ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الثلاثاء 26/10/2004


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

إصدارات

 

 

    ـ أبحاث

 

 

    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


أخطار قمع المعارضة

وأثر ذلك في انهيار الدول

شاهر أحمد نصر / طرطوس

عرفت البشرية نماذج مختلفة من الحكم التي لم تعترف بالمعارضة، بل قمعت كل صوت ينتقد السلطات الحاكمة، بغض النظر عن مبعث ودوافع هذا الصوت.. من هذه النماذج الاستبدادية على سبيل المثال النظام الاستبدادي القيصري في روسيا، ونظم الحكم التي أطلق على الدولة فيها لقب الدولة لكل الشعب State of Whole people.. الذي شمل أنظمة الحكم خاصة في الاتحاد السوفيتي سابقاً وألمانيا، وإيطاليا، وأوروبا الشرقية، بالإضافة إلى بعض أنظمة الحكم التي انتهجت ما يعرف بالديموقراطية الشعبية، أو ما اصطلح على تسميتها بالنظم الشمولية، حيث تماهت الدولة مع السلطة ونظام الحكم، وابتلع الجهاز الحاكم، باسم  الحزب والقائد الملهم ـ الذي هو أحد ضحايا هذا الجهاز ـ جميع مؤسسات الدولة.. وعد أي شكل من أشكال المعارضة خيانة، جرى قمعها بكافة السبل، وتمت تصفية قادتها أو زج بهم في السجون..

ترى نظم الحكم هذه أنّها تمثل الكمال إلى الأبد، وتتغنى بأنّها تمثل الشعب، وتتكلم وتحكم باسمه، وذلك من خلال آليات انتخابية معروفة النتائج مسبقاً، تقود لاستمرار البنى ذاتها، وإن اختلفت أحياناً الوجوه.. أي إنّها في الواقع تتجاهل الشعب، الذي يعبأ في بنى لا حول لها ولا قوة.. بل تذهب إلى أبعد من ذلك، عندما تنادي بأبدية القيصر، أو الحزب القائد والحاكم الرمز والملهم، متجاهلة سنن الحياة والكون، ومتطلبات التطور الاقتصادي الاجتماعي السليم..

قد تستطيع هذه النظم ـ التي لا تعترف بوجود المعارضة في مجتمعاتها، بل تقمعها وتعمل جاهدة على إلغائها ـ  تحقيق إنجازات معينة في فترة تاريخية محددة، وهذا ما حصل فعلاً في مراحل تاريخية محددة في روسيا القيصرية التي حصل فيها بعض التطور، كما استطاع النظام السوفيتي أن ينقل روسيا من دولة إقطاعية متخلفة، إلى دولة صناعية عظمى نافست أعظم الدول على سطح الكرة الأرضية في تطوير وامتلاك الأسلحة المتطورة وغزو الفضاء.. كما أحدثت بعض بلدان الديموقراطية الشعبية تطورات مهمة في بلدانها في مجال البنية التحتية والتعليمية.. ولكن السؤال الكبير والمصيري يبقى دائماً هو:

ما مستقبل هذه النظم، والبلدان والشعوب المحكومة من قبلها؟

ما الذي يحصل لهذه البلدان وشعوبها، في حال تعرضها لصدمات وهزات عنيفة تضطرها، في ظل تطورات دولية معينة، أن تغير من نهجها وأسلوب حكمها؟! والجميع يقر بأنّ حتمية التغيير هي من أسس سنن الحياة والكون..

في محاولة للتعرف على مصير هذه الدول وشعوبها، سندرس ثلاث حالات في تطور الدول التي اعتمدت نهج تحطيم المعارضة، وإلغاء أي دور سليم لها في حياة المجتمع، ونظام الحكم؛ هي:

الحكم الاستبدادي المطلق ـ روسيا القيصرية كمثال،

حكم الحزب الواحد ـ الدول الاشتراكية وفي طليعتها الاتحاد السوفيتي كمثال،

بعض نماذج الحكم الديموقراطية الشعبية التي لا تعترف بالمعارضة..

وأود أن أستدرك منذ البداية إلى أنّ هذا البحث الذي يحمل صبغة تاريخية قريبة من الوثائقية، غايته تبيان الوقائع للاستفادة منها، وليس النيل من هذا الحزب أو ذاك.. وسترد بعض الانتقادات للبلاشفة والشيوعيين والبعثيين، وهذا لا يعني مناهضة الفكر الاشتراكي، وإنما الدعوة إلى النظرة النقدية الضرورية لتلمس الطريق السليم نحو خروج مجتمعاتنا والبشرية من أزماتها ومآسيها، التي قد تودي بها إلى التهلكة، مع التأكيد على أنّ طريق المجتمعات البشرية للخروج من مآسيها ـ في رأينا ـ هو الديموقراطية والاشتراكية الإنسانية..

دور الحكم الاستبدادي المطلق، الذي يلغي المعارضة، في وصول أقلية المعارضة إلى الحكم:

نتيجة الحكم القيصري الاستبدادي المطلق، الذي لم يعترف بالمعارضة في روسيا فإنّها لم تعرف التعددية السياسية، ومع تفاقم الوضع الداخلي، وعدم انسجام بنية النظام القيصري الإقطاعي المتخلف مع متطلبات النمو والتطور الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، داخل روسيا وخارجها، في بداية القرن العشرين، وترافق هذا التفاقم مع الهزائم أمام ألمانيا في الحرب، كان لا بد من حصول تغير في السلطة، وانتقالها إلى قوى جديدة تعبر عن مصالح وضرورات التطور السليم... إلاّ أنّ الحكم المطلق الذي لم يسمح بتشكل المعارضة بشكل سليم جعل الوضع داخل روسيا شديد التعقيد.. فانهار البنيان القديم، وانتقلت السلطة في شباط (فبراير) من عام 1917 إلى الحكومة المؤقتة التي لم تكن منسجمة فيما بينها، ونتيجة الصراع في صفوف الجيش، وداخل الأحزاب التي تنفست الصعداء للتو كالاشتراكيين الثوريين، والكاديت والمناشفة، والبلاشفة، ونتيجة لغياب التقاليد الديموقراطية أخذ كل حزب يعتقد أنّه الوحيد الجدير دون الآخرين باستلام السلطة، ويعبر عن مدى خيانة الآخرين لمصالح الشعب والوطن.. وأسفر هذا الصراع، البعيد عن التقاليد الديموقراطية، إلى وصول البلاشفة إلى الحكم في تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1917، ومن المعروف أنّ البلاشفة لم يشكلوا أغلبية في المجتمع الروسي عند استلامهم السلطة، بل إنّ الانتخابات إلى الجمعية التأسيسية التي جرت بعد استلامهم السلطة بينت أنّهم يشكلون أقلية في هذه الجمعية وبالتالي في المجتمع الروسي..  كما كانّ للبلاشفة  نظرتهم الخاصة إلى الديموقراطية، وبنوا حزبهم على أسس الديموقراطية المركزية، هذه الأسس التي نقلوها لاحقاً إلى البنيان الاجتماعي الاقتصادي..

وساعد في الوصول إلى هذه الحالة أ نّ الطبقة العاملة الروسية ـ نتيجة الحكم القيصري الاستبدادي المطلق ـ لم تعرف منذ ولادتها الحياة الديموقراطية، بل سارت أولى خطواتها في ظروف الحكم الاستبدادي، كمثال لأعتى الدول تسلطية لم تعترف بالمعارضة، ولم تسمح لأية معارضة أن تتشكل بشكل سليم، فتمرّست المعارضة البلشفية في مدرسة الاضرابات المحظورة بقوة القانون، وفي الحلقات السرية، والمطالب المحقة غير المعترف بها قانونياً، والتظاهر في الشوارع والصدام مع الشرطة وقطعات الجيش.. ولعل الظروف والمناخ السياسي الذي نشأت فيه البلشفية في روسيا، لعب دوراً في كيفية وصول البلاشفة إلى الحكم، والأسلوب الذي اتبعوه لاحقاً في إلغاء العمل والنشاط السياسي للأحزاب المعارضة في روسيا، والآثار الكارثية التي نجمت عن ذلك، وفي ذلك دلالة على الأثر الفظيع الذي يتركه عدم وجود معارضة تعمل بشكل قانوني سليم في أية دولة..

بالتالي يمكن القول إنّ نظام الحكم القيصري المطلق في روسيا الذي قمع المعارضة ومنع تشكلها بشكل سليم، هو الذي ساعد إلى وصول معارضة من نوع خاص إلى الحكم هم البلاشفة الذين لم يشكلوا، في حينه، الأغلبية في المجتمع، ولم يعبروا عن تطلعات أغلب الفئات السياسية في المجتمع الروسي.. مما أوصل روسيا، نتيجة شكل الحكم الذي طبقوه، إلى طريق مسدود..

دور نظام حكم الحزب الواحد الذي يلغي المعارضة، في انهيار أسس الدولة:

مع انتقال السلطة في روسيا في شباط (فبراير) من عام 1917 إلى الحكومة المؤقتة، وضع تصور للنظام السياسي الديموقراطي الذي سيحكم في روسيا، من خلال جمعية تأسيسية تمثل جميع الأحزاب السياسية، ويتم انتخابها من قبل الشعب.. فقد كان انعقاد الجمعية  التأسيسية ماثلاً في برامج كل الأحزاب اليسارية في روسيا وبوجه خاص في برنامج الحزب الاشتراكي ـ الديمقراطي، بما في ذلك جناحه البلشفي. كان البلاشفه قد صّوروا دعوة الجمعية التأسيسية بين شباط (فبراير)  وتشرين الأول (أكتوبر) 1917 كواحد من أهداف عملهم، وذلك دون أن يجعلوا منها محور دعواتهم لأنهّم كانوا يعبئون الجماهير باسم السلطة السوفيتية (كل السلطة للسوفييتات)، وفي 25 تشرين الأول (أكتوبر) إبّان الاستيلاء على السلطة، أكد لينين للمندوبين إلى المؤتمر الثاني للسوفييتات لعموم روسيا أن "سلطة السوفييتات... ستؤمن في الوقت المناسب دعوة الجمعية التأسيسية"، وثبت لينين هذه التأكيدات في أكثر من تصريح لاحق.

جرى تنظيم الانتخابات  قبل انتصار ثورة أكتوبر  وجرت بدءاً من 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917. وتشكلت الجمعية التأسيسية، التي انعقدت بعد استلام البلاشفة للحكم، من ممثلي الأحزاب التالية: الاشتراكيين ـ الثوريين، الاشتراكيين الثوريين الاوكرانيين، الاشتراكيين الثوريين  اليساريين، البلاشفة ،  المناشفة، الدستوريبن الديموقراطيبن، وفئات صغيرة أخرى ذات طابع قومي في الغالب. كان البلاشفة أقلية فيها..

ونتيجة لحالة الحكم المطلق في العهد القيصري ـ كما بينا ـ تلك الحالة التي حرمت المجتمع الروسي من التعرف على الحياة الديموقراطية السليمة، وحرمته من إيجاد وتكريس تقاليد وقوانين ديموقراطية عريقة في روسيا، ونتيجة لضعف تجربة المعارضة، بمن فيهم، البلاشفة في هذا المجال، فقد كان موقفهم بعد استلامهم السلطة من هذه التجربة الديموقراطية مرتبكاً، أدى في المحصلة إلى حل الجمعية التأسيسية، وحظر نشاط الأحزاب السياسية في روسيا، باستثناء الحزب البلشفي (الشيوعي لاحقاً)..

لقد حرمت عملية حل الجمعية التأسيسية، وحظر نشاط الأحزاب السياسية في روسيا، على الرغم من جميع المبررات التي قدمها البلاشفة والتي كان أهمها نشاطه المضاد للثورة، كما حرمت هيمنة "التشيكا"  (المخابرات السوفيتية) لاحقاً على السوفييتات لحد امحائها،  حرم ذلك  النظام الجديد من آلية الحكم الديموقراطي، أي حرمها من الرئة السليمة للتنفس، ومن الدم المتجدد للحياة السليمة، وخلق الممهدات لحكم الحزب الواحد قائد للدولة والمجتمع، وللحكم الفردي والشمولي، الذي لا ينسجم مع التطور الصحي للمجتمع الاشتراكي، الذي تعد الديموقراطية  المناخ الوحيد الملائم لتقدمه وتطوره.

إنّ النظام الذي استبعد أو اضطر إلى استبعاد التعامل الديموقراطي مع مناؤيه. لم يفكر بالعودة إلى الأساليب الديموقراطية، مع تغير الظروف والقضاء على العدو الداخلي.. هكذا انسحب أسلوب التعامل القمعي ليطال الكوادر التي قامت بالثورة. فغياب الديموقراطية يحمل في طياته الهلاك حتى للأداة القمعية ذاتها.

لم يكتف الحكم من قبل الحزب الواحد في قمع المعارضة، ومنعها من تنظيم نفسها، وإلغائها، بل وصل الأمر بهذا الحكم إلى منع العديد من الأدباء و المفكرين من نشر آرائهم وفكرهم وأعمالهم القيمة بحجة حماية الثورة والوحدة الداخلية، علماً بأنّه لو فسح المجال للغيورين على المصلحة الوطنية أن ينشروا أفكارهم وآراءهم، وأخذ بتحذيراتهم، لجنبت الثورة والبلاد الكثير من الويلات التي أخذت أبعاداً دولية وإنسانية.. وهذا ما حرم الثورة البلشفية منذ ولادتها من عناصر قوتها واستمراريتها وأهمها البعد الإنساني الديموقراطي... أي إعطاء الأولوية لنمو الفرد و ليس تحويله إلى برغي في آلة عملاقة أو لبنة في بناء ضخم.. مما استتبع ممارسات بعيدة كل البعد عن الفكر الديموقراطي ألبستها لباساً مشوهاً، استغله أعداؤها في صراعهم ضدها.. بالإضافة إلى إلقاء سلاح الدياليكتيك جانباًـ على الرغم من التبجح بتبنيه ـ هذا المنهج الذي لا يعترف بالجمود وثبات الحال، بل يقر بالتبدل ولتغيير المستمر بما في ذلك في مسألة السلطة والحكم..

مع تطور الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية داخل المجتمع السوفيتي وخارجه، ومع ازدياد حدة الصراع مع القوى المناهضة للاشتراكية والمعادية للاتحاد السوفيتي، وازدياد تماسك الحلف المعادي للاشتراكية والمكون بشكل أساسي من الاحتكارات الرأسمالية العالمية، وعتاة العنصريين الصهاينة والقوى الإسلامية والعربية الظلامية، التي توحدت للقضاء على أمل الشعوب في بناء الاشتراكية ـ عندما مثّل الاتحاد السوفيتي الخندق الأول في جبهة الحرب بالنسبة لها ـ في ظل هذه الظروف جميعها، كان لا بد من انتهاج سياسة جديدة تستطيع معالجة الركود الداخلي، ومواجهة الحرب الخارجية غير المعلنة، ولقد أثبتت بنية الحكم السابقة وفق نظام الحزب القائد الواحد والأمين العام الملهم، عدم مقدرتها للاستجابة لمتطلبات مواجهة تلك التحديات الكبيرة.. ولعل العنصر الأساسي في مواجهة تحديات من هذا النوع هو البنية الداخلية المرنة والمنيعة.. لم تستجب آلية حكم عشرينات وثلاثينات القرن العشرين مع متطلبات التطور الداخلي ومواجهة تحديات التطور والثورة المعلوماتية، والمواجهة الخارجية في أواخر القرن العشرين.. وكان لا بد من التغيير، ومن هنا كانت جرأة غارباتشوف وبعض قادة الحزب الشيوعي السوفيتي، الذين فهموا بأنّه لا يمكن الاستمرار بالشكل القديم.. إلاّ أنّ غياب المعارضة الداخلية على مدى عقود من الزمن حرم السياسة السوفيتية من إيجاد البديل المناسب، فجرى الالتفات إلى نفس البنية السابقة (الحزب الشيوعي السوفيتي، والمخابرات) للقيام بالتغيير، وهذا ما يتعارض مع سنن التطور السليم، فكان لا بد من الانهيار، فالبنية القائمة أعجز من أن تقوم بمهام الإصلاح والتغيير..

ومن المؤسف الاستنتاج بأن ذلك النظام الاشتراكي الحلم حمل منذ ولادته مقدمات وبذوراً  تشكل خطراً حقيقياً على مستقبله، يكمن في أساسها قمع المعارضة الوطنية وإلغاؤها... ولا يمكن تفسير ما جرى لاحقاً من انهيار لبنية الدولة في الاتحاد السوفييتي، وفرط عقده بمعزل عن تلك المقدمات.. فنظام حكم الحزب الواحد الذي يلغي المعارضة، يلعب دوراً كبيراً في انهيار أسس الدول، في اللحظات التاريخية الحرجة..

دور نظام الحكم وفق النماذج الديموقراطية الشعبية أحادية اللون، والقائد الملهم، الذي يحطم المعارضة؛ في إضعاف وانهيار الدولة:

أقامت الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية المدعومة من الجيش السوفييتي الأحمر، أنظمة حكم على النمط السوفيتي؛ عرفت بالديموقراطية الشعبية. وتبنى العديد من الأحزاب الانقلابية في الدول النامية حديثة الاستقلال، التي استولت على الحكم، تلك الصيغة من الحكم... تعد دساتير هذه النظم الحرية حقاً مقدساً، وتؤكد على أنّ الديموقراطية الشعبية هي أفضل صيغة تكفل للمواطن ممارسة حريته الكاملة.. أما في الواقع وفي الحياة العملية، فإن هذه النظم تعاني من النقص والتقييد في الحريات الاجتماعية والفردية، ويتجلى ذلك في خضوع المؤسسات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية فيها لهيمنة السلطات الحاكمة، وأجهزتها المخابراتية..

 بينت التجربة التاريخية أنّ أنظمة الحكم الديموقراطية الشعبية، تؤسس لما يعرف بالأنظمة الشمولية التي ترى أنّها تمثل الكمال في كل زمان ومكان، حيث الحاكم ينوب عن الشعب، الذي يعبأ في بنى لا حول لها ولا قوة.. وتقود آلية الحكم هذه إلى تغييب الشعوب والمعارضة، التي تعاني من القمع والإلغاء، ويعلن من أعلى المستويات أنّ "لا مستقبل لهؤلاء (المعارضة) في الوطن"..

وتقود هذه البنية القمعية والمغلقة، إلى انعزال البلاد وتخلفها عن ركب التطور العالمي، ويعم الركود جميع مفاصل الاقتصاد والمجتمع الذي يعيش حالة من السبات، والتشوه، والتخلف، يدعوها المستفيدون منها بالاستقرار. فتتجمد البنى الاجتماعية، والاقتصادية، وتنشأ الظروف المناسبة لصيرورة طبقة بيروقراطية طفيلية تغتني على حساب المنتجين، وتفقد أية إمكانية للتجاوب مع متطلبات التقدم والتطور، وتصبح السمة العامة للمجتمع في مجمل مناحيه الاقتصادية والسياسية والفكرية والثقافية، هي الركود والتخلف.. فضلاً عن تفاقم مشاكل الأقليات القومية، والتهرب من استحقاقات معالجتها.. كما تتراكم مشاكل النعرات الدينية، وتزداد حدة التفاوت والفروقات الاجتماعية، والطبقية.. ويصل الوضع الاجتماعي ـ السياسي إلى حالة الأزمة الشبيهة بما يعرف بالوضع الثوري؛ حيث لا البنية الفوقية تستطيع الاستمرار بالحكم وفق الطرق التقليدية القديمة، ولا البنية التحتية تستطيع الاستمرار بالعيش وفق الآليات القديمة، إلاّ أنّ غياب عوامل القوة الذاتية بالنسبة للقوى الجديدة حاملة التغيير، نتيجة قمع وغياب المعارضة، يزيد عملية الخروج من الأزمة صعوبة، ويهيمن الركود، ويجد الجميع أنفسهم يسبحون في نفس التيار لعقود، وتلعب البنية الفوقية الحاكمة في الوقت الضائع طويلاً.. فتصبح الدولة مهيأة للانهيار في أية لحظة تحت تأثير التناقضات الداخلية، أو أي فعل خارجي مباشر.. وهذا ما حصل لدول أوربا الشرقية، ولنظام حزب البعث القمعي في العراق.. إذ أنّ هذا النظام قدم كل المسوغات لاجتياح البلاد وتهديم بنية الدولة، وعلى الرغم من المسيرات الحاشدة التي كان يجبر الملايين من السكان على المشاركة فيها للتعبير عن دعمهم له، إلاّ أنّ هذه الملايين التي خرجت لتأييده تحت الحراب، لم تخرج، بعد أيام معدودات من زمن القيام بتلك التظاهرات الحاشدة، للدفاع عنه في اللحظة الحرجة، وفي نفس الوقت ونظراً لعدم وجود معارضة منظمة على أرض الوطن، لم يوجد بديل لنظام الحكم في تلك اللحظة التاريخية الحرجة مما قاد إلى الانهيار ..

من كل ما تقدم يتبين الدور الخاطئ بحق الأوطان الذي تلعبه سياسة قمع المعارضة ومنعها من التشكل بشكل قانوني سليم، فقمع المعارضة، وإلغاء وجودها من المجتمع والحياة السياسية في البلاد، يقود إلى وجود معارضة ضعيفة مريضة، لها تصوراتها الخاصة والمحدودة حيال قيادة الدولة والمجتمع، التي تتشكل في ظروف غير طبيعية، وقد يعلن بعضها تبنيه الأساليب الديموقراطية، إلاّ أنّ الممارسة العملية التي يعيشها في ظل القمع والاستبداد ستضعف كثيراً من صحة وحقيقة فهمه وممارسته للديموقراطية.. هكذا يقود قمع المعارضة وعدم السماح لها بالعمل بشكل قانوني سليم، إلى ظهور معارضات بعضها مشوه في الداخل وفي الخارج.. وتعطي هذه الحالة عناصر القوة للقوى المعادية خاصة الخارجية منها، وتساعدها في أن تجد أوساطاً تتغلغل من خلاها لتحقيق مآربها المبيتة... فالمسئول الأول عن وجود المعارضة المشوهة في الداخل والخارج، هو أنظمة الحكم، والبنية السياسية القمعية التي لا تسمح بالتطور والنمو السليم للمجتمع ..  وقد تكون هذه المعارضة الضعيفة هي الوحيدة الموجودة على الساحة في اللحظات التاريخية الحرجة من تطور المجتعات والأحوال، ويلقى على عاتقها مهام أكبر بكثير من إمكانياتها، مما يجلب الويلات للدولة والمجتمع، ويقود إلى طريق مسدود أو الانهيار..

الحياة في تجدد وتغيير مستمر، من الضروري معرفة والإقرار بهذه الحقيقة، والتخلص من الشعارات الخرافية، المناقضة للحياة، فلا قائد يبقى إلى الأبد ولا حزب خالد يحكم إلى الأبد.. ومن الضروري بناء مجتمعات على أسس سليمة، تقر بأهمية وضرورة وجود المعارضة الوطنية، تعمل بشكل قانوني ديموقراطي سليم وفق قانون تنظيم الأحزاب السياسية وغيره، وتكون مستعدة دائماً للتداول السلمي للسلطة، والإصلاح والتغيير والتجدد، وفق متطلبات الحياة.. إنّها مسألة وطنية من الدرجة الأولى، وما العمل بعكس ذلك إلاّ إضعافاً للوطن، بشكل مقصود أو غير مقصود، وتمهيداً لانهيار أسس الدولة..

وفي حال بلداننا العربية يمكن القول: إنّ غياب أسس الدولة الحضارية والعصرية، وخلق ممهدات إضعاف المجتمع، وأسباب انهيار الدولة يخدم المشروع الصهيوني بالدرجة الأولى.. وبالتالي فأحد أشكال مواجهة هذا المشروع هي بناء دولة على أسس عصرية تستند على إقرار ودعم الشعب لها، ويقر الحكام فيها بضرورة وجود المعارضة الوطنية وفق أسس قانونية وديموقراطية، وحق هذه المعارضة في التداول السلمي للسلطة، بعيداً عن الخوف من السجون،  ومن قوانين الطوارئ والأحكام العرفية، لبناء دولة قوية بشعبها الحر تستطيع مواكبة التطور العالمي ومواجهة التحديات المصيرية..

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ