ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

السبت 26/06/2004


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

إصدارات

 

 

    ـ أبحاث

 

 

    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


حقوق الإنسان 

والمصالحة الوطنية*

الدكتورة فيوليت داغر**

شكل احتلال بغداد منعطفا إجباريا لإعادة قراءة الممارسة السياسية والمدنية في العالمين العربي والإسلامي، حيث عاد السياسي والمثقف لطرح الأسئلة الضرورية أو اللحاق بشكل سطحي بالأحداث شاجبا أو مؤيدا. فقد كسر قرار العدوان الأمريكي-البريطاني مفهوم الشرعية الدولية بعد أن أذل مجلس الأمن الشعب العراقي بأقسى حصار في الأزمنة الحديثة باسم معاقبة نظامه السياسي. وأدى غياب الشرعية السياسية لنظام صدام حسين إلى جعل غياب الشرعية في أي قرار لقوات الاحتلال مسألة مقبولة. لقد عاد مفهوم "الأقوى هو الذي يكتب التاريخ على طريقته" للعلاقات الدولية والإقليمية وتكسرت أهم إنجازات الأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان مع الحرب على العراق. إلا أن الشعب الذي لم يقل كلمته، عاد للساحة بأشكال متعددة، سلمية وعنفية، ليخوض معركة الدور والفعل. الأمر الذي جعل أكثر الأطراف قوة في التحالف الجديد يبصرون ضرورة العودة لمفهوم قديم-جديد، حساس وفيه من الغموض ما فيه من الراهنية: المصالحة الوطنية. يقول السيد مسعود البرزاني عبارات يفترض أنها تستوقف كل سياسي في المنطقة:

"إنطلاقاً من ثقتنا بالشعب العراقي وإرادته الحرة في صنع مستقبل أفضل يقرره بنفسه، نطرح من جديد ما طرحناه في مؤتمر اربيل للمصالحة الوطنية أواخر شهر آذار المنصرم. وندعو إلى تفعيل توصياته بتشكيل هيئة وطنية عليا للمصالحة ومجالس محلية في المحافظات كافة وانضمام الشخصيات الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية إليها لتنظيم حملة عراقية وطنية ووضع برنامج ديمقراطي للمصالحة الوطنية لحل ما يمكن من المشكلات وغرس ثقافة التسامح والعفو والديمقراطية وإشاعة الثقة والاطمئنان.

نحن على ثقة من أن روحية المصالحة والتسامح تستجيب لنداءات الضمير والفطرة الإنسانية السليمة، فالصلح سيد الأحكام، ولنجنح إلى السلم، ولننبذ العنف وروح الانتقام. مثل هذه المصالحة هي التي ترسخ الوحدة الوطنية والتآخي بين العرب و الكورد، والتركمان، والكلدان، والآشوريين، وسائر أبناء الشعب.

لقد أسيئ فهم فكرة المصالحة وتصور البعض أنها تستهدف العفو عن المذنبين والمتهمين بالجرائم الخطيرة بحق الشعب والبشرية. فالمطلوب أولا هو تقديم كافة المتهمين بالجرائم إلى القضاء، وإجراء محاكمات عادلة ليقول القانون، والقانون وحده، كلمته فيهم. وثانياً يوجد بين البعثيين عدد كبير لم يرتكبوا ذنباُ يذكر، هؤلاء ينبغي التعامل معهم إنسانيا لكي يتمتعوا بحقوقهم الكاملة كأي مواطن آخر، وكذلك السعي الحثيث لإيجاد حلول عادلة ومناسبة لأولئك الذين تم تسريحهم من وظائفهم وفقدوا مصادر رزقهم.

ثم أن المصالحة لا تقتصر على هؤلاء فقط، بل تتناول كافة المشكلات الأساسية في المجتمع، حتى تلك التي بين الكورد والكورد، أو التركمان والتركمان، كذلك بين الشيعة والشيعة، والسنة والسنة، وغيرهم. وتهتم عملية المصالحة أيضا بإشاعة ثقافة التسامح والسلام عبر قبول حالة التنوع وعدم إشاعة روح الغلبة والشمولية لهذا الطرف أو ذاك. فالتوافق والحوار هما من أسس المصالحة الوطنية. كما أن الحوار هو الطريق الصحيح لحل المشكلات مهما كانت كبيرة.

إن العنف لا يحل أية مشكلة، وان التجربة العراقية لخير دليل على ذلك. فالوضع العراقي لم يستقر منذ تأسيس الدولة العراقية عقب الحرب العالمية الأولى. فقد كانت الحكومات المتعاقبة تعجز عن التصرف بما تمليه المبادئ الدولية من علاقة بين الحاكم والمحكوم، مما أدى إلى شعور شعبي عارم بالإحباط، نتيجة تلك السياسات، خاصة في العقود الأربع الأخيرة" (1).   

كان لا بد من هذا الاستشهاد الطويل كون المثل العراقي وصل إلى أمده الأعلى في اجتثاث الآخر. وليس سرا أن "ميليشيات الشلبي"، المسئول رسميا عن اجتثاث البعث، مارست تصفيات جسدية لعدد كبير من البعثيين أو أوساطهم وشاركت بقتل علماء عراقيين بإشراف ومساعدة البنتاغون المالية والعسكرية. كل هذا خارج القضاء، إلى حين قرار ولفوفتز ورامسفيلد وقف المساعدات لها لقلة النفع والفاعلية.

 السؤال الذي يطرحه هذا المثل المأساوي: هل يمكن صناعة المستقبل بأحقاد الأمس ؟ وهل لروح الانتقام أن تعالج أوجاع الحروب الداخلية؟

من السهل بدء أي حرب، ومن السهل الكتابة عن الحروب داخلية كانت أو خارجية. لكن من الصعب صياغة إجابات شافية حول كيفية وضع حد للعنف وتجديد شروط إنتاج المجتمع عبر جماعة مسؤولة عن تاريخها لا ضحية له. أي بناء شرعية جديدة قادرة على رفض الاستثناء والاستقصاء انطلاقا من غسل دم شامل للفكر السياسي والممارسة السياسية.

بديهي القول أن النظام التسلطي العربي خلق حالة صراع كامن أو معلن بين السلطة والمجتمع. وأن حالة الافتراق العدائي بينهما تتطلب مبادرات سلمية للوفاق قائمة على إعادة المهمش والمنفي والمبعد والممنوع إلى الحياة السياسية والمدنية. لقد كانت تجربة العفو العام في البحرين أفضل مثل على أن تنظيف السجون وعودة كل المبعدين لم تعني سقوط العائلة الحاكمة. كذلك تعززت مكانة الرئيس اليمني مع إصداره العفو عن قيادة الحزب الاشتراكي التي خاض معها حربا عسكرية. في حين أن ضعف مبادرة الحوار الوطني في مصر انعكس سلبا على الفكرة وعلى مبادئ الإصلاح، كون السلطة رفضت مسبقا مشاركة الأطراف الإسلامية في الحوار. أما التجربة الجزائرية فمن السابق لأوانه إعطاء تقييم لها، إلا أن استيعاب أطروحة الوفاق الوطني لكل الأطراف دون شروط مسبقة تفرض عليها يعتبر بنظرنا شرطا ضروريا لنجاح هذه العملية الهامة.

في روسيا الاتحادية، عندما قام انقلاب اللحظة الأخيرة على غورباتشوف وفشل كان الرد الأول حل الحزب الشيوعي السوفييتي. لكن الحزب ما لبث أن عاد طرفا في المعادلة السياسية كونه بما له وما عليه جزء من النسيج السياسي في روسيا. الأمر الذي لا يعني بحال الصمت عن جلاد مارس التعذيب أو لص نهب ميزانية الدولة. لكن ألا تعزز الأنظمة الشمولية في الطبيعة البشرية الوصولية والانتهازية وتجعل من الجمهور طرفا سلبيا أو مشاركا في اللعبة السلطوية بالحد الذي يرفع عنه شكوك أجهزة الأمن؟

في السياسة كما في القضاء، يوجد فرق بين الجريمة والجنحة وخطأ التقدير، ولا يمكن وضع كل الناس في سلة واحدة. فحتى في التجربة النازية التي أدت إلى أكبر كارثة إنسانية في الأزمنة المعاصرة تقول سوزان فيلمز Suzanne Willems: "أدرك جيلي المولود بعد الحرب أهمية إنشاء محكمة نورمبرغ لمحاكمة مجرمي الحرب، لكنها لم تحكم إلا على أربعة وعشرين مجرمًا، فيما خرج كل الآخرين من دون عقاب. ففي بلد خرج لتوّه من الحرب، اعتبر المسئولون أنه من الطبيعي استدعاء عسكريين وأطباء وصناعيين وسياسيين، حتى لو كانوا قد شاركوا في جرائم الرايخ، وذلك كي يتمكن البلد من الوقوف على رجليه من جديد وتولد الديمقراطية الجديدة. وكانت النتيجة أنه لم يتم الانتباه بشكل كاف إلى تجربة ضحايا النازية. وكان لا بد من انتظار الستينات، حيث بدأ الالتفاف إلى الذاكرات المتناقضة. وبدأ الحديث للمرة الأولى عن التعويض المالي للضحايا. وانتهت العملية مع تراخي الجدار الحديدي ثم سقوطه"(2).

حول تجديد الخطاب السياسي، يقول هيثم مناع في مداخلة له في وصف الحالة السورية: "الدولة الراهنة بشكلها الحالي لم تعد تمثل طموحات أحد، وصورتها السلبية مزروعة عند الأغلبية الساحقة من أبناء المجتمع. لم يعد بالإمكان العودة إلى نواظم مشتركة عليا دون اعتبار المواطنة، وليس الحكومة، الجامع الوحيد للكيانات المحطمة والدافع الأوحد للاجتماع السياسي. لكن ما معنى المواطنة في غياب الحقوق الفردية والجماعية؟ ما هو مبناها في غياب تعريف واضح للأشخاص بغض النظر عن جنسهم ودينهم وقوميتهم؟ هل ارتقينا إلى قبول فكرة الفضاء السياسي والمدني الأوسع الرافض لكل استثناء واستقصاء؟ هل توافقنا على نزع القداسة عن الشأن العام لنتساوى أمام القانون في الوازع والناظم والرادع؟ هل بالإمكان جعل سلامة النفس والجسد شعارا ثقافيا-سياسيا عاما، أي زرع مناهضة التعذيب في الوعي الجماعي؟ هل وضعنا أسس إعادة الروح للسلطة القضائية المحتضرة تحت ضربات الأمن والمتنفذين؟ هل يمكن اعتبار قيام حركة مدنية واسعة شعارا سياسيا يبعث الروح في الحركة السياسية المعارضة والمجتمع الصامت أو المحيّد؟"(3)

هذه الأسئلة تطرح علينا سقف وحدود المصالحة الوطنية من وجهة نظر حقوقية. كما تذكرنا بأن المصالحة عملية تتم مع المواطنة أولا، ومع فكرة الشراكة في صنع المستقبل ثانيا لأشخاص لهم حقوق ويتمتعون بالحريات الأساسية.

في عام 2000، صدر عن لجنة حقوق الإنسان في جنيف في دورتها السادسة والخمسين القرار 18 حول أفغانستان. أذكّر أن حينها كانت كابول تحت سيطرة إمارة طالبان التي لم يعترف بها سوى دولتين في العالم (المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة) وبقيت بعثتها في الأمم المتحدة تابعة للرئيس رباني الموجود شمال البلاد. وقد خلصت لجنة حقوق الإنسان إلى ضرورة المصالحة الوطنية حيث جاء في الفقرات 6 و7 و8 من القرار:

"6- تشدد لجنة حقوق الإنسان على ضرورة المصالحة الوطنية وإقامة حكم القانون والإدارة السليمة والديمقراطية في أفغانستان، وعلى ضرورة الإصلاح والتعمير في نفس الوقت؛

7- تحث جميع الدول على احترام سيادة أفغانستان، واستقلالها، وسلامة أراضيها، ووحدتها الوطنية، وعلى الامتناع عن التدخل في شؤونها الداخلية والكف فوراً عن إمداد كافة أطراف النزاع بالأسلحة، والذخائر، والمعدات العسكرية، بما في ذلك الوقود، وعن توفير التدريب أو أي دعم عسكري آخر لهم، بما في ذلك توفير عساكر أجانب؛

8- تحث جميع الأطراف الأفغانية على:

 (أ) أن تحترم احتراماً كاملاً جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بصرف النظر عن الجنس أو الأصل العرقي أو الدين، وفقاً للصكوك الدولية لحقوق الإنسان؛

(ب) أن توقف على الفور الأعمال القتالية وتعمل وتتعاون تعاوناً تاماً مع الممثل الشخصي للأمين العام المعني بأفغانستان وبعثة الأمم المتحدة الخاصة في أفغانستان بهدف التوصل إلى وقف إطلاق النار، وأن تنفذ إعلان طشقند بشأن المبادئ الأساسية للتوصل إلى تسوية سلمية للصراع في أفغانستان الصادر في 19 تموز/يوليه 1999 وبالتالي إرساء الأساس لحل سياسي شامل يؤدي إلى عودة المشردين طوعاً إلى ديارهم في أمان وبكرامة، وإلى إقامة حكومة عريضة القاعدة ومتعددة الأصول الإثنية تمثل كافة الأطراف عن طريق ممارسة الشعب الأفغاني الكاملة لحقه في تقرير مصيره؛

(ج) أن تعيد تأكيد التزامها العلني بحقوق الإنسان والمبادئ الإنسانية الدولية وتعترف بجميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية وتحميها وتعززها؛

(د) أن تحترم القانون الإنساني الدولي احتراماً كاملاً، وتحمي المدنيين، وتوقف استخدام الأسلحة ضد السكان المدنيين، وتمتنع عن التدمير الوحشي للمحاصيل الغذائية والممتلكات المدنية، ولاسيما المنازل، وتوقف زرع الألغام البرية، وخصوصاً الألغام المضادة للأفراد، وتحظر تجنيد الأطفال أو تعبئتهم أو استخدامهم للمشاركة في الأعمال القتالية، مما يشكل انتهاكاً للقانون الدولي، وتضمن تجريد الأطفال من السلاح وتسريحهم وإعادة إدماجهم في المجتمع؛

(هـ) أن توفر سبل انتصاف ناجعة وفعالة لضحايا الانتهاك والامتهان الجسيمين لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي وتقدم مرتكبي هذه الانتهاكات للمحاكمة؛

(و) أن تفي بالتزاماتها وتعهداتها فيما يتعلق بسلامة جميع موظفي البعثات الدبلوماسية والأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية، فضلاً عن أماكن عملهم في أفغانستان، وتتعاون تعاوناً كاملاً ودون تمييز على أساس الجنس أو الجنسية أو الدين مع الأمم المتحدة والهيئات المنتسبة ومع المنظمات ووكالات المساعدة الإنسانية والمنظمات غير الحكومية الأخرى لتيسير الاستئناف التام لتعاونها؛

(ز) أن تعامل جميع المشتبه فيهم والأشخاص الذين أدينوا أو احتجزوا معاملة تتفق والصكوك الدولية ذات الصلة وأن تمتنع عن احتجاز أي شخص تعسفاً، بما في ذلك احتجاز الأجانب المدنيين، والمدنيين غير المجرمين والمعتقلين السياسيين وتحث محتجزيهم على إطلاق سراحهم". 

اعتبر البعض هذا القرار اعترافا ضمنيا بإمارة طالبان. أما من يقرأ النص بتمعن يخلص إلى الاعتراف الضمني بضرورة مشاركة كل أطراف الصراع في بناء أفغانستان جديدة قائمة على أسس حديثة تضمن للجميع الحق في المشاركة في الشأن العام والحكم والبناء في ظل احترام المبادئ الأساسية للشرعة الدولية لحقوق الإنسان.

هذه المعادلة الصعبة للجمع بين كل أبناء البلد في عملية مصالحة سلمية قائمة على أسس جديدة خاضت بها لجنة حقوق الإنسان أيضا حول هاييتي في القرار 78 من العام نفسه حين دعت في الوقت نفسه للمصالحة الوطنية وتفعيل آليات المحاسبة في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. جاء في هذا القرار:

"تصر لجنة حقوق الإنسان على ما تتسم به التحقيقات التي تجريها اللجنة الوطنية للحقيقة والعدل من أهمية لمكافحة الإفلات من العقوبة ولتنفيذ عملية انتقالية حقيقية وفعالة ولتحقيق المصالحة الوطنية، وتحث حكومة هايتي بقوة مرة أخرى على اتخاذ إجراءات قضائية ضد مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان الذين حددت لجنة الحقيقة والعدل هوياتهم، وعلى إنشاء مرافق فعالة لتقديم الدعم إلى الضحايا، وخاصة إلى النساء والأطفال وأفراد أسرهم؛ وفي هذا السياق بالتحديد تؤكد من جديد التوصيات الواردة في تقرير الخبير المستقل المعني بحالة حقوق الإنسان في هايتي".

يمكننا تكثيف موقف المنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان، وإلى حد كبير لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، بالتالي: ضرورة وقف أعمال العنف والعودة للسلم الأهلي، إعادة هيكلة مؤسسات الدولة لضمان تقسيم السلطات وإفساح المجال لقضاء مستقل والقبول بمجتمع سياسي معارض، رفض الاستئصال والاستثناء وقبول مبدأ المحاسبة الحقوقية للجميع بشكل يأخذ بعين الاعتبار الظروف العيانية في كل بلد. فالمحاسبة عنصر توازن مجتمعي وهذا التوازن كل مجتمع يعثر عليه بوتيرته الخاصة.

في المثل الجزائري، ومنذ اليوم الأول لولادة اللجنة العربية لحقوق الإنسان، عبرنا عن رأينا بالأزمة الجزائرية في أكثر من تقرير ومداخلة. وقد كان للمرحوم المحامي محمود خليلي دورا في بلورة موقفنا الذي يمكن تلخيصه بما يلي:

1ـ السلام الأهلي أهم ركائز المصالحة الوطنية وأولها. هذا السلام يتطلب نزع السلاح لا توزيعه بشكل غير مسؤول. كما يتطلب احترام الدولة لحياة مواطنيها والفصل بين الدولة والسلطة السياسية وبين الدولة والمؤسسة العسكرية. إنه يحتم إشراك كافة الآراء والحساسيات التمثيلية للمجتمع التي تقبل التداول السلمي على السلطة ومبادئ الدستور والتزامات الجزائر على صعيد المواثيق الدولية لحقوق الإنسان(4).

2ـ الحوار الديمقراطي هو الطريق الأكثر نجاعة لاقتصاد العنف في الخطاب السياسي وتقريب وجهات النظر وبلورة إجماع وطني يشكل الأساس للشرعية السياسية.

3ـ أي وفاق وطني يعني إعادة الاعتبار للمواطنة، وبالتالي رفض عقلية الثأر والانتقام وحصر المحاسبة بلجنة حكماء تتعامل مع المكان والزمان والجريمة بما يتناسب مع الوضع الجزائري. ولعل تجربة جنوب إفريقيا التي تجمع بين الحرص على إقامة العدل وعدم إشعال فتيل الأحقاد والتعامل مع عنصر الوقت كجزء من بناء الثقة بين المواطنين جد مفيدة للشعب الجزائري.

كي لا نكون طوباويين نعترف بأن جروح الماضي لا تندمل بسرعة بسبب الخوف من الآخر ورواسب المعاناة التي انطبعت في الذاكرة الجماعية. لكننا نعيش حقبة تاريخية تجعل من عدم التقدم تأخر بالضرورة. فكل يوم إضافي مع العنف يعزز تهميشنا في حركة التاريخ والمجتمعات. وكل روح بشرية خسرها مجتمعها تضاعف من فشل حكومتها في اختبار إدارة الأزمات. لقد دفع الشعب الجزائري ثمنا باهظا في العقد الأخير، وصار الخروج من هذا النفق مطلب الأغلبية الساحقة. لا شك بأن كل من سيقف في وجه سلام أهلي يشمل الجميع كأطراف موضوعية في النسيج السياسي الجزائري، سيكون هو نفسه ضحية إصراره على استئصال غيره. ومثل الشلبي في العراق يعطي الدرس بأن هذه العقلية لا تلبث أن تفقد حماية عرابيها، إضافة إلى أنها لا تملك من المجتمع أية حماية.

علينا التوقف عند مسألة هامة في عملية المصالحة الوطنية، ألا وهي الحفاظ على كرامة الآخر بما يضمن كرامة الذات. فأية مصالحة تأتي على أشلاء ضحايا ومعاناة وشروخ في النسيج المجتمعي. الأمر الذي يجعل من المصداقية والشفافية والأمانة (وهي ليست صفات سياسية سائدة) أكثر قيمة وتأثيرا على المبادرات السياسية نفسها. من الضروري رد الاعتبار للبعد الأخلاقي للإصلاح السياسي وللأطراف التي أبعدت وهمّشت كي تدخل شريكا مساويا في الحقوق والواجبات عملية التغيير والمساهمة في بناء الوطن.

--------------------        

** فيوليت داغر: باحثة واستاذة في علم النفس، رئيسة اللجنة العربية لحقوق الإنسان.

ملاحظات: 

(1) من كلمة السيد مسعود البرزاني في 9/4/2004.

Boubacar Boris Diop, “Des auteurs africains au Rwanda: Ecrire dans l’odeur de la mort”, pp. 149-165.

(2) ملف ملتقى الحوار الديمقراطي السوري، 28-29/6/2004 ، اللجنة العربية لحقوق الإنسان، يصدر في العدد القادم من مقاربات.

(3) جماعي، أزمة حقوق الإنسان في الجزائر، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 1999، ص 82.

*محاضرة ألقتها الدكتورة فيوليت داغر في الجزائر العاصمة في 22/6/2004.

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ