مسيرة
الأخوة العربيـة ـ الكـرديـة
إبراهيم
درويش
nafizah_2006@yahoo.com
تمهيد:
كثيرة هي العلاقات والوشائج التي
تشد العرب والكرد بعضهم إلى بعض
، فالدين الإســلامي والجيرة
والترابط المشترك والثقافة
كلها عوامل تصب في هذا الاتجاه
،بل يمكن القول إنه ما من
قوميتين بينهما من الوشائج
والترابط ما بين الكرد والعرب.
ولا حاجة لبيان الدور الذي قام
به العلماء الكرد في خدمة
الثقافة الإسلامية، والذود عن
حياض الأمة ضد الغزاة من
اللاتين والجرمان الصليبيين ،
والدفاع عن ثغورها ضد الروم
البيزنطيين وحلفائهم من الكرج (الجورجيين)
والأرمن والروس وغيرهم . وهكذا
بمرور الزمن اختلط الدم العربي
والكردي في ساحات الوغى ، وحدثت
عمليات مصاهرة بين الشعبين ؛
فوالدة الخليفة الأموي مروان بن
محمد كانت كردية، وكان الخليفة
العباسي أبو جعفر المنصور
متزوجاً هو الآخر من كردية ، كما
امتزج مداد علماء الكرد و العرب
في سبيل الترقي بالعلوم
الإسلامية ، فقد خدم علماء
الكرد اللغة العربية من نحوٍ
وصرفٍ وبلاغة أكثر مما خدمها
العرب أنفسهم في بعض الأحيان ،
وهذا ما أدى إلى حدوث عملية خلل
وعدم توازن في دراسة العلوم
الشرعية عند الطلاب الكرد، إذ
كان للكرد القدح المعلّى في
مضمارعلوم الآلة ( النحو والصرف
والبيان) على حساب العلوم
الأخرى من فقة وتفسير وحديث .
ولكن هذا لايقلل من جهود علماء
الكرد الذين عالجوا هذا الخلل
كابن الصلاح الشهرزوري في مجال
علوم الحديث الشريف, والحافظ
العراقي في مجال السنة النبوية ,
وأبو السعود العمادي شيخ
االإسلام في الدولة العثمانية
في مجال التفسير، والأمثلة
كثيرة في
هذا المجال. وكانت الإمارات
الإسلامية الكردية من الحسنوية
والمروانية (الدوستكية)
والعنازية والشدادية وغيرها،
التي ظهرت إلى عالم الوجود في
العصر العباسي الثاني ،لظروف
لامجال لبحثها هنا، تعد الخلافة
العباسية المرجع الشرعي الوحيد
للأمة الإسلامية،
بعكس بعض الإمارات الفارسية
التي كانت لاتعترف أصلاً
بمرجعية الخليفة العباسي
وتتحين الفرص للانقضاض عليه،
كالصفاريين وملوك طبرستان
والبويهيين. فلذلك ـ ولحسن الحظ
ـ لم يطلق المؤرخون على أي كردي
صفة (الشعوبية)، إذ تبرأ الكرد
من هذا المصطلح ،الذي كان يراد
به الموالي وتحديداً الفرس
آنذاك . ولا يفوتنا في هذا
المقام الحديث عن الناصر صلاح
الدين وماقام به من جهود لتوحيد
صفوف الأمة الإسلامية
وقدراتها، سواءً في القضاء على
الدولة الباطنية العبيدية (الفاطمية)،
وإرجاع مصر إلى حظيرة الدولة
العباسية، أو التصدي لجحافل
الصليبيين واسترجاع القدس منهم
عقب معركة حطين 583هـ / 1187م.
شرور القومية تهب على
المسلمين:
استمرت الأمور تجري على هذا
المنوال طيلة العصور
الإسلامية، وإلى حد ما إلى
أواخر الدولة العثمانية ، إلى
أن هبّت عليها الأعاصير
الأوربية الحبلى بأفكار الثورة
الفرنسية من حرية وإخاء
ومساواة، وأفكار الثورات
الأوربية الأخرى التي نادت
بالدولة القومية ، فبدأ التململ
يسـري في صفوف المثقفين في
الشعوب التي تتكون منها الدولة
العثمانية،لاسيما بعد أن بدأت
جمعية الاتحاد والترقي
المشهورة بميولها الطورانية (التتريك)
بتسلم مقاليد الحكم في الدولة
العثمانية بعد انقلاب 1908م وخلع
السلطان عبدالحميد الثاني 1909م
،إذ عانى منها العرب والكرد
الأمرّين ، وهذا ما سمح إلى حدّ
بعيد بتسريب الأفكار القومية في
صفوف بعض مثقفي الشعبين. ومما
عزز هذا الأمر نشاط البعثات
التبشيرية (التنصيرية) والنصارى
في بلاد الشام في الترويج للفكر
القومي وإنشاء الجمعيات
الثقافية، بعد سماح إبراهم باشا
بن محمد علي باشا لهم بالنشاط
والتحرك في
ثلاثينيات القرن التاسع عشر.
وهكذا ظهرت إلى الوجود جمعيات
وأحزاب عربية وكردية تنادي
بحقوق الشعبين ضمن الدولة
العثمانية، التي دخلت الحرب
العالمية الأولى إلى جانب دول
المحور ضد دول الحلفاء،وقد كان
قراراً غير صائب. وهذا بدوره عزز
من فرص نجاح هذه الجمعيات
والأحزاب في الترويج لمبادئها،
وبخاصة بعد قيام الحسين بن علي
شريف مكة بإعلان الثورة العربية
الكبرى ضد الدولة العثمانية
بدعم من بريطانيا في حزيران 1916.
ولكن الرياح لم تجر بما تشتهي
السفن ، ففي غمرة الحرب اتفق
الحلفاء على تقسيم ممتلكات
الدولة العثمانية في الاتفاقية
التي سميت (سايكس بيكو)، فوقع
العرب والكرد ضحية هذه
الاتفاقية الجائرة التي قسمت
أراضيهم وأوطانهم حسب مايريده
صانعو السياسة في الغرب وفق
مصالحهم، دون
النظر إلى مصالح العرب والكرد
قِيد أنملة.
إيجاد الكيانات
القطرية:
وللأمانة التاريخية، فبينما
وافق الحلفاء على إنشاء كيانات
سياسية عربية في العراق وسورية
ولبنان وشرق الأردن فإنهم لم
يوافقوا البتة على إنشاء أي
كيان سياسي كردي بسبب تشابك
المصالح الروسية والبريطانية
والفرنسية، وظهور مايسمى
بالمسألة الأرمنية وطرحها على
بساط البحث، لاسيما وأن الأرمن
تعاونوا مع الحلفاء ضد الدولة
العثمانية الذين هم من رعاياها
أصلا، فضلاً عن كونهم يدينون
بنفس ديانة الأوروبيين (النصرانية)
، كما أن التراكم التاريخي عند
الإنكليز لم ينسهم صلاح الدين
الكردي ووقوفه في وجه الملك
الإنكليزي ريتشارد (قلب الأسد)
في فترة الحروب الصليبية ،
فضلاً أن الكرد احتضنوا النصارى
من الفرق النسطورية التي
اعتبرت مهرطقة عند كنيسة
القسطنطينية، وهذا مازاد الطين
بلة ، فلذلك حاولوا تقسيم موطن
الشعب الكردي. كما كان جزء كبير
من كردستان يقع ضمن إيران،
وكانت استراتيجية الحلفاء
تؤكد إبقاء الحدود الإيرانية
كما هي عليه دون المساس بها ،
وهذا ما انعكس سلباً على طموحات
القوميين الكرد بانشاء وطن قومي
للكرد على أرض كردستان
العثمانية والإيرانية،فوقع
الكرد ضحية التاريخ والجغرافية
على مذبح المصالح الأوربية .
العلاقات الكردية
ـ العربية في العراق:
بعد إنشاء الدولة العراقية عام
1921م وتنصيب الشريف فيصل بن
الحسين ملكاً عليها أصبحت
المسألة الكردية العثمانية
إحدى القضايا التي تمّت
مناقشتها ضمن المشكلة العالقة
بين بريطانيا المنتدبة على
العراق والدولة التركيةالقائمة
على أنقاض الدولة العثمانية،
التي سميت (مشكلة الموصل)، ولكن
قرار عصبة الأمم
القاضي بإلحاق ولاية الموصل
(جنوب كردستان) بالعراق في أواسط
كانون الأول 1925 نقلت المسألة
الكردية العثمانية برمّتها إلى
الجانب العراقي، في ضوء قرار
عصبة الأمم بالطلب من المملكة
العراقية الاعتراف بالحقوق
السياسية والثقافية للكرد،
وهذا ماحاول الملك فيصل الأول
جاهداً العمل على جعله إحدى
أولويات حكومته طوال عقد
العشرينيات من القرن العشرين.
ولكن الظروف الصعبة التي مرّ
بها نظام الحكم الملكي في
العراق، من التدخل البريطاني
السافر في شؤون الدولة، ومطالبة
القوى الوطنية العراقية بإنهاء
الانتداب، ومجئ وزارات كثيرة،
فوتت الفرصة على السياسيين
العراقيين فيما يخص تحقيق مطالب
الشعب الكردي على الأقل، إن لم
يكن بعض الساسة من أصحاب
الاتجاة القومي العربي حاولوا
بطريقة أو بأخرى الالتفاف عليها
. ويستفاد من الرسالة التي وجهها
الوزير العراقي الكردي محمد
أمين زكي بك إلى الملك فيصل
الأول في سنــة 1930م أن بعض
المطالب الكردية لم تنفذ،
بالرغم من أنها لاتتجاوز
الدراسة باللغة الكردية،
وتعيين موظفين كرد في المناطق
الكردية، التي كان يطلق عليها
آنذاك الألوية الشمالية (أربيل،
كركوك ، السليمانية،
والأقضية الكردية في لواء
الموصل
ـ محافظة
دهوك الحالية) .
بداية التردي في
العلاقات:
إن بداية التردّي في العلاقات
بين الحكومة العراقية وبعض
القيادات الكردية ابتدأت في سنة
1930،وبخاصة مع قيام ثورة بارزان
الأولى 1931ـ 1932 بقيادة الشيخ
أحمد البارزاني ـ الشقيق الأكبر
للملا مصطفى البارزاني. أما
بخصوص ثورة الشيخ محمود الحفيد
الـبرزنجي في منطقة السليمانية
فإن الإنكليز قد تكفلوا وحدهم
بالقضاء عليها، ولم يكن للعرب
العراقيين كبير دور فيها .
ومهما يكن من أمر، فإن
للساسة الكرد دوراً كبيراً
في الحياة السياسية العراقية،
سواء عن طريق الاشتراك في مجلس
الوزراء أو الدخول في البرلمان
بشقيه مجلس الأعيان أومجلس
النواب.
أما على الصعيد الشعبي
والجماهيري؛ فإن الوشائج كانت
من القوة والمتانة بمكان بين
العرب والكرد؛ فعلاقات العمل
والتجارة والمصاهرة كلها كانت
تؤدي إلى بلورة هذه الوشائج
والوصول بها إلى نوع من التكامل
، ناهيك عن حلقات العلم
والدراسة في المساجد والمدارس،
إذ كان كثير من علماء بغداد
والموصل من الكرد، ولم يأت
تنصيب الشيخ الكردي أمجد
الزهاوي رئيساً لعلماء العراق (مفتى
العراق) اعتباطاً. ثم صار هذا
المنصب من نصيب أحد علماء الكرد
أيضا وهو العلامة الشيخ عبد
الكريم المدرس،حتى يوم وفاته
عام 2005 م
رحمه الله تعالى.
إنّ المراقب الأجنبي لايستطيع
تمييز العربي عن الكردي في
العراق إلا إذ ذهب إلى مناطق
الكرد الخاصة بهم ، أوعن طريق
الزي الخاص بالكرد ، فلذا كان
الكردي مرفوع الرأس في كل
الحواضر العربية ولا زا ل، لم
يهتز للصراعات والمشكلات التي
كانت تحدث بين القيادات الكردية
والحكومات العربية صاحبة الشأن
، وليس أدل على ذلك من وجود
حارات في بغداد تسمى باسم (عكد
الأكراد). كما ينتشر الكرد في
الأحياء الرئيسية في معظم مناطق
بغداد ، ناهيك عن وسط العراق
وجنوبه ، وهذه نقطة مهمة يجب
التركيز عليها في معرض العلاقات
العربية ـ الكردية، وهذا لا
ينطبق على الكرد الذين يقطنون
البلدان الأخرى مثل تركيا
وإيران ، إذ لا يجد الكردي
مجالاً للتعبير عن أبسط حقوقه
الاجتماعية والثقافية السياسية
.
إن المشكلات والصعاب التي كانت
تنشأ بين الكرد أوجماعات كردية
والنظام العراقي الملكي
أوالجمهوري، سواء في ثورات
بارزان المتعاقبة في العهد
الملكي، أوثورة أيلول عام 1961 في
العهد الجمهوري لم تكن تؤثر على
نسيج العلاقات العميقة بين
الشعبين في شتى المجالات،
بالرغم من وقوع ضحايا كثيرة من
الطرفين، فقد كانت تعدّ في أغلب
الأحوال مجرد أزمة نشأت بين
الدولة و قيادة الحركة الكردية
سرعان ما تنجلي الغمة ليكون
الصفاء والأخوة هي سيدة الموقف .
ثم كان ظهور الفكر الماركسى
اللينينى، و تبني
مجموعات عراقية كثيرة له
كنهج لحياتهم، ومحاولتهم بناء
جمعيات وأحزاب ثورية تكون من
مهامها نشر الفكر البلشفي
الماركسي بين أبناء الشعب
العراقي بطوائفه وأعراقه
كافة،عسى أن يستطيعوا في نهاية
المطاف تبني نظام يحقق مطالب
الفئة الكادحة حسب وجهة نظرهم،
بدلاً من سيطرة فئة الإقطاع
وأصحاب رؤوس الأموال على مجريات
السياسة والاقتصاد في العراق ،
ولم يكن يدور في خلد هؤلاء
الشباب المتحمسين أن المجتمع
العراقي ليس هو المجتمع الروسي.
وهكذا بدأت تلوح في الأفق بوادر
خطر يحيق بالمجتمع العراقي
،لاسيما وأن غالبية رموز النظام
الملكي العراقي كانوا
ليبراليين يتبنون المنهج
الغربي في السياسة والاقتصاد ،
إن لم يكونوا قد ارتموا كليّاً
في أحضان الفكر الغربي حتى
النهاية .
وفي الجانب الآخر فإن أكثرية
القيادات الدينية (الإسلامية)
في العراق كانت تقليدية قد ورثت
العلم الشرعي في المساجد
والحلقات العلمية، ولم تكن
تبالي بما يحدث في الخارج،
نظراً لأن نظام الحكم الملكي
كان علمانياً يحاول جاهداً عدم
إدخال المؤسسة الدينية في بوتقة
الصراع ، فلذلك لم تظهر في
العشرينيات والثلاثينيات من
القرن العشرين إلا جمعيات صغيرة
غايتها الدعوة إلى مكارم
الأخلاق ونبذ الفحشاء والمنكر
كجمعية الشبان المسلمين
وغيرها،أسوة بما ظهر في مصر .ولكن
ظهور جماعة الإخوان المسلمين في
مصر عام 1928 على يد الشيخ حسن
البنا وانتقال هذا الفكر إلى
العراق عن طريق أحد تلامذته
الذين درسوا في جامعة الأزهر
بداية الأربعينيات وهو الشيخ
محمد محمود الصواف الموصلي كان
الاستثناء الوحيد في هذه
القاعدة، فقد استطاع هذا الشاب
الممتلىء حيويةً وديناميكيةً
أن يقلب رأسا على عقب المفاهيم
التي كانت سائدة عند علماء
الدين الإسلامي في المجتمع
العراقي، فقام بجولات دعوية
سريعة في مناطق العراق
المختلفة، وكان لخطبه الحماسية
والجماهيرية أثر كبير في انبعاث
جذور الصحوة الإسلامية الحديثة
في العراق، فظهرت إلى السطح
مصطلحات الدين والدولة والمصحف
والسيف والجهاد، فكان لها صدى
كبير في أربعينيات القرن
العشرين. وقد حاول الشيخ جاهداً
الترقي بهذه الأفكار وبلورتها
من خلال نهج سياسي وثقافي معين،
فكان ظهور جمعية الأخوة
الإسلامية (جناح الإخوان
المسلمين العراقي) في نهاية
الأربعينيات، وترؤس الشيخ أمجد
الزهاوي لها الأثر الفعال في
انضمام الكثير من طلبة
الجامعات والموظفين وغيرهم
من فئات الشعب العراقي إليها،
حتى أصبحت تياراً قوياً ينافس
التيار الشيوعي في ذلك العهد.
وكان لمدينة حلبجة الكردية
الواقعة جنوب شرق السليمانية
على الحدود الإيرانية قصب السبق
في تبني هذا الفكر وهذا المنهج
ابتداءً من مطلع الخمسينيات.
أما بخصوص الفكر القومي الكردي ؛
فقد كان لمنظمتي هيوا (الأمل)
وشورش (الثورة) الدور الكبير في
تبني هذا المنهج، ثم كان تأسيس
الحزب الديمقراطي الكردي في 16
آب 1946، لاسيما وأن ذكرى ثورة
بارزان الأخيرة والتطورات
الإيجابية الحاصلة في الساحة
الكردية الإيرانية بولادة
جمهورية كردستان بزعامة القاضي
محمد لا تزال عالقة في الذاكرة.
وهكذا أصبحت الساحة الكردية
مسرحا لتنافس ثلاث قوى رئيسية
هي الشيوعية والقومية الكردية
والإسلامية المتمثلين في
الإخوان المسلمين ، ولكن وجود
نوع من التقارب الفكري والتحالف
بين الاتجاهين الأولين، فضلاً
عن وجود تراكم تاريخي يتمثل في
ثورة الشيخ محمود الحفيد وثورات
بارزان المتعاقبة بقيادة الشيخ
أحمد بارزاني وملا مصطفى أضفى
على البعد القومي هالة واسعة من
الانتشار والدعاية،لأنها في
نظر الجماهير الكردية أكثر
ملاءمة لتحقيق مطالبها من
الاتجاه الإسلامي الذي لم يكن
يدفع في تلك الآونة لتحقيق
مطاليب الشعب الكردي القومية
بقدر مايحاول تعزيز قيم الدين
والأخلاق والفضيلة ورفع الظلم
عن الطبقة الكادحة، ومطالبة
النظام بتطبيق الشريعة
الإسلامية ، أي بعبارة أخرى إن
مطالب الإسلاميين كانت عامة
وشاملة لكل الشعب العراقي،على
أساس أن الإسلام لايفرق بين
العربي والكردي والتركماني .
ولم يحاول الإسلاميون القيام
بعمل تنظيرات سياسية بخصوص
القومية الكردية تحديداً مثلما
فعل الشيوعيون،عندما دعوا في
بياناتهم ومؤتمراتهم إلى منح
الحقوق القومية للشعب الكردي،
وإعطائه حق تقرير المصير في
المراحل اللاحقة، وهذا ماأدى
إلى حدوث نوع من الالتباس في
صفوف المثقفين الكرد، إذ رأوا
في الحزب الشيوعي نصيراً
لحقوقهم التي كان النظام الملكي
قد أهدرها، فيما كان الإسلاميون
بعيدين عن إبداء مثل تلك
الطروحات، إذ كانت منطلقاتهم
شاملة لكل المسلمين باعتبارهم
جماعة إسلامية، فضلاًعن أن
الكثيرين من قادة الفكر
الإسلامي من العرب العراقيين لم
يعايشوا مجريات الأحداث في
المنطقة الكردية، ولم يمتلكوا
معطيات كاملة عن حقيقة الأوضاع
الاجتماعية والثقافية
والسياسية الكردية، ومايعانيه
إخوانهم من مشكلات وأعمال
تعسفية في ظل العهد الملكي. ولكن
هذا لا يلغي الزيارات الكثيرة
التي كان يقوم بها قادة الإخوان
المسلمين إلى المنطقة الكردية
والعمل على إقامة شبكة من
التنظيمات فيها، ابتداءً من
مدينة حلبجة على الحدود
الإيرانية العراقية ، ونتهاءً
بمدينة زاخو على الحدود
العراقية التركية ، ورفد
مسؤوليهم في القيادة في بغداد
بمختلف التصورات حول كيفية
المضي في العمل الإسلامي نحو
المستقبل المنشود ، فضلاً عن
قيام الإخوان المسلمين بإقامة
مخيمات في بعض المناطق الكردية
لتعزيزعلاقات الأخوة بين
الشعبين المسلمين الشقيقين،
والتعرف عن كثب على أحوال الكرد
ومعاناتهم ، كما في مخيم قصبة
بامرني الواقعة في شمال مدينة
دهوك في شهر تموز سنة 1955 وسنة 1956
إذ اختلط العشرات من الشباب
العربي القادم من محافظة نينوى
وبغداد والرمادي والبصرة وبقية
المحافظات مع إخوانهم من الشباب
الكردي، الأمر الذي أدى إلى
تلاقح الأفكار والتعرف عن قرب
على مايدور في مخيلة الشباب
الكردي عن طموحاتهم المستقبلية
وصراعاتهم مع أقرانهم من
القوميين والماركسيين .
وعلى أية حال، فقد اعتنق الكثير
من مثقفي الكرد من مدرسين
ومعلمين وموظفين وطلبة جامعات
وثانويات فكرة العمل االإسلامي
المنظم، وقاموا بنشاط مكثف بقصد
إحياء تعاليم الإسلام السياسي
التي كانت غائبة عن أذهان
الغالبية العظمى، فشوهد الشباب
لأول مرة يرتادون المساجد بجانب
كبار السن ، بعد أن كانت الصلوات
وارتياد المساجد حكراً على
الأخيرين ، وقد تبوأ هذا الجيل
من الشباب فيما بعد في
الثمانينيات والتسعينيات من
القرن العشرين قيادة الصحوة
الإسلامية التي عمت كردستان
العراق متمثلة في الاتحاد
الإسلامي الكردستاني والحركة
الإسلامية في كردستان العراق
والجماعة الإسلامية في كردستان
العراق.
غيرأن الظروف الصعبة التي مرّ
بها العراق بعد ثورة 14 تموز1958م
ومحاولة الشيوعيين الإمساك
بتلابيب الحكم في عهد الزعيم
عبدالكريم قاسم ووقوف القوى
الإسلامية والقومية بوجه
مدِّهم الكاسح المدعوم من
مؤسسات الدولة الأمنية
والعسكرية أدى إلى حدوث نكبات
ونكسات لازال الشعب العراق يئنّ
منها. فعلى سبيل المثال لا الحصر
فإن حركة الشواف في الموصل في
آذار 1959 وقيام الشيوعيين
المدعومين من نظام عبدالكريم
قاسم بعمل مجازر في شوارع مدينة
الموصل ووقوف الحزب الديمقراطي
الكردستاني إلى جانب عبد الكريم
قاسم لإخماد حركة الشواف ـ حسب
زعمهم، ودخول الكثير من
المسلحين الكرد إلى مدينة
الموصل للسيطرة على الوضع، أدى
إلى حدوث تصدع في العلاقات
العربية ـ الكردية لأول مرة في
التاريخ العراقي المعاصر، وهذا
ما ألقى بظلاله على الحوادث
التي ستأتي تباعا، لا سيما بعد
إعلان الكرد ثورتهم في 11أيلول
1961 ضد نظام عبدالكريم قاسم، بعد
أن كانوا حلفاء له مع الشيوعيين
في وجه الاتجاهات القومية و
الإسلامية العراقية، ولكن
الأمور لم تصل إلى حد القطيعة
بين الجانبين في عقود الستينيات
والسبعينيات.
وبالرغم من اشتداد حملة الجيش
العراقي على الكرد في فترتي حكم
البعث الأولى سنة 1963 و الثانية
1968م، والمجازر والمآسي التي
ألحقها النظام البعثي بالكرد
فإن قيادة الحركة الكردية
متمثّلة بالملا
مصطفى البارزاني توصلت إلى عقد
اتفاقية 11 آذار 1970 مع الحكومة
العراقية آنذاك.
ولكن الخروقات الكثيرة
والتجاوزات التي تسبب بها نظام
بغداد جعلت من الاتفاقية حبراً
على ورق، ثم جاءت أحداث عقدت
الموقف،فحدثت مأساة الأنفال
وضرب حلبجة وغيرها بالأسلحة
الكيماوية، ودفن الآلاف من
الكرد أحياء في صحارى جنوب
العراق بدون ذنب ارتكبوه، فحدثت
شروخ كبيرة في بناء علاقات
الأخوة الكردية ـ العربية التي
استمرت نحو أربعة عشر قرناً.آملين
أن يتجاوز العقلاء ما أحدثه ذوو
العقليات الإلغائية والتذويبية
من نتوءات بين الشعبين الشقيقين
الكردي والعربي في العراق.
العلاقات
الكردية ـ العربية في سورية :
أما إذا انتقلنا إلى ما شهدته
العلاقات الكردية ـ العربية في
سورية بعد انهيار الدولة
العثمانية،فإننا سنجد الانسجام
التامّ بين الكرد والعرب في
سورية فيما يخص بناء الدولة
السورية الجديدة، على كل صعيد
وعلى جميع المستويات. فالكرد
السوريون انخرطوا في الأحزاب
السورية القائمة لمواجهة
الأطماع الفرنسية في سورية منذ
الأيام الأولى للحكم الفيصلي،
وقام القائد والزعيم الكردي
إبراهيم هنانو بإعلان ثورة
مسلحة ضد فرنسا التي كانت قد
بدأت بإظهار نواياها
الاستعمارية في سورية باحتلال
بعض مناطقها، متعاوناً مع قادة
سوريين أعلنوا بدورهم الثورة
المسلحة في مناطقهم.وقد تعاون
مع هنانو زعماء كرد من جبل كرداغ
(منطقة عفرين الواقعة في شمال
غربي حلب ) عبر تأسيس ما سمي
بحركة المريدين. وكانت عشائر
الكيكية الكردية وغيرها في
منطقة الجزيرة السورية قد
تعاونت هي الأخرى مع عشائر
عربية وأعلنت الثورة على
الفرنسيين. حتى إن ثمة أخباراً
تؤكد أن وزير الدفاع السوري
الذي ذهب لملاقاة الجيش الفرنسي
في ساحة ميسلون (يوسف العظمة )
كان كردياً. وقد شارك ممثلون عن
كرد سورية في المؤتمر السوري
الذي انعقد عام 1928في بيروت،
الذي انبثقت عنه الكتلة الوطنية
التي قادت نضال الشعب السوري
نحو الاستقلال. وكان كرد لواء
الإسكندرونة قد حاولوا بكل ما
أوتوا من قوة الوقوف ضد مؤامرة
إلحاق لواء الإسكندرونة
بتركيا، وصوّتوا في الاستفتاء
الذي أجري بهذا الشأن ضدّ
المؤامرة، هذا الاستفتاء الذي
لم تعلنْ نتائجُه،وقررت القوة
الغاشمة فرض أمر واقع بالرغم من
إرادة غالبية السكان. وكان
الكرد السوريون قد رفضوا في
غالبيتهم المشروع الفرنسي
القاضي بإقامة كيان كردي في
منطقة الجزيرة السورية،على
غرار دولة العلويين ودولة
الدروز وغيرهما، إيماناً منهم
أن الكيانات الهزيلة إضعاف
للوطن كله،وتمكين للمستعمر في
تنفيذ سياساته.
وبعد حصول سورية على استقلالها
خدم الكردُ وطنَهم بكل
إخلاص،وتبوّؤوا المناصب
الرفيعة في الدولة دون أن يخطر
على بال أحد أن يسأل:لماذا ؟،
فتوفيق نظام الدين تسلم منصب
رئيس أركان الجيش السوري في
الخمسينيات،وهو منصب أهم من
الناحية العملية من منصب رئيس
الجمهورية، وأخوه عبدالباقي
كان وزيراً ومن أركان حزب الشعب
السوري. وثاني رئيس جمهورية بعد
الاستقلال(حسني الزعيم) ورئيس
وزرائه د.محسن البرازي ، ورابع
وخامس رئيس جمهورية فوزي سلو
وأديب الشيشكلي كانوا أكراداً.
ومؤسِّس المجْمع العلمي العربي
بدمشق العلاّمة محمد كرد علي
كان كردياً، والقائمة تطول .
لقد عاش الكرد والعرب في انسجام
ووئام، مستظلين بظلال الإسلام
الوارفة، وكانت العلاقات
الاجتماعية من زواج ومصاهرة
وإقامة المشاريع المشتركة بين
الجانبين تتعمّق على توالي
الأيام والسنين، إلى أن هبت على
البلد عاصفة من سموم القومية
الاستئصالية أحرقت حقول الأخوة
وزرعت الحنظل والعلقم
والشوك،وقفزت إلى سدّة الحكم
عبر انقلاب دموي فئة مشبوهة ذات
أنياب حادّة طويلة بدأت تنهش في
جسم الوحدة الوطنية باسم البعث
العربي والحزام العربي، وصارت
تـنفخ في كير العصبية الجاهلية
النتنة ، وتزرع الألغام القابلة
للانفجار في طول البلاد وعرضها،
وما زالت هذه السياسةُ ديدنَها
والهاجسَ الذي يحتل المرتبة
الأولى في سلّم أولوياتها.
ولكننا لن نيأس من رحمة الله ومن
حكمة العقلاء من أبناء
شعبنا،الذين يؤمل منهم أن
يعيدوا الحق إلى نصابه،ويعيدوا
الدفء إلى علاقات الأخوة
المتينة الممتدة لقرون بين
المسلمين عرباً وكرداً
وغيرهم،وينصفوا إخوانهم الكرد
السوريين الذين لحقهم ظلم شديد
على يد حكام دمشق الحاليين.

|