب الدين أنت رجل علم ودين ، ولا يصح منك قول ذلك ، من محمود هذا حتى يقال له هذا الكلام ؟ ! ، قبلي من حفظ الإسلام والبلاد ، ذلك هو الله الذي لا إله إلا هو ، بيده كل شيء .

كان يعشق الجهاد ، يحبه حباً شديداً ، حتى ينسى به ملذات الحياة ، وشهوات الدنيا الفانية .

يحكي العماد الأصفهاني : أنه حضر عند الملك نور الدين محمود بدمشق السورية ، في العشرين من شهر صفر ، ووجهه بنور البشر قد سفر ، والحديث يجري في طيب دمشق وحسن آلائها وجمالها ، ورقة هوائها ، وبهجة بهائها ، وأزهار أرضها التي هي كزهر سمائها ، وكل منهم (من الأدباء والشعراء) يمدحها ، وبحبه يمنحها ، ويعدد بكلامه أوصافها .

فقال نور الدين : سبحان الله الذي وهب الجمال ، ولكن معذرة فإنا أحب الجهاد ، والجهاد يسلبني عن دمشق ورؤية جمالها ، فما أرغب في ذلك .

فما كان من العماد الأصفهاني أن ارتجل هذا المعنى في التو واللحظة ، فقال :

 { ليس في الدنيا جميعاً ... بلدة مثل دمشـق

 ويسلبني عنـــها ... في سبيل الله عشقي

 والتقى الأصل ومـن ... يتركها يشقى ويشقى

 وكم رشيق شاغل عنه ... بسهم الغزو رشـفي

 وامتشاق البيض يغنـي ... عنه بالأقلام مشقي }

ويروى أن نور الدين الذي كان شغوفاً بالجهاد والنضال في سبيل الله ، وفي سبيل تحرير أرض الإسلام من نير المحتلين أدعياء حماية الصليب ، يروى أنه سأل الشاعر الكاتب / العماد الأصفهاني ، أن يضع أبيات على لسانه في معنى الجهاد ، فقال :

{ للغزو شاطئ ، وإليه طربي

ما لي في العيش غيره من أرب

بالجد وبالجهاد نجح الطلــب

والراحة مستودعة في التعب }

وقال الأصفهاني أيضاً على لسان نور الدين محمود :

{ لا راحة في العيش سوى أن أغزو

سيفي طرباً إلى الطلى يهتز

في ذل ذوي الكفر يكون العز

والقدرة في غير جهاد عجز }

وورد أن الأصفهاني قال على لسان نور الدين الكثير من الأشعار والأقوال التي تؤكد حبه للجهاد والجد والاجتهاد ، ومنها :

{ أقسمت سوى الجهاد مالي أرب

والراحة في سواه عندي تعب

 ألا بالجد لا ينال الطلب

والعيش بلا جد جهاد لعب ! }

وكما ذكرنا من قبل فإن بعض المؤرخين يحلو لهم أن يشبهوا نور الدين محمود زنكي في عدله و تقواه وورعه بالخليفة الأموي العادل / عمر بن عبد العزيز ، حيث كان يقرب العلماء والأتقياء وأهل الصلاح منه ، بينما لا يقبل عليه الشعراء والأدباء لموقفه المتحفظ منهم .

ورغم ذلك فهناك العديد من الشواهد الأدبية التي تثبت أن عديداً من الشعراء والأدباء كتبوا عن نور الدين محمود ، ولكننا لا نعرف بالتحديد صدى هذه الكتابات عند نور الدين ؟

ولعل إهمال نور الدين محمود للشعراء والأدباء كان من أشد العوامل التي وجهت فريقاً من الشعراء في شعرهم ، وصرفتهم إلى النقد اللاذع والغمز واللمز ، وتهيئة هذا الفريق ليكون من الهجائيين السياسيين والاجتماعيين في أواخر أيام نور الدين وعصر صلاح الدين الأيوبي .

نعود لنقول : إن الملكين نور الدين وصلاح الدين يتشابهان في الاستقامة والعدل والحزم والجد وحب الجهاد ، ولكن صلاح الدين كان أكثر تذوقاً للأدب ، وألين حجاباً للشعراء والأدباء ، فقد روي أنه كان يحفظ كتاب الحماسة للشاعر العباسي / أبي تمام الطائي عن ظهر قلب ، وكان يتمثل بالشعر ، ويجيز الشعراء ، وبمعنى آخر نقول : إن صلاح الدين فهم أهمية الشعر كوسيلة إعلامية مهمة وحيدة في تلك الفترة .

وبسبب الشجاعة التي كانت عند نور الدين محمود ، والجهاد الموصول الذي قام به ، تغنى في مدحه الشعراء والأدباء ، فصاغوا العديد من القصائد والمقطوعات في جراءاته وفتوحاته ومغالبته لأدعياء حماية الصليب من الفرنجة الأوربيين الذين أرادوا سلب خيراتنا ، ونهب مواردنا ، واغتصاب أرضنا ، والهيمنة علينا .

ونذكر هنا القصيدة الهمزية التي قالها الشاعر / محمد بن نصر القيسراني ، يمدح فيها جهاد نور الدين محمود ، ومنها :

{ ذو الجهادين من عدو ونفس

 فهو طول الحياة في هيجاء

 فهو الملك الذي ألزم الناس

سلوك المحجة البيضاء }

وحينما فتح نور الدين محمود الرُها وحررها من الإفرنج ، وبدت بطولته في ذلك الفتح المبين بالشعر الكثير ، ومن بينه أبيات للشاعر السوري / ابن قسيم الحموي ، جاء فيها :

{ تبدو الشجاعة من طلاقة وجهه

 كالرمح دل على القساوة لينه

 ووراء يقظته أناة مجرب

له سطوة بأســـــه }

(10)

ليس دفاعاً عن نور الدين

لا يؤخذ على نور الدين محمود أنه هاجم أحياناً بعض الولايات العربية الإسلامية ، وأخضعها لسلطانه ، فقد كان مضطراً إلى ذلك من أجل أن يحقق حلمنا الوحدوي ، الذي يتمثل في وحدة الوطن العربي والأمة الإسلامية ، فلم يكن هذا حلم أو أمنية تلح داخل نفس نور الدين فقط ، بل كانت أمنية كل مسلم في كل مكان من عالمنا الإسلامي ، أمنية نتطلع إليها جميعاً ، وننتظر من يجيء ليعمل من أجلها ، وقد جاء نور الدين ليسعى من أجل حلم الوحدة والاتحاد .

كان نور الدين مضطراً إلى ذلك كي لا يترك هذه الولايات فريسة لمكائد الإفرنج وسلطان الصليبيين ، فكان يحرص على إخضاع هذه الولايات لينقذها أولاً من أي تدخل خارجي ، وليستعين بها في محاربة الدخلاء ثانياً .

ومن أمثلة ذلك : إخضاعه لولاية دمشق السورية بعد أن كان سلطانه مقصوراً على حلب السورية وما تبعها أو جاوزها ، ومن أمثلته أيضاً : إخضاعه لمصر الفاطمية ، وإخراج من كان فيها من ولاة ظالمين .

وإذا كنا نرفض بشدة أي تدخل في شئون الغير ، فإن الضرورات تبيح المحظورات ، وما فعله نور الدين محمود كان هدفه أولاً وأخيراً صالح الأمة الإسلامية ، والسعي الجاد من أجل توحدها وتجمعها ، لتصبح قادرة على مواجهة العدو .

ونحب أن نركز هنا على أن التعاون كان موجوداً بين سوريا ومصر ، وحقق هذا التعاون المثمر نتائج طيبة ، وذلك لأن المتاعب متشابهة ، و الأهداف متحدة ، فسوريا مبتلاة بالمحتلين الفرنجة الطامعين في خيراتنا ومواردنا ، ومصر كذلك .

ففي سوريا نجد نور الدين محمود يهاجم الفرنجة والصليبيين ويحرر البلاد منهم ، وفي مصر كان الجيش المصري هو الآخر يهاجم الفرنجة ويطاردهم ، طارداً إياهم شر طردة ، معلناً أنه لا صلح ولا مصالحة مع أهل الخسة والغدر والخيانة ، بل كان الجيش المصري يعاون الجيش السوري في مطاردة الدخلاء المحتلين .

ومن أمثلة ذلك أيضاً : أنه في أثناء حصار نور الدين محمود لدمشق العاصمة السورية بهدف تطهيرها من الفرنجة ، ورد الخبر بوصول الجيش المصري إلى حدود الشام ليعون الجيش السوري من الجهة الأخرى ، وتؤكد المصادر التاريخية أن هذا الجيش (المصري) كان في غاية من القوة ، وكثرة من العدة والعتاد ، وعدة مراكبه سبعون مركباً حربياً محملاً بالرجال والسلاح ، وقد أنفق عليه قرابة ثلاثمائة ألف دينار مصري ، واقترب الجيش من يافا الفلسطينية العربية ، وهي حينئذ من الثغور المحتلة بالفرنج ، فخاض الجيش معركة باسلة ، وأسر فيها الكثير من جنود العدو ، واستولى على عدة وافرة من مراكب الروم والفرنجة .

ثم قصد الجيش المصري ثغر عكا الفلسطينية العربية ففعل فيه مثلما فعل في يافا ، واستولى على عدد من المراكب الحربية ، ثم تابع سيره إلى صيدا وبيروت وطرابلس في لبنان ، وواصل كفاحه في هذه المواضع ، وأصر نور الدين على أن يسير نحو الإسطول المصري ليتعاون معه في تدويخ الإفرنج .

ثم ساءت حالة الحكم بعد ذلك في مصر ، فالعاضد لدين الله الفاطمي ، وهو آخر المستخلفين بمصر من الفاطميين ، ضعيف ، عاجز ، متردد ، مغلوب على أمره ، وأبو شجاع شاور بن مجير السعدي قائد الجيش ، في صراع دائم ومستمر مع عدوه ضرغام بن سواد ، والفتن تتوالى ، والشعب ضحية لهذه النكبات ، والعدو يستفيد من تمزق الوطن الأم ، وتفرق الجهود .

هنا انتهز نور الدين الفرصة عندما استنجد به شاور لينصره على عدوه التقليدي ضرغام ، فكلف نور الدين قائده المحنك وصاحب الخبرة : أسد الدين شيركوه ، بالمسير إلى مصر في سنة 559 هـ ، وكان شيركوه من أكابر أمراء نور الدين ودولته ، واشترك مع شيركوه في هذه الحملة جندي شاب كان يعمل في جيش نور الدين هو / صلاح الدين الأيوبي ، هذا الجندي الذي استفاد من خبرة أستاذه نور الدين ومن طول صحبته له ، وكذلك خبرة عمه شيركوه ، هذا الجندي الذي سيتألق نجمه بعد قليل ، بل سيكون الحاكم والقائد في هذه المنطقة بعد وفاة الأستاذ نور الدين محمود .

يؤكد التاريخ على أن بداية الاتصال بين صلاح الدين الجندي الشاب ، والملك العادل نور الدين محمود زنكي ، كان في سنة 546 هـ ، حيث لحق صلاح الدين بعمه أسد الدين شيركوه في حلب السورية ، فقدمه إلى نور الدين الذي يعرف جيداً معادن الناس وقدراتهم ، فأحس فيه الذكاء والنبوغ ، فقبله في خدمته ، وعطف عليه ، وأقطعه إقطاعاً حسناً .

سؤال كثيراً ما يلح على كاتب هذه السطور ألا وهو : هل دار في خلد القائد المجاهد والملك العادل / نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي ، وهو يرى الشاب الصغير صلاح الدين لأول مرة والذي جاء يلتحق بخدمته بواسطة عمه شيركوه ، هل دار في خلده أنه سيكون الوريث لدولته ، وأنه سوف يخرج ابنه الملك الصالح من دمشق ، ويستولى عليها ، معلناً نهاية الدولة النورية ، وقيام الدولة الصلاحية ؟ ، مجرد سؤال ، ولكن سبحان الله له وحده الدوام .

لقد استطاع أسد الدين شيركوه أن يبلغ مصر ، وأن يدخلها ، وبالتالي نجح في إنصاف شاور ، وقتل عدوه اللدود ضرغام ، ولأن من خان مرة سهل عليه أن يخون بعد ذلك مرات ومرات ، فقد غدر شاور بأسد الدين شيركوه ، ونقض عهده مع نور الدين ، وزاد الطين بلة أن تعاون شاور مع الإفرنج ، وأخذ يستعديهم على نور الدين .

ويحكي لنا المؤرخون : أن شاور أرسل إلى الفرنج يستمدهم ويخوفهم من نور الدين محمود ، إذا ملك مصر ، وكان الفرنج قد أيقنوا بالهلاك إذا دخل نور الدين أرض مصر ، وظلوا في خوف شديد من هذا الأمر ، فلما أرسل شاور إليهم يستنجدهم ، ويطلب منهم أن يساعدوه على إخراخ نور الدين من مصر ، جاءهم فرج لم يحتسبوه ، وسارعوا على الفور إلى تلبية دعوته ، والمبادر إلى نصرته ، وطمعوا في ملك ديار مصر .

ومن عجائب الأمور أن (شاور) قد بذل لهم مالاً كثيراً من أجل أن يسيروا إلى مصر ، فتجهزوا وساروا ، ودارت معركة بين الجيشين انتهت بعودة جيش نور الدين إلى بلاد الشام وعلى رأسه شيركوه قائده .

وفي سنة 562 هـ عاود نور الدين محاولته في ضم مصر إلى الشام ، فأرسل قائده المخضرم / شيركوه إليها مرة أخرى ، ومعه الجندي الشاب / صلاح الدين الأيوبي ابن أخيه ، واستطاع شيركوه أن ينتصر بألفي فارس فقط لا غير على جيش شاور وجيش الإفرنج الذي استعان به ، وبلغ شيركوه مدينة الأسكندرية المصرية ، وفتحها من غير قتال ، وعين صلاح الدين والياً عليها .

وجاء المصريون يطلبون الصلح مع شيركوه ، فاشترط للصلح ألا يبقى الإفرنح في أي مكان من مصر .

وكان ملك مصر في تلك الآونة هو الملك / العاضد ، وليس له من الأمر شيء ، لا حول له ولا قوة ، لأن شاور قد شل حركته تماماً ، وحجبه عن الناس وعن الحكم ، وأول درجات سقوط الحاكم أن يستسلم لأعوانه ، وبطانته ، ويبعد عن الناس .

ويذكر التاريخ : أن الأمير / الكامل شجاع بن شاور أرسل رسالة عاجلة إلى نور الدين محمود ، يبلغه محبته الخاصة ومحبة شعب مصر أجمعه له ، وولاءه ، ويسأله أن يأمر بإصلاح الحال والأحوال ، ويجمع الكلمة بمصر على طاعته ، ويجمع كلمة الإسلام .

فأجابه نور الدين إلى ذلك ، فما كان من المصريين إلا أن حملوا من مصر إلى نور الدين مالاً عظيماً ، ولكن نور الدين رفضه ، وأعاده مرة أخرى شاكراً لأهل مصر كرمهم ، مفضلاً أن يستعينوا به لإصلاح حالهم التي باتت لا تسر عدو ولا صديق .

ولكن الحال في مصر عادت فاختلت مرة أخرى ، بسبب المتاعب والمكائد التي كان يقوم بها شاور الممالئ للإفرنج ، أضف إلى ذلك سوء الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية .

وللمرة الثالثة يعود أسد الدين شيركوه إلى مصر سنة 564 هـ ، ليفتح البلاد المصرية ، ويقتل الخائن شاور ، ويتولى الوزارة مكانه .

وكان الملك العاضد الفاطمي قد أرسل إلى نور الدين يستنجد به ليحرر أرض مصر الكنانة من نير الفرنجة ، وأرسل العاضد إلى نور الدين مع الرسالة شعور نسائه ، قائلاً له : هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك لتنقذ هن من الفرنج !!

والعجيب في الأمر أن شاور قبل قتله على يد جيش نور الدين حاول أن يلجأ إلى الخيانة ، فعارضه ابنه (شجاع) ، ولما قال له أبوه : إنني إن لم أفعل ذلك ، سوف نقتل جميعاً ، فقال له ابنه : لأن نقتل ونحن من أهل الإسلام ، والبلاد بيد المسلمين ، خير من أن نعيش وقد ملكها الفرنجة .

وشخصية (شجاع) من الشخصيات المضيئة في تاريخنا الإسلامي ، لم يأخذ حقه من الدرس والتعريف ، فقد كان يكره الفرنجة كرهاً شديداً ، في نفس الوقت الذي كان يعي فيه مطامعهم في بلادنا ، كما كان يؤمن تمام الإيمان أن الوحدة العربية الإسلامية هي السبيل الوحيد لمواجهة أخطار الهيمنة والسيطرة .

لقد كان شجاع بن شاور يكره الخيانة ، والعمالة ، والتبعية ، ولا يوافق على تصرفات والده ، ويعارضه كل المعارضة ، ولا يقبل أساليبه الملتوية التي تسيء إلى وطنه .

وقد أحب شجاع نور الدين محمود ، واعتبره مثله الأعلى ، كما اعتبره أمل الإسلام والمسلمين في الوحدة والاتحاد ، وتحرير تراب الوطن المحتل من قبل الفرنجة .

أعود بك لأقول : إن نور الدين محمود استطاع أن يوحد مصر والشام ليقف جبهة واحدة في وجه الأعداء والدخلاء والعملاء والخونة ، وقد أثبت التاريخ أن أي انتصار لأمتنا لا يمكن أن يتم دون الوحدة بين مصر وبلاد الشام ، والأمثلة على ذلك عديدة ، نذكر منها موقعة حطين ضد الصليبيين والتي انتصر فيها المسلمين بقيادة صلاح الدين ، ما كان هذا النصر ليتم دون الوحدة بين مصر والشام ، وكذلك موقعة عين جالوت وانتصار المسلمين بقيادة قطز وبيبرس على التتار ، وأخيراً انتصارنا في حرب رمضان ـ أكتوبر 1973 م على اسرائيل ما كان ليتم دون توحيد الجهود بين الجبهة المصرية والسورية ، فالعلاقات بين مصر والشام علاقات قدرية مصيرية .

ولقد تغنى الشعراء بهذه الوحدة التي حققها نور الدين محمود بين مصر والشام ، هذه الوحدة التي كانت دائماً هي حلم جماهير الأمة ، وانتلقت ألسنتهم بالمدائح في بطولة نور الدين ، ومن هذه المدائح قصيدة طويلة ميمية كتبها / العماد الأصفهاني ، يمدح فيها نور الدين ، ويقول :

{ وأصبحت بك مصر بعد خيفتها

للأمن والعز والإقبال كالحرم

 والسنة اتسعت ، والبدعة انمحقت

وعاودت دولة الإحسان والكرم }

ولم يمكث أسد الدين شيركوه في ولاية مصر عقب فتحها للمرة الثالثة سوى شهرين فقط لا غير ، فقد مات بعدهما إثر سقوطه من على صهوة جواده ، فخلفه في وزارة مصر الشاب الطموح الذكي / صلاح الدين الأيوبي ، وكانت العلاقة بينه وبين نور الدين طيبة للغاية ، ولما هجم الإفرنج على مدينة دمياط المصرية مثلاً ، وخرج صلاح الدين لمحاربتهم ، في نفس الوقت قام نور الدين بمهاجمة معاقل الإفرنج في بلاد الشام بهدف إضعاف شوكتهم ، وتشتيت جهودهم ، وتقليل إمداداتهم إلى دمياط ، وبذلك يتحسن موقف صلاح الدين ويقوى .

هذا ، وقد حاولت فرق الباطنية والإسماعيلية وغيرها من الفرق الشيعية التي تميل إلى المغالاة والتطرف ، أن تثير الفتنة و القلاقل في مصر مرة أخرى ، وذلك بهدف القضاء على دولة نور الدين محمود ، واغتيال نائبه صلاح الدين ، ولكن هذه المؤامرة باءت بالفشل الذريع ، وتم القبض على أفرادها ، ونالهم الجزاء العادل على ما فعلوا .

كما ضم نور الدين إلى دولته الموحدة بلاد اليمن ، إذ أرسل في سنة 569 هـ إلى صلاح الدين يستشيره في فتح بلاد اليمن ، فأرسل صلاح الدين أخاه توران شاه على رأس جيش لفتح اليمن ، ونجح في دخول زبيد وعدن وتعز وصنعاء وغيرها من البلاد اليمنية ، وقتل حاكمها الذي اشتهر عنه الفساد والاستهتار وظلم الناس وسوء معاملتهم ، وأرسل صلاح الدين إلى أستاذه وقائده / نور الدين يبشره بالفتح ، وبما أفاض الله عليه من الخير ، ففرح نور الدين محمود وبث البشرى بالنصر في سائر البلاد .

 

 

(11)

لأنه إنسان .....

تزوج نور الدين محمود سنة 542 هـ من الخاتون ذات العصمة والدين ، والصون ، والعفاف : عصمة الدين ابنة معين الدين آثر ، نائب دمشق السورية ، وكما يذكر المؤرخون فإن هذه السيدة الفاضلة كانت من أجمل النساء ، ومن أحسنهن ، وأعفهن ، وأعصمهن ، وأحلهن في الصيانة .

كما كانت حازمة ، صريحة ، واضحة ، متمسكة من الدين بالعروة الوثقى ، لها أمر نافذ ، وصدقات ، وبر عظيم ، تقيم الموائد لإطعام الفقراء والمساكين وغير القادرين ،وتقوم بكسوتهم في الشتاء والصيف .

كما كانت ترعى بشكل خاص الأطفال اليتامى ، والأرامل ، والعجائز ، كل ذلك في حشمة واحتشام ، وعدم تبرج أو خلاعة ، فكل ما تريده بحق أن يجعل الله تعالى ما تفعله من خير لإسعاد الناس في ميزان حسناتها يوم الحساب .

كانت ترتب الرواتب والمساعدات للفقراء وأصحاب الحاجة وأهل العلم ، كما بنت للفقهاء في دمشق مدرسة كبيرة ، ومساكن مجهزة لسكنى طلاب العلم .

كما كانت تكثر من الصيام والقيام ، والتهجد والعبادة بالليل ، ويقال أنها نامت ذات ليلة دون أن تقرأ وردها الذي تعودت عليه دائماً ، فأصبحت مكتئبة النفس ، غضبى ، فسألها نور الدين عن أمرها ، فذكرت له نومها البارحة الذي ضيع عليها وردها ، فأمر نور الدين بضرب طبول في القلعة وقت السحر ليستيقظ النائم الذي يريد أن يقوم للتهجد والعبادة في ذلك الوقت .

وعندما توفي نور الدين محمود تزوج صلاح الدين الأيوبي من هذه السيدة التقية الورعة ، زوجة أستاذه ومعلمه وقائده وصاحب النعمة عليه ، ودخل بها سنة 572 هـ ، أي بعد حوالي ثلاث سنوات فقط لا غير من وفاة نور الدين محمود .

وعندما تزوجها صلاح الدين كانت إقامتها معه في قلعة الجبل مدة ، محترمة ، معززة ، مكرمة ، وقد تولى تزويجها من صلاح الدين أخوها سعد الدين مسعود بن آثر ، وحضر عقد الزواج ، القاضي / ابن أبي عصرون وجماعة من العدول .

وبات صلاح الدين عندها تلك الليلة والتي بعدها ، وقد زوج صلاح الدين شقيقته (ربيعة) لسعد الدين مسعود بن آثر ، شقيق زوجته عصمة الدين ، فازدادت الصلة توثقاً وارتباطاً .

كان صلاح الدين يقدر رأي السيدة / عصمة الدين ، ويستشيرها ويأخذ برأيها في أمور كثيرة ، وقد توفيت عصمة الدين في أواخر سنة 581 هـ ، ولم تنجب .

ويظهر من دراسة ما كتب عن نور الدين جيداً ، أن نور الدين كان له سوى زوجته بعض الجواري ، كان بعاملهن أحسن معاملة ، بل أنه أطلق حرية بعضهن لوجه الله تعالى .

وجاء في كتب التاريخ أنه بعد أن فتح حصون الروم عاد إلى حلب وقد نجح فيما طلب ، ولكنه كان حزيناً حزناً شديداً ، ويقال أنه مرض بمرض القلب ، وظل كذلك فترة طويلة .

والسبب في ذلك أن جاريته التي تيم بها حباً ، وأحبها حباً عظيماً ، وتعلق بها تعلقاً شديداً ، وكان يستريح إليها في الحديث ، ويتحدث معها في كل ما يجول بخاطره ، ويعبر لها عن أحاسيسه ومشاعره ، وكم من المرات وقفت بجواره ، وخففت عنه آلامه ومتاعبه ، حيث كانت على درجة كبيرة من الثقافة والعلم والمعرفة ، كما كانت صاحبة عقل متزن ووعي بمجريات الأمور ، رغم أنها لم تكن جميلة بمقايس الجمال التقليدية ، بل كانت فاتنة ، خفيفة الروح والظل ، ساحرة الأنوثة .. ولله في خلقه شئون .

‍رجع نور الدين ليجد محبوبته التي كان يعاملها أحسن معاملة ، ويجلها أحسن إجلال ، عاد من حرب الروم ليجد حالتها الصحية قد تدهورت بشكل مفاجئ ، وأحضر لها كبار الأطباء والمعالجين ، ونذر النذور ، وأخرج الصدقات ، وأوقف الأوقاف ، لعل الله تعالى يستجيب لدعائه فيشفيها من مرضها العضال .

وعندما اشتد المرض بها طلبت منه أن يذهب بها عند أقارب لها لتموت عندهم ، وتدفن في مقابرهم ، فسيرها في محفة تحمل على أيدي الرجال في خفة ، ومن أراد أن يتقرب إلى نور الدين شارك في حمل هذه المحفة ، وبمجرد وصولها إلى أقاربها صعدت روحها إلى باريها ، فحزن نور الدين عليها حزنأ شديداً .

ويقال : إن نور الدين حرر هذه الجارية وتزوج بها ، وعندما وصل الأمر إلى زوجته ، قالت لمن أوصل الخبر إليها : إن نور الدين يقول لي كل شيء ، وأعرف مدى تعلقه بهذه الجارية ، إن له الحرية التامة فيما يفعل ، فهو لا يخالف أوامر ربه ، كما أنه لا يقصر في أدنى شيء تجاهي ، أو تجاه أسرته ، إنه إنسان ، بالقطع وجد فيها ما يريده ، فهذا حقه فلا ضرر ولا ضرار .

بل إنه عندما توفيت هذه الجارية وقفت زوجته بجواره ، وواسته ، وطيبت خاطره ، حتى خرج من أحزانه ، وعاد إلى ممارسة حياته العادية ، ولكنه عاش طوال حياته يذكر تلك الجارية .

كان لنور الدين بعض الأولاد ، ولد له في حمص السورية ولد سماه (أحمد) ، ولكنه توفي بدمشق ، كما ولد له ولد سماه (إسماعيل) ، قام بختانه في يوم عيد الفطر المبارك ، فنظم الشاعر العماد الأصفهاني قصيدة خفيفة الوزن ، جميلة المعنى في هذه المناسبة ، وفيها يقول :

{ عيدان : فطر وطهر ** فتح قريب ونصر

 كلاهما لك فيـــه ** حقاً هناء وأجـر

 وفيها بالتهانـــي ** رسم لنا مستمـر }

 (12)

التعليم في عصر نور الدين

مدارس نور الدين :

نور الدين هو أول من أنشأ مدرسة في دمشق السورية ، أضف إلى ذلك مدارسه الكثيرة التي كانت منتشرة في مدن سوريه وقراها .

وقد سجلت كتب التاريخ بعضاً من هذه المدارس ، ففي دمشق أنشأ دار الحديث النورية .

 والمدرسة الصلاحية ، والمدرسة العمادية

 ومدرسة الكلاسة ، والمدرسة النورية الصغرى ، والمدرسة النورية الكبرى . وسوف نتحدث عنها كنموذج للمدارس التي أنشأها نور الدين محمود ، وذلك بشيء من التفصيل ، وفي حلب أنشأ المدرسة الحلوية ، والمدرسة العصرونية والمدرسة النورية .

وفي حماة أنشأ نور الدين مدرستين ، وفي حمص أنشأ مدرستين أيضاً ، وفي بعلبك اللبنانية أنشأ مدرسة واحدة .

مكانة سامية :

أما المدرسة النورية الكبرى فقد زارها الرحالة ابن جبير المتوفى سنة 614 هـ ، بعد افتتاحها بسنوات قليلة، وقد وصفها في رحلته وصفاً يدل على مكانتها السامية في تلك الأزمان .

فهي من أحسن مدارس الدنيا مظهراً ، وهي قصر من القصور الأنيقة ينصب فيه الماء في حوض وسط نهر عظيم ، ثم يمتد الماء في ساقية مستطيلة إلى أن يقع في صهريج كبير وسط الدار ، فتحار الأبصار في حسن ذلك المنظر وقد طافت الأحداث والسنون بهذا المعهد العلمي العظيم ، فغيرت منه وقللت من بهائه ، ولكنه لا يزال يحتفظ بطابع الجلال ، ولا يزال يوحي بأنه كان في عهده قريباً إلى الكمال ، شاملاً كل ما يحتاجه معهد علمي لدراسة العليا ، مزوداً بقسم داخلي مكتمل المرافق والالتزامات

نور الدين هو المنشئ الحقيقي :

وقد ذكر أبو شامة المتوفى سنة 665 هـ ، وابن شداد (محمد بن علي )المتوفى سنة 684 هـ ، أن الذي أنشأ هذا المعهد العلمي (المدرسة النورية الكبرى) هو نور الدين محمود زنكي سنة 563 هـ .

 ولكن ألنعيمي المتوفى سنة 927 هـ ، والذي يعتمد في أغلب ما كتب على ابن شداد ويقتبس منه أكثر مادته ، يختلف معه ، ويقرر أن الذي أنشأ هذه المدرسة هو الصالح إسماعيل ابن نور الدين محمود ، ولم يذكر النعيمي لنا سبباً واضحاً حدا به إلى هذا الادعاء ، وكل ما يشير إليه هو أن جثمان نور الدين لم يدفن عقب وفاته مباشرة في ضريحه بالمدرسة ، وإنما دفن في مكان آخر ، ثم تم نقل الجثمان في عهد إسماعيل إلى مكانه الحالي بالمدرسة .

وفي الواقع أن هذا لا يستدعي أن تكون المدرسة قد أنشأت في عهد إسماعيل ، إذ من اليسر أن تكون المدرسة قد تمت وافتتحت في عهد نور الدين ، ولكن الضريح لم يكن قد أعد بعد ، إذ أنه شيء يلحق بها ، وليس من مرافقها اللازمة لها .

ومن أجل هذا كان الضريح دائماً آخر ما يشيد بالمدرسة ، فلما توفي نور الدين في هذه الأثناء دفن في مكان مؤقت حتى أعد الضريح ، ثم نقل إليه الجثمان.

ومما يؤكد لنا أن نور الدين هو الذي بنى هذه المدرسة ، تلك الكتابة التي نقشت على الحجر الضخم الذي يكون العتبة العليا لمدخل المدرسة ، وهذه الكتابة قديمة تاريخها سنة 567 هـ ، أي كتبت في حياة نور الدين الذي توفي بعد ذلك بسنتين فقط ، وقد ورد في هذه الكتابة أن نور الدين هو منشئها ، ويبدو أن النعيمي لم ير هذه الكتابة .

الموقع والمساحة :

وتقع هذه المدرسة بخط الخواصين ، وهو الحي الذي يسميه أهل دمشق السورية في الوقت الحاضر (الخياطين) ، وهي في الجنوب الغربي بالنسبة للجامع الأموي ، وتبعد عنه قرابة نصف ميل .

وقد أسست المدرسة النورية الكبرى على مساحة مقدارها 1500 متر مربع تقريباً ، ولكن المساحة الحالية تنقص عن ذلك بحوالي 150 متراً سلبها جيرانها من الجهة الغربية ، وقد هدم البناء الأصلي ، وتجدد بناؤه ، ولم يبق من البناء القديم إلا الباب والبهو والقبة ومخطط الصحن ولكن يلاحظ في البناء الحالي للمدرسة أنه كان إلى حد كبير على أساس البناء القديم .

وتقوم مباني المدرسة في جوانب المساحة ، أما الوسط فصحن مربع مساحته 340 متراً تقريباً ، نمت به بعض الأشجار ، ويقع في وسطه بحيرة طولها 8و7 من الأمتار ، وعرضها 5و6 من الأمتار ، يمدها بالماء مجرى صغير ينساب فيه الماء من حنفيات ونافورة في الجانب المقابل للباب ، وقد بني هذا المجرى موضع قناة صغيرة كانت تجلب الماء لهذه البحيرة من نهر قنوات أحد أنهار دمشق السبعة .

الباب والممر :

وباب المدرسة الحالي هو نفس بابها القديم ، وهو باب ضخم دقيق الصنع ، وعتبته العليا عبارة عن حجر كبير كتب عليه بطريقة الحفر وبخط الثلث اسم منشئ المدرسة (نور الدين محمود زنكي) ، ويفضي الباب إلى ممر مستطيل ، وفي منتصف الممر مدخل آخر لا باب له ، وهذا الممر يقود إلى صحن المدرسة.

والسائر في الممر يجد إلى يمينه ضريح الشيخ / محمد بن دقيق العيد ، المتوفى سنة 702 هـ ، وباب الضريح في الشارع الذي به المدرسة النورية ، وعلى يسار الداخل يقع ضريح نور الدين محمود منشئ المدرسة ، ولهذا الضريح قبة ضخمة عجيبة الصنع ، وهي من نفس طراز القبة الموجودة بالمارستان النوري الذي أسسه نور الدين لعلاج الناس بالمجان بغض النظر عن الجنس أو العرق أو الديانة ، وليس في العاصمة السورية دمشق قباب أخرى من ذلك الطراز.

مسكن مدرس المدرسة :

وبعد أن يتجاوز السائر في الممر بمحاذاة ضريح الشيخ / دقيق العيد ، يجد باباً يؤدي إلى حجرة السلم ، ويقوده السلم إلى المسكن الخاص بمدرس المدرسة ، أو بمعنى آخر كبير مدرسي المدرسة أو عميدها ، ولهذا السلم فرع آخر يبدأ من منتصفه ، ويتجه اتجاهاً آخر فيدور حول قاعدة ارتفاعها 6 أمتار ، ويبدو أنها قاعدة لمئذنة أو منارة ، وينتهي هذا الفرع بالصاعد به إلى سطح المدرسة .

الإيوان (قاعة المحاضرات):

وهو أهم مكان في المدرسة ، لأنه يرادف التعبير الحديث (قاعة المحاضرات ) ، وإيوان المدرسة النورية الكبرى يتسع لحلقة كبيرة للدرس ، فطوله 8 أمتار ، وليس لهذا الإيوان باب ، وإنما هو مفتوح على امتداد طوله ، مع سلمين في نهايتي الامتداد يصعد عليهما طلاب المدرسة ، إذ أن الإيوان يرتفع عن الصحن بمتر واحد تقريباً .

المسجد :

يقع الإيوان يمين الصحن بالنسبة للداخل إلى المدرسة ، ويقابله على اليسار المسجد ، والمسجد هو المكان التالي للإيوان في الأهمية ، ولم يكن المسجد خاصاً بالطلاب فقط ، وإنما كان مفتوحاً لكل الناس ، ومن أجل ذلك وضع في أقصى مكان من الإيوان ، حتى لا يتأثر المصلون والعابدون بما قد يثار في حلقة العلم من ضجيج المناقشات والمحاورات ، ولمسجد النورية محراب قديم ، ويتصل هذا المسجد بالصحن بواسطة فتحات ثلاثة ذات عقود ولا أبواب لها ، والفتحة الوسطى هي أكبر هذه الفتحات .

استراحة المدرس :

يتصل الجانب الشرقي للمسجد بحجرتين صغيرتين ، لكل منهما باب يوصل إلى المسجد ، وهناك باب داخلي يصل كلا الحجرتين بالأخرى ، وهاتان الحجرتان أعدتا كاستراحة لكبير المعلمين بالمدرسة ، أو يمكن اعتبارها بمثابة مكتب خاص له يستريح فيه بين أوقات المحاضرات ، أو يستقبل فيه أهل العلم والأدب من الذين يترددون على المدرسة أو الذين يحاضرون فيها ، ولا تزالان تستعملان حتى الوقت الحاضر لنفس الغرض ، وذلك بخلاف مسكن كبير المعلمين الذي أعد ليعيش فيه .

مساكن الطلاب :

هذه المساكن مخصصة لطلاب القسم الداخلي ، وهي تنقسم إلى وحدات ، كل وحدة عبارة عن حجرتين ، أحداهما فوق الأخرى ، ويصلهما سلم داخلي ، ولا تزال هذه المساكن تستعمل في نفس الغرض التي بنيت من أجله ، ويعيش الآن بها طلاب جاءوا من شتى أنحاء سورية من أجل أن يلتحقوا بالمعاهد العلمية المختلفة في العاصمة دمشق .

مسكن خادم المسجد :

يشمل هذا المسكن عدة حجرات ، كما يشمل المرافق الضرورية التي تلزم المسكن ، ومازال هذا المسكن يستخدم لنفس الغرض .

دورات المياه :

وهي لا تزال حتى الوقت الحاضر تستعمل لنفس الغرض الذي بنيت من أجله ، والمياه الجارية ممتدة إليها ، وهي مراحيض و حمامات نظيفة جهزت لاستخدام الطلاب ، والعاملين بالمدرسة .

مساحات مغتصبة :

المساحة الأولى : ليست تابعة للمدرسة النورية في الوقت الراهن ، إذ اغتصبها الجيران ، ويعتقد أن هذه المساحة كانت مطبخاً ، وقاعة لتناول الطعام .

المساحة الثانية : اغتصبت مع المساحة الأولى ، ويعتقد أنها كانت مخزناً للبقول ، ومواد الطعام .

المساحة الثالثة : وكانت مخصصة لتكون مخزناً عاماً للمدرسة النورية ، تحفظ فيها أدوات التنظيف ، والمصابيح الزائدة عن الحاجة ، والفرش ، وما شابه ذلك ، وهذه المساحة نالها شيء من الإهمال ، مما دفع جيرانها إلى اقتطاعها من المدرسة ، ولكن كبير المعلمين بالنورية تصدى لهم في ذلك الحين ، وحاول منعهم بكل الطرق ، ولكنه فشل في ذلك ، غير أن الرجل لم يفقد الأمل في استرداد هذه المساحة في وقت من الأوقات ، فترك بابي هذا المخزن مكانهما ، على الرغم من الحائط الذي شيد من المغتصبين خلف البابين ، وقد فعل ذلك ليكون البابان دليلاً على أن المساحة الواقعة خلفهما جزء لا يتجزأ من المدسة النورية الكبرى .

محاضرون في النورية الكبرى :

كانت المدرسة النورية الكبرى بدمشق مخصصة لدراسة العلوم الشرعية على مذهب الإمام / أبي حنيفة النعمان ، وعلى هذا خصص للتدريس فيها نخبة ممتازة من علماء الأحناف ، بالإضافة إلى مشاهير أهل الأدب والعلم ، ونذكر من الذين درسوا في النورية ، ما يلي : ـ

بهاء الدين بن العقادة ، وقد درس بها إلى أن توفي سنة 566 هـ .

 وبرهان الدين مسعود ، وقد درس بها إلى أن توفي سنة 599 هـ .

 والشرف داوود ، وقد عمل بها حتى سنة 623 هـ ، ثم اعتزل العمل ليتولاه عالم مشهور بالدين والعلم ، وحب أهل العلم واحترامهم له ، ونقصد به : جمال الدين محمود ابن أحمد الحضيري ، وقد ظل بها إلى أن توفي سنة 636 هـ .

ونذكر صدر الدين إبراهيم الذي درس بالنورية نيابة عن قوام الدين محمد ابن جمال الدين الحضيري ، وقد ظل صدر الدين يعلم فيها حتى شب قوام الدين ، وأصبحت ثقافته تساعده على تأدية هذا العمل فتولاه ، وظل يؤديه حتى توفي سنة 665 هـ .

ونذكر نظام الدين الحضيري ، وقد تولى بعد أخيه قوام الدين ، وظل يعمل بالنورية ، حتى توفي سنة 698 هـ .

ونذكر صدر الدين البصراوي ، وقد درس بالنورية حتى توفي ، سنة 737 هـ .

 وكذلك : عماد الدين بن الطرسوسي ، وقد درس بها حتى توفي سنة 748 هـ .

الأوقاف على النورية الكبرى :

كان نور الدين محمود مؤمناً كل الإيمان بأن العلم هو أهم الوسائل للنهوض والتقدم ، لذلك أكثر من بناء المدارس والمعاهد العلمية ، ولكي يضمن لها الاستمرار والاستقلال من أجل أن تؤدي وظيفتها كمؤسسات تربوية تعليمية ، أوقف لها الأوقاف السخية ، كما أنه شجع أهل الثراء على أن يقتدوا به ، ومن أمثلة ذلك الأوقاف التي أوقفها نور الدين محمود على المدرسة النورية الكبرى بدمشق .

سجلت هذه الأوقاف على الحجر الذي يكون العتبة العليا لباب المدرسة النورية ، والكتابة الموجودة على الباب واضحة تماماً .

وتقول هذه الوقفية بعد البسملة ، أن الذي أمر بإنشاء هذه المدرسة الملك العادل الزاهد / نور الدين أبو القاسم محمود بن زنكي بن آق سنقر (ضاعف الله ثوابه ) .

وأنه أوقفها على أصحاب الإمام سراج الأمة / أبي حنيفة النعمان (رضي الله عنه) ، ووقف عليها وعلى الفقهاء والمتفقهة بها ، جميع الحمام المستجد بسوق القمح ، والحمامين المستجدين بالوراقة خارج باب السلامة ، وكذلك الدار المجاورة لهما .

وكذلك الوراقة بعونية الحمى ، وجنينة الوزير ، والنصف والربع من بستان الجوزة بالأرزة ، والأحد عشر حانوتاً خارج باب الجابية ، والمساحة الملاصقة من الشرق ، وكذلك التسعة الحقول بداريا .

وتختتم الوقفية قائلة : على ما نص وشرط في كتب الوقف رغبة في الأجر والثواب ، ونقدمه بين يديه يوم الحساب ، فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه ، إن الله سميع عليم ، وذلك في مدة أخرها شعبان سنة 567 هـ .

ومعنى الفقرة الأخيرة من وقفية نور الدين على المدرسة النورية ، هو أن هذه الأوقاف تسلم تامة كاملة إلى المدرسة في خلال مدة أخرها شهر شعبان ، سنة 567 هـ .

نظام الملك رائداً :

ونريد أن نقول هنا : إن نور الدين زنكي اقتبس اتجاه الوزير السلجوقي الشهير( نظام الملك) ، في بناء المدارس وإحياء الدراسات السنية والقضاء على بقايا التشيع ، وقد عرفت مدارسه هذه باسم المدارس النظامية ، والتي جلس في إحداها حجة الإسلام ، الإمام / أبو حامد الغزالي .

واقتبس نور الدين اتجاه نظام الملك في مملكته بحلب ودمشق ، فأنشأ مدارس عديدة ليتعلم فيها الناس ، لذلك يمكن لنا القول : إن نور الدين امتداد لنظام الملك في الناحية التعليمية ، والذي جاء صلاح الدين واستكمله مقتدياً بطريقة أستاذه نور الدين ، في نفس الوقت الذي كان فيه نور الدين امتداداً لأبيه عماد الدين زنكي في لانتصارات العسكرية .

(13)

إلى رحاب الله

في سنة 554 هـ ، أصيب نور الدين بمرض شديد تزايد به ، حتى أضعف قواه ، ووقع الإرجاف به من حساد دولته ، والمفسدين والطامعين من عوام رعيته ، وارتاعت الرعية وأعيان الأجناد ، وضاقت صدور قطان الثغور والبلاد ، خوفاً عليه ، وإشفاقاً من سوء يصل إليه ، لا سيما مع أخبار تحركات الروم والفرنجة المستمرة على حدود البلاد الإسلامية .

وفي أثناء مرضه أوصى نور الدين محمود بأن يكون شقيقه قطب الدين مودود خليفة له إذا مات ، ولكن الله تعالى شفاه وعافاه ، واستعاد صحته ، وزاد من قوته .

وفي سنة 569 هـ ، مرض نور الدين بمرض الخوانيق ، والخوانيق جمع خناق على وزن غراب ، وهو ـ كما يذكر الفيروزأبادي في القاموس المحيط ـ : داء يمتنع معه نفوذ النفس إلى الرئة والقلب ، ويقول أيضاً : الخناقية داء في حلوق الطير والفرس .

وقد أشار عليه الأطباء بالفصد فامتنع ، وكان يردد دائماً : قدر الله وما شاء فعل ، فلكل أجل كتاب ، وكان نور الدين مهيبا حاسماً ، فلم يراجعوه .

وانتقل نور الدين إلى جوار باريه وقت طلوع الشمس من يوم الأحد أو الأربعاء ، الموافق الحادي عشر من شهر شوال من سنة 569 هـ .

كان عمر نور الدين حين رحيله عن عالمنا ألفاني 58 عاماً ، مكث منها 28 عاماً في الملك ، أي أنه تولى الحكم وعمره 30 عاماً .

وتم دفنه أولاً في بيت له بجانب قلعة دمشق السورية ، ثم نقلوه إلى مقبرة تجاور مدرسته النورية الكبرى التي بناها لأصحاب أبي حنيفة النعمان بجوار الخواصين في الشارع الغربي بدمشق ، ومازالت بقاياها موجودة حتى الآن خير شاهد على مدى اهتمام نور الدين بالعلم والتعلم وبناء المدارس .

وعندما مات نور الدين خلفه في الملك ابنه الملك / الصالح إسماعيل ، وكان لم يبلغ الحلم عندئذ ، ومع ذلك أطاعه الناس في سائر بلاد الشام حباً وكرامة في أبيه ، وأطاعه صلاح الدين في مصر ، وخطب له بها ، وضربوا النقود في مصر باسمه أيضاً ، كما كان الأمر تماماً في حياة والده نور الدين .

ويظهر أن الشاعر والكاتب / أبو حامد محمد بن محمد الأصفهاني ، الذي كان مقرباً من نور الدين ، قد فقد بعد وفاة نور الدين المكانة الكبرى الملحوظة التي كان يتمتع بها عند نور الدين ، لذلك ضاق الأصفهاني ببعض الأوضاع الغير سليمة التي رآها بعد رحيل نور الدين عن عالمنا .

وهو يكتب عن ذلك فيقول : إنه عندما توفي نور الدين محمود اختل أمري ، واعتل سري ، وعلت نفوذ حسادي ، وبلغ مرادهم أضدادي ، وكان الملك الصالح إسماعيل صغيراً ، فصار العدل بين العجمي له وزيرا ، وتصرف المتحالفون في الخزانة والدولة كما أرادوا ، وولوا ، وصرفوا ، ونقصوا وزادوا ، واقتصروا لي على الكتابة ، وصرت محروم الدعوة من الإجابة .

ونحن نعلق على كلام العماد الأصفهاني قائلين : إنك رجل خبير بشئون الحياة والناس ، تعلم أن الأيام دول ، وأن دوام الحال من المحال ، ولكل دولة أيام ورجال ، إذن من المستحيل أن يكون هناك رجل لكل العصور والأزمان ..

وقد كتب العماد الأصفهاني قصيدة دالية يرثي فيها نور الدين محمود ، جاء فيها :

{ لفقد الملك العــــــا *** دل يبكي الملك والعدل

وقد أظلمت الآفــــاق *** لا شمس ولا ظـــل

ولما غاب نور الــــد *** ين عنا أظلم الحفــل

وزال الخصب والخـــير *** وزاد الشر والمحــل

ومــات البأس والجــو *** د ، وعاش اليأس والبخل

وعز النقص لما هــــا *** ن ، أهل الفضل والفضل

وهل ينفق ذو العــــلم *** إذا ما نفق الجهـــل؟ }

ولعل القارئ يلاحظ الحالة النفسية التي أصبح عليها العماد الأصفهاني بعد رحيل نور الدين ، وكذلك رؤيته للأوضاع المتردية على يد الملك الصغير والذي لا حول له ولا قوة ، ويحتفظ لنا تاريخ الأدب بعدد من القصائد التي كتبها الأصفهاني في رثاء نور الدين ، تعكس بجلاء تقديره لهذا الرجل الذي قلما نجد في التاريخ الإنساني مثالاً له .

نقول : لقد فرح الفرنجة بموت نور الدين محمود ، مثلما فرحوا من قبل بموت والده ، ولكنهم في نفس الوقت كان يسيطر عليهم الخوف من وحدة المسلمين وجمع شملهم ، لذلك استخدم أدعياء حماية الصليب سلاحاً جديداً قديماً ألا وهو سلاح المكر والدهاء والخديعة بهدف الوقيعة بين حكام الإسلام ، فتشتعل رغبة الانفصال والتشرذم في نفوسهم .

فما كان من الفرنجة أن أسرعوا إلى أمراء المسلمين يدسون بينهم ، ناقلين لهم الأخبار الكاذبة الملفقة بغرض الإيقاع بينهم ، وبكل أسف فقد انخدع الكثيرون منهم ، وعادوا إلى التنازع والتقاتل ، فتمزقت بلاد الشام ، ولجأ كل أمير هناك إلى الاستنجاد بالأعداء ضد إخوانه من المسلمين ، ناسين أو متناسين أن الوحدة هي الطريق الوحيد للفكاك من أسر الهيمنة والتبعية ، وهي خير وسيلة لنؤكد ذاتنا وهويتنا ونحرر أرضنا السليبة .

وتمر الأيام ويجئ صلاح الدين تلميذ نور الدين ليوحد الأمة الإسلامية ، ويهزم الفرنجة ، ويحرر بيت المقدس الشريف من دنس أدعياء حماية الصليب .

رحم الله تعالى نور الدين محمود ، جزاءاً لما قدم للإسلام والمسلمين من خير عميم ، وجهاد عظيم .

لقد كان مثلاً أعلى وقدوة حسنة فهل آن لنا ولشبابنا أن يقتدي به ؟ ، نأمل ذلك بإذن الله .

ـــــــــ

بعض الأسانيد

ابن شداد (بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع) ، سيرة صلاح الدين الأيوبي ، المسماة : النوادر السلطانية والمحاسن اليوسيفية ، ومذيل عليه منتخبات من كتاب : التاريخ لصاحب حماه ، تأليف : تاج الدين شاهنشاه بن أيوب ، القاهرة ، 1317 هـ .

(1) عماد الدين الأصفهاني (أبو عبد الله محمد بن حامد بن عبد الله) ، الفتح القسي في الفتح القدسي ، طبعة ليدن ، لندبرج ، 1888 م .

(2) أحمد شلبي ، التربية والتعليم في الفكر الإسلامي : جوانب التاريخ والنظم والفلسفة ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، 1992 م .

(3) محمد عبد الفتاح عليان مع آخرين ، الدولة العربية الإسلامية وحضارتها ، وزارة التربية والتعليم ، القاهرة ، 1980 م .

(4) يسري عبد الغني ، معجم المؤرخين المسلمين حتى القرن الثاني عشر الهجري ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1991 م .

(5) بدر الدين الأسدي (بدر الدين محمد بن أبي بكر أحمد الأسدي) ، الكواكب الدرية في السيرة النورية ، القاهرة .

(6) جمال الدين الرمادي ، صلاح الدين الأيوبي ، كتاب الشعب ، العدد 25 ، القاهرة ، 1958 م .

(7) أحمد الشرباصي ، نور الدين زنكى ، مقالة منشورة بدائرة معارف الشعب ، العدد 132 ، دار الشعب ، القاهرة .

(8) ابن الأثير (عز الدين أبو الحسن علي) ، الكامل في التاريخ المسمى تاريخ ابن الأثير ، مطبعة بولاق ، القاهرة ، 1290 هـ (الجزء الحادي عشر) .

(9) ابن الفرات (ناصر الدين محمد بن عبد الرحيم بن علي المصري) ، تاريخ الدول والملوك المسمى بتاريخ ابن الفرات ، حققه / قسطنطين رزيق ، بيروت ، 1936 ـ 1942 م .

(10) ابن القلانسي (أبو يعلي حمزه) ، ذيل تاريخ دمشق ، نشره وقدم له : هـ . ف . إميدروز ، ليدن ، 1908 م .

(11) ابن خلدون (عبد الرحمن أبو زيد ولي الدين) ، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر ، مطبعة بولاق ، القاهرة ، 1284 هـ (الجزء الخامس) .

(12) ابن خلكان (أحمد بن محمد بن إبراهيم شمس الدين أبو العباس) ، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان ، القاهرة ، 1399 هـ (الجزء الثاني) .

(13) أبو شامه (شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي) ، الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية ، القاهرة ، 1288 هـ (الجزء الأول) .

(14) أسامه بن منقذ ، الاعتبار ، حققه / فيليب حتى ، مطبعة جامعة برنستون الأمريكية ، برنستون ، 1930 م .

(15) ابن تغري بردي (جمال الدين أبو المحاسن يوسف الأتابكي) ، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ، نشرة بوبار ، كاليفورنيا ، 1909 م ـ 1935 م (الجزء السادس) .

(16) النعيمي ، الدارس في تاريخ المدارس ، طبعة بيروتية ، بدون تاريخ (الجزء الأول) .

(17) يسري عبد الغني ، المدنية العربية الإسلامية (نظرات في الأصول والتطور) ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1987 م .

(18) محمد جمال الدين سرور مع آخرين ، الحضارة الإسلامية ، وزارة التربية والتعليم ، القاهرة ، 1993 م .

ـــــــــ

*باحث ومحاضر في الدراسات العربية والإسلامية

Ayusri_a@hotmail.com

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها


السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ