ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 07/06/2004


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

إصدارات

 

 

    ـ أبحاث

 

 

    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


(تابع)

سـوريا إلـى أيـن

ورقة عمل

علي  الشهابي

ناقـوس الخطـر

نعم يجب أن نقرع ناقوس الخطر لأننا في خطر . لا خطر الاتحاد الأوروبي علينا ، بل خطر إضاعة فرصتنا بالانضمام إليه . هذه الفرصة ممكنة في الوقت الحاضر لأن الوضع العالمي الآن وعلى المدى المنظور يتيحها ، والأدق لا يعرقلها ، وخصوصاً في ظل رغبة الولايات المتحدة عن السيطرة على سوريا إلى الآن لعدم وجود ما يغري فيها ، والتفاتها نحو الخليج الممنوع على الأوروبيين .

وبنفس الوقت فإن مجتمعنا مؤهل لهذا الانضمام ولا ينقصه إلاّ العمل الجدّي باتجاهه .

فالولايات المتحدة لا تبدي إلى الآن أي معارضة للأوربة إما لأنها تخدمها ـ أو على الأقل لا تتعارض ومصالحها ـ وهذا احتمال ضعيف ، وإما لأنها أعجز من ذلك لانشغالها بالسيطرة على مفاصل حيوية للاقتصاد العالمي وبترتيب أمور هذه السيطرة ، وهو المرجح . إذا كان هذا هكذا ، فقد تفرغ من انشغالها في وقت غير بعيد لتبدأ بالعرقلة . والكل يعلم أن ما تعرقله الولايات المتحدة قد لا ينجح ، لمجرد أنها الولايات المتحدة . ومن جهة أخرى فقد اختط الاتحاد الأوروبي هذا الطريق بسبب كذا وكذا ، وقد تنتفي هذه الأسباب مع الزمن ليكف عن هذا النهج . وهناك احتمال ألا ّيحدث هذا أو ذاك بل أن يتدخل قانون القوانين ، لسبب غير مرئي الآن ، ليحرف الأوربة عن مسارها فتنحرف . مجمل هذه الأمور تبين أن المجال قد انفتح أمام إمكانية انضمامنا للاتحاد الأوروبي ، وبنفس الوقت أنه لن يظل مفتوحا ًإلى الأبد .  

قد لا يختلف اثنان على أن هذا المجال إن انفتح لن يدوم إلى الأبد ، فهذه ليست مشكلة ، لكن المشكلة إن كان قد انفتح أصلاً ، وخصوصاً أننا بلد متخلف وليس عندنا أيٌ من معايير الاندماج المطلوبة إلا الوحدة المجتمعية .

بديهي أننا لو كانت عندنا كل المعايير السابقة أو معظمها لتجاوزت الحياة في سوريا هذه الكتابة ، أي لكان انضمام سوريا واقعاً ملموساًً يسير بالتوازي مع انضمام تركيا . ولكن مع أننا لا نمتلك من هذه المعايير إلا المذكور ، إلا أن المجال قد انفتح لأن عندنا أهم المتطلبات السابقةprerequisites  لعملية الانضمام والتي تجعل تحقيق كل المعايير الأخرى ممكنة . عندنا الجغرافيا طالما أن شرط اندماج الأمم والشعوب تجاورها ، هذه الميّزة التي لا فضل لنا بها . وعندنا أيضاً التطور الاجتماعي الذي لنا به كل الفضل ، وهو أكثر اهمية من التطور الاقتصادي على هذا الصعيد . إنه أهم لأنه يضرب عدة عصافير بحجر واحد ، يسهّل علمنة المجتمع ولا يدفع الديموقراطية السياسية نحو الدين والتعصب ويتفهم نمط حياة الأوروبيين ويتفاعل معه . وخير مثال على أهمية هذا التطور الاجتماعي ، مقارنة ً بالاقتصادي ، الباكستان . فهي اكثر منا تطوراً اقتصادياً ، ومع ذلك لنتخيلها في موقع سوريا الجغرافي ليأتي من يطرح عليها ضرورة الاندماج بالاتحاد الأوروبي . فتخلفها الاجتماعي عندئذ سيحيل تنفيذ هذه المهمة على المدى المنظور ضرباً من المستحيل .

بما أننا عندنا الوحدة المجتمعية وكل ركائز الانضمام التي تشكل أساساً لبناء باقي المعايير ، فما علينا إلا بذل جهود البناء الجبارة  طالما أن بناء المجتمع يتطلب دوماً جهداً جباراً قبل أن ينعكس فيه أثراً جباراً .

نهايـة المطـاف

ولكن هل الإصلاح عندنا ممكن ؟ أمهد لهذا الجواب بالقول بما أن الواقع الاجتماعي نقض ما استنتجه ماركس من الدياليكتيك المادي ، فقد بات طرح هذا السؤال بحد ذاته خاطئاً طالما أن طرح السؤال بطريقة خاطئة يتضمن حكماً إجابة خاطئة . فالإصلاح الذي ما كان ممكناً أثناء مرحلة الطاحونة ـ أي منذ الاستقلال حتى بداية التسعينات ـ لأسباب اجتماعية وسياسية ، داخلية وخارجية ، بات الآن ليس ممكناً ومتاحاً فحسب ، بل وملحّـاً لأنه بات ضرورة مجتمعية . فمسألة الإصلاح في سوريا صارت مسألة أن نكون أو لا نكون ، لا

 بالمعنى الأدبي أو المجازي بل بالمعنى الفعلي .

هذه الحال في سوريا ، منذ مطلع التسعينات إلى الآن ، بات يفصلنا عنها تاريخ طويل . نعم تاريخ طويل ، ولكن لا لطول الزمان بقدر ما لكثرة المتغيرات العالمية والإقليمية والداخلية التي حدثت فيها ، والتي توشك أن تجعل من سوريا ما قبل التسعينات جزءاً من التاريخ الذي لا علاقة له بسوريا الحالية قط . ولعل أبرز هذه المتغيرات التي انعكست عليها ، وحصلت فيها ، في ظل السيرورة الحالية للعولمة هي التالية :

ـ الضعف الشديد عسكرياً ، وبالتالي سياسياً ، تجاه إسرائيل والولايات المتحدة بعد سقوط المنظومة السوفييتية واستثمارهما لهذا الضعف على شكل ضغوط سياسية وعسكرية لإجبارها على التنازل السياسي لإسرائيل .

ـ الاحتلال الأمريكي للعراق الذي يشكل تهديداً دائماً لسوريا إذا ما استقر ، وبنفس الوقت استغلال الولايات المتحدة لغياب الديموقراطية  السياسية في سوريا لتذكير السلطة فيها بمصير سلطة صدام عبر لملمة معارضين سوريين .

ـ حلول سلطة سياسية جديدة في سوريا تسعى لتكييفها داخلياً وخارجياً مع الوضع الدولي الجديد وفيه .

ـ وضوح رؤية اتجاه مسار سوريا ووضوح متطلباته .

بالنسبة للأول أعتقد أنه ما عاد هناك عاقل يطالب بضرورة إزالة إسرائيل ، بل بضرورة عدم التنازل لها أكثر من الاعتراف بحقها في الوجود ضمن حدود الرابع من حزيران بحسب ما باتت عليه أعراف الشرعية الدولية ، مما يستلزم ضرورة مباشرة التخطيط لكيفية تعايشنا معها . لأننا مالم نخطط فعلاً لهذه الكيفية ونحاول تطبيقها ، سنجد أنفسنا نتعايش معها بالطريقة التي تخطط لها هي . فهي بلا شك تخطط ، وعلينا أيضاً أن نخطط لتكون المحصلة على الأقل نتاج تلاقي تواجه تقابل تصارع تلاقح تخطيطين . وبغير هذه الحال سيفعل مخططها فعله لأننا سنتعامل معه حكماً بطريقة خرقاء ، بطريقة تصير فيها خلاصة مخططها خلاصة عيشنا معها ، ويصير اسمه عيشنا المشترك . بشديد الاختصار ، علينا أن نعد العدة  لهذا الموضوع من الآن لئلا يصير تقابلنا معها كما صدف وتقابل منتخبنا السوري لكرة القدم مع المنتخب البرازيلي .  

أما بخصوص الضغوط الأمريكية على سوريا لغياب الديموقراطية السياسية فيها ، فنراها تفعل فعلها في المواطنين بالاتجاه المعاكس للديموقراطية ، على الأقل انطلاقاً من مبدأ نكاية بالطهارة . أما المثقفون فكانوا ، ومازالوا ، يطالبون بالديموقراطية ليس دعماً للولايات المتحدة بل لشعورهم بضرورتها . والكل يعلم أن الولايات المتحدة لا تأبه بالديموقراطية بدليل ما تمارسه يومياً في منطقتنا ، أو على الأقل بدليل محصلة خطاب  الرئيس الأمريكي بوش عن الديموقراطية في الشرق الأوسط : كل البلدان العربية التي لا تعارض سلطاتها السياسة الأمريكية ـ الإسرائيلية فعلاً ، المغرب والأردن وقطر والبحرين والسعودية ، هي بلدان تتقدم فيها الديموقراطية أما سوريا ومصر فلا . ولكن ليطمئن هؤلاء المعارضون الذين تلملمهم إلى أن المجتمع السوري الذي لا يعرفهم قط ، يعرف تمام المعرفة أن الولايات المتحدة ، إن أتت ، فلن تأتي لتحريره . إذ لو أن تحرير الشعوب مهمتها لخلصت الشعب الفلسطيني على الأقل من المجاز اليومية ، ليس إلاّ . 

وفيما يتعلق بالسلطة الجديدة ، بما أنها استمرار تواصلي للقديمة ، من البديهي أن ترث عنها كل ما فيها ، ومعها المجتمع والمرحلة . ولكن انطلاقاً من يقينها بأنها والمجتمع في قارب واحد ، وأنه ما عاد يمكنها قيادته في تلاطم أمواج العالم المعاصر بالدفة القديمة ، أخذت على عاتقها مهمة التأقلم مع الوضع الدولي الجديد على صعيدي السياسة الداخلية والخارجية بما يخدم استمرار استقراره ، الذي يتضمن حكماً استمرار استقرارها . فنراها تقوم ، على صعيد الداخل ، بتخفيف وطأة الديكتاتورية على المجتمع عبر تخفيف تدخل الأجهزة الأمنية فيه ، مما انعكس على شكل تطور في حرية التعبير .

أما على صعيد الخارج فقد وجدت نفسها محكومة بجملة شروط تاريخية تتعلق بالتاريخ الاستعماري لأوروبا الغربية ، ولاقتطاع فرنسا لواء اسكندرون وتقديمه لتركيا ، ولبروز  المنظومة السوفييتية التي فرضت نفسها على العالم باعتبارها الرابح في سباق المسافات الطويلة ، والتي دعمت البلدان العربية ككل ضد المستعمرين السابقين ، ولاشتراكية حزب البعث القومية ولأن انعكاس الحرب الباردة علينا لم يجعلنا نشعر بإلحاح ضرورة تحسين العلاقة مع أوروبا الغربية ، لكل هذه الأسباب كانت العلاقات السورية ـ الأوروبية ببرودة الحرب الباردة . ولكن اختلف الوضع بعد البيريسترويكا بوقت قصير ، أي بعد زوال العطالة الناجمة عن الانصعاق لما أحدثته ، هذه العطالة الاجباريّة طالما أنه لا يمكن تغيير مسار سوريا السياسي مائة وثمانين درجة دون التوقف في الوسط ، تماماً كالسيارة التي تسير باتجاه لا يمكن للسائق عكسه مالم تتوقف .

في هذه المرحلة جاءت السلطة الجديدة لتجد العلاقات السورية ـ الأوروبية والتركية بتلك البرودة ، ومشوبة ببعض العداء مع تركيا ، فأخذت تسعى حثيث السعي لتحسين هذه العلاقات لأنها لا يمكنها إبقاء سوريا معزولة عن القوى التي تفعل فعلها في حفر مجرى الحياة ككل ، وحياتنا من ضمنها . ومما زاد في تسريع وتيرة هذا التحسين من جانبها ضغط الولايات المتحدة الشديد عليها ، وخصوصاً بعد احتلال العراق ، لكي تتنازل لإسرائيل ، قل ترضخ . وبديهي أنها بهذا التحسين تخفف من هذه الضغوط وبنفس الوقت تحمي ظهرها بحسب المثل القائل " من لا ظهر له يضرب على بطنه ".

أما بخصوص العلاقة مع تركيا فإن علاقاتنا بها بدأت تتحسن ببطْ قبل الغزو الأمريكي للعراق ، ولكن بعده قطع التحسن شوطاً واسعاً فبدا الأمر كما لو أن دواعي هذا التحسن من جانب السلطة عندنا جزءٌ من محاولة تخفيف الضغوط الأمريكية على سوريا . وخصوصاً أن البرلمان التركي صوت لصالح الموقف الأمريكي من الغزو ولكن ليس بالقوة المطلوبة ، فاحترمت الحكومة التركية هذا التصويت مما عرقل المخططات الأمريكية وقتها . هذا الموقف التركي لفت انتباه السلطة السياسية عندنا مما دفعها إلى السعي الحثيث لتحسين هذه العلاقة . فبهذا التحسين تسعى لحماية سوريا من الولايات المتحدة وإسرائيل عبر التنسيق السياسي معها كيلا تسهم في استقرار العراق في ظل الاحتلال ، ومن جهة أخرى فتركيا جارة لنا وقوة إقليمية لا يستهان بها على كافة المستويات ، لذا ليس هناك ما يمنع من تحسين العلاقة معها .

وسواء كانت هذه هي كل الأسباب أو هناك غيرها ، فالأهم أن أسباب هذا التحسين من جانب السلطة عندنا للعلاقات مع تركيا وأوروبا الغربية أسباب سياسية ، وهنا المصيبة ! هنا المصيبة لأنها يستحيل أن تعتبر علاقتها بتركيا استراتيجية طالما أنها لا تفكر بالاندماج بالاتحاد الأوروبي ، فلو كانت  تفكر فيه لاعتبرت علاقتها بها استراتيجية لكونها ممراً إجبارياً على طريقها إليه . 

وبالنتيجة ، فالسلطة السياسية عندنا ترتكب خطاً جسيماً باعتبارها علاقاتنا مع أوروبا وتركيا مجرد علاقات سياسية لأن عليها التفكير فيها باعتبارها جزءاً من تخطيط استراتيجي يهدف إلى الاندماج بالاتحاد الأوروبي . إذا كانت هي لا تفكر هذا التفكير فهذا شأنها ، فقد يأتي ، وسيأتي وقت تفكر فيه هي أو غيرها ، وأتمنى أن تفكر فيه هي قبل غيرها لأن الوقت يمر ، ولأن الوقت يمر قرعنا ناقوس الخطر .

وأخيراً يصل بنا المطاف إلى وضوح رؤية وجهة مسار سوريا الذي لم تتبين معالمه إلا في النصف لثاني من التسعينات . فهذا المسار ، كما بات واضحاً من مجمل ما تقدم من سياق ، وجهته باتجاه الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ، لكن انضمام سوريا إليه ليس حتميا . فزمن رؤية الفكر لمثل هذه الحتميات ولّى ، بل بات يرى انضمامها رهناً بثلاثة : أولاً بواقع جغرافي يتيحه وثانياً بظروف دولية لا تعرقله في المدى المنظور وثالثا ًبشروط داخلية مرهونة بمدى فاعليتنا في العمل على ، لا الخطابات عن ، الإصلاح والبناء والثقافة والتطور ضمن نفس هذا المدى المنظور . فنحن في سباق مع الزمن ، ولا يفيدنا التأمل في سؤال إن كنا قادرين على سبقه أم أنه سيسبقنا لأننا بالعمل على بلوغ معايير ـ شروط  الانضمام ، سواء بلغناها أم لا ، وسواء انضممنا أم لا ، فإننا لا نخسر إلا بعضاً من تخلفنا وهذا المستوى البائس من تفكيرنا المتجلي في نقاشنا حول إمكانية أو لاإمكانية الإصلاح .      

مهمّاتنـا الأهـم

التفكير ضروري لأن المرء لا يحق له تغييب عقله تحت أي ظرف كان ، أما التأمل كتمريك للوقت فبلادة لأن علينا مهمات جسام قبل أن يفوت الأوان ، قبل أن نقع في شرك الأمركة . مهماتنا العمل على الإصلاح في كافة المستويات الاجتماعية ، وخصوصاً السياسية والاقتصادية طالما أن التطور الاجتماعي عندنا يضطرد والثقافي لا يتطور على أساس مهمات وبشكل موجّه . هذه المهمات يتوجب علينا القيام بها معاً بنفس الوقت طالما أن مجتمعنا فيه الكادر المؤهل للقيام بهذا العمل ، في كل مجال على حدة ، بنفس الوقت . 

وبما أن هذه المهمات مطروحة على جدول أعمال مجتمعنا ككل ، فالمعني بتنفيذها المجتمع ككل . وهو ، كأي مجتمع ، ينقسم بداهة إلى طرفين متكاملين في تناقضهما ، إلى سلطة ومواطنين . هي عليها مهمات لابد لها من العمل على إنجازها ، وهم عليهم مهمات مختلفة لابد لهم من العمل على إنجازها . وكما أنهم لا يمكنهم الحلول مكانها في إنجاز مهماتها ، كذلك هي لا يمكنها أن تحل مكانهم في إنجاز مهماتهم . صحيح أنه قد توجد ، ولابد أن توجد ، مساحة من التقاطع بينهما لأن الحد الفاصل بينهما ليس مطلقاً ، ولكن يبقي الانقسام الوظيفي أساس العلاقة بينهما .

هذا الانقسام بينهما يكشف جوهره محمود درويش بقوله " للحقيقة وجهان" . مما يعني أن السلطة ، أي سلطة ، لا تصلح المجتمع إلا كما

يتبين الخلل فيه من زاويتها ، وبديهي أن وسيلتها للإصلاح هيئاتها . وبالضبط لأنها من المجتمع ولا يمكنها أن تصلحه إلا بهذا الشكل ، يتوجب على المواطنين أن يتدخلوا ليعملوا على الإصلاح من زاوية رؤيتهم ، وعبر هيئاتهم . فلو كانت السلطة تصلح المجتمع وحدها من الزاويتين فلا داع ٍ لتدخل المواطنين قط ، لا في سوريا ولا سويسرا ، لأن من عنده طباخ أو زبال لا داع ٍ لتوسيخ يديه . ولكن لأن المجتمع ككل طباخ طبخه وكناس وسخه ، عليهما العمل بنفس الوقت ، كلٌ من جهته وزاوية رؤيته للأمور ، في الطبخ والكنس .

فهاتان الزاويتان أولاً زاويتان لا زاوية واحدة ، وثانياً لا تتناقضان بل تتكاملان . ولأنهما زاويتان فهما إذن مختلفتان ، واختلافهما يعني أن لكل منهما مجالها المختلف الذي يتطلب نمطاً من الفعل مختلفاً . ولأنهما تتكاملان نرى نمط الفعل المختلف في كل منهما لا يتناقض عموماً مع الفعل الآخر المختلف بل يكتمل فيه ، لتكون النتيجة اتحاد القوى في المجتمع لا تفاضلها .

على أساس هذا الفصل تنقسم هذه المهمات إلى مهمات ينبغي أن تقوم بها السلطة وأخرى يقوم بها المواطنون ، وكلها مشتقة من مهمة واحدة  وحيدة ، مهمة العمل على بناء دولة ديموقراطية علمانية تسعى للاندماج بالاتحاد الأوروبي غير الممكن بغير هذه الدولة . وهذا البناء يتطلب من طرفي المجتمع بذل أقصى الجهود لتحقيق هذا الهدف ، وخصوصاً في مجالي السياسة والاقتصاد .

1ـ على المستوى السياسـي :

على صعيد السياسة الداخلية ، تشريع وضمان ممارسة كل ما يقود إلى بناء هذه الدولة من حرية الرأي والتعبير والمعتقد والتفكير والديموقراطية السياسية بما تتضمنه من حق الترشح والانتخاب ، وفي المقام الأول حرية تشكيل الأحزاب العلمانية ، والعلمانية فقط تمهيداً لإعلان سوريا دولة علمانية . كما ويتطلب من المجموعات السياسية وجمهورها ، القائمة أو التي ستتشكل ، العمل ضمن نطاق هذا التشريع القاضي باستثناء الأحزاب الدينية من ساحة العمل السياسي . والسؤال الذي لا بد أن يطرحه البعض هنا " هل تظل الديموقراطية ديموقراطية فعلاً بهذا الاستثناء " ؟ 

إنها لا تظل ديموقراطية ، بل حتى لا تصير إلا بهذا الاستثناء لأن الأحزاب الدينية بطبيعتها ديكتاتورية تماماً مثلما أن الشوك من طبيعة الصبّار والعطر من طبيعة الياسمين . وإيضاحاً لهذا الموضوع ، الواضح عند الكثيرين ، لا بد من التمييز بين االمتدينين الأفراد والحزب الديني .

للمتدينين الأفراد كامل الحرية في ممارسة طقوسهم في المجتمع العلماني ، ولا أحد يفرض عليهم ممارسة ما يزعجهم فيه . أما إذا كانوا هم ينزعجون من حرية الآخرين الشخصية لأن هؤلاء الآخرين لا يحبّون طقوسهم أو يرفضونها فهذه مشكلتهم لا مشكلة الآخرين ، وعليهم حلها بما يضمن استمرار اندماجهم بالمجتمع . وهذا يعني أن الحياة هي التي تجبرهم على التعايش مع الأفراد غير المتدينين ونمط حياتهم ، لا الكفر ولا الكفّار . فالعلمانية تطور أعطته الحياة وفرضته على المجتمع كحل وسط بين خليط الحريات الشخصية المتنافرة : حرية المتدينين وغير المتدينين ، حرية المتدينين بقلوبهم والمتدينين فقط بالطقوس والمتدينين بقلوبهم وبالطقوس ، وحرية ممارسة أتباع الديانات والطوائف المختلفة لطقوسهم . فهذا الحل الوسط أولاً ضرورة اجتماعية حتى يظل المجتمع موحداً ومنسجماً ، وثانياً تحقيق للمساواة الفعلية بين الأفراد على صعيد الحرية الشخصية لأن المتدين الفرد لا أحد يفرض على حريته الشخصية أية قيود ، وبدوره لا يفرض على حرية أحد أية قيود . وهذا منتهى العدل لأنه المساواة الكاملة بين الأفراد بفروقاتهم الفردية .

أما الحزب الديني فلا يتم تشكيله إلا ليفرض على الآخرين ممارسة كذا وكذا ، وبالتالي لا يتشكل إلا ليلغي الحرية الشخصية لكل المختلفين عنه . وهذه السمة تناقض الديموقراطية ، وبالتالي تنقض كل ادعاءات الحزب الديني بها . هذه السمة وحدها تكفي لرفض مشروعية الأحزاب الدينية من زاوية ضرورة بناء دولة ديموقراطية ، علماً بأن هذه الحدود هي الحدود الدنيا لسلبية الحزب الديني . وهذه السلبية لا تبقى ضمن هذه الحدود ، وحدود قمع حرية التفكير والتعبير وبالتالي التكفير والإعدام ، إلا في المجتمع الموحد طائفياً كإيران . أما في المجتمع المتعدد الأديان والطوائف كالهند وباكستان ، فديموقراطية الأحزاب الدينية نراها في المذابح بين المسلمين والهندوس ، وقيام الشيعة والسنة بتفجير مساجد بعضهما البعض في باكستان ، ناهيك عن تفجير الكنائس .

إذن ، بما أن الحرية الشخصية حق من حقوق الأفراد ، فللفرد الحق في ممارسة الطقوس الدينية إن أراد وله الحق في عدم ممارستها إن أراد . إنه حر في هذه المسألة الشخصية في الدنيا ، وأمره متروك لربه ليحاسبه بالطريقة التي يراها مناسبة في الآخرة طالما أن " الدنيا دار عمل بلا حساب ، والآخرة دار حساب بلا عمل " . وبالتالي ، فكما أن من حق المتدين الوقوف في وجه السلطة التي تمنع حريته الشخصية في عبادة ربه وواجب غير المتدين الوقوف معه ضد هذه السلطة التي تعتدي على هذه الحرية الفردية ، كذلك من حق غير المتدين أن يقف ضد السلطة التي تجبره على التدين ومن واجب المتدين أن يقف معه ضد هذه السلطة لأن من مصلحة المجتمع ككل الدفاع عن الحريات الفردية فيه ، هذه الحريات المختلفة بالضرورة لاختلاف نمط حياة الأفراد وطرائق تفكيرهم .

وبما أن السلطة العلمانية مع هذه الحريات المختلفة والسلطة الدينية ضدها ، فمن حق المجتمع على نفسه وواجبه تجاه أفراده أن يقف ضد السلطة الدينية ، وقبل ذلك ضد الحزب الديني طالما أنه لا يتشكل إلاّ لإقامة هذه السلطة . وبالمقابل فإن من حق المجتمع على أفراده وواجبهم تجاهه عدم تشكيل أي حزب ديني . ولهذا لابد للأحزاب التي ستتشكل في سوريا ، والتي ستسهم في بنائها الديموقراطي ، الالتزام بالعلمانية ، وهو ما لا يتحقق إلا بإعلانها أنها ليست دينية أو طائفية ، ولكن لا تحارب الدين .

أما على صعيد السياسية الخارجية ، فالسلطة بسيرها باتجاه تحسين العلاقات مع أوروبا وتركيا إنما تسير بالاتجاه الصحيح ، ولا ينقص هذا السير إلا الاستناد إلى استراتيجية واضحة تتمثل بالاندماج بالاتحاد الأوروبي . فعندما نحدد لمجتمعنا هذا الهدف ، نستطيع رسم كل سياستنا على هذا الأساس  ، وبالتالي تصير واضحة وقابلة للقياس وأبعد ما تكون عن الانفعالية وغير خاضعة لأي تقلبات ظرفية . وإيضاحاً لأهمية ربط سياستنا الأوروبية ـ التركية بهذا الهدف أقول : من المؤكد أن السلطة لن تقوم بأي فعل من شأنه إعادة هذه العلاقات إلى الوراء ، لأن الحياة ما عادت تسمح بمثل هذه العودة ، بل إنها تحاول وستحاول تعزيزها وترسيخها أكثر فأكثر . ولكن لماذا ؟

 هذا السؤال أوجهه للسلطة ومفكريها : من أجل التحسين فقط ؟ هرباً من أمريكا ؟ هل عندنا خطة لوحدة عربية مستقبلية نسعى لتحقيقها

 بهذا التحسين ؟ أم عندنا استراتيجية قطرية ستتكشف عما قريب ؟ الجواب الحقيقي الوحيد أننا نحاول الآن بهذا التحسين تفادي الضغط الأمريكي ، هذا هو الأهم وبعدها " يحلها ألف حلاّل ". سأعكس السؤال : بديهي أن أوروبا تسعى لتحسين علاقتها مع سوريا لمصلحتها ، ولكن ما هي مصلحتها ؟ مجرد البيع والشراء ؟ هذا الجانب قليل الأهمية بالنسبة لها لأنها تعلم أن سوريا مضطرة للتبادل التجاري معها دون هذا التحسين . إذا كان الأمر كذلك ، وهو كذلك ، فما هي مصلحتها إذن ؟

تكمن هذه المصلحة بكون الأوروبيين عكسنا ، يفكرون . ولأنهم يفكرون ، فإنهم يعتبرون منطقتنا ككل ، وسوريا من ضمنها ، جزءاً من مخططهم الاستراتيجي . ففي السياق السابق عن العولمة ، لدى الحديث عن أهمية العامل الجغرافي ، لم أتطرق إلى المتوسطية قط لأن ما أوجدها الاهتمام الأوروبي بهذه المنطقة ، لذا تصعب البرهنة انطلاقاً من سوريا على أن المتوسطية مؤشر قوي على سيرورتها نحو الاندماج بالاتحاد الأوروبي . فالمتوسطية في حقيقتها ليست مؤشراً قوياً بقدر ما هي دليل دامغ على هذه السيرورة ، ولكن يمكن البرهنة عليه فقط إذا ما نظرنا إلى الأمور من الزاوية الأوروبية . وقد سبق ومهدت الطريق أمام هذا الموضوع بتبيان أسباب اضطرار أوروبا الغربية إلى ابتكار الأوربة . ولكن لا يسعني في هذا المجال إلا أن آسف شديد الأسف لأن مثقفينا لم يستنتجوا منها ، من هذا الاهتمام الأوروبي بمنطقة المتوسط ، أي نتائج تذكر . ويؤسفني أكثر بكثير تعامل السلطة السياسية عندنا بمفكريها ، إن كان عندها مفكرون استراتيجيون ، مع موضوع المتوسطية طوال الفترة الماضية . إذ كانت تتعامل معها كما لو أنها أقرب إلى النادي منها إلى التفكير الاستراتيجي ، حتى أن مفكريها لم يسألوا أنفسهم السؤال البسيط التالي : " ما سر هذا الاهتمام الأوروبي بالمتوسطية  طالما أن حكوماتهم لا تبدد الوقت والمال على لقاءات للبروظة " ؟ ومع من ستتبروظ  ؟!        

بتحديد هذا الهدف كهدف استرتيجي ، على السلطة عندنا العمل على تحسين علاقات سوريا مع كل البلدان الأوروبية ، لا الرئيسية منها فحسب . هذا على المستوى الرسمي ، أما على المستوى غير الرسمي فلم نفعل شيئاً البتة . فقد كان الحوار العابر بيننا وبين الأوروبيين ، بالنسبة للمراقب المحايد ، أقرب ما يكون إلى حوار الطرشان ، وربما ينطبع في ذهنه أننا من كوكبين مختلفين . وحتى لا تظل الأمور كذلك ، أعتقد أن على الجامعات أن تتحمل مسؤوليتها في هذا المجال ، عليها تحسين علاقاتها مع الجامعات الأوروبية والتركية لمباشرة هذا الحوار .

عندنا الكثير من الأساتذة حسن الاستماع طبيعتهم ، وهذه ميزة يفتقدها الكثيرون منا ـ وربما أكون أولهم ـ لأننا لا يخطر ببالنا قط أن الوليد يتقن الكلام في سنتين أو ثلاث ، أما معظمنا فيعجّز ، وقد يموت ، دون أن يتقن الاستماع . هؤلاء الأساتذة قادرون على الإسهام في إدارة الحوار بالاتجاه المطلوب ، وقادرون على النقاش ومتمرسون في رسم وتوضيح وتوسيع نقاط التقاطع . وبنفس الوقت فيها عدد هائل من الطلاب ، أي الشباب ، يمكن أن يسهم في هذا الحوار . وبنفس الوقت فإن هؤلاء الطلاب متغلغلون في مجمل النسيج الاجتماعي بحيث يمكنهم نقل هذا الحوار إلى كل زوايا المجتمع وتفعيله للتأثير في بنية تفكيره . وباقي المفكرين والمثقفين غير بعيدين عن الجامعة ، وعندما تلعب هذا الدور يزداد التصاقهم بها . بهذه المبادرة يزداد التفاعل بين الأساتذة والطلبة وبين الجامعة والمجتمع ، لتصير الجامعة مؤسسة قادرة ليس فقط على رسم استراتيجية المجتمع وتوجيهه باتجاه أفق تطوره بل أيضاً على تمهيد الطريق أمام الفعل السياسي المباشر لتصير السياسة فن تطبيق هذه الاستراتيجية.

قد يقول البعض إن هذا الكلام ممتاز نظرياً ، أما عملياً فمستحيل لأن السلطة إن وافقت سياسياً على هذه الدعوات فتبقى مشكلة التمويل . فيما يتعلق بالتمويل أجزم أنها ليست مشكلة طالما أن الأوروبيين يعرفون " البئر وغطاه " ، إذ ليس ضرورياً أن ينزلوا في الفنادق أو يأكلوا في المطاعم طالما أن منازلنا عامرة ، وقد يرتاحون فيها أكثر ، وخصوصاً أننا نوجه لهم الدعوة على هذا الأساس . أما بخصوص الموقف السياسي للسلطة ، فلا أعتقد أنها ترفض هذا الأمر لأنها لا يعقل أن تكون بهذه الحماقة ، والتجربة أكبر برهان طالما أن مثل هذه الدعوات ستمر عبر وزارة التعليم العالي إلى الحكومة التي لن توافق عليها إلا بعد موافقة السلطة . ومن الطبيعي ، بعد هذه الموافقة ، أن يطالب وزير التعليم العالي الحكومة بمطالبة وزير النقل بتأمين رحلة جوية مجانية كل كذا لنقل وفود هذه الجامعات . وبالمقابل لن نهكل هم هذه الجامعات في أمور نقل أساتذتنا وطلابنا إليها .

2ـ على المستوى الاقتصـادي :

لا أعتقد أن شخصاً بعينه ، بالغاً ما بلغ ، يمكنه وضع خطة اقتصادية لإصلاح بنية الاقتصاد السوري الذي يحتاج ، دونما أدنى شك ، إلى إعادة هيكلة . فهذا الموضوع يحتاج لجنة من الاختصاصيين تتفرغ لهذا الموضوع لتدرس الواقع الفعلي لكل قطاع من القطاعات ، ليصار إلى تقييم حقيقي لمجمل الوضع الاقتصادي ، ومن ثم الخروج باستنتاجات تشير إلى وجهة إعادة الهيكلة . ولكن من الواضح أن هذا الاقتصاد ، وخصوصاً قطاع الدولة ، يعاني في كل مفصل من مفاصله الرئيسية ، من التخلف الشديد في وسائل الإنتاج ومن التضخم الشديد في عدد العاملين ومن الفساد الشديد . فمجرد واحدة من هذه الشدايدات تكفي لإفشال تطور هذا القطاع ، بله اجتماعها . لكن هذه المسألة الاقتصادية في سوريا ليست اقتصادية بالدرجة الأولى بقدر ما هي سياسية لتمفصل الاجتماعي فيها على الاقتصادي ، لتكون بالتالي مسألة سياسية ـ اجتماعية تتعلق بصميم العلاقة بين المواطنين والسلطة في المجال الاقتصادي .

معلوم للجميع كيفية قيام البناء الاقتصادي في سوريا بعد التأميم ، وخصوصاً بعد انقلاب 1963 ، وكيف صارت الدولة هي المسؤول الرئيسي عن النشاط الاقتصادي في المجتمع . وانطلاقاً من التصور الاشتراكي القاضي بضرورة تأمين العمل للجميع ، وربما لربطها كل المجتمع بسلطتها لإحكام سيطرتها عليه ، تضخم جهاز الدولة وتضخم عدد العاملين في المصانع ومؤسسات الإنتاج ، مما فرض واقعاً يدفع باتجاه مقاومة تحديث وسائل الإنتاج . الأمر الذي قاد ، ومازال ، إلى ازدواج الخلل في بنية هذا القطاع : من جهة الاحتفاظ بالوسائل القديمة كيلا يتم الاستغناء عن قسم من العمال ، ومن جهة أخرى استمرار تعيين مواطنين بصفة عمال كيلا تنفق العائلات جوعاً ، لتكون النتيجة استمرار تدهور الاقتصاد الذي مازال ينعكس على المجتمع ككل على شكل تدهور في وضعه الاقتصادي العام .

أما الجانب الآخر المكمل للمشكلة ، والذي يسهم جزئياً في تخليف القطاع الخاص ، فتضخم الكادر الإداري في جهاز الدولة الذي تعود أسباب تضخمه ، بشكل رئيسي ، لنفس السبب الاجتماعي الأخير . وبما أن وضعه الاقتصادي ليس أفضل كثيراً من العمال ، ولتعذر تحسينه إلا عبر السرقة من مؤسسات الدولة والرشاوى ، لذا وجد نفسه شيئاً فشيئاً في وضعٍٍ يعتبر فيه أن ما يتقاضاه من مرتب أشبه ما يشبه مرتب النادل ، رمزي جداً ، أما دخله الرئيسي فمن البقشيش .

هذه هي السمة العامة لوضع كادر جهاز الدولة والعاملين في مؤسساتها الإنتاجية ، وهو ما يقود إلى تبرير الرشوة والسرقة من مؤسسات الدولة في العرف الاجتماعي . وبديهي أن الاستثناءات كثيرة لأسباب مختلفة ، لكنّ المطروح في هذا السياق ليس أسباب هذه الظاهرة واستثناءاتها ، بل حقيقة هذه المشكلة التي تحتاج حلاً في أي دراسة لإعادة هيكلة الاقتصاد . مما يعني أن أي دراسة قد تبدو أنها تتواجه بتناقض بين الضرورة الاقتصادية والضرورة الاجتماعية . لكن هذا التناقض شكلي لأنه ليس تناقضاً قط ، وإنما مجرد خروج عن مألوف رؤيتنا لشكل ارتباط المجتمع اقتصادياً بالدولة وجهازها ، مما يعني أنه تناقض في رؤوسنا لا في الواقع . وإيضاحاً لشكلية هذا التناقض لنفترض أنه حصل ، فأيهما نغلّب ؟

إن تغليب الاجتماعي على الاقتصادي سيقود بالمحصلة إلى عدم إعادة الهيكلة ، بل إلى شكل من أشكال الوضع الحالي ، لأن هذا التغليب لن يحل المشكلة بل سيؤجلها ويفاقمها لأنه سيقود إلى استمرار إعالة الدولة للمواطنين ، مما يفضي إلى استمرار نفس أسباب التخلف الاقتصادي القائمة الآن . أما بتغليب الاقتصادي ، فإن التطور الاقتصادي القائم في صلب هذا التغليب سينعكس إيجاباً على المجتمع ككل . صحيح أننا سنتواجه بالبطالة والمشاكل الاجتماعية الناجمة عنها جرّاء هذا التغليب ، لكن حلها في ظل بنية اقتصادية تسمح بالتطور الاقتصادي أسهل بكثير وأكثر جدوىً مما هي في ظل بنية تعيق هذا التطور . 

على كل حال ، إن ارتأت هذه الدراسة ضرورة حل هذه المشكلة عبر انتهاج اقتصاد السوق ، أي تخلي الدولة عن السيطرة الاقتصادية في المجتمع  لتظل ملكيتها محصورة في القطاعات الضرورية للمجتمع ، ولكن غير المربحة للاستثمار ، كالمطارات مثلاً ، فثمة حلول مقترحة قد يجد الخبراء بعد الدراسة حلولاً أفضل منها لتسليس عملية هذا الانتقال :

* بعد تحديد الوزارات والدوائر والمؤسسات ذات الكادر المتضخم من الموظفين ، إصدار قانون مفاده أن كل من يرغب بالاستقالة فليتقدم بطلبها وله الحق بـ 75% من الراتب الفعلي الذي يتقاضاه ، بما فيه المكافآت ، وبنفس الوقت زيادة هذه الـ25% لمن لا يستقيل ، تمهيداً لتحسين مستواه المعاشي بما يتلائم ووضعه الاجتماعي المحترم ، الذي كف عن كونه محترماً جراء السياسة الاقتصادية المذكورة التي أملتها مرحلة تاريخية معينة ساد فيها الاعتقاد بصحتها .   

* بالنسبة للمصانع ومؤسسات الإنتاج أو التجارة التي يمكن أن تصير رابحة بإدارة القطاع الخاص ، يتم بيع نسبة مئوية منها لهذا القطاع وتمليك مجمل العاملين فيها النسبة الباقية كأسهم ، أي لهم الحق ببيعها أو الاحتفاظ بها ، ليقوم القطاع الخاص بإدارتها بالشكل الذي يراه مناسباً . في حين أن التي من غير المتوقع أن تصير رابحة ، فيتم تمليكها للعاملين فيها ليبيعوها كعقار يتقاسمونه فيما بينهم ليتصرف كل واحد بنصيبه بالطريقة التي يراها مناسبة .

على كل حال ، انطلاقاً من رؤية عامة ستؤكدها الدراسة أو تنقضها ، أعتقد أن النهوض الاقتصادي لا يمكن أن يتم إلا بإنهاء القطاع

 العام وتقليص كادر الموظفين إلى المستوى اللازم وظيفياً ، مما يفسح المجال أمام سيادة القانون في العلاقات الاقتصادية بين كادر جهاز الدولة وقطاعي الإنتاج والتجارة . هذا الإصلاح الاقتصادي ، في ظل مجتمع ديموقراطي يسعى لبناء دولة علمانية يسودها القانون ، سيدفع بالصناعة المحلية إلى الأمام . كما سيشجع رؤوس الأموال الخارجية ـ سورية عربية أجنبية ـ على الاستثمار ، الأمر الذي يفعل فعله أولاً في زيادة تطورنا الاقتصادي ، وثانياً في خلق المزيد من فرص العمل مما يسهم ، على الأقل ، في تلطيف بعض المشاكل الاجتماعية عبر تخفيف البطالة الفعلية بعد زوال المقنعة . كما أن سيادة القانون ستعني حكماً مكافحة الرشاوى ، مما يقود حكماً إلى التزام الصناعيين بالمواصفات ، سيّما وأننا مقبلون على الشراكة السورية ـ الأوروبية . هذا الالتزام لا محيد عنه قط طالما أن بضائعنا لن تدخل أسواق الاتحاد الأوروبي بطريقة ونوعية دخولها لأسواق روسيا وأوروبا الشرقية بعد البيريسترويكا ، هذا الذي أعطى صورة قاتمة ، بل مخزية ومهينة ، عن الصناعة السورية .

هذه الاجراءات السياسية والاقتصادية ، ستخلق المناخ الملائم للقضاء على الفساد الذي سأناقشه في سياق ضرورة الإصلاح ليقيني بأن البداية الحقيقية لمحاربة الفساد في سوريا هي هي البداية الحقيقية للإصلاح .

ورقة العمل هذه تعبر عن رأي كاتبها

السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ