أسلمة
القضية الكردية
بقلم
: ابراهيم درويش
الذين تؤرّقهم معاناة الشـعب
الكردي وقضيته العادلة يتلفتون
يمنة ويسرة فلا يجــدون ناصرا
مخلصا ولامعينا صادقا، لا سـيما
في الدول ذات التأثير على
الساحة الدولية، ويلتفتون
وراءهم الى الســاحة الكردية
الهــائجة المائجة فلا تـقــع
عــينهم منذ نحو تسعة عقود الا
على مؤامرات التقسيم
لكردســـتان، وجرائم الابادة
والتهجير الجماعي القسري وطمس
الهوية والتذويب والالحاق
للشـعب الكردي، حتى قيل بحق :ان
الكرد أيتام الأمة
الاســـــلامية، وضحايا
التاريخ والجغرافيا، وصفت
بلادهم بأنها مســــتعمرة
دولية. وينظر هؤلاء المهتمون
أمامهم، إلى الأفق البعيد،
فيرون جماعات وأحزابا وأنصاف
أحزاب وأرباعها وأثمانها،
وأسماء تحالفات حقيقية ووهـمية
تفوق الحصر، وتقع عينهم على
رايات وشــعارات وألوان لا
نهاية لها على ما يبدو، فيسأل عن
أصحابها وحامليها فيقال إنهم
كرد، فيزداد أرقهم وتحرّقهم،
وتزداد الأحزاب والأعلام
والشعارات مع مطلع كل يوم جديد،
ولا شيء غير ذلك، فيتذكر قول
القائل :انني لو لم أقرأ تاريخ
الكرد واكتفيت بما أرى لأدركت
الآن لماذا لم يتوحدوا في كيان
واحد؟ ولماذا لم تثمر جهودهم
الحثيثة والتضحيات الهائلة
التي قدّموها الا عن مزيد من
المآسي والكوارث والنكبات ؟!!
ما
الســبـب يا ترى؟ ألـقـلـة
خـبــرتهم وضعف امكاناتهم
وعجزهم عن الاعداد الكافي
للمعارك الكثيرة الشــرســة
الطويلة التي يخوضونها؟ أم
لمحاولاتهم الاســـتفادة غير
المجدية من التناقضات الموجودة
بين الأنظمة التي قسـمت بلادهم؟
أم لاعتمادهم في ثوراتهم
وحركاتهم المسـلحة على دول
وجهات لها أجندتها ومصالحها
الخاصة فيشــعر الكرد في
النهاية أنهم لم يكونوا سوى
أدوات ضغط بيدها؟
ربما كانت هذه الأسباب
مجتمعة هي التي تقف وراء مآسي
الكرد المستمرة، ولكن هل هذا كل
شـيء؟ ألا توجد في افـريـقــيا
وآســيا وأمريكا اللاتينية
شـعوب هي أقل من الشــعب الكردي
عددا وامكانات وخبرات ورســوخا
في التاريخ، ومع ذلك حـقـقـت
أهـدافها وأقامت الكيانات
الخاصـــــة بهـا، وأوجــدت
لهـا صوتا مســمـوعا في هذا
العالم الصاخب المشغول بكل شيء
والمنشغل عن كل شيء، حتى عن
نفسها ومستقبلها؟
اذن
لنفـتـش عن أســبـاب أخرى ربما
تكمن الـعـلة فيها، وأولها تعدد
الرايات والاتجاهات في الساحة
الكردية.
الشعب الكردي مسلم في غالبيته
العظمى، اذ تبلغ نسبة المسلمين
أكثر من 97% نسبة أهل السـنة
والجماعة تزيد عن 75% والنسبة
الباقية تتوزع بين الشيعة
الفيلية واليزيدية والعلي
الهية والصارلية والشبك، ولا
تتجاوز نسبة النصارى بكل
طوائفهم واليهود 003/0
.
والشــعب الكردي عميق
التدين شـــديد التمســك
باســـلامه، ولا يمكن أن
يــجتمع على شيء كاجتماعه على
الاســلام، وكانت له مواقف
مشــرفة في خدمة الاســــلام
والذود عن حياضه طوال تاريخه
الاســلامي؛ فقد شـــارك
بفاعلية في اقامة الخلافة
العباسيـــــــة عــبـر
الأدوار الــتي قام بها
الخراسانيون بقيادة أبي مسلم
الخراساني الكردي، وكانوا حماة
الثغور الاسـلامية في مواجهة
الروم البيزنطـيـيـن، حتى
أطـلـق الخليفة العباســي على
الأمير الكردي – مؤسس الدولة
المروانية - لقب ناصر الدولة .
وكانت لهم مواقف بطولية في
مواجهة الحملات المغولية على
ديار الاسلام؛ فأوقعوا أكثر من
عشرين ألف قتيل في صفوف الجيش
المغولي قرب قلعة أربيل وحدها .
أما جهاد الشــعب الكردي
وبطولاته في مواجهة الحملات
الصــليبية بقيادة الســلطان
المجاهد صـلاح الدين الأيوبي
وأولاده وعمه شــيركوه فأمر لا
ينكره أحد. وقل مثل ذلك في
الحروب التي خاضها العثمانيون
طوال تاريخهم، سواء ضد الروس أو
الدول الأوربية أو ضد الصفـويين...
اذ كان الكرد عماد القوات
العثمانية، حتى يمكن القول ان
الشعب الكردي كان بمنزلة عظام
الرقبة في جسم الأمة الاسلامية
...الخ .
وبالــرغم مـما ســـبــق
كله، فان الدارس للأوضـاع
الكردية المعاصرة لايكاد يجد
بين صفوف هذا الشــعب، لا سيما
في سـورية، راية اسلامية أو
تيارا ذا صبغة اســلامية، يعبر
بحق عن أصالة هذا الشــعـب
وعـمـق تـديـنـه وولائه
لإسلامه، ويطالب بالحقوق
المشــروعة له، التي أقرتها كل
شــرائع الأرض والســماء، على
كثرة ما في ســــاحته من أحزاب
وتيارات، بعضها موغل في
اليسارية، وبعضها مـوغل في
اليمينية، بعضها شـيوعي أكثر من
ماركس ولينين، وبعضها رأسمالي
ليبرالي أكثر من آدم سميث
وأصحاب الاقتصاد الحر... ولا
نكاد نجد بين أســـماء هذه
الأحزاب كلها حزبا لا يحمل صفة
الديمقراطية، وهذا أمر مفهوم،
ولكن غير المفهوم هو كثرة
الانــشــقاقات التي تشهدها
هذه الأحزاب. وهنا نسأل : اذا
كانت الديمقراطية هي أســلــوب
الحوار والتعامل داخل تلك
الأحزاب والتيارات، واذا كانت
المناقـشــــات والقرارات تطرح
بروح ديمقراطية وفي أطرها
الصـحيحة، فلماذا اذن تحصل
حالات الانقســام و التشــظي؟
أليس معنى ذلك أن هناك خللا
كبيرا في بنية هذه الأحزاب؟ أو
أن ثمة فريقا لايؤمن
بالديمقراطية، ويرفض الاحتكام
الى العقل والمنطـق وصـناديق
الاقتراع؟ أو أن الشـعارات في
جهة والممارسات في جهة أخرى؟
والأغـرب من ذلك أن يـقـوم
الـمـنشــقون بعد فترة قصيرة
بتشكيل تنظيم سياسي جديد
ولا يترددون أن يجعلوا "
الديمقراطية " ضمن تســميته،
وهكذا الى مالا نهاية على ما
يبدو، حتى باتت الجماهير
الكردية تربط بين هذه الشعارات
وأضدادها في الممارسة!
لقد بات الانسان الكردي البسـيط
المسحوق، وبخاصة في سـورية،
يسـأل وما من مجيب :هل يحتمل
الشعب الكردي في سورية أو يحتاج
الى كل هذا العدد الكبير من
الأحزاب في ساحته، علما أن
الخلافات بين بعضها لاتقلّ عما
بينها وبين الســلطات الحاكمة؟
وهل ثمة اختلافات جوهرية بين
برامــج هــذه الأحزاب
تســتدعي هذا الكمّ الكبير؟
وهــل الـقـضـيـة الكردية من
الغـموض والضبابية بحـيـث
تـتـطلب الاختلافات الكبيرة
والكثيرة في وجهات النظر، أي
تعـدد الأحزاب ذات المنطلقات
المتباينة؟ أين دور الاســلام
ونصيبه داخل هذه التنظيمات؟ ألا
يوجد للاســـلام رأي أو برنامج
حل لـمـشـكـلات هـذا الشـعـب،
الـذي وقـع ضــحية أنظمة حكم
عنصرية اســتبدادية إلغائية
النظرة قمعية الأسلوب كل هذه
العقود من الســنين؟ بلى والله،
ما مـن مشــكلة الا وفي
الاســــلام حل لها، ولكن روح
التمرد على الأنظمة
الاســـــتبدادية القمعية لدى
بعض المتنورين الكرد امـتـد
لـيـشــمل التمرد عـلى
الاسـلام نـفـسـه، فــصار
موقفهم منه لا يختلف عن موقفهم
من تلك الأنظمة، ولقد آن الأوان
ليزول هذا الالتباس من أذهان
هذا الفريق من الكرد.
وهناك فريق آخر من
المتنورين الكرد السوريين قد
حجب رؤيتهم للاســلام وعظمته
وعدالته للانســـان هذا الغبار
المتراكم عبر الســنين،
والدعايات المغرضـة التي أطلقت
بغير وجه حق على الاسلام
ودعاته، ولا ننكر دور علماء
السلاطين أعوان الظلمة في هذا
التشويه، وقد حان الوقت لهذا
الفريق أيضا لأن يرفع عن عينيه
الغـشـاوة وينفض غبار
الســــنين فيرى رحمة الاسلام
ووقوفه الى جانب المظلومين .وهذا
يقودنا بالضرورة الى الحديث في
بضع كلمات عن أسلمة القضية
الكردية.
أسلمة
القضية الكردية :
نعني بأسلمة القضية
الكردية أن تصبح قضية الشعب
الكردي المسلم، الذي يعاني من
سياسات الاضطهاد والتذويب
والالحاق ومحو الهوية والحرمان
من الحقوق السياسية و الثقافية
والاجتماعية... أن تصبح هذه
القضية قضية كل المســلمين في
العالم، وقضية كل المواطنين
الذين يعيشــون مع الكرد داخل
تقســيمات جغرافية مفروضــة في
الوقت الراهن، فليس أحنّ على
المســلم من المسلم. وهذا لا
يتأتّى ولا يتاح الا اذا
اطـمــأن هــؤلاء
المســلـمــون وهؤلاء
المواطنون أن الكرد لن يكونوا
عنصر تفتيت، أو دعاة ايجاد
المزيد من الكيانات الهزيلة، بل
يسعون الى التعـايش مع أبناء
الوطن في ظل الاسلام، على أن
يحصل الاعتراف الرســمي بهم
شـعبا كرديا، وأن يســلّـم لهم
بالــتـمــتـع بحقوقهم
السياسية والاجتماعية
والثقافية، فيعاملون على قدم
المسـاواة مع غيرهم من
المـواطنين في الحقوق
والواجبات، ويتاح لهم الدراسة
والتدريس بلغتهم الأم،
ويــســـمــح لهم باســتخـدام
لغتهم في الاعلام والتأليف
والنشر والتراسل، ولا تنزع عنهم
الجنســــية لمجرد أنهم أكراد،
ويخصص جزء من عائدات الثروات
القومية أو المستخرجة من
مناطقهم لإقامة مشاريع تنموية
في مناطقهم، تشـغّل الأيدي
العاملة العاطلة، وتسهم في
تطوير هذه المناطق، وتحسّن من
المستوى المعيشي لسكانها.
ان المسلمين بعامة،
والمواطنين بخاصة، عندما
يسمعون بهذه المطالب العادلة
والمشـروعــة ليس أمامهم الا أن
يتبنّوها وينضموا الى صــفوف
المطالبين بها، ويطمـئـنوا الى
أن بلاد الكرد لن تتحول الى
ســاحات التآمر على الأوطان ـ
كما تصــور الدعايات الحكومية
المغــرضة، مـتناســيـة القضية
الرئيســية أو الأســباب
الـمـنـطقية الوجيهة التي دفعت
قطاعات واسـعة من هذا الشعب
الذي يعاني من كل أشـكـال
التمييز والاضـطهاد الى البحث
عن أي وســيـلـة أو نصير في
سـبيل الانعتاق من هذا الظلم
الواقع عـليهم منذ عقود مديدة.
ان العاقل لا يلوم الضــحية
على دفاعه عن نفسـه، بل يلوم
الجاني على الظلم الذي يــوقعه
في ضحيته بغير وجه حق!! أما ما
يحصـل اليوم فهو بخلاف منطق
العقل، اذ نجد مباركة من أطـراف
كثيرة ـ وربما من أناس يتزيّون
بزي الاسـلام ويلبسـون لبوسـه ـ
يســوّغون لهؤلاء الظلمة
أفعالهم القبيحة وسياساتهم
التي تأباها عدالة الاسلام
وسماحته،فيتصور البسطاء من
الكرد أن هذاهو الاسـلام – وما
هو كــذلك – فيزدادون مـنه
نفورا، كما يزداد الطغـاة
المجرمون إمعانا في جرائمهم بحق
الاســــلام والانسان والوطن،
متبجحين ليل نهار عبر أبواقهم
الدعائية والاعلامية أنهم
الحريصون على سلامة البلاد
ووحدتها وسعادة مواطنيها،
والله يشهد ـ وكل أبناء الوطن
المخلصون يشهدون ـ انهم لكاذبون
مجرمون.
اننا نعتقد جازمين أن أولى
الناس بالشــعــب الكردي
والعمل على انصافه ورفـع الظلم
عنه هم اخوانهم المســـلمون من
عرب وترك وفرس وغيرهم، بل هذا
واجـبهم، كما نعتقد جازمين أيضا
أن لا شيء يجمع الكرد ويوحّد
صـفـوفهم مـثـل الاســـلام
الذي تغلغل في أعماقهم وخالط
مــشــاعرهم ووجدانهم، وأصبح
بالنســبة اليهـم بمنزلة
الهـواء والماء، ونعتقد كذلك
جازمين أن لا شيء ينصف الكرد
ويعيد اليهم حقوقهم المسـلـوبة
مثل الاســـلام الحـــق الذي
يحارب الـظـلــم وأهــلـه،
ويرســـخ العـدل ويرســي دعائم
الاسـتقرار للمجتمعات والدول.
فلمصلحة من يتم تجاهل هذا
العامل المهم الموحّـد لهم ؟
وهل يعيد عقلاء الكرد النظر
المتفحّص المنصف المجرد عن
الهوى في الاسلام ودوره في حياة
شـــعبهم ؟وهــل يعيد هؤلاء
الحكام النظر في ســياســاتهم
الخرقاء مع اخوانهم ومواطنيهم
الكرد في ضوء المصلحة الوطنية
والحرص على تمتين الجبهة
الداخـلية في وجه المؤامرات
والمكايد الخارجية ؟

|