ـ

ـ

ـ

الخميس 25/08/2005

سورية !

بين الانقلاب الأبيض- والدمار الأسود

عبد الحميد حاج خضر*

في افتتاحية القدس العربي في 8/8/2005 كتب الأستاذ عبد الباري عطوان مرحباً بالانقلاب الأبيض الذي وقع في جمهورية موريتانيا الإسلامية قائلاً: "ألقي الانقلاب العسكري الموريتاني الأبيض صخرة كبيرة في مؤسسة القمة العربية الراكدة المتعفنة. واثبت أن تغيير الأنظمة الدكتاتورية ليس شرطاً أن يتم من خلال قوات الغزو الأمريكي، مثلما هو حادث في العراق، وإنما من خلال قوي داخلية حية تضع مصلحة البلاد فوق كل الاعتبارات الاخري."- وهذا لعمري رأي حصيف؛ تمليه الضرورات والظروف غير الطبيعية في العام العربي والإسلامي، فليس من الطبيعي أن تكون طبيعياً في ظروف غير طبيعية. العالم العربي يعيش بين مطرقة العدوان وسندان الطغيان وليس من بارقة أمل لزوال هذا الكابوس في القريب المنظور، فأمريكا التي ترفع لواء الديمقراطية كقميص عثمان؛ للوصول إلى هيمنة أكثر إحكاماً أو فوضى أكثر إيلاماً أو ابتزازاً لسدنة السلطة وأحلاس الوظائف الذين يتبضعون بأنواع الشعارات وسخيف التبريرات.

 لقد كان موضة أو تقليعة عند أنصاف الساسة وأرباع المثقفين نسب الاستبداد والطغيان والفساد إلى (العسكر) دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة البحث في بنية الأنظمة الشمولية نشؤاً وارتقاءً، فلينين لم يكن عسكرياً، وكذلك رفيق دربه تروتسكي وخليفتهما ستالين، وكان هتلر موظف جمارك، وكان صدام عشائرياً مغامراً وحافظ الأسد نصفه عسكري والنصف الأخر طائفي عشائري متآمر. أما ديغول العسكري فقد أنقذ فرنسا من براثن الاحتلال وسلم بإرادة الاستقلال للشعب الجزائري، كما عاد سوار الذهب بالسودان إلى المسار الديمقراطي.

 إن المؤسسة العسكرية الوطنية، كأي مؤسسة من مؤسسات الدولة، لا تخلو من الشواذ والنشاز، ولو أمعنا النظر بمعظم الشواذ والنشاز، الذين أفسدوا المؤسسة العسكرية، نجدهم ينحدرون من أجهزة المخابرات في هذه المؤسسة، فأفراد هذه الأجهزة غالباً ما يكونوا من نسيج خاص يجمع بينهم ومن انتدبوهم لهذه المهمة أنهم جميعاً: همازون مشاءون بنميم، مناعون للخير، معتدون وآثمون ثم بعد ذلك- كل واحد منهم عتل وزنيم.

 حتى إذا أطلق لهم العنان يتحسسون ويتجسسون، وغالباً على زملائهم، تنطلق غرائزهم الخسيسة: الحسد والغيرة وحب الانتقام، الذي جبلوا عليها، ليشفوا غليلهم ممن جبوهم وتقدموهم في الفهم والدراية والكفاءة- ينتقمون لضعتهم وبلادتهم بالغدر والعدوان، ويكون للساسة المتآمرين سدنة وخدم؛ ليكون بدورهم عبيداً مأمورين، فتتماهى السياسة بالتجسس والتجسس بالسياسة.

 إن العسكري الذي يحترم قدسية المهمة وشرفها وأصول المهنة ورتابتها- يربأ بنفسة أن يضطهد شعبه فضلاً أن يسومه خسف العذاب؛ لأنه يعلم من أصول مهنته: أن قوة الجيش وأسباب صموده نابعة من عزة وأنفة شعبه، وقد نظّر لهذه الحقيقة، التي لا مراء فيها، الجنرال البروسي كلاوزوفيتس في كتابه(من الحرب) عندما قال: العسكري الاستراتجي الذي يريد أن يكسب المعركة- يجب أن يقدر بدقة البعد المعنوي لشعبه وشعب عدوه، ويسعى إلى رفع معنويات جيشه وشعبه. من هنا ندرك- أي جريمة في حق الجيش والشعب ارتكبها الطغاة عندما جعلوا أعزة وسراة القوم أذلة تتخطفهم أجهزة القمع والتعذيب؛ تنهش من كرامتهم وتستطيب الولوغ في دمائهم.

لقد أصبحت هذه الأجهزة غولاً مخيفاً ليس للشعب فحسب، الذي جعلوه فرقاً وشيعاً ونحل يكيد بعضها لبعض، بل لصاحب السلطة نفسه؛ تتوعده بالثبور وعظائم الأمور إذا عصى لها أمراً، حتى أصبح الطاغية نفسه طوع أناملها القذرة ومخالبها الكاسرة. الأنموذج العيني لهذا الغول المخيف هي: أجهزة المخابرات القمعية، عسكرية أو مدنية، في سورية، التي بلغ ما ينفق عليها من الميزانية العامة أزيد من 30%، وتمتلك من الوسائل والتقنيات ما يفوق كل ما لدى الوزارات مجتمعة، بما فيها وزارة الدفاع، بالإضافة إلى وسائل التعذيب الحديثة والقديمة. لقد ’بنيت هذه الأجهزة القمعية على أنقاض أجهزة المباحث التي كانت من "مكاسب" الوحدة بين مصر وسورية عام    1958فكانت أكبر طعنة نجلاء لمشاعر الوحدة الصادقة عند عموم الشعب السوري، ووصمة عار في جبين من مكن لها وقننها.

 عادت هذه الأجهزة القمعية، بعد انقلاب الثامن من آذار، للفعل دون رد فعل؛ مبررة وجودها بالقوانين العرفية وحماية "الثورة" من الإقطاع والرجعية، وبدأت البؤر الفاسد تنتشر في كل منحى من مناحي الحياة، وفي كل قطعة من قاطعات الجيش.

حافظ الأسد نفسه! بدأ نشاطه "الثوري" بعد الثامن من آذار في قاعدة ضمير الجوية، فتخذ من أحد العنابر سجناً، بعد أن بث الجواسيس والمخبرين يصطاد بهم كل من يخالفه الرأي أو يتشكك في نوايا الانقلابين بإعادة الوحدة بين سورية ومصر، وكانت أساليبه مذلة ودنيئة، وتتناقض مع شرف المؤسسة العسكرية، فقد كان يأمر الجنود بالتبول على زملائه، الذين كانوا بالأمس القريب يتوثبون ويستعدون لملاقاة العدو والنيل منه؛ حتى الأجهزة القمعية النازية كانت تتعامل مع المتآمرين في حالة تنفيذ العقوبات بما يتفق والأصول العسكرية المتبعة حفاظاً على شرف المؤسسة العسكرية. لقد استشرى صناعة هذه البؤر الفاسدة وغرسها في كل مرفق من مرافق الحياة العسكرية والمدنية حتى أصبح في كل ركن أركان البلاد ناكر ونكير.

 لقد كان الشغل الشاغل لحافظ الأسد وأعوانه من صغار الضباط، قبل أن ينقض حافظ الأسد وأزلامه على السلطة فيما أطلق عليه الحركة التصحيحية، زرع الأعوان والأتباع في تلك البؤر الفاسدة، حتى وقع الشعب السوري بكل فعالياته السياسية والفكرية بين حجري رحى السلطة التي صممها حافظ الأسد لتدور حول قطبها الأوحد "القائد الخالد"، فأجهزة القمع والتحسس والتجسس على الشعب كانت تمثل حجر الرحى السفلي للسلطة تجثم على أرض الوطن لتخمد أنفاس المواطن، وكان حجر الرحى العلوي أجهزة التضليل والتطبيل تنشر الجهالة والوثنية، مدعية بالمظهرموتهنة بالجوهر: تلهث بحمد رجل لا يعرف من السياسة إلا نفسه المتآمرة والأمارة بالسوء وحب الانتقام، وبث العداوة والبغضاء بين أبناء الشعب الواحد. هل تغير في عهد الرئيس الابن شيئاً ؟

قبيل انعقاد المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي، ألقي بشار الأسد كلمة على كبار الضباط تجاوز عددهم 1500 - يعدهم بالحفاظ على الجيش "العقائدي" فأي عقيد يعني ؟ أ هي الوحدة والحرية والاشتراكية التي جعلها والده بخبر (كان) ؟ أم التصدي والصمود في وجه الصهيونية والامبريالية وهو يتلمس يد كستاف ليصافها، ولولا عيون الكمرات لبادر يلثمها كما فعل مجنون ليلى:

أمر على الديار ديار ليلى                أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حب الديار(الجولان) شغفن قلبي   ولكن حب من سكن الديارا(راحيل وشالوم)

لن تمتد يد الشعب وسراته ومفكريه وساسته، بعد اليوم، إن شاء الله، لمصافحة من صافح رأس العدوان والهمجية. لن تمتد يد الشعب لمصافحة القتلة والجلادين، ولكنها ستلتهب بالتصفيق لكل حر شريف من أبناء القوات المسلحة يبادر لوضع حد للتري والانبطاح الذليل.

 كفى هدراً لكرامة الإنسان وإفقاراً للأوطان !. إن 5,3 مليون مواطن لا يجد ما يسد به رمقه، والبلاد تعج بالكوارث الصحية والنفسية والبيئية والعمرانية. لم تعد هناك مرافق عامة ينتفع منها المواطن، إن حوادث السير المفجعة أصبحت الأعلى في العالم. ألم يسمع الطغاة والمفسدون بمقالة عمر بن الخطاب(رض): لوعثرت بغلة على الفرات لكنت مسؤول عنها- لما لم أعبد لها الطريق؟ وقد أخذت الدولة العصرية بهذه الحكمة، فأوجبت غرامة على الدولة؛ عندما يكون من أسباب حادث السير إهمال مقصود أو غير مقصود لمرافق السير.

 أما وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج فيعود في مجملها إلى القرن التاسع عشر، فالمعامل متاحف أثرية متخلفة وعلاقات الإنتاج- علاقات ابتزاز وعبودية لا مجال للتعاقدية والنقابية، فالنقابات هرمية البنية- يتربع على رأس الهرم حزبي أحمق أو كذاب أشر يتملق ويتسكع على أعتاب أجهزة القمع والإذلال.

لن يغامر مستثمر واحد أن يستثمر ماله في غابة اللصوص ومرتع المفسدين، فمن بديهيات ومسلمات الاستثمار أن تدرس البنية الحقوقية والقانونية للدولة التي يراد الاستثمار بها، فيكلف من أهل الاختصاص من يقوم بذلك.

 ماذا يجد المستثمر سورياً كان أم عربياً أم أجنبي ؟ قضاء فاسد، وحارس سارق، ومدير كاذب، وسلطان جائر، ومصرفي مختلس، وعامل جائع حاقد، وفوق كل هذا وذاك مخبر حقير يلفق له التهم ليساق من قبل عناصر الدهم إلى أقبية التعذيب وغياهب السجون، كما وقع للأستاذ رياض سيف. أ افتراء ما نكتب ونقول؟

ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ       زغب الحواصل لا ماء ولا شجر

ماذا تقول الطغمة الحاكمة، التي وقف الملك فيها مطرقاً خزيانا. 5,3 مليون يعيشون تحت خط الفقر- 60% منهم في المحافظات الشرقية والشمالية (الجزيرة، دير الزور، الرقة وحلب) حيث السهول الخصبة والغلال الوفيرة ومنابع النفط الغزيرة.

ماذا تقول الطغمة الحاكمة لأهل حمص الطيبين؟ وأمراض السرطان تفترس شيوخهم وشبابهم وفلذات أكبادهم؛ لأن مصفاة حمص، التي بناها التشكك في الستينات، تقذف بحمم الموت السرطاني من مداخنها التي تخلو من العوادم أو المصفيات (الفلتر). إن أعلى نسبة إصابة بالأمراض السرطانية، في العالم، هي في مدينة حمص. المدينة التي تمنى الشاعر المهجري أن تكون مثواه الأخير؛ "وجعل ضريحي من حجارة سودي".

ماذا تقول لأبناء السويداء وجبل العرب الأشم الذين يتساقطون قتلى وصرعى وجرحي في حوادث السير، لسوء الطرقات ورداءة المركبات، وهم الذين تصدوا بصدورهم وبنادقهم العتيقة يبنون لسورية استقلالها الناجز. أتدري أيها "الرئيس" ماذا قال شوقي أمير الشعراء بهم؟نعم قال بهم:

وما كان الدروز قبيل شر          وأن أخذوا بما لم يستحقوا

ولكن ذادة، وقراة ضيف           كينبوع الصفا خشنوا ورقوا

أما أبناء اللاذقية، الذين أوحيتم لهم، زوراً وبهتاناً، أنهم أهل السلطة والسلطان، وسقتم أبنائهم إلى جندية بلهاء تفسد أخلاقهم وتعلمهم الشراسة والطاعة العمياء ورذية الاتكال، تميت النشاط وفكر الاستقلال، وتوريطهم بجرائم القتل والاغتيال؛ حتى إذا قام منهم من يكشف لعبة الشيطان هذه؛ كلتم له العذاب ضعفين، كما حدث لشاعر سورية الفذ بدوي الجبل، والاقتصادي اللامع عارف دليلة، والمفكر المناضل فاتح جاموس، والقانوني البارع محمد الفاضل، والقائمة طويلة والعقوبات مريرة.

أما أهل حماة المجاهدة ! ماذا فعلتم بهم ولماذا؟ وأي ذنب اقترفوه؟ أ لأنهم كانوا يمثلون الحمية والنخوة العربية الأصلية، وأول من رفعوا صوتهم في وجه الطغيان والفساد- أم لجريمة أخرى كنتم قد نسجتم خيوطها مع الصهاينة والأمريكان لإخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان؟ أيها "الرئيس" لقد قتل أباك وعمك ومن هو حولك الآن أكثر من 20 ألف مواطن في حماة وحدها وهدمت البيوت والمساجد والكنائس، وأحسب لهذه الفعلة هذه قد كوّرت السماء، وكأني بسورة البروج نزلت للتو من السماء: والسماء ذات البروج. واليوم الموعود. وشاهد ومشهود. قتل أصحاب الأخدود. النار ذات الوقود. إذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود. وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد.

إن القتل والبؤس والفاقة والنكبة في سورية لهم سيرة وتاريخ. نضعها أمام الشباب والشرفاء من ضباط وجنود جيشنا الوطني بأمانة وصدق- لا ليحكوا فقط أي الفريقين أصدق قولاً وأحسن عملاً، فالجيوش الوطنية لم تبنى لتفسير التاريخ وإنما لكتابة أسفاره، وتسطير صفحات من العزة والكرامة ولأمن، وإن دفع الفتنة وإيقاف عجلة التردي والانحطاط لمن، يملك العزوة وقدرة التغير، واجب ومروءة، وكما قال الشاعر:

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه       لا يذهب العرف بين الله والناس

أما الذين سرقوا رزق العيال ثم فروا به، يورو ودولار، إلى البنوك الفرنسية والسويسرية- يضنونها ملجأً أمنناً، ومرتعاً خصباً لملاذهم الخسيسة، فبشرهم بخزي عظيم، فلن يستطيعوا استنقاذ إلا النذر اليسير منها، فإن بنو اللقيطة من صرافة الذهب من فرنسيين وأمريكيين سيستحوذون عليها بأنواع الحيل " القانونية" التي لا قبل لهم بها. إنها مبالغ عظيمة (80 مليار دولار) تسيل لها لعاب كل جبار عنيد. لقد منعوا الشعب حقه بالتنمية والرفاه، وباءوا بلعنة الشعب وغضب الله- إن كانوا به يؤمنون، وسيعودون بخفي حنين. وأستودع الله القارئ الكريم بقصيدة صاغها أمير الشعراء شوقي؛ نضارع بها النكبات التي مرت على سورية أيام الاحتلال الفرنسي، فهزت ضمير الأمة، ولو كان شوقي أو بدو الجبل بين ظهرانينا- لماتا كمداً، لأن نكبة دمشق آنذاك تعد غيض من فيض مما حل بسورية وأهلها على يد هلاكو تيمورلنك ممن يدعون العربة.

نكبة دمشق

الشاعر: أحمد شوقي

*باحث في الفقه السياسي الإسلامي المعاصر / ألمانيا- بوخوم

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ