معاداة
الدول الكبرى للشعب الكردي
بقلم
إبراهيم درويش
nafizah_2006@yahoo.com
تمهيد :
ربما كانت المشكلة الكردية في
الشرق الأوسط، على مدى قرون ،من
أعقد المشكلات وأكثرها تشعّبا،
نظراً لتعدّد الفاعلين
المؤثرين فيها، لأهمية موقع
كردستان أولاً،وسهولة إيجاد
موطىء قدم لكل طرف في هذه الساحة
ثانياً،الأمر الذي نتج عنه
توظيف الشعب الكردي لخدمة أغراض
وأهداف لا تمتّ إلى تطلعاته
بصلة ،وتعميق المأساة وارتفاع
نسبة الضحايا في صفوفه ، واتساع
نطاق الدمار في بنيته التحتية
ومشاريعه الحيوية باستمرار
،مما يعني ترسيخ التخلف
وتجذيره. ومما يعمّق
المأساة ويجذّرها ويوسّعها
أفقياً وعمودياً لدى هذا الشعب
الطيب البسيط هو عدم قدرته على
الاستفادة من تجاربه ومآسيه
،وضعف التمييز بين أعدائه
وأصدقائه الحقيقيين .
والسطور الآتية تسلّط الضوء على
جانب من مأساة الشعب الكردي ،
وهو تآمر الدول الكبرى ضده.
1 - حركة بدرخان
باشا في جزيرة بوتان (جزيرة ابن
عمر ) :
أسرة بدرخان في منطقة الجزيرة
الفراتية من الأسر العريقة، وقد
كانت تحكم باسم السلطان
العثماني، ولكن طموحات الأمير
بدرخان من جهة والوقوف في وجه
دسائس الباب العالي والحيلولة
دون استمرار الوقيعة بين
العشائر الكردية من جهة ثانية
قد دفعت به إلى تهيئة الأوضاع في
إمارته والإمارات الكردية
المجاورة لإعلان الثورة ضد
الأتراك،فاتّجه منذ سنة 1821 إلى
عقد الاتفاقيات وتوحيد الخطط
والجهود مع
هذه الإمارات ، وبثّ الوعي، بل
وإنشاء تحالف كردي واسع بين
العشائر الكردية، وأنشأ مصانع
للأسلحة والذخائر،لئلاّ يقع
تحت رحمة الدعم الخارجي،حتى إذا
وجد الفرصة المناسبة أعلن
سيطرته على معظم مناظق كردستان
الخاضعة للسلطات العثمانية
وتلك الخاضعة للنفوذ
الفارسي،وبدأ بضرب النقود
باسمه سنة 1842م، كما قام بتشجيع
الصناعات الحرفية ،وأرسل بعثة
علمية إلى أوربا ،واتصل
بإبراهيم باشا في مصر لتوحيد
الجهود ...إلخ .وأرسى دعائم حكم
عادل ،وفرض القانون والقضاء
العادل والنظام ،حتى غدا حكمه
مضرب المثل :"من وطن بدرخان
يسافر الطفل وفي يده الذهب "،كناية
عن الأمن الذي استتبّ .
لكن الأتراك أفلحوا في إثارة
السكان المسيحيين من طائفة
النساطرة ضده،
عندما حرّضوهم على الامتناع
عن تأدية الضرائب له ،الأمر
الذي دفع بدرخان إلى معاقبتهم
على ذلك، بالرغم من أنه كان يتبع
معهم سياسة التسامح الديني،إذ
إنه أمر فور تولّيه الإمارة
بإبطال العادات المفروضة على
الذميين ،مثل ارتداء زيّ خاص ،
وترجّل المسيحي من على ظهر
دابته إذا رأى أحد زعماء الكرد.كما
شجّع المسلمين على الزواج من
الأرمنيات والنسطوريات (1).وما
يهمّنا في هذا المقام هو كيف
التقت مصالح الدول العظمى
وقتذاك ضد إمارة بدرخان ؟
التدخل
البريطاني - الفرنسي :
استغلت بريطانيا وفرنسا الحملة
التي جرّدها الأمير بدرخان ضد
النساطرة، وتدخّلتا لدى الباب
العالي العثماني ،وقدّمتا
مذكرة احتجاج لديه ، على تصرفات
الأمير،بذريعة الدفاع عن
المسيحيين،ووعدتا السلطان
العثماني بالمساعدة إذا
احتاجها، الأمر الذي دفع
السلطان العثماني إلى تجييش
الجيوش وتجنيد كل القوى،مع
الاستعانة بالمتطوعين من
الأقاليم الأخرى لمحاربة
الأمير بدرخان .وبالرغم من ذلك
فإن ثورته التي استمرت ما بين 1843و
1848لم تتلاش إلا نتيجة خيانة
ابن أخته (وقيل ابن عمه )عزالدين
شير وتواطئه مع الأتراك .
يقول جلال الطالباني في كتابه
" كردستان والحركة القومية
الكردية ":
"لولا التدخل الانجلو - فرنسي
ضد الأكراد ، بحجة الدفاع عن
المسيحية ، لكان النصر حليفه
"أي بدرخان "(2).
2 - حركة عزالدين
شير :
بعدما تواطأ عزالدين شير (المعروف
في المصادر الغربية ،لاسيما
الروسية ب"يزدان شير ") مع
الأتراك ضد خاله الأمير بدرخان
،ثار هوالآخر سنة 1853 م، أثناء
الحرب التركية - الروسية (1853 - 1856
م)،في شبه جزيرة القرم،وقد
استطاع عزالدين كسب ولاء السكان
المسيحيين الذين قاتلوا معه
القوات التركية. واستطاع بجيشه
الذي بلغ تعداده مئة ألف مقاتل
تحرير المنطقة الممتدة بين
بحيرة وان (شرقي مدينة ديار بكر )
وبغداد، واستمرّ حكمه نحو سنتين(3).
أما أسباب هذه الانتفاضة فقد ذكر
المؤرخون أهمها ،وهي : الطلبات
المستمرة على التجنيد الإجباري
وتموينات الحرب التركية
الروسية ،وكثرة الضرائب
المفروضة على الأكراد ، وأعمال
النهب والسلب والظلم والاضطهاد
من جانب الباشوات الأتراك ضد
السكان الكرد (4).
دور
بريطانيا في إجهاضها :
قامت بريطانيا بالدور الأبرز في
التآمر والقضاء على هذه
الانتفاضة الكردية ، من خلال
إرسال قواتها إلى جانب القوات
التركية، فضلاً عن اتباع مخطّط
ماكر خبيث .فما هو ؟
يقول د . "ن .أ.خالفين " في
كتابه الصراع على كردستان "
عن حركة عزالدين :
" أخذت الدبلوماسية
البريطانية تشترك بنشاط ضد
الثورة، وقد قيّمت الدوائر
الحاكمة البريطانية الأحداث
الجارية في كردستان التقييم
الضروري، وأعطيت التوجيهات إلى
الممثلين الدبلوماسيين
الإنكليز شرقي تركيا ،لاتخاذ
التدابير اللازمة لإخماد
الانتفاضة، ووضع المال اللازم
في خدمة هذا الغرض،فبدأ عميل
القنصلية الإنكليزية في الموصل
"نمرود رسام " بالمفاوضات
مع يزدان شير وغيره من زعماء
الحركة الإقطاعيين.وبحجة
القيام بالوساطة بين يزدان شير
وممثلي استانبول قدّم نمرود
رسام إلى الزعيم الكردي (400) كيس
من الدراهم، بحسب بعض
المصادر،ونجح في زرع الشقاق في
صفوف الثوار .وقدّم الانكليز
الذين كانوا موجودين في أماكن
قريبة من الأحداث الجارية
المساعدات المباشرة الفعلية
للقوات الحكومية في حربها ضد
الكرد ".
ويضرب "خالفين" مثلاً على
اشتراك البريطانيين الفعلي ضد
الكرد، فيقول: "فمثلاً قاد [ماكون]الذي
كان هناك عمليات المدفعية
التركية المستخدمة لاجتياح
التحصينات الكردية ".
ويتابع :"وقد استطاعت القوات
التركية مستخدمةً أسلحةً
جديدةً تلقّتها بغزارة من
ترسانات الأسلحة الإنجليزية ,
احتلال المدن ونقاط تقاطع الطرق
ومطاردة الثوار إلى الجبال..".إلى
أن يقول : "واستحصل رسام
العميل الإنجليزي من يزدان شير
موافقته على مقابلة مبعوث
السلطان المخوّل بتصفية
القضايا المختلف عليها .
وبالرغم من أن الدبلوماسي
الإنجليزي والشخصيات الرسمية
التركية تعهّدوا بضمان سلامة
زعيم الثورة ,إلا أنه ألقي القبض
عليه في أحد اللقاءات , ثم أرسل
إلى استانبول وألقي في السجن
"(5).
وذكر افريانوف في كتابه "الأكراد"
(ص 500) رسالة أفرام إلى قيادة
الجيش الروسي في 30آذار 1855م يقول
:"لاحظ بطريرك الآشور أفرام
بأن القنصل البريطاني اختطف
يزدان شير بطريقة مخادعة "(6).
فتكون بريطانيا في هذه الانتفاضة
أيضاً قد قامت بدور غير شريف،
تحقيقاً لأطماعها ومصالحها
التي هي بالضد من مصالح الشعب
الكردي. ولكن بقي أن يفهم الكرد
هذه الحقيقة .
3-حركة
الشيخ عبيد الله النهري (1880):
كان الشيخ عبيد الله يمهّد
لحركته منذ فترة طويلة , وذلك
بالاتصال بزعماء العشائر
الكردية ,ويناشدهم التعاون معه
في وجه الظلم الفارسي والهيمنة
التركية ,إلى أن وفّق في عقد
مؤتمر للعشائر الكردية في قرية
نهري - مسكن الشيخ نفسه ,التي تقع
ضمن كردستان التركية, وترأّس
الشيخ المؤتمر ,الذي انبثقت عنه
"جمعية العشائر الكردية "التي
حملت راية الجهاد.
انضوى
الكرد تحت قيادة الشيخ
عبيدالله،وحملوا السلاح في وجه
المظالم الفارسية والباشوات
الأتراك، وتدفّق المتطوعون من
المناطق الكردية كافة: شمزينان،
موكريان، بهدينان، وان، ودحروا
الجيش الإيراني وحرّروا مناطق
عدّة، كما حرّروا مدن
مهاباد،رضائية،منطقة شمزينان،
ومنطقة موكريان. وبعد معارك جرت
بين القوات الإيرانية والثوار
الكرد هزم فيها الجيش الفارسي
لم تر الحكومة الإيرانية بدّاً
من التوجّه إلى الخارج
للاستعانة به ضد هذا الخطر.
دور بريطانيا
وروسيا في إجهاض هذه الحركة:
توجّهت الحكومتان التركية
والإيرانية إلى الحكومتين
البريطانية والروسية لطلب
المساعدة ضد حركة الشيخ
عبيدالله النهري، فحصلتا على
مساعدتيهما (7).
جاء في مجلة "شمس كردستان "بقلم
الدكتور أحمد عثمان (8) :
وظهر أن مبعوث إنكلترا "كلايتون
" والسفير البريطاني في طهران
"تومسون " يقفان موقفاً
سلبياً من الانتفاضة، ودعا
الأخير إلى تقارب إيراني ـ تركي
للوقوف بوجد الحركة.وكتب إلى
وزارة الخارجية البريطانية حول
أهداف عبيد الله قائلاً :
"إن الزعماء الأكراد يرغبون في
خلق كردستان على مبادئ الوحدة
والاستقلال".
وبعد التدخّل الأجنبي, والتهديد
باستعمال الجيوش القيصرية, وبعد
اتفاق تركيا وإيران ضد الثورة
الكردية, وحشدهما لمجموعة ضخمة
من الجيوش, اضطرت الثورة إلى
قبول التفاوض مع الحكومة
العثمانية حول المطاليب
الكردية .
وخُدع الشيخ عبيد الله ,فذهب على
رأس وفد كردي إلى العاصمة
التركية استانبول, وهناك قُبض
عليه وأُودع السجن بدل التفاوض,
وكان لضغط الإنجليز والقيصر
الروسي أثر كبير في انخداع
الشيخ وذهابه إلى الآستانة.وبعد
فترة نُفِي الشيخ عبيد الله
وأسرته إلى مكة المكرمة، فتوفي
هناك (9).
وإذا كانت الذريعة التي تذرّعت
بها بريطانيا وفرنسا للتدخّل ضد
ثورة الأمير بدرخان هي حماية
المسيحيين, فإن الأمر بالنسبة
لثورة الشيخ عبيد الله مختلف,
فقد كان النساطرة في منطقة
شمزينان تعّهدوا بتوحيد جهودهم
مع الشيخ – كما يذكر "كلايتون"المقيم
البريطاني في كردستان في شهادته
(10).
اتفاق سايكس-
بيكو وتأثيره على الكرد :
إذا كان الترك والفرس قد توصّلوا
إلى اتفاق لتقسيم كردستان بينهم,
بعد معركة جالديران عام 1514م
وغدت بلاد الكرد منذ ذلك
التاريخ خاضعة في ثلاثة أرباعها
للعثمانيين ,والربع الباقي
للفرس, بالرغم من أن هذا الخضوع
كان شبه اسمي,فإن اتفاق سايكس-بيكو
عام1916بين بريطانيا وفرنسا قد
قسّم المنطقة الكردية التي كانت
خاضعة للسيطرة العثمانية على
ثلاثة كيانات سياسية حديثة بعد
انهيار الدولة العثمانية في
أعقاب الحرب العالمية الأولى.وهذه
الكيانات هي: تركيا الحديثة,والعراق،
وسورية.
لقد أوجدت الحدود الصارمة بين
الكيانات الثلاثة للشعب
الكرديّ، الذي ظلّ لآخر لحظة
متعلّقا بدولة الخلافة ويعمل
على إعادتها بقيادة الشيخ سعيد
بيران وغيره، مشكلات سياسية
واقتصادية واجتماعية هائلة,
بحيث يقرب من المستحيل حلّها
أوتجاوزها أوالتخفيف من آثارها,
فضلاً عن التغلّب عليها. وكان
الفضل في إيجادهاـ إذا كان هذا
فضلاً لا لؤماً ـ للعالم الذي
يتشدّق بالحرية والديمقراطية
وحقوق الإنسان، ولاسيما
بريطانيا وفرنسا . بل لقد بلغ من
غدر الدولتين (بريطانيا وفرنسا)المتباكيتين
على حقوق الشعوب التي كانت
خاضعة للسلطنة العثمانية, بلغ
من غدرهما بالشعب الكردي حدّاً
لا يوصف؛ فقد خدّرتا أعصاب هذا
الشعب ليستكين ويمنّي نفسه
بالأحلام الوردية, ريثما يتمكّن
مصطفى كمال أتاتورك من تثبيت
أقدامه على أنقاض السلطنة
العثمانية, ويتعهّد للحلفاء (بريطانيا
وفرنسا ) بتنفيذ المخطّط الرهيب
البعيد المدى، المتمثّل بإلغاء
الخلافة العثمانية, وقطع صلة
تركيا بالعالمين العربي
والإسلامي, لقاء إطلاق يده في
كردستان,وكأن هاتين الدولتين
تريدان الثأر من الكرد الذين
مرّغوا أنوف الصليبيين الغزاة
في الوحل،ليصدق قول القائل إن
الكرد ضحايا التاريخ
والجغرافية. فماذا جرى بالضبط ؟
وكيف قضت بريطانيا وفرنسا على
الطموحات الكردية؟
تآمر بريطانيا
وفرنساعلى الشعب الكردي:
مع انتهاء الحرب العالمية الأولى
كانت القوات البريطانية تحتلّ
مناطق واسعة من ممتلكات الدولة
العثمانية, بما فيها أجزاء
واسعة من كردستان, وكان
الفرنسيون يحتلّون السواحل
الجنوبية لتركيا وبلاد الشام,كما
كان الروس والإيرانيون والترك
يحتلون شمال كردستان, وفي هذه
الأثناء راح زعماء الوفود للدول
الأجنبية في مؤتمر الصلح بباريس
يؤكّدون للجنرال شريف باشا –
رئيس الوفد الكردي للمؤتمر –
أنه لابد من إخلاد الكرد إلى
السكينة والهدوء, ووقف كل أعمال
القوة العسكرية حتى يمكن تحقيق
جميع الآمال والأماني الكردية
على المستوى القومي, وأنّ أيّ
محاولة للإخلال بالهدوء
والسلام والأمن سوف تعرّض هذه
المطالب للخطر.
وعندما وصل إلى علم الزعماء
الكرد أن مصطفى كمال قد دبّر
خطةً سرّيّةً للغدر بالكرد،
وأنه يعدّ العدة لإرسال حملة
مباغتة ضدهم،قام كل من الأمراء
جلادت وكاميران بدرخان وأكرم
جميل باشا زاده ،مندوبو جمعية
تعالي كردستان،بحشد قوات كردية
سريعة في مناطق جبال كاخته لرد
الحملة التركية،ولكن فجأة وصل
الأمير لاي البريطاني "بل"
إلى "ملاطيه "وأرسل الميجر
"نوئيل"نائباً عنه إلى
الزعماء الكرد,ليبلغهم باسم
حكومة صاحبة الجلالة بوجوب
تفريق القوات الكردية حالاً,وأن
أيّة محاولة مسلحة سوف تعرّض
القضية الكردية للخطر, وإعادة
النظر من قبل الدول الأوربية
المتعاطفة معها .الأمر الذي
يعني أن الأوربيين كانوا يعدّون
مصطفى كمال للقيام بدور خطير في
الشرق الأوسط ,ولو على حساب الحق
والعدل .
لقد أيقن الكرد – بعد فوات
الأوان – أنهم وقعوا أسرى خديعة
مشتركة بين الترك والحلفاء ,وأن
لعبة السياسة لها أصولها
وألاعيبها ولاعبوها ,وهيهات أن
يتقنها الكردي الطيب البسيط !!
ولكن هل توقّف التواطؤ الأوربيّ
– الكماليّ عند هذا الحدّ
؟الجواب بالتأكيد هو لا. فعندما
أيقن الكرد بسوء نوايا أتاتورك
تجاههم وأدركوا معالم الخطة
السرية التي ينوي تنفيذها ضدهم،
من حيث إلغاء الخلافة و تتريك
الكرد أو محوهم بالقوة (11),
أعلنوا الثورة الكبرى عام 1925م،
بقيادة الشيخ سعيد بيران .
4- ثورة الشيخ
سعيد بيران :
الشيخ سعيد بيران من علماء الدين
الإسلامي الواعين الحريصين على
بقاء الرابطة الإسلامية
المتمثلة بدولة الخلافة
أوالسلطنة العثمانية. ولذلك لما
رأى سياسات أتاتورك العدائية
تجاه دولة الخلافة من جهة وتجاه
بني جلدته الأكراد من جهة ثانية,هبّ
مدافعاً عن القضيتين في آن معاً(12),وقد
سبق حركته التي قدّر لها
الانطلاق يوم 21 آذار1925م,اتصالات
وبناء علاقات مع مختلف الجهات
والعشائر الكردية,الأمر الذي
أسفر عن توافد الزعماء الكرد
على مقرّ إقامته.غير أن خطأً وقع
قبل حلول الموعد المحدد, أدى إلى
انكشاف الخطة وتمكّن القوات
التركية من إلقاء القبض على
معظم زعماء الثورة وإعدامهم
فوراً. وبالرغم من ذلك فقد أعلنت
الثورة قبل الموعد المقرّر
بأسبوعين,وامتدت لتشمل معظم
مناطق كردستان، غير أن النتيجة
التي أسفرت عنها كانت فظيعة,فقد
أعدم معظم القادة الكرد ,
وهٌجِّرت أعدادٌ كبيرة منهم إلى
مجاهل الأناضول، فمات قسم كبير
منهم قبل الوصول إلى مقرّهم
الجديد,بسب البرد والمرض ونقص
المؤن والأغذية وقلّة الملابس.
وفي هذه الثورة أيضا ظهر الدور
الفرنسي المعادي للكرد,
والمتواطىء مع الكماليين, من
خلال تمكين القيادة التركية من
استخدام السكك الحديدية
المارّة من شمالي سورية, الخاضع
للسيطرة الفرنسية, لنقل خمسة
وعشرين ألف جندي تركيّ لمحاصرة
الثوار الكرد من الخلف . هذه
الطعنة النجلاء التي سدّدها
الفرنسيون من الخلف للشعب
الكردي, لولاها لربما تغيّر وجه
الصراع في المنطقة, ولكنه
الاستعمار والغدر .
لماذا أدار
الغرب ظهره للكرد؟
إن أسباباً عدة قد دفعت –
ومازالت تدفع – الغرب
الاستعماريّ لأن يقلب للكرد ظهر
المجنّ،منها توصُّل كلّ من
الدولتين بريطانيا وفرنسا إلى
اتفاق مع القيادة التركية
الجديدة المتمثّلة بمصطفى كمال
أتاتوك وبطانته. فبريطانيا
توصّلت مع هذه القيادة إلى
اتفاق نهائي بخصوص لواء الموصل
وتبعيته للدولة العراقية قيد
الإنشاء . وفرنسا توصّلت مع هذه
القيادة إلى اتفاقات مُرضية
بخصوص مناطق كيليكيا ولواء
الإسكندرونة وترسيم الحدود
النهائية بين تركيا الحديثة
وسورية الخاضعة للانتداب
الفرنسي.وإذا كان الأمر قد
سُوّي بهذا الشكل,إذن فليذهب
الشعب الكرديّ وأحلامه
وطموحاته المشروعة إلى الجحيم !!
5-جمهورية
كردستان 1946والتخذيل السوفياتي:
في أعقاب الحرب العالمية الثانية,
وتمركز قوات سوفياتية في
المناطق الشمالية والشمالية
الغربية من إيران (كردستان
الإيرانية وأذربيجان ) تمكّن
القادة السوفيات من إقناع
الزعيم الكردي الإيراني القاضي
الشرعي "القاضي محمد "بتأسيس
حزب سمّاه "الحزب الديمقراطي
الكردستاني" الذي انتشر
سريعاً، وامتد نشاطه ونفوذه
ليشمل كردستان الإيرانية كلها
تقريباً, انطلاقاً من مدينة
سننداج الكردية .
ولم يلبث الحزب أن أعلن جمهورية
كردستان ـ التي أطلق عليها خطأً
جمهورية مهاباد ـ ذات الحكم
الذاتي ضمن الدولة الإيرانية,
بدعم وتحريض من السوفيات, الذين
اقتضت مصلحتهم السياسية الضغط
على الحكومة المركزية
الإيرانية ,باستخدام الورقة
الكردية الخطيرة الرابحة
دائماً في أيدي أعداء كردستان
والكرد. فأعلنت الجمهورية في
شهر ديسمبر (كانون الأول)1946م.
لكنّ هذه الدولة الفتية لم تعمر
إلاّ أقلّ من سنة , لأنّ المصلحة
السوفياتية العليا اقتضت
التخلّي عن الاستمرار في دعم
الكرد والأذربيجانيين بعد
توصّل الاتحاد السوفياتي
والحكومة الإيرانيةإلى عقد
اتفاقات نفطية وغيرها(13)،بالرغم
من أنّ البرلمان الإيرانيّ قد
رفض الموافقة فيما بعد على هذه
الاتفاقيات.أي أن السوفيات قد
أُوصدت أبوابُ إيران في وجوههم.
6- ثورة الملا
مصطفى البارزاني :
البارزانيون مقاتلون أشدّاء ,
أصحاب بأس وقوة, لديهم نزوع شديد
وقوي نحو الانعتاق والتحرر,وهم
في الأصل أهل دين وعلم, ولهم
سلطتهم الأدبية والدينية
والعشائرية على العشائر
الكردية المجاورة ,فضلاًعن
الخبرة العسكرية التي اكتسبوها
من خلال الثورات المتعددة التي
أعلنوها , سواء ضد الولاة
العثمانين ,أم ضد حكومة بغداد,
الأمر الذي أدى من ناحية أخرى
إلى فقدان أعداد كبيرة من
رجالهم وشبابهم , سواء في ساحات
المعارك أم في السجون
والمعتقلات. فقد خاضوا ثورة
للفترة 1931-1932,وثورة عام 1935-1936,وثورة
للفترة 1943 -1945, وأخرى بين عامي
1946-1947,وأخرى بين 1961-1975 وهي أطول
الثورات وأشدّها إيلاماً
للجانبين الكردي والعراقي –
الحكومي (14).وكان للتدخّلات
الدولية والإقليمية دور مهمّ في
استمرارها كل هذه الفترة،وفي
النهاية المأساوية التي انتهت
إليها .وما يهمّنا هنا هو دور
الدولتين العظميين الاتحاد
السوفياتي والولايات المتحدة
في إجهاض أطول ثورة كردية في
شمالي العراق بشكل مأساوي ومريع
وسريع. فكيف حدث ذلك؟
الدعم
السوفياتي وتراجعه:
أبدى الاتحاد السوفياتي شيئاً من
التعاطف تجاه الملا مصطفى
البارزاني وثورته, عندما كان
للشيوعيين تأثير على البارزاني,
وعندما كانت الحكومة العراقية
تعادي الشيوعيين وتلاحقهم, سواء
خلال العهد الملكي, أم في الأيام
الأولى من حكم البعث (1963)(15),
ولكنّه عاد فتنكّر للقضيّة
الكرديّة أيّام عبد الكريم قاسم
الذي قرّب الشيوعيين, وبعدما
توصّل مع العراق إلى معاهدة
صداقة في السابع من (أبريل)
نيسان (1972), وأشرك البعثيون
شيوعيين في الوزارة. وازداد
الهجران بين الكرد البارزانيين
والرفاق السوفيات بعد الخلافات
التي تحولّت إلى اشتباكات
مسلّحة بين الشيوعيين وأتباع
البارزاني في شمالي العراق عام
(1973-1974), واتّهم السوفياتُ
الكردَ بأنهم يقمعون الشيوعيين
في كردستان, وقادوا حملة دولية
ضدهم في المحافل الدوليّة (17).
الأمر الذي دفع البارزاني إلى
الاتّجاه غرباً, وطلب الدعم
الأمريكي.
الدور الأمريكي:
نشط شاه إيران على المستوى
الإقليمي كثيراً في النصف الأول
من سبعينيات القرن العشرين ,"مع
ظهور أهمية منطقة الخليج العربي
في أواخر الستينيات, وظهور
بوادر الصراع الدولي على النفوذ
في هذه المنطقة الاستراتيجية من
العالم, سواء بين الكتلتين
الشرقية والغربية, أو بين
القوميتين العربية والفارسية,
ومحاولات شاه إيران ليكون له
الكلمة العليا في الخليج"(17).
وتبعاً لذلك زاد العون الإيراني
للبارزاني, وتوسّط للبارزاني
لدى الولايات المتحدة
الأمريكية,ورتّب لقاء بين
البارزاني والمخابرات
المركزيّة في واشنطن عام 1973, حتى
إذا زاد خطره, وتهدّدت وحدة
العراق من جرّاء أعماله
ونشاطاته, بادرت الحكومة
العراقية إلى التنازل لإيران عن
نصف شط العرب, مقابل إيقاف شاه
إيران دعمه للبارزاني, وهذا ما
حصل في اتفاقية الجزائر بين
صدام حسين – نائب الرئيس
العراقي ,وشاه إيران محمد رضا
بهلوي, عام 1975. فنفض شاه إيران –
ركيزة أمريكا في المنطقة – يديه
من المسألة الكردية في العراق ,وأدار
لها ظهره, فكانت ضربة قاصمة
للبارزاني ولقوى الثورة
الكردية" (18).
ولما شعر البارزاني بالخطر
المحدق بثورته, من جرّاء وقف
الدعم الإيراني أرسل في 10 مارس (آذار)1973
إلى الأمريكيين قائلا :" إن
خطراً عظيماً يحدق بشعبنا,ونحن
معرّضون للإبادة الشاملة",ولكنه
لم يتلقّ ردّاً على رسالته, كما
أرسل أكثر من رسالة إلى الرئيس
الأمريكي جيمي كارتر يطلب لقاءه,ولكنه
لم يتلقّ ردّاً أيضا(19) . حينذاك
أدرك البارزاني حجم المؤامرة
الدولية على القضية الكردية,
أطرافها شاه إيران والولايات
المتحدة. لقد انهارت ثورته
بسرعة مذهلة , لأنه كان قد وضع كل
بيضه في السلّة الأمريكية,أملاً
منه في أن تكون أمريكا أكثر
مبدئيةً من بريطانيا وفرنسا
اللتين قطعتاحبل الثورات
الكردية السابقة في منتصف
المسافة إلى قمة الجبل، ولكن
تبيّن أنّ أمريكا لم تكن سوى
حلقة من سلسلة من الدول
الاستعمارية ذات المصالح في هذه
المنطقة التي تعجّ بالصراعات
والأفخاخ والألغام.
أما ذرف دموع التماسيح على
المظلومين من أمثال الكرد فشأن
لا يخصّ سادة البيت الأبيض .وهذا
ما أكّده هنري كيسنجر
وزيرالخارجية الأمريكي وقتذاك,
عندما قال :
"إننا سوف نتخلى عن الأكراد
لكي يمكن للعراقيين أن يتفرّغوا
للسوريين الذين يرفضون الدخول
في مفاوضات من أجل مرحلة ثانية
من فضّ الاشتباك مع إسرائيل"(20).أي
أنّ أمريكا قد استخدمت الكرد
لمجرّد إلهاء العراق فترةً من
الزمن،حتى إذا اقتضت المصلحةُ
الأمريكية والإسرائيلية غير
ذلك أدارت ظهرها بكل بساطة
لهم،وكأنهم مخارز بيدها لا
أصحاب قضيّة!!
ولم يكن شاه إيران أقلّ صراحةً من
كيسنجر عندما اعترف لمندوب
صحيفة "لوموند" الفرنسية
قبل زيارته إلى فرنسا في يونيو/حزيران
1975 أنّ الأكراد لم يكونوا
بالنسبة له إلا ورقةً يحتفظ بها
إلى اليوم الذي يمكنه فيه أن
يبادلهم ضد نزع السلاح من
البلاد العربية التي يوجد فيها
تيّار مضادّ لإيران ,وضمان سير
سفنه في الخليج العربيّ وشطّ
العرب (21). لقد أراد الأمريكان
لثورة البارزاني أن تكون
متأجّجةً بالقدر الذي يستنزف
موارد العراق (22).
الدور الأمريكي
والسوفياتي في جرائم صدام في
حلبجة وغيرها :
إذا كانت الولايات المتّحدة قد
زودّت نظام صدّام حسين بالقدرات
التي يحتاجها
وغضّت الطرف عنه فيما يتّصل
بإنتاج الأسلحة الكيماوية في
مواجهة إيران الخميني التي كانت
تهدد خلال ثمانينيات القرن
العشرين منطقة الشرق الأوسط
بتصدير ثورتها إليها , فإنّ
صدّام حسين الذي خرج منتصراً من
الحرب العراقية – الإيرانية
التي استمرّت ثماني سنوات قد
شعر أنّ لديه هامشاً أكبر من
الحرية في المنطقة , وبات يملك
قوةً كبيرةً يهدّد بها كلَّ
مناوئيه وجيرانه. وقد دفعه
غرورُه إلى استخدام أفتك أسلحته
ضدَّ مواطنيه الكرد – المسؤول
قانونيّاً وأخلاقيّاً عن
حمايتهم – في حلبجة أولاً , وفي
العمادية وبهدينان ثانياً .استخدم
في حلبجة يومي 16و17آذار 1988 (أي
قبل انتهاء الحرب العراقية –الإيرانية
بنحو خمسة شهور ), وكانت نتيجةُ
هجومه الكيماوي هذا قتلَ نحو
(11540) في حلبجة وحدها, وتدميرَ
المدينة بشكلٍ شبه كامل, التي
كان يسكنها قبل الهجوم نحو
سبعين ألف نسمة, فضلاً عن تدمير
البيئة وقتل الماشية
والحيوانات والطيور وتلويث
المياه والهواء وتدمير التربة
والمزروعات ...
ولما لم يجد صدامُ رادعاً يردعه,
لامن الولايات المتحدة ولامن
غيرها,تشجّع أكثر فاستخدم
أسلحته الكيماويةَ مرةً أخرى
ضدَّ مواطنيه الكرد في منطقة
العمادية وبهدينان التابعة
لمحافظة دهوك ما بين 23و25 آب 1988م,
فقتل من قتل، وهرب نحو مئة
وخمسين ألف إنسان إلى تركيا في
ظروف صعبة جداً(23).
وبما أن صدّاماً قد سمّى عمليّته
البطوليّة هذه باسم "الأنفال-3"
فقد استصدر فتوى من بعض
الشياطين (أعني علماء السلاطين )
بجواز أخذ نساء الكرد سبايا،
فكان تقسيم النساء على الجنود
النشامى (24).
بالرغم من أن هذه الجريمةَ
كبيرةٌ بل فظيعةٌ بكل المقاييس
؛ فإنّ أيّاً من الدولتين
العظميين – الولايات المتحدة
والاتحاد السوفياتي – لم تحرّك
ساكناً، فالولايات المتحدة
اكتفت بأخذ العلم أنّ صدّاماً
قد استخدم الأسلحة الكيماوية
ضدّ مواطنيه الكرد , والاتحادُ
السوفياتيٌّ,الذي كان قد صدّر
للعراق ثلاثين خبيراً لصنع
الأسلحة الكيماوية ولتدريب
العراقيين على استخدام الغازات
السامة (25),لم يحرّك هو الآخر
ساكناً.
جرائم صدام
تلاحق الكرد في تركيا أيضا:
لم تقتصر جرائم صدام حسين ضدّ
مواطنيه الكرد في العراق فحسب
؛بل امتدّت إليهم بعد هربهم إلى
تركيا أيضاً,فقد بثّ عملاءه بين
صفوف هؤلاء اللاجئين, وقد قام
هؤلاء العملاء بتسميم ألفي
إنسان من نزلاء معسكر قزل تبه
للاجئين الكرد قرب ماردين في
بداية حزيران 1988م.فقد كشفت شبكة(INT)
التلفزيونية البريطانية,بالتعاون
مع المؤسسة الطبية الدولية (IMP)أن
عناصر المخابرات العراقية
سمّمت البيشمركة الكرد
العراقيين بمركّبات الزئبق,كما
تبيّن من فحوصات الدم والبول
والخبز التي أثبتت وجود مركبات
فوسفاتية،عضوية نجمت عن
سُمّيّات من مركبات الزئبق (26).
تواطؤ تركي :
أما
السلطات التركية فقد تواطأت مع
صدام حسين وغطّت على جرائمه بأن
طوت ملفّ قضية تسميم اللاجئين
الكرد لديها، فلم تقم بالتحقيق
مع أصحاب المخابز التي تزوّد
هؤلاء اللاجئين بالخبز المسموم
بمركبات الزئبق،كما تطوّعت
بتبرئة نظام صدام من استخدام
أسلحة كيماوية ضدّ مواطنيه
الكرد؛ فقد جاء في بيان صادر عن
الحكومة التركية ونشرته صحيفة
ملّيَتْ (MILLIYET) يوم 14ـ15/
9/1988أنه بعد التحقيقات التي
أجرتها تركيا في العراق،لم يعثر
على أي دليل على استعمال
الأسلحة الكيماوية (27).
ولم يقف التوطؤُ التركيُّ مع
صدام حسين في هذه الجريمة عند
هذا الحدّ, بل امتدّ ليشمل رفض
طلب هيئة الخبراء فحص اللاجئين
الكرد في تركيا (28).
وإذا كان صدام بريئاً فلماذا رفض
منح سمات الدخول للعراق لهيئة
من الخبراء الدوليين لإجراء
تحقيق في شمالي العراق حول
مزاعم الكرد هذه, بزعم أن هذا
تدخل في الشؤون الداخلية,
بالرغم من مناشدة اثنتي عشرة
دولة أوربية الأمم المتحدة
بإرسال هؤلاء الخبراء ؟ (29).
نعود بعد هذا الاستطراد إلى
الحديث عن عداوة الدول الكبرى
للشعب الكرديّ. ولما كانت حربُ
الخليج الثانيةُ عام 1991م وما
تلاها من أحداث قد شكّلت حدّاً
فاصلاً بين عالم متعدّد الأقطاب
وعالم تنفرد فيه الولاياتُ
المتحدةُ بزعامة العالم –
لاسيّما في منطقة الشرق الأوسط
– دون منازع,فقد عاد الكرد
العراقيون أصحاب التجارب
المريرة مع أمريكا إلى وضع
بيضهم في السلّة الأمريكيّة
مرةً أخرى, بالرغم من أنّ جروح
الأمس التي تسبّبت بها للشعب
الكردي هذه الدولة لم تندمل بعد
.
حصار أمريكي
مزدوج على كردستان العراق :
الحصار الأمريكيّ المحكم على
العراق – تحت غطاء الشرعية
الدولية – منذ دخول القوات
العراقية الكويت عام 1990حتى سقوط
نظام صدام حسين عام 2003كان
بمنزلة حصار مزدوج على كردستان
العراق, الحصار الأممي من ناحية,
وحصار صدام حسين من ناحية ثانية.
هذا الحصار المزدوج عانى منه
الكرد بشكل يفوق في فظاعته كلَّ
تصوّر, فقد اضطُرُّوا إلى "بيع
كلِّ مقتنياتهم للبقاء على قيد
الحياة ", وصار كلُّ كرديٍّ
يملك خمس مئة دولار يسعى للسفر
أو لإرسال ابنه إلى الخارج,
للعمل ومساعدة أهله ببعض المال
..., ووجَد مئاتُ الأطبَّاء
والمهندسين والأساتذة
الجامعيين وغيرهم من أصحاب
المهن التي تحتاج إليها كردستان
العراق بشدة, وجد هؤلاء أنفسَهم
مضطرِّين إلى الهجرة خارجَ
بلادهم بحثاً عن لقمة العيش (30).
وقد
أبدى مسعود البارزاني خلال
زيارته لواشنطن في تموز 1992استياءه
من التصلّب الأميركيّ في لجنة
العقوبات التابعة للأمم
المتحدة, وإصرار واشنطن على عدم
مساعدة الكرد الرازحين تحت عبء
العقوبات الزدوجة (31).
هذا
التصلب الأمريكيّ بلغ درجة أنه
لم يسمح للكرد باستيراد قطع
الغيار اللازمة لتشغيل لوحة
المفاتيح في مركز هاتف مدينة
دهوك, التي لاتتجاوز قيمتُها
أربعةَ آلاف دولار أمريكي (32). بل
وصل الإمعانُ في إلحاق الأذى
بالكرد أنّ لجنة العقوبات
التابعةَ للأمم المتحدة –
بقيادة أمريكا – رفضت السماح
للكرد باستيراد الوقود وقطع
الغيار الضروريين لضمان
استمرار عمل المصانع القليلة
الموجودة في شمالي العراق, كما
رفضت السماح باستيراد الآلات
االلازمة لبناء مصفاةٍ صغيرةٍ
لتكرير ما تبقّى تحت سيطرة
الكرد من كمّيّاتٍ بسيطةٍ من
النفط الخام . وذهبت تركيا إلى
حدّ منع شركة بريطانية متخصّصة
في تفكيك ما خلّفته الحربُ
العراقيةُ-الإيرانيةُ من ألغام
تعدّ بالملايين, خوفاً من أن
يتمكّن حزبُ العمال
الكردستانيُّ من الاستفادة
منها بطريقة ما(33).
وكان
إصرار أمريكا وحلفائها
الغربيين منذ بداية الحصارعلى
العراق رفض السماح بإقامة أي
مشروع قد يؤدي إلى تطوير
الاقتصاد الكردي وجعله قادراً
على الحياة, خوفاً من أن تتّهم
تركيا عندئذ كلاً من واشنطن
ولندن وباريس بتشجيع الكرد على
إقامة البنى الضرورية لإقامة
دولة كردية مستقلَّةٍ في شمالي
العراق (34).
وتوريط للكرد
وخذلان :
ليت
معاداة أمريكا للكرد توقّفت عند
هذا الحدّ, بل تطوّرت وتوسّعت
لتصل إلى درجة توريطهم في معارك
ومواقف أكبر من طاقتهم على
مواجهتها ثم تنسحب هي في اللحظة
الأخيرة ليواجهوا مصيرهم
الأسود وحدهم, وكأنّهم حقول
تجارب لاختيار خططها وقوة خصمها,
حدث هذا مرّتين على الأقلِّ ؛
مرةً عندما شجّعت وكالة A.I.C المؤتمرَ الوطنيَّ العراقي عام
1995 على إقناع مسعود البارزاني
وجلال الطالباني وحزبيهما بشنّ
هجوم مشترك ضد مواقع الجيش
العراقي في كركوك والموصل, يكون
بمنزلة إشارة الانطلاق لوحدات
عسكرية عراقية تتولى تنفيذ
انقلاب يطيح بصدام حسين .لكنّ
الولايات المتحدة تراجعت عن دعم
هذه الخطة في آخر لحظة (35).
ومرةً
أخرى عندما تُرك الكرد يواجهون
مصيرهم على يد القوات العراقية
التي اجتاحت أربيل يوم 31آب 1996بشكل
مباغت ووضعت يدها على كمية
كبيرة من المعدّات الالكترونية
المتطوِّرة وما جمعته C.I.Aمن
معلومات عن المعارضة العراقية
في محفوظاتها .لقد قُدّم
الأكراد المتعاونون مع
الأمريكان على طبقٍ من ذهب
لصدام حسين, "بالرغم من
الوعود التي أغدقت عليهم في
السابق, وما تبلّغوه رسميَّاًعن
وجود خطّة أميركية مفصّلة
لإجلائهم عند الضرورة"(36). {كَمَثَلِ
الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ
لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا
كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ
مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ
رَبَّ الْعَالَمِينَ }الحشر16.
وبعد:
كم
من اللَّدغات يصاب بها الإنسانُ
الكرديُّ من جُحْرٍ واحدٍ؟وإلى
متى سيتعلّق بعضُ الكرد بالقشّة
الأمريكيّة والغربيّة ؟ وهل
كانت مصائبُ الكرد إلاّ على
أيديهم؟ وبأيّ حقٍّ
يطالب كردٌ
سوريون المسؤولين
الأمريكيين بسنّ قانون تحرير
سورية؟أيشرّفهم أن يكونوا
طليعةَ الاستعمار الأمريكيّ
لبلادنا؟أم يشرّفهم أن تسطَّر
أسماؤهم بجانب ابنِ العلقميّ
الذي فتح أبواب بغداد للمغول؟
أيُّ خيرٍ يُرتَجى من عدوٍّ
ظاهرِ العداوة؟ أرأيتم لو أنّ
الذئبَ قد تجمّل بجلد حمل أيصير
حملاً؟وأنتم يا حكامَ سوريةَ هل
نسيتم دوركم في دفع بعض
مواطنيكم إلى الاستنجاد
بعدوّنا جميعاً، في سبيل
تخليصهم من ظلمكم؟ أستكونون
بمنجاة لو وقعت سورية ـ لا سمح
الله ـ بين فكّي القِرش
الأمريكيّ؟ أما حان الوقت لأنْ
تنظروا بعين العطف إلى مأساة
عشرات الآلاف من الكرد الذين
جرّدتموهم من الجنسية السورية
ومن كل حقوق المواطنة،منذ أربع
وأربعين سنة، لا لشيء إلا
لأنّهم كرد؟ ألا ترون أنّ
سفينةَ الوطن تغرق شيئاً فشيئاً
من جرّاء سياساتكم العنصرية
والطائفية والدكتاتورية؟أم على
قلوبٍ أقفالُها؟
الهوامش:
(1):
أبو شوقي : لمحات من تاريخ
الانتفاضات والثورات الكردية،(دار
الكاتب،بيروت،1978)،ص21.وأحمد تاج
الدين :الأكراد تاريخ شعب وقضية
وطن،(الدار الثقافية
للنشر،القاهرة،ج م ع )،ص90.
(2)
: أبو شوقي، المصدر نفسه،ص17.وينظرد.عبدالرحمن
قاسملو:كردستان والأكراد،(المؤسسة
اللبنانية للنشر،بيروت،د.ت)،ص48.
وإسماعيل بيشيكجي:كردستان
مستعمرة دولية،(ترجمة زهير عبد
الملك، د.ت، د.م)،ص307.
(3)
:أبو شوقي، المصدر نفسه،ص 25ـ26.
(4)
:المصدر نفسه،ص،28ـ29.
(5):المصدر
نفسه,ص33.
(6):المصدر
نفسه,ص33.
(7):المصدر
نفسه,ص54.
(8):مجلة
شمس كردستان,بغداد,حزيران1971.
(9):أبو
شوقي, المصدر السابق,ص72,55.
(10):المصدر
نفسه,ص64.
(11):بدأ
المخطط الأتاتوركي بإصدار قرار
بإلغاء اللغة الكردية وعدم
استعمالها, سواء بصفة رسمية,أو
حتى مجرد التخاطب بها في
الشوارع والمجالس الخاصة,وأصبح
بحكم القانون الحديث باللغة
الكردية حتى لو كان بين صديقين
أو حتى زوجين جريمة أمن دولة,
فضلاً عن وقف التعامل بها في
جميع المدارس والمعاهد ودواوين
الحكومة ومصالحها,. ثم قامت
الحكومة الأتاتوركية بعد ذلك
بالقبض على الأمراء والشيوخ
ورؤساء القبائل والعشائر
والبكوات والزعماء الكرد
وإبعادهم إلى الولايات التركية
النائية .حدث ذلك كله خلال
الفترة الواقعة بين اتفاقية
لوزان 1923وبداية ثورة الشيخ سعيد
بيران .ينظر:جوناثان راندل :أمة
في شقاق ـ دروب كردستان كما
سلكتها,(ترجمة فادي حمود،دار
النهار ،بيروت،ط2، 1999م)،ص40،وأحمد
تاج الدين، المصدر السابق،ص 109.
(12)
: د.يوسف الصغير:
الأكراد
في عالم الاضطهاد
،
(مجلة
البيان،
لندن،
العدد[134]،
السنة
[13]،
شوال
1419هجرية،
فبراير1999م)
،
ص51.
(13)
: للتوسّع عن جمهورية كردستان
المسمّاة خطأً بجمهورية مهاباد
،ينظر:
ـ
وليام إيجلتن:جمهورية مهاباد
الكردية،(ترجمة جرجيس فتح
الله،بغداد،1971).
ـ
د. حامد محمود عيسى: المشكلة
الكردية في الشرق الأوسط ،(مكتبة
مدبولي،القاهرة،1992م)،ص398ـ404 .
(14)
: للمزيد من المعلومات عنها،
ينظر:د.حامد عيسى، المصدر
السابق، ص 157ـ225.
(15)
: المصدر نفسه،ص 208.
(16)
:المصدر نفسه،ص 220ـ222.
(17)
: المصدر نفسه،ص 223ـ224.
(18)
: أحمد تاج الدين، المصدر نفسه،ص
130.
(19)
: المصدر نفسه، ص 130.
(20)
: د. حامد عيسى ، المصدر السابق،
ص 224ـ225.
(21)
: المصدر نفسه، ص 225.
(22)
: المصدر نفسه ، ص 225. نقلاً عن :
محمد عبدالعزيز الهماوندي :الحكم
الذاتي لكردستان العراق، (أطروحة
دكتوراه، جامعة القاهرة، 1986)،ص
173.
(23)
: فاتح كريكار مجلة النفير،(ملف
العدد الرابع، ذو الحجة 1409
هجرية/1989م)،ص 14. الجدير بالذكر
أن الشهداء الذين سقطوا في قصف
مدينة حلبجة فوراً بالسلاح
الكيماوي كان نحو 5540إنساناً،
ومات ستة آلاف آخرين في
مستشفيات إيران وغيرها،ونتيجة
البرد القارص وتراكم الثلوج على
الطرقاتـ كما يذكر كريكار، ص 13.
(24)
: المصدر السابق، ص 14.
(25)
: بيشيكجي، المصدر السابق،ص 292،300،
328.
(26)
: المصدر نفسه، ص 303ـ305.
(27)
: المصدر نفسه، ص 340.
(28)
: المصدر نفسه، ص 340، نقلاً عن
صحيفة "MILLIYET
"التركية
بتاريخ 16/9/ 1988م.
(29)
: المصدر نفسه، ص 340، نقلاً عن
صحيفة " CUMHURIYET
" التركية
بتاريخ 14/9/1988م .
(30)
: راندل : المصدر السابق، ص 414ـ 415.
(31)
: المصدر نفسه، ص 397.
(32)
: المصدر نفسه، ص 412.
(33)
: المصدر نفسه، ص 412.
(34)
: المصدر نفسه،ص 411.
(35)
: المصدر نفسه، ص 48. (36) : المصدر
نفسه، ص 399.

|