ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد 06/06/2004


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

إصدارات

 

 

    ـ أبحاث

 

 

    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


سـوريا إلـى أيـن

ورقة عمل

علي  الشهابي

ورقة العمل المكتوبة في هذا العدد القليل من الصفحات مطروحة للحوار بين كل المعنيين بموضوعها ، دونما استثناء . ولأنها تدّعي أنها تنطلق من تفكير استراتيجي ، فهي تدعو لبدء العمل باتجاه تحقيق منطقها . وهنا ، في هذا المجال ، يصحّ القول " إن القول بداية الفعل ".

وما ينبغي تأكيده أنها ينقصها الكثير في حيثياتها ، وخصوصاً من الزاوية الأكاديمية . لكني أتمنى أن يعوّض ترابط إطارها العام عن هذا النقص ، لأن مشروعاً بهذا الطموح لا بد أن تتضمن مسودته نواقص كثيرة ـ أعرف قليلها وأجهل جلّها ـ  طالما أنه لا يمكن تحقيقه بجهد فردي ، بل يحتاج إلى ورشة عمل فكرية حتى يكتمل نظرياً ، هذا إن اكتمل . ولهذا من البديهي أن هذه الورقة ، بحكم منطق كونها ورقة عمل ، تستدعي النقد والنقض لأن كليهما يغنيها بطريقته : بالنقد لأنه يشارك في تأليفها ، وبالنقض طالما أنه يسهم في تبديد ضباب الاتجاه ، ولأن نقض الفكر للفكر أهون من نقض الحياة له ، إذ لا يجرّ في أعقابه الويلات .

علي  الشهابي

سـوريا إلـى أيـن

ورقة عمل

بديهي أن الإصلاح غير ممكن دون فاعلية المعنيين فيه ، والأكثر بداهة أن فاعلية المواطنين السوريين في هذا المجال بالحدود الدنيا جرّاء مصادرة الحياة السياسية على مدى عدة عقود . وقد يكون العنصر الأهم في استمرار تدني هذه الفاعلية عدم وضوح رؤية اتجاه مسار المجتمع السوري لأن التيارات السياسية المعششة فيه والتي تبدو أنها تتنازعه هي الأصولية والقومية والشيوعية . ولأنها أعجز من رؤية هذا الاتجاه نراها لا تتنازعه بقدر ما تعوم على سطحه ، بدليل تجاوبه السلبي معها . هذا الدليل برغم فصاحته و قوة إقناعه يظل دليلاً سلبيا ، يظل أعجز من أن يكشف بالملموس أسباب عدم تجاوب المواطنين في سوريا مع هذه التيارات ، لذا لابد من الخوض في الأسباب .

الحـركة الأصولـية

لا شك في أن الأصولية الإسلامية إحدى نتاجات الدين الإسلامي . لكنه لا يفرّخها ببساطة ، بل تفقس منه بالضبط كما يفقس الصوص من البيضة . وحتى تفقس لابد  لها من حاضنة تؤمن لها الشروط  الضرورية ، وهذه الحاضنة هي التخلف . والأدق ، إن هذه الحاضنة هي المأزق الذي باتت تعيشه المجتمعات  المتخلفة . وهذا لا ينفي بقدر ما يتضمن أن الأصولية ثمرة تزاوج الدين والتخلف لأن الدين لا يصير متخلفا ، أي أصوليا ًً، إلا في المجتمع المتخلف . فمنطق الأصولية منطق السير بالاتجاه  المعاكس للحياة ، وإذا كان الأصوليون ما زالوا يعيشون في هذه الحياة ، فهذا ليس بفضل نمط رؤيتهم للحياة بل بفضل الحياة : لأنها لا تسمح لأحد بالعيش خارجها . فالأصولية تناقض  بديهيات الحياة المعاصرة لأنها بطبيعتها لا تنسجم وعمل المرأة مع الرجل ، ولا بركوبهما معا في السرفيس ، ولا مع الساتيلايت أو حتى التلفاز ، لكنها مضطرة للتعايش وهذه الظواهر . فهي تقف ضد هذه الظواهر في بداية ظهورها ، أما عندما تعم فسرعان ما يتغاضى خطابها عن مناوئتها لأنه يعدو منفرا ً للمتدينين العاديين . فالصورة الحقيقية للأحزاب الأصولية هي طالبان ، وإذا كنا لا نجد في مجتمعنا نسخة طبق الأصل عن طالبان ، نسخة أوريجينال ، فهذا مردّه إلى أن التطور الاجتماعي عندنا ما عاد يسمح بوجود مثل هذه النسخة . فالأصوليون أينما كانوا نسخة معدّّلة عن طالبان ، نسخة بلا جلباب وعمامة ، وقد تكون بطقم وربطة عنق ، تتماشى ومواصفات المجتمع الموجودين فيه . هذه هي حقيقتهم ، حتى لو تحدثوا عن الحرية والديموقراطية واستعدادهم للعمل المشترك مع الآخرين وتبادل السلطة عبر الانتخابات . 

صحيح أن كل ما في الحياة الاجتماعية ينقض الأصولية ، لكنها باتت تتغذى مما يبدو الشكل الأمريكي للعولمة ، من الأمركة . فهي تزدهر في مقارعة الآخر لأنها بالأصل ظاهرة هوية مستنفرة تدافع عن ذاتها بحشد كل مشاعر الانتماء لدى جمهورها ، لكنها تخبو بعيداً عن هذا الصراع لتغدو عبئا يجثم على صدر المجتمع الذي استنفرته للدفاع عن هويته .

فالغالبية العظمى من شعوب العالم ، حكومات وحركات سياسية ، ضد الأمركة وتواجهها بالشكل الممكن والمعقول إلى هذا الحد أو ذاك ، بالشكل الذي يفعل فعله باتجاه تحجيمها أو تعديل مسارها بحيث يمكن دمجها في أشكال العولمة الأخرى الموجودة الآن ، أو التي قد تفصح عنها الحياة . أما الأصولية فتتعامل معها بردة الفعل لتصير انعكاساً لها ، هذا الانعكاس يزيد رصيدها الشعبي في البلدان الإسلامية لأنها تتزيّا بزي القطب المناهض للأمركة . إلا أن هذه الزيادة سرعان ما تخبو ، وسوف تخبو ، لأن الأصولية ليست قطباً بل ردّة فعل إقليمية مصيرها الانحسار لأنها تناقض الأمركة من موقع السعي لإقامة مجتمع مستحيل الوجود في الحياة المعاصرة بدليل عدم وجود ، واستحالة وجود ، من يدعمها أو يؤيدها أو حتى يتعاطف معها في العالم أجمع ، إلا بعض مسلمي العالم المتخلف . وهؤلاء على كثرتهم أشبه ما يكونون في معادلة العلاقات الدولية بالصفر الكبير .

على ضوء هذه الخطوط العامة نرى صورة المجتمع السوري إيجابية جداً . فالمتدينون فيه كثر ، كما هي الحال في كل مكان ، أما الأصوليون فقلة قليلة . وهذا ليس مرده قمع السلطة للإخوان المسلمين والحركات الدينية بدءاً من نهاية السبعينات ، فجلّ ما يفعله القمع أن يضعف أو يؤجج الحركة ذات التربة الاجتماعية الخصبة ، كما هي الحال في السعودية . بل مرده أولاً إلى طبيعة المجتمع السوري وآلية فعل السلطة السياسية فيه ، وثانياً إلى مواقفها الخارجية .

المجتمع الحالي في سوريا ـ بشكل رئيسي ـ نتاج السلطة السياسية الحالية ، والأهم السابقة . صحيح أنه قد تربى على القمع السياسي الشديد ، ولكن على الحرية الاجتماعية الواسعة والتسامح الديني الشديد . فالمواطن لا قيود على حريته الاجتماعية إلا القيود الاجتماعية ، له كامل الحرية من ممارسة الدعارة إلى اعتكاف العبادة . من هذه الزاوية يمكن توصيف حال النظام السياسي بكونها علمانية متخلفةً ، وهذه قد تكون أقصى حدود علمانية يتحملها مجتمع متخلف من نظامه السياسي . وحال المجتمع السوري الذي تغلب عليه مظاهر التسامح الديني ، أي تحمله لمظاهر قلة التدين أو البعد عنه ، وضعف الحساسية بين المسلمين والمسيحيين والرماد الكثيف الذي غطى جمرات الطائفية التي تأججت نهاية السبعينات بداية الثمانينات بين السنة والعلوية ، أثناء الصراع الدامي بين السلطة والإخوان المسلمين ، هذه الحال يمكن تسميتها أيضاً علمانية متخلفة . من نافل القول إن هذه العلمانية المتخلفة على صعيدي السلطة والمجتمع متخلفة مقارنة بنظيرتها في البلدان المتقدمة ، أما في معظم البلدان المتخلفة فيحتاج بلوغها جهوداً جبارة .

هذا جانب يفسر ضعف الأصولية عندنا ، أما الجانب الآخر فمواقف النظام التي تراوحت تاريخياً بين مناهضة سياسة الولايات المتحدة وتحملها على مضض ، ومما زاد في إضعافها الموقف الممتاز للنظام من البلطجة الأمريكية في حربها الأخيرة على العراق . لهذه الأسباب نرى المواطنين في سوريا يعيرون الأصولية أذناً صماء ، هذا إن سمعوها تتكلم .

الحـركة القـومية

أما بخصوص الحركة القومية فلن أنطلق من حقيقة أن أحزابها وصلت إلى السلطة منذ عقود ولم تحقق شيئاً على صعيد الوحدة بل كرست  الدولة القطرية ، لأن رد المثقفين القوميين جاهز : الخلل في هذه الأحزاب ، أو في قيادتها ، التي خانت قضية الوحدة العربية وهي تسعى للحفاظ على السلطة ، بل سأنطلق من التحليل الملموس .

كان العمل من أجل الوحدة العربية سعياً مشروعا ًبعد الاستقلال لأن العرب ، كغيرهم من الأمم ، لهم الحق في الوحدة السياسية لتكون

 إطار تطورهم وإبراز شخصيتهم القومية . هذه الرغبة الجامحة ولّدت الأحزاب القومية في كل البلدان العربية وحصل ما حصل . فموضوع إمكانية أو لاإمكانية تحقيق الوحدة العربية في تلك الفترة قد يهم المؤرخين ، ولو أن القوميين جازمو اليقين بتحققها لولا كذا وكذا وكذا . لكن القوميين لا يعومون الآن على سطح المجتمع جرّاء هذا الموضوع التاريخي ، بل لأنهم يعتقدون أن العرب لا يتغيرون بتغير الحياة . فبرغم كل المتغيرات الدولية والإقليمية يظل عرب هذا القرن نفس عرب منتصف القرن الماضي ، وضروراتهم نفس الضرورات ، وسعيهم نفس السعي ، نحو الوحدة العربية . والطريف أن القوميين يشاركون المتدينين الرأي بضرورة إعادة تفسير مفاهيم القرآن على ضوء متغيرات الحياة ، فهل مفاهيمهم عن العرب والقومية العربية والوحدة العربية أثبت من مفاهيم القرآن ؟ نعم أثبت ، ولو لم تكن أثبت لأعادوا النظر على الأقل في بداهة مفهوم ضرورة الوحدة العربية . ولكن من البديهي أن الفكر القومي لا يستطيع من زاويته أن يرى هذه المتغيرات ، لأن ذلك من شأنه أن يحيله إلى الاستقالة بما هو فكر قومي . فهذه الوحدة باتت معاكسة لمنطق الحياة من كل الزوايا بدليل كونها :

1ـ سيراً بالاتجاه المعاكس لمسار العالم ، فقد بات ينطبق عليها المثل الشعبي ( الله يطعمك الحج والناس راجعة ) طالما أن درجة التطور العالمي باتت تستدعي تحلل الأمم . فالقوى المنتجة المتطورة بعدما ضاقت بها حدودها القومية منذ أمد بعيد ، وبعدما أنهكها طول التغاضي عنها والقفز فوقها ، قامت منذ أمد قريب بإعلان الحرب عليها ، بإعلان أن الحدود القومية باتت أسواراً إقطاعية جديدة لابد من دكها ، ولكن ليس بالأسلوب القديم .   

والبلدان العربية غير المحكومة بالمقدمات السابقة محكومة بالنتائج ، وهذا يحتاج توضيحاً . فالقوى المنتجة في البلدان العربية لا ولم تتطور باتجاه تحطيم حدود الدولة القطرية لتنفتح على حدود السوق القومية ، أي إن الدولة القطرية ليست بمثابة إمارة إقطاعية تعيق تطور القوى المنتجة العربية لأن التطور الاقتصادي في البلد المتخلف ما عاد ينحو ، ولم ينح أصلا ً، نحو الانفتاح على بلد متخلف آخر لأن عاجزاً لا يسند عاجزا ً مثله ، أي لا يمكن أن يكون مجالاً لتطوره . بل كانت البلدان المتخلفة مجتمعة ، وكلٌ على حده ، تتكامل تبعياً مع منظومة البلدان الرأسمالية المتطورة وبات من الضروري الآن أن تسعى للاندماج بهذه المنظومة طالما أن هذه المنظومة باتت تشير ، على الأقل في إحدى حلقاتها ، إلى قابلية اختراقها وتستدعيه.

2ـ تحدياً لكل الأمم المتطورة لأن منطق تشكل الأمة الواحدة أن تتناقض وغيرها من الأمم طالما أن منطلق الأمة الواحدة بداهة مصلحتها   الواحدة في تناقضها مع مصالح الأمم الأخرى ، ولن ترد هذه الأمم على هذا التحدي طبعاً بالورود والرياحين .

 3 ـ مرفوضةً من بعض الشعوب العربية . فالغالبية الساحقة من الشعب في كل واحدة من البلدان العربية النفطية ضد الوحدة لأن نتيجتها ضد مصلحته ، إذ سيقاسمه أشقاؤه العرب ـ وما أكثرهم ـ ثرواته ليتدنى مستواه المعاشي . أما بقية البلدان العربية فشعوبها تشعر بلاجدوى هذه الوحدة دون البلدان النفطية لأن نتيجتها ستكون تعميم ما عندهم ، وهو متماثل .

ولأن هذه الحقائق حقائق ، والحقائق تفعل فعلها في الحياة ، نرى القوميين يعومون على السطح في كل البلدان العربية لا في سوريا

فحسب ، بعدما ملّ المجتمع أصواتهم ، لا بل صارت نشازا ًحتى أن معظم مثقفيهم باتوا يخجلون من عادتهم في وصف الوحدة العربية علاجاً فورياً لأي طارئ ، بل صاروا يتأنون ويتأنون لتبدو كأنها نتاج تفكير عميق .

الحـركة الشيوعيـة

أما بخصوص الحركة الشيوعية فقد أفصح سقوط المنظومة الاشتراكية عن عومها على السطح ، وهو عوم عريق يعود إلى مرحلة عجز التجربة الاشتراكية السوفييتية عن أن تكون نقيضا للنظام الرأسمالي العالمي ، لتتحول بالتالي إلى مجرد خرّاج على خاصرة هذا النظام . فالمعنى الفعلي لهذا السقوط تقيؤ الحياة لهذه الاشتراكية التي أخذت كامل فرصتها في الحياة ولم تستطع هضمها . وأعتقد أن الذين مازالوا إلى الآن شيوعيين قسمان : الأول مازال لأنه لا يستطيع إلا أن يزال ، أي لأنه لا يستطيع أن يصير قومياً بله أصولياً . والثاني التروتسكي لأنه يعتبر أن أفكاره لا علاقة لها قط بذاك السقوط لأنه أول من قال باستحالة الاشتراكية في بلد واحد أو مجموعة بلدان متراصفة ، لا بل إنه أول من أكد على وعمل من أجل الثورة البروليتارية العالمية التي ستقوم ، من ضمن ما تقوم ، بإنقاذ السلطة السوفييتية من الارتكاس . فهل يمكن لأول من حذّر من هذا السقوط  وعمل كل ما في وسعه لرفدها بالثورة العالمية أن يفعل سقوطها فعله باتجاه تعويمه على السطح ؟ طبعاً لا ، والمنطقي أن ترسّخه لبعد نظره . إذن فسقوطها لا يعوّمه.. ولكن مع ذلك نراه يعوم .

لماذا ؟

 يعوم لأن ما يعوّمه استمرار اعتقاده بالثورة البروليتارية العالمية . فقد مر حينٌ على الرأسمالية أعطت فيها مؤشراتٍ قوية على أصالة هذه الثورة فيها ، خصوصاً بين الحربين العالميتين . ولو أن هذه الثورة مكونٌ أصيلٌ من مكونات الرأسمالية لاستخلصها التروتسكيون منها في تلك الفترة لأنهم لم يكن ينقصهم ، من حيث المبدأ ، لا التنظيم ولا العبقرية الثورية . ولكن ما أنقصهم التنظيم وضيّع عبقريتهم أن الرأسمالية لم ولا تدفع البروليتاريا على طريق الثورة لبناء الاشتراكية ، بل تدفع قطاعاتٍ من المجتمع إلى التمرد كردة فعل على قسوة الرأسمالية ، وشتان بين الدفعين .

هذه هي الحقيقة كما باتت تتبين للفكر من المنظور اللاحق للحياة . وسأوضح خطأ النظرية السياسية الماركسية بعد قليل ، في سياق تحليل بنية المجتمع . أما الآن فأواصل القول بأن هذا الفارق بين الدفعين  كبير جداً حتى أنه ينسف أساس نظرية السياسة الماركسية ، وبنسفه له ينسف معه أساس الحركة الشيوعية لأن هذا هو ذاك . ولهذا باتت الحركة الشيوعية بلا أساس ، باتت زبداً في كل مكان ، لا في سوريا فحسب .

 إذا كانت سوريا لا تسير باتجاه طالبان أو الوحدة العربية أو الشيوعية ، فهل تراوح مكانها ؟ ومالم تك تراوح فإلى أين؟

بديهي أنها لا تراوح بل تسير بالاتجاه العام الذي ينظم ، قل يحكم ، مسار العالم الذي هي منه وفيه . وهذا المسار تحكمه جملة ضرورات لعل أبرزها ضرورة استمرار تنامي وتيرة التطور الاقتصادي . فأميز ما يميز عملية الإنتاج على الساحة العالمية اليوم هو أن التناقض الأساسي فيها بات بين عالمية عملية العمل والتجزئة السياسية للعالم . هذا التناقض لابد أن ينحل على حساب الثانية ، على حساب الدولة القومية ، طالما أن النكوص عن عالمية عملية العمل استحالة . فتهدم الدولة القومية صار ضرورة اجتماعية لأن الحدود السياسية للدول صارت تكبح استمرار التطور الاقتصادي العالمي ، وهذا ما يفتح الباب واسعا أمام ضرورة العولمة .

العـولمة واتجاهاتـها 

العولمة عملية دمج واندماج للأمم والشعوب بغض النظر عن اختلافاتها القومية والثقافية وطموحاتها ونفسيتها الجمعية في وحدة مجتمعية واحدة ، أي في كلية سياسية اقتصادية ثقافية واحدة ، يخرج منها الجميع كلاً جمعياً واحداً دونما اختلافات جمعية ، بل طبعاً بفوارق فردية . فالجنس البشري الذي ابتدأ واحداً فرضت عليه بدائيته التجمع في وحدات اجتماعية ضيقة أخذ يوسّعها كلما تطور ، والأدق فرض عليه تطوره توسيعها . هذه الأشكال بلغت أوجها في الدولة ـ الأمة التي صهرت وانصهرت في بوتقتها شعوب وقبائل وملل وطوائف مختلفة نسبياً أنتجت بالمحصلة الأمة كذا والأمة كذا . والعالم الآن يسير على طريق مشابه شكلياً ، على طريق دمج الأمم والشعوب في بوتقة ، أو صهرهم في محرقة لا فرق ، لينتج عنهم ومنهم شكل جديد لاجتماعهم وتجمعهم هو حكماً وبالضرورة أرقى . هذا هو مآله ، أما مساره الذي سيستغرق السنين فليس بهذه الوردية ، ولكن لامناص نقطة انتهى .

هذا التعريف البسيط للعولمة يستغرقها لأنه يتضمنها بكل تناقضاتها : حتميتها ومحاولات رفضها مروراً بتعديلها ، فاعليتها في تأسيس مستقبل وردي للبشرية وتكريسها واقعاً مظلماً بالنسبة لغالبيتها في الحاضر ، تدميرها للدولة القومية وسعيها لتكريسها ، ترحيب بعض الشعوب بها واستماتة البعض الآخر ضدها ، سلاستها وصلفها . هي كل هذه المتناقضات لأنها عولمة رأسمالية ، والعولمة لا يمكن أن تكون إلا رأسمالية لأنها لا تتحقق إلا بفعل فاعلية رأس المال في جعل الكرة الأرضية مسرحاً حراً لحركته . هذا أساسها المادي ، وما عداه أضغاث أحلام بدليل أن أعتى عتاة مناهضة العولمة ، خارج الأصولية ، باتوا مع تعديلها ، أي تخلوا عن وهم رفضها أو تحقيقها عبر الاشتراكية . 

فالعولمة لا مناص منها لأنها كانت وستظل جارية في العالم لأنها قائمة في صلب مكونات التطور البشري ، في التناقض الأساسي بين ضرورة استمرار تطور وسائل الإنتاج وضرورة إزالة العلاقات الاجتماعية التي تعوق هذه الاستمرارية . لذا ما عاد المطروح هل سيتعولم العالم ، بل كيف وبأي اتجاه ؟

هذا السؤال يجيب عليه البشر كلٌّ بحسب موقعه وكيفية رؤيته للأمور . ونحن في سوريا يعنينا هذا الموضوع كغيرنا طالما أنه يحدد شكل وطبيعة حياتنا حاضراً ومستقبلاً . وبنفس الوقت نعلم أكثر من غيرنا أننا لسنا في مطعم ، نطلب ما نريد ونشكل العالم كطاولة بالشكل الذي نشتهي ، بل محكومين بشبكة من العلاقات والمصالح الرأسمالية الدولية التي يحاول كل طرف منها أن يصوغها بالشكل الذي يخدم مصلحته . ولأننا في منتهى التخلف ، الاقتصادي لا الاجتماعي ، لا نجد أنفسنا محكومين بهذه الشبكة فقط ، بل وحدود فاعليتنا فيها تقتصر على التجاوب مع الطرف الذي تتلاقى مصلحتنا ومصلحته . بهذه الحدود ، وبهذه الحدود فقط ، نكون نفعل فعلنا في تقوية أو إضعاف هذا أو ذاك من اتجاهات العولمة . من الواضح إذن أن علينا التدخل لا للتأثير في اتجاهات العولمة هذا الأثر المحدود

 ، قليل الأهمية للعالم برغم إيجابيته ، بقدر ما للإسهام في تحديد شكل وطبيعة حياتنا . ما قيل أعلاه يتضمن أنه من غير الواضح كيف سيتعولم العالم في النهاية لأنه مازال يتعولم ، أي تعتمل فيه تناقضات تكاد لا تنتهي . ولكن ثمة آليتان بارزتان فيه لابد أن تسماه بميسمهما ، هذا إن لم تنحتاه بإزميلهما ، وهما الأمركة والأوربة .

لا أستطيع الجزم في ماهية الأمركة ، ولكن يبدو أنها محاولة الولايات المتحدة السيطرة على العالم لا لترسمه على صورتها بل لتصوغه بالشكل الذي يحقق مصلحتها . وهذا يعني أنها من موقعها الممتاز تسعى لجعل العالم ساحة اقتصادية واحدة تظل فيها الدول هياكل سياسية للأمم ، هذا الذي أطلق عليه بعض مفكريها " الحدود الشفافة " . فهي تحاول جعل الكرة الأرضية مسرحاً حراً لحركة راس المال , حراً بأقصى حد ممكن . هذه العملية تصطدم بعائق المقاومة أو المعاوقة الناجمة عن تعدد الكيانات السياسية ، لا سيما في الشطر التابع من العالم ،وما تحمله من تفاوتات سياسية وقانونية وثقافية تفرض على حركة راس المال تقطعاً تحرمه الانسيابيه التي يتوق اليها. وهي تحاول التغلب على هذا العائق بعملية تمشي على قدمين اقتصادية وسياسية . اقتصادياً بكسر قدرة الرساميل المحلية على المنافسة وامتصاصها إلى دورة رأس المال المسيطر , وسياسياً بنخر سيادة هذه الدول وتطويعها سياسياً وقانونياً وحتى ثقافياً وتحويلها بالتالي إلى مجرد كيانات  تؤمن حسن سير ودوران رأس المال العالمي . هذا في الشطر التابع ، أما في الشطر المسيطر فتقوم الأمركة بدمج الرساميل بآليات  اقتصادية عديدة ، وسياسيا بتشكيل قيادات إدارية عليا تدير هجوم رأس المال المسيطر وتنسق حركات فروعه بما يضبط التنافس بينها ضمن حدود التنافس .

فالأمركة سعي لتكريس الوضع القائم بعلاقته المزدوجة :  تكريس علاقة سيطرة ـ تبعية بين العالم المتطور والعالم المتخلف وشبه المتخلف ، وتكريس العلاقة الحالية للتنافس الرأسمالي مع البلدان المتطورة وشبه المتطورة التي تفعل فعلها لصالحها طالما أنها الأكثر تطوراً . بهذا الشكل يظل العالم يسير على إيقاعها وتظل باقي القوى الاقتصادية فيه تحقق مصالحها عبر كونها شريكاً  لها ، بحسب أهميتها وموقعها ودرجة تطورها . وهذا لا ينفي بقدر ما يتضمن  تداخل رؤوس الأموال العالمية في أي قطاع . لكن هذا التداخل لا يغير البتة في هذا المسار لأن رأس المال الأمريكي هو المسيطر ، لا بل لأن هذا التداخل يتم في السياق العام لمسار العالم على وقع الإيقاع الأمريكي لتكون المحصلة تغذية هذا التداخل لذاك المسار . هذا المشروع الطموح طموح فعلاً ، لكنه ليس بلا أساس ، بل يتأسس على موقعها الممتاز في العالم والمتمثل بكونها :

1- أكثر تطورا ًمن باقي البلدان المتطورة على الأقل بخمس سنوات ، وهذه هوّة شاسعة قد لا تستطيع هذه البلدان جسرها ، وخصوصاً في ظل مزايا الولايات المتحدة الأخرى .  

2- تنتج 30% من إنتاج العالم ، وبديهي أن من ينتج ثلاثين يتحكم بثمانيين إن لم يكن بتسعين بالمائة من هذا الإنتاج . ولهذا نجد كل بلدان العالم صيصاناً أمام هذا الباشق .

3- قوتها العسكرية الهائلة التي تمكنها من إثارة أو استغلال أي تناقضات عالمية أو إقليمية للسيطرة على مواقع حيوية للاقتصاد العالمي

4- مجتمعاً فتيّاً ، عكس العجوزين الأوروبي والياباني  .

ولأنها تمتاز على غيرها من القوى والاتجاهات المعولمة بهذه المزايا النوعية ، نراها تفعل ما تريد . تخرق القانون الذي تريد ، وإذا ما أرادت لخرقها أن يصير قانوناً يصير ، لأنها مشرّعة القوانين والمفسرة للتي لم تشرعها ، وعلى العالم أن يجد طريقة أو أخرى لقبولها.

هذه هي الأمركة كما أراها إلى الآن ، والتي ستترك أثرها البالغ على العولمة شاء العالم أم أبى . هذه الأمركة ، ولو أنها الاتجاه الأبرز في العولمة ، متورطة في المشكلة التي تورط العالم فيها لأنها جزء من هذا العالم مهما تغطرست ، وخصوصاً من منظور العولمة . وتتلخص هذه المشكلة بأنها تحاول تكريس الحدود القومية لتقوم بوظيفة متناقضة ، تريدها أقنيةً أمام جريان رأس المال وسلعه ذهاباً وإياباً وبنفس الوقت سدوداً محكمة في وجه الأغلبية الساحقة من سكان هذه الدول كي لا تستفيد من هذا التطور . مما يعني أنها تسعى لنزع الصفة الطبيعية عن علاقة رأس المال بالمجتمع عبر سعيها لمعاكسة ضرورة  تطور العلاقات الاجتماعية بين البشر بتطور وسائل الإنتاج . ولأن هذه الضرورة لا تتعاكس ، أعتقد أن الأمركة ستتعدّل عاجلاً أو آجلا ً. ستتعدل بفعل دفعها البشر لمواجهتها بأشكال مختلفة تختلف باختلاف مواقعهم وفاعليتهم لأنها تدفع بهم نحو الإفقار المطلق في العالمين المتخلف والمتطور . فهي لا تقدم للمجتمع المتخلف أي حلول اقتصادية تنحو به نحو الاستقرار حتى في إطار تخلفه ، وبنفس الوقت فإن التنافس الرأسمالي يدفع رأس المال في المجتمع المتطور بنفس الاتجاه ، باتجاه التنافس نحو القاع لتخفيض نفقات الإنتاج . فالمجتمع لا يمكن أن ينحكم بمجرد القسر والأيديولوجيا ، بل لا بد من سلاسة اقتصادية ترسي الأساس لفاعلية القسر عبر الأيديولوجيا ، وهذه السلاسة بالضبط هي ما تفتقر إليه الأمركة . مثل هذه السلاسة نرى بعضاً مهماً منها في تيار العولمة الرئيسي الآخر ، في الأوربة .

الأوربة ابتكار أوروبي غربي بامتياز ، وهي كأي ابتكار لا يأتي إلا في سياقه الطبيعي . يقوم أساسها في ضعف اقتصاد بلدان أوروبا الغربية وتخلفه وراء اقتصادي الولايات المتحدة واليابان ، وخصوصاً الأولى ، بعدما أدركت هذه البلدان أن استمرار التنافس العالمي بالشكل القائم يفعل فعله في زيادة تخليفها عن الولايات المتحدة خصوصاً . لذا لابد من وسيلة غير تقليدية ، فكان ابتكارها للاتحاد الأوروبي هذه الوسيلة .

انطلقت هذه البلدان من السوق الأوروبية المشتركة وطورتها لتصير الاتحاد الأوروبي القديم الذي توسع ، وما يني يتوسع ، بشكل رئيسي نحو بلدان أوروبا الشرقية . هذا الاتحاد يعني تطوراً لامتكافئاً بين أوروبا الشرقية والغربية ، وجهة لاتكافئه هذه المرة لصالح الأولى . مما يعني أنها ستضخ ، وهاهي تضخ ، رساميل هائلة في أوروبا الشرقية حتى تتطور . وهي ستتطور . وبتطورها وأثناء تطورها سيتنامى استهلاكها مما ينعكس مزيداً من النشاط والتطور الاقتصادي على أوروبا الغربية  أيضاً ، وهذا يعزز موقعها التنافسي في الساحة العالمية .أضف إلى ذلك أن هذه الخطوة تسمح بتمركز رأس المال الأوروبي ـ وحدة رأس المال بين الشطرين ـ مما يزيد التعزيز تعزيزاً .

 ثمة حاجة أخرى غير المنافسة دفعت أوروبا الغربية باتجاه ابتكار الاتحاد الأوروبي ، هذه الحاجة يبرزها تقرير أصدره الاتحـاد

الأوروبي القديم نهاية عام 1999يعلن فيه بأن الاتحاد ، إذا ما أراد الحفاظ على وضعه الراهن بحيث يقوم كل أربعة عاملين بإعالة مسن ٍ، يحتاج إلى مائة وخمسة وعشرين مليون مهاجر حتى عام 2025.  فأوروبا العجوز ، ولا أدري لماذا ثارت ثائرة الأوروبيين عندما وصفها وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد بالعجوز ، المضطرة لتجديد شبابها ، دفعتها هذه الحاجة أيضاً بنفس الاتجاه لأن ضمها لبلدان أوروبا الشرقية وتركيا يلبي هذه الحاجة .

هذه مكاسب أوروبا الغربية من الاتحاد الأوروبي . أما مكاسب الشرقية فأوضح من واضحة ، وتتمثل بمصلحة شعوبها في أن تصير مجتمعاتها على صورة الغربية من كل الزوايا . وبنفس الوقت من مصلحة رأس المال فيها أن يكف عن التبعية ليصير جزءاً عضوياً من رأس المال الأوروبي بكل أبعاده العالمية .

العـولمة والفكـر 

على الرغم من كل الجديد الذي تفرضه الأمركة على صعيد الحياة فإنها لا تضيف جديداً للفكر ، فهي استمرار تطوري للنهج الرأسمالي ، أي على نفس نسق الماضي ، بعد تلاشي اللاجم السوفييتي . أما الأوربة فلا يمكن أن تمر على الفكر مرور الكرام ، بل ستحدث ثورةً فيه لأنها ليست مجرد نقد ٍله ، بل نقض . نقضٌ لكل البديهيات التي اعتادها واعتاد أن يرى الأمور على أساسها ومن خلالها . هي كل هذا النقض فقط لأنها تنقض علاقة سيطرة ـ تبعية بين المركز الرأسمالي المتطور ومحيطه الجغرافي نصف المتطور نصف المتخلف ، هذه التي خالها الفكر قائمة ما أقامت الرأسمالية . هذا النقض بهذا الشكل ، نقض سيطرة ـ تبعية عبر الدمج ، لابد أن ينعكس في الفكر وعلى الفكر اختلافاً في شكل رؤيته أولاً لبنية المجتمع وحقيقة تفاعل العلاقات الاقتصادية ـ الاجتماعية فيه وثانياً لوجهة التطور ومفاعيلها ،  ليتم على ضوء هذه الرؤية الجديدة استنباط شكل العمل السياسي الذي سينسق سير الحركة العامة للمجتمع ، العشوائية بالضرورة ، بالاتجاه السائرة به .

1ـ بنية المجتمـع :  بنية المجتمعات بنية رأسمالية متفاوتة التطور ، وسيتطور العالم في ظلها ردحاً طويلاً من الزمن قبل أن تغني الرأسمالية أغنيتها الأخيرة . هذا بديهي قبل الأوربة ، قبل انتقاض علاقة سيطرة ـ تبعية عبر الدمج . إلا أن هذا النقض بهذا الشكل أزاح عن الفكر منظار الأيديولوجيا الذي كان يرى حقيقة الرأسمالية من خلاله . فالفكر كان يرى ، بفعل هذا المنظار ، أن مصالح المجتمع ومصالح رأس المال متناقضة . ولمّا صار التقاؤها في المراكز المتطورة يفقأ العينين الاثنتين ، لا الواحدة ، أراه إياها ذاك المنظار رشوةً يقدمها رأس المال للمجتمع ما كان يمكنه تقديمها لولا نهبه للأمم الأخرى . ولكن بزوال المنظار الآن تبينت هذه الرؤية زيفاً ما بعده زيف ، مع أن الرأسمالية تسعى بداهة إلى الربح الذي لا يتحقق بداهة إلا بالاستغلال ، ولولا هذا لما كانت الرأسمالية رأسمالية . ولكن برغم هذا السعي إلى الربح فإن المسار العام لمصالح رأس المال ومصالح المجتمع ليس متعاكساً ، وإنما بنفس الاتجاه العام . والعلاقة بينهما ليست علاقة تناقض ، بل تبادل وتكامل . وهذا يحتاج إيضاحاً .    

من الطبيعي أن يسعى رأس المال إلى الربح ، هذا هدف نشاطه . لكنه أثناء سعيه لتحقيق هذا الهدف يخلق حاجات اجتماعية جديدة

تصير تلبيتها هدفاً اجتماعياً . هذا السعي الاجتماعي لتلبية هذه الحاجات ينعكس مزيداً من النشاط الاقتصادي الذي ينعكس بدوره تنشطاً اقتصاديا لخلق حاجات اجتماعية جديدة ، وهكذا . فرأس المال بالمحصلة يخلق حاجات اجتماعية ويخلق معها المناخ الملائم ـ الشروط الضرورية ـ لتلبيتها اجتماعياً . لأنه مالم يخلق هذا المناخ يتوقف النشاط الاقتصادي لأنه يكون قد خلق حاجات وأنتج سلعاً استثمر فيها دون أن يجد من يدفع مقابلها أو يشتريها ، وبالتالي يخسر . يرجى ملاحظة أن هذا الافتراض الأخير غير واقعي ، والقصد منه الإيضاح لأن الحاجة أو السلعة لا تصير حاجة اجتماعية فعلاً إلا شيئاً فشيئاً . وبالتالي إن أنتج رأس المال سلعة جديدة ولم تلق الرواج ، أي لم تصر حاجة اجتماعية ، فإنها تموت من البداية وخسائر رأس المال تكاد لا تذكر . وهذا على كل حال له علاقة برأس المال الفردي لا العام .

وهذا يعني أن الربح قانون رأس المال لا لسبب آخر إلا لأنه نتيجة طبيعية لفاعلية رأس المال في المجتمع . مما يعني أن العلاقة المتبادلة بين رأس المال والمجتمع أشبه ما يكون تبادلها بالعلاقة العضوية داخل الجسم بين الدم وباقي الجسد . فبقية الجسد لا تستطيع تغذية الدم إلا إذا غذّاها ، والعكس . هذه العلاقة المتبادلة بينهما تدفع المجتمع إلى التجاوب وحاجا ت رأس المال وتدفع رأس المال إلى التجاوب وحاجات المجتمع . وسأنتقل الآن إلى بعض الأشكال الأخرى لتجلي هذا التجاوب المتبادل التي كشفتها الأوربة .

فلا المجتمعات الأوروبية الغربية من مصلحتها ركود رأس المال فيها ، على العكس تتضرر ، ولا رأس المال فيها من مصلحته أن تشيخ مجتمعاته ، على العكس يتضرر . هذا السياق يستثني بالمطلق ـ ما قد يدور في خلد التروتسكيين ـ إمكانية قيام مساومة تاريخية بين رأس المال وهذه المجتمعات على الوحدة الأوروبية بحيث تسمح له بالتنشط حتى يسمح لها بتجديد شبابها ،لأن كليهما يخسر من عدم حدوث كليهما. وفي الجانب الأخر المعني بالاندماج نجد لرأس المال الأوروبي الشرقي وللشعوب المصالح المذكورة آنفاً .

وثمة مثال آخر يجعل تبادلية هذه العلاقة أكثر ملموسيةً ، إنه الوحدة النقدية الأوروبية .  فقبلها ، في ظل المدى الواسع لتنقل أفراد السوق الأوروبية المشتركة بين بلدانها ، كان الفرنسي في ألمانيا مثلاً مضطراً لتحويل الفرنك إلى مارك لدى إقامته هناك وشرائه لأي سلعة ، وبالتالي كان يخسر . لذا من الطبيعي أن تحد هذه الخسارة من التنقل ، والأكثر منه من شراء السلع . فرأس المال بتوحيده للنقد حقق مصلحة لنفسه ارتدت على المجتمع .       

هذه الدائرة المحكمة لتبادل العلاقة بين رأس المال والمجتمع محكمة أنّى ننفذ إليها ، وهي لا تنفي بقدر ما تتضمن حكماً وبالضرورة وجود ميول واتجاهات تعاكسها . لكن هذه الميول والاتجاهات مجرد ميول واتجاهات معاكسة للقانون العام لهذه العلاقة المتبادلة ، أي لا تنقضه وإنما تؤكده . وحتى لا يظل هذا الكلام في إطار التجريد ، فإنه يقصد أن الإضرابات والاحتجاجات وحتى الثورات البيضاء أو الخضراء ، كل هذه الأمور تدخل في إطار الاتجاهات والميول المعاكسة التي لا بد أن توجد في سياق الانسجام العام بين المجتمع ورأس المال . وهي قد تصل أحياناً إلى حد تعكيره ، ولكن سرعان ما تجد حلها في إطاره . 

 إذا كانت هذه هي علاقة رأس المال بالمجتمع ، وهي هذه ، فكيف ستغني الرأسمالية أغنيتها الأخيرة ؟ بل هل ستغنيها أصلاً ؟ لقد كف

هذا السؤال عن كونه سياسياً ليصير فلسفياً طالما أن البشرية ، كما يرى بليخانوف بحق ، لا تطرح على نفسها إلا المهمات القادرة على حلها لأن المشكلة عندما تكون فعلاً مشكلة لا توجد فقط بل وتشير إلى اتجاه حلها ، أي تشير إلى كيفيتة .

على أساس من هذا الفهم الدقيق لمفهوم المشكلة ، لا تعتبر الرأسمالية الآن مشكلة اجتماعية لأنها غير مطروحة على جدول أعمال الواقع الاجتماعي كمهمة للحل . لماذا ؟ لأنها لا تشير إلى بذور حلها ، بدليل عدم وجود من يفكر جدياً بكيفية تحقيقها على المدى المنظور . مما يعني أنها مطروحة كمشكلة فلسفية . وبوصفها كذلك تجيب عليها الفلسفة بالقول : نعم إن الرأسمالية ستغني أغنيتها الأخيرة لأنها نمط تاريخي من الإنتاج ، شأنها شأن كل ما هو تاريخي ، مصيره إلى الزوال . وتتابع الفلسفة على لسان فيورباخ بأن الحدود جزء لا يتجزأ من الوجود ، والمجرد من الحدود مجرد من الوجود . فطالما أن للرأسمالية وجود إذن لها حدود ، وكل ما له حدود فبحدوده محدود ، لا يتجاوزها قط . أما ماهية هذه الحدود وكيف سيتخطاها المجتمع فمثار تكهن للفكر في الوقت الراهن وعلى المدى المنظور ، وهي أقرب إلى التحليق الفكري منها إلى الرؤية المنهجية . 

ولكن بما أن الفلسفة تقول إن المجتمع سيتخطاها فهو حكماً سيتخطاها لأن الانسجام الحالي بين المجتمع ورأس المال قانون ، مثله مثل أي قانون ، يكون مطلقاً إذا نظرنا إليه بمعزل عن فعل القوانين الأخرى فيه . ولكن لا وجود لقانون مطلق في الحياة ، بل تتدخل دوماً ، بين حين وآخر ، قوانين أخرى لتعدًله ، لتحرفه عن مساره بحيث يصير يفعل فعله بطريقة مختلفة تؤدي بالتالي إلى نتائج مختلفة . هذا هو قانـون القوانيـن ، أي القانون العام للقوانين ، الذي تتوضح فاعليته في تعديل أحد قوانين الرأسمالية  .   

لم تحاول الرأسماليات المتطورة قط ، طوال عمرها المديد ، إقامة عالم على صورتها في البلدان المتخلفة ، وإنما أقامت عالماً رأسمالياًً متخلفاً يرتبط معها بروابط سيطرة ـ تبعية تفعل فعلها في تطوير المتطور وتخليف المتخلف . ظل هذا قانونها حتى سقوط الاتحاد السوفييتي واندياح التنافس العالمي ، لتجد أوروبا الغربية نفسها مضطرة لأن تخلق عالماً على صورتها في محيطها . إذن كانت علاقة سيطرة ـ تبعية قانون الرأسمالية ، فتدخل قانون المنافسة العالمي ليحرف مسار هذا القانون فتعدل . ويبدو أن تجربة أوروبا الغربية ناجحة لأن اليابان قامت نهاية 2003 بدعوة بلدان جنوب شرق آسيا إلى مشروع مشابه . فمن ذا الذي كان يخطر بباله أن تتراكب جملة شروط بطريقة تصير فيها من مصلحة بنى التطور تطوير بنى التخلف ؟ من ؟! ألن يكون هذا وقتها ، لو حصل ، تحليقاً فكرياً ؟

2- وجـهة التطـور ومفاعيلها : رأينا اتجاهي العولمة البارزين إلى الآن يحاول كلٌ منهما لأسبابه إما تكريس علاقة سيطرة ـ تبعية أو نقضها ، وبديهي أن تسعى البلدان المتخلفة ما في وسعها لنقضها . والأكثر بداهة أن هذا السعي محكوم بجملة شروط لعل أهمها الجغرافيا لأنه أضمنها ، طالما أن البلدان المتجاورة ما أن تندمج شعوبها طواعية حتى تنصهر ليستحيل بعدها إعادة تحللها إلى أولياتها. لكن هذا الشرط غير المتاح للغالبية الساحقة من البلدان الساعية لنقض بنية التخلف متاح لنا ، وهذه ميزة نمتاز بها على غيرنا الذي قد يمتاز علينا بغيرها . لكن ميزتنا أهم ، فلنتوقف قليلاً عند هذه الأهم ، عند الجغرافيا .

سبق لماركس وبليخانوف أن لاحظا أهمية الجغرافيا كمنطلق لتطور البشرية ، واستناداً إليها تنبأ ألكسي دي توكفيل منذ منتصف القرن التاسع عشر بصيرورة الولايات المتحدة وروسيا امبراطوريتين عظيمتين . لكن تتبع مسار الرأسمالية ينم عن استخفافها الشديد بالجغرافيا ، لا بل عن نطوطتها عليها عبر محاولتها صناعة التاريخ غير آبهة بها . لكن الجغرافيا سخرت من سذاجتها ليقينها بأنها لا تتنطوط عليها بل تنطوط فيها.

فالرأسمالية رأت النور في جنوب أوروبا ، إيطاليا عصر النهضة ، وسرعان ما قفزت إلى أقصى غربها ، إلى إسبانيا والبرتغال زمن الكشوفات الجغرافية الكبرى لتعيش مرحلتها الميركنتيلية ، لتقفز بعدها إلى إنكلترا وهولندا وتبلغ الرشد هناك في الثورة الصناعية . هنا رأت الجغرافيا أن الرأسمالية ما عادت طفلة وأنه آن لها أن تتأدّب : شكمتها وفرضت عليها الانتشار شرقاً وجنوباً لتستغرق كل المثلث الذي سبق وحفرت زواياه ، هذه الزوايا التي حضنتها في مختلف أطوارها . وأكملت مهمتها بعد لأي ٍباستغراقها لإسبانيا واليونان والبرتغال على أعتاب البيروسترويكا .

وأول من لفت الانتباه إلى دور الجغرافيا في هذه البلدان الثلاث ، دون أن يذكره بالاسم ، هو نيكوس بولانتزاس الذي لاحظ أن العامل الحاسم في سقوط الديكتاتوريات فيها كان ضغط السوق الأوروبية المشتركة على مجتمعاتها لتطيح بها حتى تنضم إلى بلدان هذه السوق ، علماً بأن ملاحظته هذه جاءت  قبل انضمامها إليها بحوالي عقد ونصف .      

ما حدث في هذه البلدان الثلاثة بفعل الجغرافيا يحدث في تركيا لنفس السبب على الأقل منذ عشر سنوات ، يتكرر عليها نفس الضغط المختلف شكلاً ومضموناً عن كل الضغوط المعهودة . ليس تهديداً بالقوة العسكرية ولا بالعقوبات الاقتصادية ولا بالترغيب والترهيب ، بل بإغراء المجتمع ككل بتحسين كل نواحي الحياة فيه . فالاتحاد الأوروبي يضع معايير للانضمام إليه ويساعد على بلوغها ، ويمكن تكثيف هذه المعايير ـ الشروط بـ :

1ـ الوحدة المجتمعية ، أي رغبة جميع من في الدولة بالعيش معاً في مجتمع واحد .

2ـ الحرية الاجتماعية الكاملة ، أي سيادة العلمانية .

3ـ الديموقراطية السياسية بما تتضمنه من سيادة القانون وحرية التفكير والمعتقد والرأي والتعبير .  

مجتمع تتوفر فيه هذه الشروط لابد أن يكون منظماً وحضارياً ، أي أبعد ما يكون عن الفساد ، وبالتالي أهلٌ لمزيد من التطور باتجاه تجاوز التخلف . والنظرة المتأنية لهذه الشروط تبين أنها معايير حضارية ، لا اشتراطات تضطر المجتمع للتضحية ببعض كنوزه مقابل كذا وكذا ، بل إن خسارته لها ربح له لأنها هي هي سمات تخلفه ، وبنفس الوقت هي نفسها شروط إعادة إنتاج هذا التخلف . 

وبرغم الشوط الواسع الذي قطعته تركيا على صعيد تحقيق هذه المعايير فإنها لم تفرغ نهائياً من أيٍ منها ، على الأرجح لأن هذه المعاييرـ الشروط ، وخصوصا العلمانية والديموقراطية ، لا تتحقق بمعزل عن بعضها وإنما تتكامل لتكتمل معاً . فعلى صعيد الوحدة المجتمعية تقدمت المشكلة الكردية فيها باتجاه حلها ضمن تركيا واحدة تضمن للأكراد حقوقهم الثقافية . وهي مازالت تعاني أيضاً على صعيدي الحرية الاجتماعية والديموقراطية ، وتتجلى هذه المعاناة بتمام عريها من خلال وصول حزب الرفاه الإسلامي إلى السلطة وتنحيته عنها عام 1997.

فقد نال هذا الحزب أغلبية مكّنته من تشكيل الحكومة ليقوم بعدة إجراءات باتجاه أسلمة المجتمع . ولما لم ترق هذه الإجراءات للجنرالات ، حراس العلمانية ، أقالوه عن السلطة ثم حظروه . حزب الرفاه وجمهوره تفهموا هذه الإقالة ثم الحظر ، ولم يقاوموا قط .

 صحيح أن هذا التفهم يعني أن حزب الرفاه وجمهوره ـ الغالبية وقتها ـ غير متعصبين لإسلامهم ، وهذه نقطة لصالح المجتمع التركي ، لكن المجتمع الذي مازال يفرّخ أحزابا ًدينية أو تحتاج فيه العلمانية حراساً حتى تظل بأمان لمّا يتعلمن . وحتى يتعلمن لابد أن تكون العلمانية حامية نفسها بنفسها بضمانة المجتمع الضامن لحمايتها كجزء من حمايته لنفسه . والمجتمع الذي يسمح للجنرالات بتنحية حزب الرفاه عنوة ، أي بانتهاك أصول الديموقراطية عنوة ، ليس ديموقراطياً بعد . والمجتمع غير العلماني وغير الديموقراطي يتضمن بالضرورة بذور عدم الاستقرار لأن غيابهما بمثابة قنبلة موقوته قد تنفجر لدى أول هزة ، ولهذا لم يقبل الاتحاد الأوروبي حتى ترشيحها للانضمام إليه في العام الذي يليه .

 لكنه عاد ووافق على طلب ترشحها بعد عامين لا لاكتمال الديموقراطية والعلمانية في غضونهما بل لسببين يصبان في نفس السياق ، سياق بلوغها معايير الاندماج الآنفة . فقد قبل ترشيحها كمشروع عضو فيه أولاً لإفهام تركيا ككل ، أحزاباً وشعباً وجنرالات ، بثلاث ضرورات لابد لهم من استخلاصها كتغذية راجعةfeedback  من تجربة حزب الرفاه : ضرورة عدم قيام أحزاب دينية ، وإذا ما قامت ضرورة عدم تأييد الشعب لها لأن أياً منهما يمنع عضويتها في الاتحاد الأوروبي فكيف تكاملهما ؟! وضرورة أن يفهم العسكريون أن سلطتهم هذه على المجتمع غير مقبولة بتاتاً . وفهموا كلهم هذا الدرس جيداً . وثانياً ليفرض على تركيا المعايير الأوروبية في التعامل مع عبدالله أوجلان ، رمز الحركة الكردية فيها ، مما يضمر تفهيم تركيا ضرورة السعي الحثيث لحل المسألة الكردية فيها طالما أنها باتت على باب الاتحاد غير الممكن دخوله دون حلها .  

وفعل هذا التشجيع فعله ، إذ تسارعت وتيرة الإصلاح فيها منذ ذلك الحين ، فتعززت العلمانية وتعمقت الديموقراطية السياسية وتقلصت سلطة الجنرالات حتى أن رئيس المفوضية الأوروبية لم يبحث في زيارته إليها مطلع العام الحالي ، التي نجم عنها الوعد بتحديد تاريخ بدء مباحثات انضمامها إلى الاتحاد هذا العام ، إلا المشكلة القبرصية وموضوع شفافية ميزانية المؤسسة العسكرية وحقوق الأكراد الثقافية . فمستقبل تركيا القريب أنها جزء من الاتحاد الأوروبي ، ولأن هذا الاتحاد صار يحد سوريا يجب أن نقرع ناقوس الخطر .

يتبــــع

ورقة العمل هذه تعبر عن رأي كاتبها

السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ