ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

السبت 29/07/2006


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

إصدارات

 

 

    ـ القضية الكردية

 

 

   ـ أبحاث    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


 

السمن ، و قلي البيض ،

و سموم الطبخات الانقلابية

د. هشام الشامي

كان يا ما كان في زمان ليس بالقديم، كان لسورية رئيس منتخب يقوم بجولة اعتيادية برفقة رئيس حكومته و بعض المسؤولين في الدولة يتفقدون خلالها إحدى القطعات العسكرية الميدانية ، و مروا على مطبخ القطعة ليعاينوا طبيعة الطعام المقدمة لجنود الوطن المرابطين على ثغرة من ثغراته و يطمئنوا على جودته ، و التي كانت يومها ( سقى الله ذلك الزمان ) من أجود و أفضل الأطعمة ، و أحسن لحوم الضأن و الطيور ، و أشهى السمن العربي الأصيل ، و أفخر الخضار و الفواكه و الحلويات الموجودة في السوق المحلي المليء بالخيرات الشامية في تلك الأيام الطيبة ، حيث كانت طبيعة الطعام و جودته إحدى المغريات التي جذبت بعض الطبقات الفقيرة للتطوع في الجيش في ذلك الزمان ، فشم الرئيس و رئيس وزرائه ، رائحة سمن فاسد ، و هما يعرفان جيداً شروط العقود التي أبرماها مع متعهدي تقديم الطعام للجيش ، و التي كانت تتضمن أفضل الشروط لتأمين أحسن الأطعمة و أجودها و أغلاها ثمناً ، فطلبا بعض البيض ، و قاما بنفسيهما بقلي البيض بهذا السمن ، فانتشرت رائحة كريهة من السمن الفاسد ، و من المعلوم أن البيض و الأرز يكشفان نوع السمن و جودته ، و هنا أسرع الرئيس بإصدار أوامره بإلقاء القبض على مدير تموين الجيش ، أحد المقربين من قائد الجيش السوري .

وعندما نشرت وسائل الإعلام هذا الخبر- الفضيحة - في أوساط الشعب , و علقت الصحف و المجلات العديدة و التي كانت تصدر في دمشق و المحافظات باسم الأحزاب السياسية أو الشخصيات الإعلامية المستقلة على هذا الموضوع الخطير ،  كان الطلبة , والشباب المثقف , و صبية الشوارع ، يتقصدون أن يضعوا أيديهم على أنوفهم باشمئزاز و( قرف ) لدى مرور أحد الضباط من أمامهم و كأنهم يقولون : كم هي سيئة رائحة السمنة المغشوشة ، مما شكل إهانة للضباط الفاسدين ، كما قام النواب في المجلس النيابي بالهجوم على الضباط المسؤولين عن هذه الفضيحة ، بمن فيهم قائد الجيش نفسه الذي حملوه المسؤولية كاملة .

لقد كانت هذه القضية بالذات السبب المباشر و الرئيس لقيام قائد الجيش بأول انقلاب عسكري في سوريا – و في المنطقة – على الحياة البرلمانية و الرئيس المنتخب ، قادحاً بذلك شرارة الانقلابات العسكرية في سوريا و المشرق ، و كان ذلك في صبيحة يوم 30 آذار/ مارس عام 1949م ، ذلك اليوم الأسود المظلم المشؤوم من تاريخ سوريا الحديث ، عندما انقلب قائد الجيش الزعيم ( العقيد ) حسني الزعيم ، على النظام الجمهوري البرلماني في سوريا ، و أودع رئيس الجمهورية شكري القوتلي و رئيس وزراءه خالد العظم في السجن ، ليدفع تهمة الفساد و اللصوصية عن أحد رموز الجيش ، و ذلك إثر تفاقم مشكلة الفساد و الرشوة في قضية السمن الفاسد و مواد تموينية أخرى خاصة بالجيش ، التي أتهم بها مدير تموين الجيش الزعيم أنطون البستاني المقرب جداً من حسني الزعيم و الذي رفض تنفيذ أمر اعتقاله الصادر عن رئيس الجمهورية بتهمة الفساد و الرشوة و الثراء غير المشروع .   

لا شك أن هناك أسباباً بعيدة – غير مباشرة – كانت وراء ذلك الانقلاب المشؤوم ، منها صراع الأحلاف و المحاور الذي وسم ذلك العصر ، و خاصة بعد بروز الولايات المتحدة الأمريكية كدولة كبرى إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية ، و بداية اهتمامها بالمنطقة - بعد انتشار رائحة النفط من باطن تلك الأرض التي لا تنتهي كنوزها ، و لا تنقضي عجائبها - و صراعها مع الإنكليز الذين كانوا السبّاقين في الوصول إلى تلك المنطقة الغنية ، و دخول الإتحاد السوفيتي على خط الصراع الساخن  .

و منها أيضاً صفات حسني الزعيم الشخصية ، التي وصفت أنها شخصية مغامرة ، تحب السلطة و السيطرة و قد نقل عنه كلمة مأثورة كان يرددها منذ طفولته : " ليتني أحكم سوريا و لو يوماً واحداً ثم أقتل بعده " .

يقول خالد العظم : “إن الأسباب الحقيقية للانقلاب تنحصر في كونها حركة طائشة قام بها رجل أحمق متهور، هو حسني الزعيم ، أراد أن يحمي نفسه من العزل والمحاكمة، بتهمة الاشتراك في صفقات مريبة وخاسرة ، تعاقدت عليها مصلحة التموين في الجيش، مع بعض المتعهدين الذين قدموا بضاعة فاسدة ، وقبضوا ثمنها مضاعفاً”•

ويتابع العظم الرواية بقوله: “وفي جلسة النواب في 17 آذار/ مارس 1949م شنّ النائب فيصل العسلي حملة عنيفة على حسني الزعيم، مندداً بأعماله ومواقفه، وطالب بإحالته على المحاكمة.

كما أن خروج الجيوش العربية منهزمة من حرب النكبة في عام 1948م ، كشفت ضعف الجيش السوري ، و اهتزت صورته بين المواطنين ، مما أدى لاستقالة وزير الدفاع / أحمد الشراباتي في 24 أيار 1948م ، أي بعد أيام من إعلان قيام دولة إسرائيل في 15 أيار من العام نفسه ، وتولى رئيس الوزراء جميل مردم وزارة الدفاع بنفسه ، كما تقاعد رئيس الأركان العامة ، و عين مكانه مدير الأمن العام حسني الزعيم ، و عندما استقال جميل مردم من رئاسة الوزراء في أواخر عام 1948م ، إثر فضيحة أخرى سنذكرها في وقت لاحق إن شاء الله ، عيّن الرئيس شكري القوتلي مكانه خالد العظم .

و بذلك نستطيع أن نقول : لقد كان لحرب فلسطين و حالة الجيش و قضايا الفساد و الحالة المتردية في الوطن و المحيط العربي و تدخلات الدول الكبرى الدور البعيد في حدوث الانقلاب الأول في سوريا ، إضافة لأسباب مباشرة طغت على السطح قبيل الانقلاب و التي ذكرناها أنفاً ، يضاف إلى ذلك طموحات و أطماع العسكريين إلى السلطة، وعلى رأسهم حسني الزعيم قائد الانقلاب . 

لا شك أن الوضع المأساوي الذي وصلت إليه سوريا اليوم لم يكن طفرة أو حالة عرضية طارئة ، بل هو تراكمات و إفرازات عقود طويلة ، بدأت مع انقلاب العسكر على الحياة البرلمانية المدنية ، لتحقيق طموحات و أطماع و عقد نفسية شخصية ، و التي بدأها حسني الزعيم الذي كان لا يخفي عقده النفسية و أحلامه الصبيانية الطائشة ، و يبدي إعجابه بشخصيات عسكرية مثل أتاتورك و نابليون بونابرت ، ثم تراكمت الأخطاء و الشطحات الشخصية ، و انتهت بتحويل سوريا الدولة و الحضارة و التاريخ إلى مزرعة خاصة سميت بسوريا الأسد ،و طوّبت باسم الأسد الأب و أبنائه إلى يوم الدين ...

و بما أن التاريخ عبرة ، فإننا نستطيع من خلال هذه القصة التاريخية ، أن نقارن بين ما كانت عليه سوريا قبل أن تعبث بها أطماع العسكر و أحلامهم الصبيانية ، و بعد أن اغتصب العسكر براءتها ، و نستخلص و نضيء النقاط التالية :

1- لقد كان المسؤول يضع المواطن في أولى اهتماماته ، و لهذا كان الرؤساء يقومون بجولات تفتيشية للوقوف على حال المواطنين و همومهم ، و لم يكن القصد منها إقامة المهرجانات الخطابية الحاشدة ( بل المحشودة ) ، و بيع الكلام الفارغ ، و صف التصريحات الطنانة ، و إطلاق الشعارات الرنانة ، و التطبيل و التزمير و التصفيق و تمجيد الحاكم و تأليهه و توحيده و عبادته .

2- لقد كان الاهتمام بالجيش في رأس أولويات السلطة ، و كان يضرب المثل بالجيش السوري في التزامه و انضباطه و تنظيمه ، أما طعام الجيش فكان من أفضل أنواع الطعام و أجودها التي لا يجدها المواطن إلا في الأسر الميسورة ، أما بعد سيطرة العسكر و انتشار الفساد و السرقات ، فأصبح يضرب المثل بسوء طعام الجيش الذي لا يسمن و لا يغني من جوع ، بعد أن سحب خيره ، و شفط دسمه ، و ماتت بركته ، فلم يعد يأكله حتى أفقر العسكر ، و أصبح يرمى مع الزبالة لتأكله الجرذان الجائعة و الكلاب الشاردة ، كما أصبح الجيش لحماية آل الأسد فقط ، و لذلك ترى الفرق الكبير بين الحرس الجمهوري و إمكانياته و بين الجيش النظامي ( الذي سماه السوريين تندراً : جيش أبو شحاطة ) ، فبينما يملك الحرس الجمهوري ( الذي يحرس القصر و الرئيس و عائلته و المواقع الرئاسية الهامة ) أحدث الأسلحة و أغلاها و أفتكها ، و يلبس رجاله أجمل اللباس ، و يأكلون أحسن الطعام ( و لكن مع هذا لا يصل إلى أسوأ الوجبات التي كانت تقدم للجيش النظامي سابقاً ، أيام السمنة الفاسدة إياها ) ،و يحصلون على مكافآت و حوافز مادية ؛ تجد في المقابل الإهمال الواضح و المنظم و المقصود لجيش أبو شحاطة الفقير ، الذي أصبح أفراده خدم و ( مرابعين ) و فلاحين يعملون في خدمة ضباطهم و  عوائل ضباطهم ، يزرعون لهم الأرض ، و يبنون لهم القصور ، و يخدمون أزواجهم في البيوت ، و يعملون سائقين و خدم و حرس عند أولادهم و عوائلهم .

3-  لقد كانت محاربة الفساد و المفسدين تتم بحزم و إصرار و فور كشفها بلا تمهل و لا توان ، حتى لا يستشري الفساد و يصبح قاعدة ، و يصعب القضاء عليه ؛ أما بعد أن شاع الفساد و أصبح هو القاعدة ، فأصبحت محاربته كذبة بيضاء ، و دعاية صحفية ، و نكتة ( بايخة ) ، و ورقة ضغط تفتح وقت اللزوم في وجه من يشاء الحاكم فضحة و إقصاءه .

4- لقد كان للإعلام الحر دوره الريادي في كشف المفسدين و المغرضين و الخونة و مرضى النفوس ، و كانت الصحف الحرة تمارس سلطتها الرابعة بكل جرأة و موضوعية حتى بوجه أعلى الرتب و أكبر المسؤولين ؛ أما بعد أن أصبح الإعلام لسان السلطة السفيه ، و وجهها القبيح ، الذي يغطي العيوب و الجرائم و السرقات ، و يبرر الهزائم و المخازي و التنازلات ، و يطبّل لقتلة الشعب و سارقي ماله و جهده و ثرواته ، حتى أصبح المواطن لا يصدق من تلك الوسائل ( الإعلانية ) شيئاً حتى نشرات الأحوال الجوية و نتائج المباريات الرياضية .

5- لقد كان للبرلمان المنتخب من الشعب مباشره دوره في محاسبة المسؤولين ، و كشف المقصرين و المفسدين ، و فضحهم و محاسبتهم ، و كان يقوم بدوره هذا على الجميع بلا استثناء ، فهو السلطة المخولة بمحاسبة أكبر المسؤولين من رئيس الجمهورية و رئيس الحكومة و رئيس الجيش إلى أصغر موظف في الدولة ، أما بعد أن أصبح الرئيس و جهازه الأمني من يختار و يعيّن أعضاء المجلس ، فقد أصبح مكاناً للدفاع عن الحاكم والمفسد و السارق و الخائن و المرتشي ضد المواطن و المظلوم و المسروق و المحروم ، و منبراً لتمجيد و تأليه و تأبيد السيد الواحد الأوحد في مزرعته ، و واجهة لتمرير القوانين و التشريعات و الأحكام العرفية و الإجرامية و الاستئصالية التي تخدم استمرار سيطرة الحاكم بأمره على رقاب البلاد و العباد .

6- لقد جرّت الانقلابات العسكرية على سوريا البلاء و الرزايا و التخلف و الديكتاتوريه و الهزائم المتعددة و المصائب المتتالية و لأنها سرقت السلطة بطريقة غير شرعية من أصحابها الشرعيين ، تحالفت مع سارقي الشعب و المفسدين الذين لم يبخلوا بالمقابل على أسيادهم و أولياء نعمتهم بالتبجيل و التأييد و الحمد و الشكر و التسبيح و التهليل و التأليه ، فأصبحوا أبواق السلطة و أدواتها ، التي دعت إلى تأليه الحاكم و تخليده و تأبيده ، و تحويل الجمهورية السورية إلى الجمهولكية الأسدية .

7- لقد كان الحكم في سوريا حكماً مؤسساتياً دستورياً ، تقوم فيه كل مؤسسة بدورها بحرية و استقلالية ، و هناك خطوط حمراء واضحة و عريضة تفصل بين السلطات التنفيذية و التشريعية و القضائية ، و كان للسلطة القضائية سلطتها على كل المسؤولين ابتداء من رئيس الجمهورية ، إلى أن تحولت السلطات جميعها إلى ألعوبة – لا تملك من أمرها شيئاً - يلعب بها الرئيس الأوحد في البلاد كما يشاء .

8- لقد كان المسؤولون يحترمون مراكزهم التي أُختيرت لهم بطرق دستورية شرعية ، و يحترمون أنفسهم ، و يعترفون بأخطائهم ، و يتحملون مسؤوليات و تبعات قراراتهم و أعمالهم ،  و هذا ما دفع وزير الدفاع و رئيس الأركان إلى الاستقالة بعد نكبة عام 1984م ؛ أما سالبوا السلطة من العسكريين ، فهم لا يستحون و لا يحترمون لا أنفسهم و لا مراكزهم التي أخذوها بطرق غير شرعية أصلاً – و كأن لسان حالهم يقول : ليس بعد سرقة السلطة ذنب – فمثلاً بعد هزيمة حزيران المخزية ، و إعلان وزير الدفاع سقوط القنيطرة عاصمة الجولان السوري المحتل و ذلك قبل وصول أول جندي إسرائيلي لها بيومين ، كافأ وزير الدفاع نفسه ، و أنقلب على رفاقه ، و نصب نفسه رئيساً للبلاد ، و بعد مجازره و جرائمه العديدة بحق شعبه و بلده ، و حق شعوب المنطقة من فلسطينيين و لبنانيين و عرب آخرين ، كافأ نفسه أيضاً و جعل سوريا كلها مزرعة له و لأولاده من بعده إلى يوم الدين .

كل هذا ، وغيره الكثير، يجعل من عودة الحياة الدستورية البرلمانية الديموقراطية ، و صناديق الاقتراع الانتخابية الحقيقية ، و تعدد الأحزاب ، و تداول السلطة ، و حرية الرأي و التعبير و الصحافة ، و إنهاء حكم الفرد الواحد و النظام المخابراتي المرعب أولوية كل مواطن سوري حر شريف ، هذا إذا ما أردنا أن نعيد لسوريا الحبيبة كرامتها و شرفها و هيبتها و مكانتها و أرضها المغتصبة و مجدها و عزّتها .

 المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها    

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ