ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 15/05/2006


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

إصدارات

 

 

    ـ مجتمع الشريعة

 

 

   ـ أبحاث    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


 

تعذيـب النساء في السجون السورية - 10

وداع في الســجن

إعداد الدكتور  خالد الاحمد

الشعب كله متهم في سوريا ، رجاله ونساؤه ، أطفاله وشيوخه ، كلهم متهمون ، يجب أن يسحقوا ، وأن تملأ بهم السجون والمعتقلات ، ويذبحوا ويتسلى بهم الساديون ، أزلام النظام الأسـدي ، الذين نفخ فيهم أسـد الحقـد الطائفـي ، وسـخرهم لذبـح المواطنين رجالاً ونسـاء ، من جميع الفـئات ، والأعمـار والأجناس ...

قدم لنـا الأخ محمد سليم حمـاد ( يحفظه الله ، وجعل ذلك في صفحات أعماله الصالحة يوم القيامة ) ، قدم لنا كتاب ( تدمر ، شاهد ومشهود ) بين فيها صفحة من صفحات التعذيب الذي  صبـه أزلام النظام الأسدي على رجال سوريا الأحرار ، على خيرة أبناء الشعب السوري .

وتـذكر لنا هذه المـرة ( هبـة الدبـاغ ) يحفظها الله في كتابها ( خمس دقائق فقط : تسع سنوات في سجون الأسد ) ، هبـة الدباغ ، الوحيدة التي بقيت من أسرتها الحموية ، التي أبادوها بكاملها في عام (1982) ، ونجت هي لأنها فس السجن ، وشقيقها ( صفوان ) لأنه خارج سوريا .... وقتل أزلام الأسد حوالي ( عشرة ) من أفراد أسرتها ، من الأب إلى الأم ، إلى الأطفال الصغار ، والبنات الصغيرات ، في مجزرة حماة الكبرى (1982) التي عجـز المغول والتتار والصليبيون والفرنسيون على أن يفعلوا مثلها ... فلنسمع ماتقوله هبـة الدبـاغ ( واسأل الله أن يجعله في صحائف أعمالها يوم القيامة ) ... فقد قدمت وثائق نادرة وحقيقية ضـد نظام القتلة الأسـدي ...

 

تقـول هبـة الدبـاغ :

 

إبـر للعقـم . . لا لـلألم !

ومرت الأيام . . وعادت دورة الحياة المملة ومعاناتها تجثم على الصدور أثقل من الصخر الأصم . . ثم لم ألبث أن سقطت فريسة أمراض متتالية لم أعهدها في نفسي من قبل . . ووجدتني أسقط من ثم بيد طبيب حاقد من أبناء الطائفة العلوية أسوأ من قطاع الطرق . . اتخذ المرض ذريعة ليفعل بي ما لايخطرعلى قلب إبليس ! كان الدكتور سمير كما ينادونه طبيباً زائراً مكلفا بعلاج القضائيات في الأصل ، فلما ازداد عدد السجينات السياسيات وتزايدت مشاكلهن الصحية جعل يخصص بضع دقائق من وقته بين الحين والآخر لمقابلة أصحاب الحالات الشديدة منهن ، ولا يزيد عن أن يعطي أسوأهن حالاً بعض حبوب مسكنة لا تنفعهم بشيء ! وكان سميرهذا لئيماً جداً نحس أنه يعاملنا معاملة مخابرات لاطبيب وعندما نشكوله شيئاً لا يزيد عن أن يهزأ بنا ويكرر علينا عبارة واحدة بشكل آلي "ما فيكم شيء  . . حتى أننا لكثرة ما سمعنا عبارته تلك لم نعد نسأله شيئاً آخر الأمر . وكنت في البداية وعندما أخذت القرحة التي ورثتها من كفر سوسة تشتد علي آلامها قد طلبت مقابلته وشرحت له حالتي وحدثته بما أعاني ، لكنه قاطعني في نصف حديثي ولم يزد عن أن قال لي : - هذه الأعراض لا دواء لها ، وعليك أنت أن تعالجي نفسك بنفسك ! وأكرمنا الله وقتها حين بدأ قريب إحدى السجينات معنا وهو طبيب متمرن بالتردد علينا وتقديم الأدوية والعلاجات اللازمة لنا بالسر غالب الأحيان ، والتي وجدت عليها تحسناً كبيراً وبدأت أتعافى من قرحتي شيئاً فشيئاً ، لكن أعراضاً أخرى بدأت تنتابني خلال ابتداء دورتي الشهرية تصحبها آلام شديدة ، فاضطررت من شدتها مرة أن أطلب مقابلة الدكتور سمير مرة أخرى وأساله ولو نوعاً من المسكنات يخفف عني الألم ، ولم يلبث بعد أيام أن استدعى الحاجه مديحة وقال لها أنهم شكلوا لي لجنة للنظر في هذا الوجع الذي يأتيني وقرروا لي العلاج ، ووجدته يرسل لي علبة إبر أخذت اثنتين منهما بالفعل قبل أن يأتي الطبيب من جديد فتحدثه قريبته بالموضوع ، فلما سألها أن يرى الإبر وأتت بها إليه لم يصدق ما يرى ، وصاح فيها وقد تملكه الذهول : - هذه إبر للعقم لا للألم وهرع غاضباً ذهب إلى موفق السمان مدير المنطقة ورئيس السجن وحكى له ما حدث ، ومن غير أيـة مقدمات انقطع الدكتور سمير عن الحضور إلى السجن وانقطعت أخباره . . لكن أحداً لم يأت ليحقق في تلك الجريمة أو يستفسر عن حالتي . . مثلما لم يأت طبيب آخر مكانه ولم يحضروا أي بديل .

 

بــول أم دم !

ذهب الدكتور سمير إلى حيث لا أعرف . . لكن الألم لم يذهب . . والبلاء لم ينته . . وسرعان ما بدأت أحس أعراضاً مغايرة في منطقة أخرى من جسدي . . وبازدياد نوبات الألم الذي استمر شهوراً أغالبه ويغالبني حتى غلبني في النهاية تبين لي أنه التهاب الكلى . . فصار الدم يخرج مع البول مني وحصل معي استفراغ متواصل وإسهال مستمر ، ومع استمرار الظروف الصحية السيئة تفاقمت الحالة حتى فاقت أي احتمال . . وأمضيت شهر رمضان من عام 1405هـ (يونيو 84) كله على هذه الحال لم أستطع بالطبع أن أصوم يوما واحداً منه ولا حتى أن أصلي . . ولم تكن زميلاتي في المهجع يستطعن النوم من كثرة تأوهي ونحيبي ، ولم أعد أستطيع من شدة ضعفي القيام حتى إلى الحمام ، فكانت البنات يحملنني إليه حملاً . . وفي تلك الفترة انتشر الفسفس في السجن فكان ابتلاء آخر زيادة على ما أنا عليه ، وكان إذا سكنت آلامي لحظة تقدمت هذه الحشرات المقيتة لتذيقني بعضاتها طعماً جديداً من الألم ! وكانت ماجدة جزاها الله خيرا وأجزل ثوابها تسهر الليل عند طرف وسادتي لتلتقطهم عني بيديها ما وسعها الجهد والجلد . . وفي النهاية وعندما قاربت بالفعل على الموت تدخل العميد موفق السمان وسمح بإخراجي على مسؤوليته الخاصة وعرضي على طبيب مختص ، وأخذوني بالفعل بسيارة الشرطة وداروا بي في قطنا حتى وجدوا طبيبة أخصائية أمراض الكلى فحصتني وأعطتني إبرة مسكن وقالت لهم أنني أحتاج إلى تحليل ، فلما أخذوا البول ليحللونه سأل المحلل السجانة التي أخذته : - هل هذا دم أم بول . . أو أن الزجاجة لونها بني ؟ وبعد ظهور النتيجة وصفت لي الطبيبة ست إبر كل اليوم كانت تعطيني إياهم أم معقل بنفسها ، لكن أجنابي تعقرت ولم أشعر بأي تحسن . . فقامت إدارة السجن أخيراً بإرسال كتاب إلى أمن الدولة بكفر سوسة شرحوا لهم فيها حالتي وطلبوا إذناً لأخذي إلى مستشفى المواساة ، فأتت الإجابة بالموافقة المبدئية معلقة على تقرير الطبيب هناك ، ووجدتني في اليوم التالي محمولة في سيارة الشرطة إلى هناك وأنا أقرب للغيبوبة مني إلى الصحو . . وهناك وجدت جمعاً من الطلاب التفوا حولي كأنما يريد كل منهم أن يتدرب في ، وتقدمت طبيبة من بينهن فخلعت عني جلبابي وفحصتني بشكل سريع ثم أعطتني إبرة مسكن في الوريد لم أعد أحس بعدها بشيء . . وعندما استعدت وعيي وجدتني في المهجع من جديد تتحلق البنات حولي وكأنني في النزع الأخير ! وسرعان ما انتهى مفعول إبرة المسكن دون أي تحسن ، فعادوا بعد يومين أو ثلاثة وأنزلوني إلى المستشفى مرة ثانية ، وتكرر ذلك ثلاث مرات أو أربع لم أزدد فيهن إلا رهقاً وثقوباً في أوردة الساعدين ! وفي المرة الأخيرة أبلغت صديقتنا السجينة قريبها الطبيب فوجدته يستقبلني هناك ومعه أخي وابنة عمي التي كانت تتدرب في نفس المستشفى ، وقاموا فور استلامي فأخذوني إلى الطابق العلوي حيث تشتد العناية وتأخذ الفحوصات مساراً جاداً هناك . . وهناك وجدت من عجائب الأقدار أحد الأطباء يهرع إلي فينتحي بي جانباً ويسألني بانفعال : - ألست أخت صفوان دباغ ؟ قلت له :نعم . قال والكلمات ترتجف على شفتيه من التأثر والإرتباك معاً : ماذا حدث له . . ولماذا أنت مسجونة؟ ولم يدع لي الفرصة للجواب الذي لا يخفى فقال وهو دامع العينين : - معليش بيعين الله . . وأسر لي وهو يكمل فحوصاته بأنه كان وصفوان زملاء في الكلية ، وأنه لذلك سيجهد لكي يبقيني في المستشفى لاستكمال العلاج . . إذا تمكن . ولما كتب ذلك في تقريري ومضى به إلى مدير المستشفى وافق عليه شريطة موافقة الجهات الأمنية . . وبكل طيب وحسن خلق تقبل الخبر الشرطي الذي كان مكلفا بمرافقتي ، وطلب مني الإنتظار على باب المستشفى مع أخي ريثما يمضي فيحضر الموافقة من سجن القلعة .

 

فـرصـة ذهبيــة للهــرب !

مضت سيارة الشرطة ووجدتني من شدة ضعفي لا أستطيع أن أرى الدرج أمامي وأصبت بالدوار ، فجرني أخي من يدي وأنزلني وكأنني عمياء ! وجلسنا في الخارج على كرسي للإنتظار وحيدين لا رقيب علينا ولا حسيب ، عندها سألني أخي : - ما رأيك لو أهربك الآن ؟ قلت له وأنا لا أكاد أجد للحرية مع السقام والإعياء معنى : - لا أريد . . سيلقطوننا من على الحدود ويرجعوننا فيزيد بلاؤنا بلاء . ولم تمض دقائق حتى عادت سيارة الشرطة وأطل العناصر من نافذتها يسألوننا إن كنا نفضل الذهاب معهم بدل الإنتظار الممل فوافقنا . . وجعلت السيارة تخترق أحياء دمشق متجهة نحو قلعتها التي تتوسط أحياءها القديمة ، ووجدت الناس كل في شغله بين بائع و مشتري ، وطالب وعامل ، وموظف وتاجر . . كلهم غارقون في دوامة الحياة يشغلهم تأمين احتياجاتهم الأولية عن ذاك الذي يجري بينهم دون أو يبصروه أو يسمعوه . . وترهقهم مشقة الحياة عن أن يلتفتوا ليتفكروا إلى أين تمضي قاطرة الظلم بالوطن ! فلما وصلنا سجن القلعة وهرع أحد عناصر الشرطة الذين يرافقوننا بيده الأوراق يأمل أن يجد لها توقيع الموافقة ارتد بعد هنيهة مكسور الخاطر وقد نال الطلب الرفض . . لكن نفسي التي اعتادت الإحباطات باتت تتقبلها بدون انفعال . . وقفلنا راجعين إلى سجن قطنا أكمل مع نزيلات المهجعين أيام الأسر والمعاناة . . وكثف الطبيب قريب زميلتنا زياراته محملاً بالأدوية والعلاجات ، وبالمواظبة على تناولها تحسنت حالتي شيئاً فشيئاً ، وبعد مضي شهر كامل تمكنت من الخروج إلى الحمام أول مرة بدون مساعدة من أحد ، وبقيت سنتين تاليتين لا أشتغل أي شيء في الغرفة مثلما يتوجب علي ، وظلت رفيقاتي يجزيهن الله الخير يحمنني خلال ذلك ويغسلن لي ملابسي . . ويستتفدن من أية فرصة متاحة ليحضرن لي االطعام الصحي والعصير والمقويات .

 

الـولـد الضـائع

كانت حياة السجن مزيجاً من المعاناة والغرابات ، ففي هذا المجتمع الفريد تتوقع أي شيء في أي وقت ، وتقابل من أصناف المشاهد غير المعتادة ما لا يعد . . وتظل الأيام حبلى والمغيبات أسرار وألغاز حتى يحين الميعاد ! وعلى غيرميعاد وخارج كل التوقعات بدأت قصة ذلك الغلام الضائع الذي التقطه الشرطة من حي من أحياء دمشق . . وبما يفوق شتى التوقعات انتهت من غير ميعاد قصته الغريبة ! كان منظراً مؤذياً للشعور أن ترى غلاماً لم يكـد يبلغ السادسة من عمره سجيناً على غير إرادة منه في غرفة المتهمات بالدعارة !!! لكن الشرطة الذين التقطوه تائها في دمشق وضعوه هناك انتظاراً للعثور على أهله ،غير أن شهوراً خمسة انقضت دون أن يظهر له أهل أو أقارب ، وكان مما يزيد في الحسرات أن الفتى أخرس لا ينطق ولا يتكلم حتى باسمه . . فصار الجميع ينادونه أحمد . وكأنما وجدت السجينات في أحمد هذا الخادم المطيع ، فكن يأمرنه وينتهرنه ويضربنه في بعض الأحيان . . وذات مرة وأنا جالسة بعد الإفطار في رمضان اكل بعض الحلوى على شباك المهجح - وكانوا يفتحون كل المهاجع للتنفس بعد الإفطار - وجدت أحمد يقترب مني محملقاً في الصندوق وهو يمد يده ويقول : - أعطيني واحدة . لم أصدق أذني في البدء . . فطوال الشهور المنصرمة لم نسمع الولد ينطق ببنت شفة . . وها هو ذا الآن يتكلم ! فلم أتمالك نفسي ووجدتني أصيح : - يابنات . . أحمد حكى . فلما قلنا ذلك للشرطي تأثر وقال : - اتركوه إذاً عندكم . يبدو أن جو الغرفة هناك لم يعجبه.  فلما التففنا حوله وجدناه يتكلم بشكل طبيعي ، وجاءت الحاجة فسألته أول ما سألته عن اسمه ، فقال : -أحمد بدر الدين . سألته : من أين أنت أبوي ؟ قال : أنا من حماة . قالت وقد تعجبنا كلنا من الجواب : وما الذي أتى بك إلى الشام ؟ قال الفتى ومسحة انكسار جلي ترتسم على ملامحمه: أنا لموني مع الأولاد الذين لموهم في حماة بعد الأحداث وأتوا بي ووضعوني في الجامع الأموي ثم لم أعرف أين أذهب . سألته الحاجة : وأين أهلك ؟ فصار يبكي ثم قال لها : ماتوا . سألته : كيف ؟ قال : أرسلتني أمي عند أبي إلى الدكان فوجدت الحائط واقعاً فوقه وهو ميت والدم طالع منه . . ذهبت إلى البيت أبكى أريد أن أخبر أمي فوجدتها مقتولة أيضاً ! والتفت الفتى نحو الحاجة باضطراب وقال لها : لا تقولي لأحد . . إذا سمعت أحداً يذكر اسمي فهذا معناه أنك أنت التى تكلمت . . أرجوك لا تقولي لأحد  وتفهمنا جميعاً حالة الطفل وتفطرت عليه القلوب . . وصارت له الحظوة والمنزلة بين البنات . . وذات يوم وبينما كنت أخيط مرة على ماكينة يدوية كان أهل رغداء قد تمكنوا من إدخالها الى السجن بعد جهد كبيروجدته يقول لي :منشان الله شيلي هالماكينه من وجهى لا أحب أن أرى أحداً يخيط . ". قلت له : لماذا ؟ فبكى . . فجعلت الحاجة تسايره وتلح عليه حتى تكلم وقال : - لأن أمي كانت خياطة ، وكانت لديها ماكينة تشبه هذه الماكينة التي مع هبة . . وكانت أمي تضع غطاء صلاة مثلها أيضاً وتجلس لتخيط وفي مرة ثانية وكنا ننادي عاثشة بعيشة فقال للحاجة :منشان الله لا تنادونها عيشة . قالت له : وماذا تريد أن نناديها ؟ قال : نادوها أم النظارات . سألته : ولماذا ؟ قال : لأن أمي اسمها عائشة . قالت له : وأبوك . . ماذا يشتغل ؟ قال : عنده مكتبة قرآن بالحاضر . سألته :أين ؟ فوصف لها المحل وصفاً دقيقاً كأنه يراه فازددنا تأثراً عليه وتعاطفاً معه . . وجلس أحمد معنا وهو يبدع يوما بعد يوم على غير كل الأولاد . . كان ولدًا عبقرياً بالفعل . . لا توجد طبخة ولا خياطة ولا شغلة إلا وتعلمها . . وكان يؤذن أجمل أذان ويتلو القران أحلى تلاوة . . واذا دعا بعد الصلاة يقول : اللهم أنزل قنبلة على سجن تدمر! وسمع المقدم موفق السمان مدير السجن بقصة الفتى ، فلما التقآه عطف عليه وصار يأخذه معه إلى البيت فيحممه ويدلله أيما دلال ، وكان للمقدم بنت وصبي متقاربان في العمر مع أحمد ، فصار يأخذه معهما إلى المسبح ، ووضع له سائقاً خاصاً ليتنقل به بين السجن والبيت ، وأخذه مرة إلى المحل الذي يشتري منه احتياجات بيته ، لكن الولد تعلم على المكان فصار يذهب إلى  البائع وحده يقول له أعطني كذا وكذا على اسم العقيد ، ثم يضع هذه الأشياء بصندوق ويذهب إلى محطة القطار فيبيعهم فيه ويرجع إلى السجن عندنا ، فإذا حضر المقدم يسأل عليه رآه بيننا ، وإذا غاب عنا نظنه عند المقدم . . حتى إذا حان آخر الشهر وجد المسكين فاتورة كبيرة عليه لم يدر من أين ، فلما استعلم أخبره البائع أن أحمد كان يشتري على اسمه . . فسكت !

 

شــخصيتان . . وصفعتــان !

وانتشر صيت أحمد وذاع حتى بين الأهالي ، فصاروا إذا حضروا لم يغب نصيبه من الهدايا ، واذا انصرفوا تنافسوا من سيأخذه ليزور عنده . . وصار أحمد حكاية وتنعم إلى حد البطر . . وصار إذا قالت له واحدة منا : لم فعلت هذا؟ رعف بسرعة وأغمي عليه وأخذمع الأيام يحب أناساً ويكره آخرين ! ولا يتورع  أن يرمي العداوة بين واحدة وأخرى وتكشفت له قدرات رهيبة في هذا السياق . وذات مرة لم يعجبه في عائشة شيئاً ما فمضى إلى الشرطي وقال له : - عيطت علي . فانفعل الشرطي حنواً على الولد وقال لها : إذا تكررت الحادثة مرة ثانية فسأمنع عنك الزيارات ! وكأن قلبها كان دليلها بالفعل ، فلقد قالت لنا مبكراً إن لهذا الولد شخصيتان . . وهو غير طبيعي . لكن الأمورلم تتكشف حتى ظهيرة يوم كان مقررا أن يذهب أحمد فيه ليزور أقارب للحاجة في حمص ، وبينما كانت الحاجة تلبسه البوط الجديد وقد أجلسته في حضنها وقف أحد الشرطة في الخارج ونادى : - سمير جفان . فما وجدنا الولد إلا وقد تفجر الرعاف من أنفه وأغمي عليه . . فقالت له الحاجة مستغربة : - على من كنت تصيح ؟ قال لها : ألم تري كيف وقع صاحبكم على الأرض ؟ قالت له : لماذا ؟ قال : هذا ليس اسمه أحمد . . هذا اسمه الحقيقي سمير جفان . . ألم تروا صورته قبل مدة في التلفزيون ؟ وتذكرنا وقتها أنهم أعلنوا بالفعل عن ولد ضائع وعرضوا صورته ورأيناها ، ولكن أحداً لم يخطر على باله وقتها أنه هو نفسه . . وتذكرنا كذلك أنه عندما رآها حينذاك أسرع فأطفأ التلفزيون وكأنه يلعب " وبين الحيرة والعجب جعلوا يغسلون له وجهه والدم يدلق من أنفه دلقاً ، ثم لم نجد إلا رجلاً كبيراً في السن يقف على الشبك وهو يبكي ويطرق رأسه عليه . . فعلمنا أنه أباه ! وهنا دخل الشرطي فأخذ الولد للمقدم ، فلما سأله : - من علمك أن تقول أن اسمي كذا وتدعي بأن أهلك استشهدوا في الأ حداث ؟ قال له : هبـة . قال له : أكيد هبـة ؟ قال له : نعم . . أنا ما الذي يدريني ؟ هي كانت تعلمني وتقول لي إحك كذا واعمل كذا . ولم أجد إلا وقد ناداني المقدم لمقابلته ، ومن غير أن أعي ما الذي يجري نزل بي بهدلة يقول : - الله لا يعطيك العافية . . تريدي أن تسيئى إلى سمعة الدولة . . أنت حاقدة . . لئيمة . . أنا فكرتك غير ذلك . . فقالت له الحاجة مديحة التي تبعتني : طول بالك أبوي . . ماذا حدث ؟ فقال لها : هي تريد أن تنزع سمعة الدولة . . هذه حاقدة . . قلبها مليان . . سألته : لماذ ا ؟ قال لها : هي علمت الولد يقول كل هذا . . . قالت له الحاجة : تعال أقول لك . . كل البنات قربوا صوبه إلا هي لا سايرته ولا شيء . فردني المقدم إلى مكاني وقد ازداد تعجبه وحيرته . . وعادت الحاجة معي تهدئ من روعي . . فلما قابلت الشرطي أثناء رجوعنا سألته أن يشرح لها ما الذي يجري . . فقال لها : -هذا الولد يخرب بيته . . عمال يلعب علينا كلنا كبيرنا وصغيرنا ويدعي اليتم وهو له أهل . . وأضاف : وهذه أمه وهذا أبوه المسكين يقولان الآن بأنه يعمل فيهم مثل هذا الفصل بين كل فترة وفترة . . فيهرب من البيت ويختلق القصص الغريبة ليخدع بها الناس ! وهنا اقتاد المقدم الولد إلى غرفة التحقيق وسأله بحضور أبيه عمن علمه ذلك حقيقة ، فاعترف الولد أنها فعلته وحده وأنني لم أعلمه أي شيء ، فما تمالك المقدم نفسه وصفعه من الغيظ صفعتين على وجهه كادتا تقضيان عليه . . ومع ذلك فلم يغير الولد من تصرفاته أو يبدي ندماً ولا اعتذاراً . . ومضى مع أهله يقدم رجلًا ويؤخر أخرى ونحن كلنا كأننا في مشهد من مشاهد الأفلام السينمائية بين مصدق ومكذب !

 

إ فــــرا ج

كان عام 84 قد انتصف وانسلخت من العمر سنون وشهور ما عدنا نبالي حتى بعدها . . وكان يوماً عادياً كمئات من أيام السجن المملة غيره يوم أن دخل أبو مطيع مدير السجن علينا فجأة وصاح على باب المهجع : -إيمان ت .إيمان ق .عائشة ق . حليمة . . فلما التفتن إليه وتقدمن يستطلعن الخبر ألقى إليهن العبارة كالقنبلة وقال -هيا . .جهزن أنفسكن . . إفراج ! لم تستوعب البنات العبارة بادئ الأمر . . وظن أن ثمة خطأ ما . . في النقل أو في التلقي . . فلما عاد وأكد ما قال احتبست الكلمات واختلجت في الصدور القلوب . . ولم تلبث أم شيماء وايمان أن ردتا دامعتي العينين : -لا نخرج إلا مع كل السجينات . . - وتقدمت إيمان فجثت عند رأسي وكنت لا أزال مريضة وقتها وصارت تبكي وتقول لهم : -لن أخرج إلا أن تخرجوا هبة معي . فقال لها أبومطيع : - بإمكانك أن تبقي هنا على الرحب والسعة لولا أن الأمر أتى بالإفراج ، لكن بإمكانك أن تخرجي وتجلسي تنتظرينها على باب السجن ماشاء الله ! قالت له : لا لن أخرج . . لن أخرج . . ووقفت أم شيماء تبكي من جهتها وتقول لي : -كيف سأخرج وأنت لا تزالين هنا ؟ وأخيراً لم يجد إلا أن يسحبهما سحباً وهما تحاولان التشبث بالشبك وبالقضبان ولا تكفا عن النحيب حتى خرجتا . . وعلمنا بعدها أنهم أخذوهن إلى أمن الدولة في البداية ثم أفرجوا عنهن من هناك وما عدت رأيتهن بعدها . لكن خروج هذه الدفعة ثم الإفراج عن سناء بعد أسابيع قليلة وبمناسبة الحركة التصحيحية فيما أذكر أحيا فينا الأمل ، وظننا بأن باب الفرج قد فتح وأن أيام خروجنا قد دنت أيضاً . . غيرأن الأيام التالية كذبت ظنوننا . . فمات الأمل من جديد . . وعاد مزيد من السجينات يفدن علينا دفعة وراء دفعة ، فيحرك فينا الألم الراكد ، ويزيد فينا الشعور بأنها حياة ها هنا بين المهاجع والزنازين إلى الأ بد !

*كاتب سوري في المنفى

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها    

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ