لقاء
                        لا أنساه .. في أقبية السجون (5-6-7-8)
                        
                         
                        (5)
                        
                         
                        د.هشـام
                        الشـامي
                        
                         
                        لقد فهمت الآن معنى
                        هذا البكاء الشديد الذي بكاه
                        صاحبي بعد سماعه لقصتي ؛ و فهمت
                        معنى ذلك الشعور الغريب الذي
                        انتابني عندما دخل عليّ في
                        الزنزانة و كأني أعرفه من قبل ؛
                        فقلت له: 
                        
                         
                        - الآن تذكرت أين
                        رأيتك من قبل ، لقد رأيتك في
                        الصور مع أخي أحمد ؛ ما زلت
                        أحتفظ بكل ممتلكات أحمد ؛ ثيابه
                        العسكرية و المدنية ؛ بدلته
                        العسكرية التي لبسها في حفل
                        التخرج مع تلك الطاقية العسكرية
                        الطويلة و التي تحمل ريشة ضخمة
                        في مقدمتها ؛ ألبوم صوره منذ
                        دخوله الكلية إلى يوم استشهاده
                        و خاصة رحلته إلى الإتحاد
                        السوفيتي ؛ حيث كنتم ترتدون
                        الثياب الصوفية السميكة ؛ و
                        تضعون الطاقية الروسية المميزة
                        ؛ و تلعبون بالثلج و تتضاربون به
                        ؛ و صوركم مع مدربيكم الروس ؛
                        إضافة إلى دفتر أشعاره حيث
                        يتغنى بحب الوطن و يفتخر بأنه
                        جندي من جنود الوطن و يتشرف
                        بالدفاع عنه ؛ و رسوماته
                        المعبرة عن حبه لعمله و التي
                        تكاد تقتصر على تصوير أنواع
                        الطائرات السورية و العدوّة ؛ و
                        روعة ركوب الطائرة و عظمة
                        ملاقاة العدو في الجو ؛ و دفتر
                        ذكرياته و الذي دوّن فيه كل
                        الطلعات و المعارك و المواجهات
                        التي التحم فيها مع العدو و كل
                        الأحداث الهامة التي وقعت معه
                        خاصة منذ سافرتم إلى موسكو و حتى
                        استشهاده في حرب الاستنزاف التي
                        تلت حرب تشرين ؛ كتبه و شهاداته
                        و رتبه العسكرية و نياشينه ، لا
                        زالت غرفته مقفلة و خزانته
                        مليئة بثيابه العسكرية ؛ و قد
                        زيّنتُ جدرانها بصوره التي تلخص
                        مراحل حياته منذ كان طالباً في
                        الابتدائية إلى أخر زيارة زارنا
                        بها قبل استشهاده رحمه الله ؛ و
                        يومها طلب من أختي أن تصورنا
                        جميعاً و نحن نتناول وجبة
                        الغداء الشهية ؛ و بعد أن انتهى
                        من غدائه ودعنا وداع مفارق و
                        قبّلنا جميعاً و قبّل يديّ أمه و
                        أبيه و خرج و هو يتلفّت إلينا و
                        نحن نغص بالبكاء ؛ و بعد أن خرج
                        من باب المنزل عاد من جديد و
                        انكب على يدي أمه و أبيه و هو
                        يقول لهما : سامحاني و أرضيا عني
                        و ادعيا لي ، ثم التفتَ إليّ و
                        حملني إلى صدره و قبلي و هو يقول
                        : لا تنسَ الأمانة يا أحمد ، ثم
                        سار و هو يقول : أشعر أنني لن
                        أراكم بعد الآن ، و تركنا جميعاً
                        نجهش بالبكاء ؛ و ندعو له
                        بالسلامة و النصر . و ما زالت أمي
                        حتى الآن و بعد عشر سنين على
                        استشهاده ؛ تدخل غرفته كل صباح
                        تكنسها و تنظفها و ترتبها و تمسح
                        الغبار عن أثاثها و ترتب فراشه و
                        تجلس تتأمل صوره و تكلمه و
                        دموعها تنهمر على وجنتيها و
                        كأنه أمامها ؛ حتى يظن الغريب
                        أنها قد جُنّت ؛ و ما إن تخرج و
                        تقفل باب الغرفة حتى تعود إلى
                        حياتها و بيتها كما كانت ؛ مثال
                        الحكمة و الرزانة و الاتزان . ما
                        زلنا جميعاً نذكره في سائر
                        أحوالنا و معاشنا و كأنه ما زال
                        يعيش بيننا ؛ فهذا الطعام يحبه
                        أحمد ؛ و هذه الفاكهة يفضلها
                        أحمد و هذا اللون يكرهه أحمد ؛ و
                        هكذا كل شيء في حياتنا له فيه
                        أحمد نصيب . 
                        
                         
                        - و الله يا أبا
                        الوليد لا يغيب أخاك عن بالي حتى
                        الآن ؛ ما زلت أحنّ إلى تلك
                        الأيام الخوالي التي قضيناها
                        معاً و خصوصاً في غربتنا عن
                        الوطن ؛ ما زلت أذكره و أذكر كل
                        رفاق السلاح الذين كانوا مثال
                        الأخوة و الشهامة ؛ و لعلمك فإنه
                        لم يبقَ على رأس عمله من الدفعة
                        التي سافرت معنا إلى موسكو– و
                        كانوا عشرين طياراً – سوى مقدم
                        واحد غيري ؛ فاستشهد عشر ؛ و
                        سُرح ستة ضباط لأسباب مختلفة (
                        سياسية و صحية ) و حوّلوا اثنان
                        إلى أعمال مكتبية في دوائر
                        حكومية .
                        
                         
                        - الله أكبر من
                        عشرين لم يبق سوى واحد فقط على
                        رأس عمله ؛ و ها أنت هنا ؛ و لكن
                        لماذا أنت هنا ؟.
                        
                         
                        - قصتي غريبة عجيبة
                        تشبه قصتك ؛ و تختصر قصة وطن
                        تحكمت به طغمة فاسدة أنانية
                        مريضة ؛ فأفسدته و حوّلته إلى
                        مزرعة خاصة ؛ بعد أن كان وطن
                        لجميع أبنائه ؛ و سيطرت سطوة
                        المخابرات و دولة العصابات و
                        الأنفس الجبانة الجشعة على كل
                        شيء ؛ فأصبح الرجل يخاف من زوجته
                        ؛ و الأخ من أخيه ؛ و الأب من
                        ابنه ؛ و الجار من جاره ؛ و
                        انعدمت الثقة و الألفة و المحبة
                        و الرحمة بين الجميع ؛ و انتشرت
                        ثقافة الخوف و الصمت و الكذب و
                        الخداع و النفاق و الرشوة و
                        المحسوبية ؛ و أصبح المجتمع
                        مريضاً ؛ و الدولة فتونة ؛ و
                        السلطة بلطجة ؛ و الناقد لهذا
                        الوضع الشاذ خائناً ؛ مما كرّس
                        دكتاتورية الحاكم ؛ و عبودية
                        المحكومين ؛ و ألغى مهمة الجيش
                        الأساسية ؛ الذي لم يعد يستطيع
                        أن يدفع عدواً ؛ أو يمنع معتدياً
                        ؛ أو يرد غازياً ؛ و اقتصرت
                        مهمته على حماية السلطان و
                        التسبيح بحمده و إسكات
                        المواطنين و إرهابهم ؛ مقابل
                        مكاسب دنيئة لبعض الضباط
                        المتحكمين برقاب المجندين
                        الذين أصبحوا خدماً عند سادتهم
                        و زوجات سادتهم و أبنائهم . فأنا
                        ؛ كما هو حال أخيك أحمد و بقية
                        رفاق سلاحنا ؛ دخلنا الجيش لكي
                        ندافع عن الوطن و نحمي حماه ؛ لا
                        أن ندافع عن الظلم و الطغيان و
                        الفساد ، لندافع عن وحدتنا
                        الوطنية و نصونها و نمتنها ؛ لا
                        لندافع عن زمرة متحكمة مزقت
                        البلاد و ظلمت العباد و زرعت
                        بذور الطائفية المقيتة ، فقد
                        كنا نتعامل معاً في موسكو أثناء
                        غربتنا ؛ و في الوطن بعد عودتنا
                        ؛ كأخوة تجمعنا سوريا الأم ؛ و
                        لا يفرق بيننا عرق و لا طائفة و
                        لا عشيرة و لا منطقة ؛ ليأتي
                        أمثال المساعد الطائفي المريض
                        الذي اتهمك باطلاً و زوراً
                        ليرميك في السجن و أنت ابن
                        السابعة عشر من عمرك ؛ و يدفن
                        هنا أحلامك و وطنيتك و حماسك و
                        اندفاعك إلى الأبد - أو هكذا
                        يعتقد على الأقل - ، هذه الأمراض
                        الطائفية و الأحداث الأهلية
                        التي سمعت عنها قبل أن تدخل
                        السجن و سمع عنها كل السوريون لم
                        نكن نعرفها قبل تسلط هذه الزمرة
                        المريضة على رقابنا ؛ فأنا
                        مثلاً أعمامي أصلهم من منطقة
                        حارم شمال سوريا ، و أخوالي
                        أصلهم من ريف طرطوس ؛ و تزوج
                        والدي السنّي من أمي العلوية
                        بلا حرج و لا مشاكل ؛ و سكن في
                        مدينة حلب ؛ و كثيراً ما اجتمع
                        أخوالي و أعمامي في بيتنا و
                        تناقشوا و تجادلوا و اختلفوا و
                        تقاطعت أفكارهم و تلاقت آراؤهم
                        ثم افترقوا بلا حقد و لا تخوين و
                        لا تكفير ؛ أما الآن و بعد أن
                        أصبح الانتساب للجيش على الهوية
                        الطائفية و العمل في الأمن على
                        الهوية الطائفية ؛ و القتل في
                        حماة و حلب و إدلب و اللاذقية و
                        باقي المدن السورية على الهوية
                        الطائفية و حتى أصغر الأمور و
                        أحقر الوظائف تدخلت بها الهوية
                        الطائفية ؛ فلا أظن - و للأسف
                        الشديد- أن أعمامي و أخوالي
                        سيجتمعون في مكان واحد بعد الآن
                        . أما عن قصتي فهي كقصص كل
                        السوريين المسجونين اليوم ؛
                        سواء داخل السجون و المعتقلات ؛
                        أو خارجها على امتداد السجن
                        الكبير سوريا ؛ فمنذ حوالي
                        ثمانية أشهر كنت في إجازة
                        أقضيها عند أهلي في حلب ، و زرت
                        أحد أخوتي في مكتبه العقاري
                        الخاص وسط المدينة ، و كان اليوم
                        خميساً و الوقت عصراً ؛ و رأينا
                        بعض طلاب الكلية الجوية بلباسهم
                        المميز يمرون من أمام المحل و هم
                        منصرفون لأجازة نهاية الأسبوع ؛
                        و رأيت بأم عيني أحد الطلاب و هو
                        يتحرش بإحدى الفتيات في الشارع
                        العام أمام والدتها ، و عندما
                        غيرت وجهتها لتهرب من طريقه لحق
                        بها و قام بقرصها من فخذها ؛
                        فصاحت ألماً و هي تبكي و تستغيث
                        لشرفها و عفتها ؛ و أمها تصرخ و
                        تدعو عليه ؛ فتفجرت النخوة في
                        شراييني ؛ و انتفضت قائماً و
                        ركضت نحوه و صرخت فيه و أنا
                        ألطمه بكفي على وجهه : عيب عليك ؛
                        احترم البدلة اللي لابسها . فوقع
                        صريعاً على الأرض من شدة ضربتي ،
                        فقام و هو يصرخ و يقول : ليش عم
                        تضربني ؟ مين إنت حتى تضربني ؟ .
                        و كنت بلباسي المدني ؛ فقلت له :
                        أنا المقدم الطيار نبيل شاهين ؛
                        عطيني اسمك و انشاء الله بدي
                        علمك الأدب و كيف تحترم بدلتك
                        العسكرية ؟ ! . فأعطاني اسمه و
                        قلي : روح بلّط البحر ؛ و رح نشوف
                        مين بدو يربي التاني . و اتصلت
                        بعدها بمدير الكلية و كان
                        صديقاً قديماً لي ؛ و أعطيته اسم
                        هذا الطالب ؛ و شرحت له ما حصل
                        بالتفصيل ؛ فوعدني أن يعاقبه
                        أشد العقاب ؛ و قال لي : سأتصل بك
                        لاحقاً لأخبرك ماذا حصل . و
                        انتظرت أكثر من أسبوع ؛ لكنه لم
                        يتصل ؛ فبادرت بالاتصال به ،
                        فقال لي : أنصحك أن تنسى الموضوع
                        ؛ لأن الطالب ليس سهلاً ؛ و عمه
                        ضابط كبير في المخابرات الجوية
                        ؛ و مقرب جداً من محمد الخولي (
                        رئيس المخابرات الجوية ) . فقلت
                        له : لقد ازداد حرصي على معاقبة
                        هذا الطالب ؛ حتى يتعلم أن يحترم
                        الناس و يحترم بدلته العسكرية ؛
                        و إذا تجاوزنا عن عقابه هذه
                        المرة خوفاًُ من عمه فسيتطاول
                        على المواطنين أكثر من ذي قبل ؛
                        فإذا كان بهذه النفسية
                        المتعجرفة من الآن و هو ما زال
                        طالب ضابط ؛ فكيف سيكون عندما
                        يصبح ضابطاً ؟ . فأجابني : لقد
                        وعدتك بمعاقبته ؛ و عندما أمرت
                        بسجنه ؛ جاءني اتصال من فرع
                        المخابرات الجوية ؛ و طلب مني
                        إطلاق سراحه فوراً ؛ و عندما
                        شرحت للمتصل وجهة نظرك ؛ قال لي
                        بالحرف الواحد : أصلاً هالمقدم
                        قليل أدب ؛ و نحن منعرف كيف
                        نربيه . و أخيراً طلب مني صديقي
                        مدير الكلية الجوية أن أنسى هذا
                        الموضوع حرصاً و خوفاً على
                        مصلحتي . و بعدها بأقل من شهر تم
                        استدعائي إلى فرع المخابرات
                        الجوية ؛ و تم توجيه التهمة لي
                        بأنني أنتقد السياسة السورية
                        الحكيمة!؛ و أحرض ضد قيادتها
                        الوطنية و القومية الرشيدة ؛ و
                        خصوصاً في عدم الرد على العدوان
                        الإسرائيلي على لبنان في السنة
                        الماضية ؛ بعد أن قصفت إسرائيل
                        قواتنا و دفاعاتنا الجوية و
                        راداراتنا في لبنان و أسقطت عدة
                        طائرات لنا في المجال الجوي
                        اللبناني ؛ و مع ذلك لم تقم
                        قواتنا بأية محاولة للردّ ؛ و
                        اكتفى وزير دفاعنا بتصريحه
                        المعتاد في مثل هذه الحالات :
                        إننا نحتفظ بحق الرد على
                        التجاوزات الإسرائيلية في
                        الوقت المناسب . و أثناء التحقيق
                        لم يخف أحد المحققين السبب
                        الحقيقي لاعتقالي عندما قال لي
                        خلال جلسة التحقيق بكل وضوح : 
                        
                         
                        - عامل حالك شريف يا
                        عرص ؛ و عمتضرب طلاب الكلية
                        الجوية أمام الناس ؛ وين
                        المشكلة إذا سَمّعلو بنت حلوه
                        كم كلمة ؟! ، كلنا كنا شباب و كنا
                        متلوا ، ولاّ هنت كنت شريف مكة ،
                        و الله لربيك و خليك تعرف كيف
                        تتجرأ على ساداتك 
                        ........
                        
                         
                        ---------------------
                        
                         
                        لقاء
                        لا أنساه..في أقبية السجون-6
                        
                         
                        د.هشـام
                        الشامـي
                        
                         
                        كان المقدم نبيل
                        شاهين ( أبو سمير ) يشرح مأساته و
                        معاناته و الدمعة تنحصر بين
                        لحظيه حسرة و ألماً لما آل إليه
                        حال هذا الوطن العزيز ؛ و كنت لا
                        أحب أن أقاطعه لأنني تأثرت
                        كثيراً بكلامه و تفاعلت معه
                        بشدة ؛ و شعرت و كأن أخي الشهيد
                        أحمد - يرحمه الله - يعطيني
                        دروساً في الوطنية و الأخلاق و
                        الشهامة ، و كان المقدم نبيل
                        يتوقف عن الكلام و يستريح
                        قليلاً و يستنشق نفساً عميقاً
                        من جو هذا القبو الكئيب ليتابع
                        حديثه و ينفّس عما في داخله من
                        ألم و حسرة و كبت . و تابع أبو
                        سمير حديثه لي قائلاً :
                        
                         
                        - كانوا يتفننون في
                        تعذيبي و إهانتي ؛ و كأنهم
                        يكافئونني عن خدمتي لهذا الوطن
                        بتلك الإهانات التي كانت تؤلمني
                        أكثر من آلام الكرباج المطاطي
                        السميك و عصي الخيزران 
                        و الكبلات الحديدية ؛ كانوا
                        يصرون على أن أقول سيدي لكل عنصر
                        منهم ؛ فتصور كيف يكون شعوري ؟
                        عندما يسألني عنصر مجند حقير
                        مثل أبي كنان : شو رتبتك ولا ؟ ،
                        فأجيبه : مقدم طيار سيدي ،
                        فيضحكون مبتهجين و منتشين و
                        كأنهم حرروا فلسطين من النهر
                        إلى البحر ، و أكثر ما أثر بي و
                        جعلني أضعف أمامهم و أنهار
                        عندما هددني المقدم رئيس
                        التحقيق قائلاً : بدك تحكي متل
                        ما بدنا غصب عنك ولا ؛ أحسن ما
                        جيب مرتك هون و نيـ.. قدّامك . و
                        شعرت و كأن خنجراً مسموماً قد
                        غرزه عميقاً في صدري بهذه
                        الكلمات ؛ فهذه النفوس المريضة
                        لا تتورّع عن فعل أي شيء أبداً ،
                        و وددتُ لو أهجم عليه و أمسك
                        بتفاحة رقبته و أغرز أصابعي بها
                        عميقاً بكل ما أوتيت من قوة ؛
                        لكنني تذكرت أن يديّ مكبلتان
                        بالأصفاد خلف ظهري ؛ و لا أستطيع
                        أن أفعل أي شيء ؛ و لا أملك من
                        أمري حتى أن أرد عليه ، ما أصعب
                        أن تشعر بالذل و الإهانة ؟! و أنا
                        الذي كنت أشعر أنني أملك الأرض و
                        السماء عندما أحلق بطائرتي
                        المقاتلة في الفضاء ، و تيقّنت
                        أنهم لن يعيدوني إلى عملي أبداً
                        حتى إذا أخرجوني من هذا السجن ؛
                        لأنهم يعرفون ما أجرموا بحقي ؛ و
                        أنني لا بد سأنتقم لكرامتي و
                        كرامة الوطن و شرفي و شرف الوطن
                        مهما طال الزمن ، هذا الوطن الذي
                        استباحوه بنذالتهم و وضاعتهم و
                        حقارتهم و طائفيتهم ؛ حتى أنني
                        بدأت أشعر أن مجزرة بحجم مجزرة
                        مدرسة المدفعية التي حصلت قبل
                        حوالي أربع سنوات في حلب ما هي
                        إلى ردّ فعل طبيعي لما ترتكبه
                        الحكومة من تمييز و جرائم بحق
                        هذا الوطن ... و هنا قاطعته
                        قائلاً : 
                        
                         
                        - و لكنها جريمة لا
                        أستطيع تصورها و تقبلها ...
                        فقاطعني قائلاً : 
                        
                         
                        - صحيح .. صحيح.. لا شك
                        أن الذين قُتلوا في هذه المجزرة
                        لا ذنب لهم ؛ و لكن تصرف الدولة
                        الطائفي و انحيازها الواضح
                        لطائفة ضد بقية الطوائف و
                        الاثنيات التي تشكل نسيج الوطن
                        الجميل بتنوعه و تناسقه ؛ جعلت
                        بعض الشباب المتحمس و المكبوت
                        يرد بهذا الشكل الطائش ؛ فهو لا
                        يملك وسيلة أخرى ليعبر عن رفضه
                        لهذا الواقع الشاذ ، هل يستطيع
                        أحد في هذا الوطن أن ينتقد سياسة
                        الدولة الطائفية علناً ؟ ؛ رغم
                        أن الجميع ينتقد هذا الوضع
                        المرفوض بينه و بين نفسه و بينه
                        و بين الثقات من المقربين إليه ؛
                        و في حال تجرأ أحد ما و انتقد هذا
                        التوجه الطائفي للدولة ما هي
                        النتيجة ؟ ، لا شك أنه سيقتل
                        خائناً و عميلاً و موهناً
                        لعزيمة الأمة و مثيراً للنعرات
                        الطائفية و .. و .. إلى أخر تلك
                        الاتهامات الباطلة الجاهزة و
                        المعتادة ، ربما أنت لم تشعر
                        بحجم الكارثة الطائفية التي
                        أصابت هذا الوطن إلا عندما
                        اصطدمت بهذا المساعد الحاقد و
                        الذي أفشل بكلمة واحدة و بدم
                        بارد كل أحلامك و أمنياتك ؛ أما
                        نحن فنرى بأم أعيننا ما يحصل
                        داخل الجيش و القوات المسلحة ؛
                        فما زالت نسبة العلويين تزداد
                        باستمرار بين الضباط و حتى بين
                        صف الضباط و المجندين المتطوعين
                        مقارنة ببقية الطوائف ؛ حتى
                        أصبح من شبه المستحيل أن يتطوع
                        غير العلوي في الجيش ؛ و إذا ما
                        قبلوا البعض – من غير العلويين -
                        لذر الرماد في العين ؛ فلا يمكن
                        لهم أن يجتازوا رتباً معينة ؛ و
                        لا يمكن لهم أن يستلموا مراكز
                        حساسة مهما ملكوا من مؤهلات و
                        خبرات و إمكانيات ؛ و حتى إذا
                        وصل البعض إلى رتب عالية يبقى
                        خائفاً و يتصرف و كأنه يعمل
                        أجيراً أو صانعاً عند مساعد أو
                        رقيب علوي في ثكنته أو وحدته
                        العسكرية ؛ لا تفهم من كلامي
                        أنني ضد العلويين ؛ أبداً ؛
                        فأخوالي علويون و أنا أحبهم و
                        أعتز بهم ؛ و كذلك لا تظن أن كل
                        العلويين راضين عن هذا الوضع
                        الشاذ ؛ قطعاً ؛ فأنا أعرف أن
                        أغلبهم ناقم من هذا الوضع و
                        يرفضه ؛ و لكنهم كبقية إخوانهم
                        في الوطن مغلوبون على أمرهم إلا
                        ثلة قليلة من ضعاف النفوس ؛ تلك
                        التي يعتمد النظام عليها في
                        تنفيذ مآربه ؛ و السؤال الذي
                        يطرح نفسه هو : ما معنى أن يكون
                        نسبة الطلاب العلويين إلى مجموع
                        طلاب مدرسة المدفعية عند وقوع
                        المجزرة مثلاً أكثر من سبعين
                        بالمئة ؟!؛ و ما معنى أن يُرفض
                        شاب في مثل حماسك و اندفاعك من
                        التطوع في الجيش ؟ ! ؛ ثم انظر
                        حولك هنا في هذا السجن الرهيب ؛
                        هل ترى أو تسمع إلا لهجتهم و
                        أسماءهم من أصغر عنصر إلى أكبر
                        ضابط ...
                        
                         
                        - و لكن وزير الدفاع
                        و رئيس الأركان سنيان ...
                        
                         
                        - هذا صحيح أيضاً ؛ و
                        لكن السؤال هل يستطيعا أن يفعلا
                        أي شيء ؟ ؛ هل يستطيعا أن يغيرا
                        هذا الواقع المرفوض ؟ ؛ هل
                        يستطيعا حتى أن ينتقدانه ؟ ؛ هل
                        لديهما صلاحيات كصلاحيات رفعت
                        الأسد أو علي حيدر أو شفيق فياض
                        و الكثير من الضباط غيرهم ؟ ؛
                        أنهما و أمثالهما أرجل كرسي لا
                        أكثر ؛ ثم هل هناك رئيس فرع
                        مخابرات من فروع المخابرات
                        الكثيرة و العديدة ليس علوياً ؟
                        ؛ بل هل هناك ضابط مخابرات له
                        صلاحيات ليس منهم ؟؛ و للمقارنة
                        فقط أقول لك : أننا نحن العشرون
                        الذين سافرنا إلى موسكو مع أخيك
                        للتدرب كنا من كل الطوائف و
                        الاثنيات ؛ و كان اثنان و نصف
                        فقط – على اعتبار أن نصفي علوي
                        – من هؤلاء العشرين من الطائفة
                        العلوية الكريمة ... و بينما كان
                        المقدم شاهين يتابع حديثه
                        باهتمام و تأثر سمعنا باب السجن
                        المقابل لزنزانتنا يفتح ؛ و
                        سمعنا صوت أقدام السجان أبي
                        كنان تتجه نحونا ؛ فصمتنا و نحن
                        نترقب ما يريده هذا البغل
                        القادم و نقول في أنفسنا : خيراً
                        إن شاء الله ؛ و نعلم أنه لا يأتي
                        بخير . و فتح أبو كنان باب
                        زنزانتنا بعنف و صرخ بالمقدم
                        نبيل قائلاً : - تعال ولاك كر
                        تعال . فقام أبو سمير متثاقلاً و
                        خرج من الزنزانة و سار مع أبي
                        كنان نحو باب السجن ؛ الذي قام
                        بوضع القيود في يديه خلف ظهره و
                        العصابة السوداء الكئيبة على
                        عينيه ؛ و خرجا من باب السجن و
                        أنا أتابعهما بنظراتي الحزينة
                        من خلال شق ضيق في باب الزنزانة
                        الحديدي ... 
                        
                         
                        ----------------------
                        
                         
                        لقاء
                        لا أنساه..في أقبية السجون-7
                        
                         
                        د.هشـام
                        الشامـي
                        
                         
                        ما أن غاب المقدم
                        نبيل عن ناظري و أغلق السجان أبو
                        كنان باب السجن ؛ حتى تراجعت عن
                        الشق الضيق الذي كنت أنظر من
                        خلاله إليهما ؛ و أسندت ظهري إلى
                        الجدار المقابل لباب الزنزانة ؛
                        و بدأت أفكر و أحلل و أتسأل : إلى
                        أين أخذوا نبيل في هذا الوقت
                        المتأخر من الليل ؟، لا بد أن
                        الفجر أو حتى الصبح قد أوشك أن
                        يصبّح على الشام بعبير ياسمينه
                        و دفئ شمسه خارج السجن ؛ أما نحن
                        داخل هذا القبو فلا نعرف صبحاً و
                        لا ظهراً ؛ إلا من خلال أوقات
                        توزيع الطعام ؛ و تبادل نوبات
                        الحراسة داخل السجن ، و بما أن
                        أبا كنان هو من أصطحب المقدم
                        نبيل فهذا يعني أن الوقت ما زال
                        قبل السابعة صباحاً موعد ذهاب
                        أبي كنان و قدوم السجان اللئيم
                        الآخر صاحب العيون الزرقاء و
                        القوام المربوع سهيل ، هل أحبّ
                        المحققون المناوبون أن يسألوه
                        عني قبل أن ينهوا عملهم و يناموا
                        عندما يستيقظ البشر ؟ ، هل ذهب
                        للتحقيق ؟ ، من المستبعد أن يأتي
                        أهله لزيارته في هذا الوقت
                        المبكر ، تساؤلات عديدة كانت
                        تدور في ذهني و محاولات متكررة
                        لتفسير ما يجري حولي في هذه
                        الليلة الطويلة المرهقة و بعد
                        هذا اللقاء المثير بيني و بين
                        أحد أصدقاء أخي الشهيد أحمد في
                        أقبية السجون الموحشة ، و بينما
                        أنا في تأملاتي و تصوراتي إذ
                        سمعت صوت سجين يعذب بشدة و
                        يستغيث بصوت أجش مبحوح ، كان صدى
                        الصوت البعيد الذي يعلو و يخفت
                        كلما أغلقوا أو فتحوا أبواب غرف
                        التحقيق أو كلما ازدادت
                        استغاثات السجين أو خفتت يصل
                        إلي من غرف التحقيق التي تلي
                        فوراً ذلك الدرج ذي الدرجات
                        العشرين ، و الذي يصل هذا القبو
                        بسطح الأرض الخارجي ، هذه
                        الأصوات لم أكن أسمعها عندما
                        كنت في زنزانتي القديمة
                        المعزولة ، أما الآن فزنزانتي
                        تقع أمام باب السجن تقريباً و
                        أستطيع أن أرى كل خارج أو داخل
                        إلى هذا السجن ، و يبدو أنني
                        سأسمع أيضاً صرخات كل السجناء
                        أثناء التحقيق ، لا أدري لماذا
                        أحسست أن هذا الصوت المعذّب
                        الذي يصل إلى مسامعي من غرف
                        التحقيق هو صوت المقدم نبيل ،
                        فهم لم يفتحوا زنزانة أخرى -
                        ليخرجوا منها سجيناً - غير
                        زنزانتنا ، و لا أظن أن المعذّب
                        من دفعة جديدة قدمت إلى السجن في
                        هذا الوقت المبكر ، فعادة ما يتم
                        تسلم الدفعة و توزيعها على
                        الزنازين قبل البدء بالتحقيق
                        معها ، و شيئاً فشيئاً بدأت
                        أتيقن أن هذا الصوت ما هو إلا
                        صوت صديق أخي أحمد الذي كان معي
                        يكلمني و يشرح لي عن مأساته و
                        مأساة الوطن قبل قليل ، و لكن
                        لماذا عادوا لتعذيبه و التحقيق
                        معه بعد أن وعدوه أن يكفوا عن
                        ذلك و يمكّنوا أهله من زيارته و
                        يحسّنوا وضعه بعد أكثر من ستة
                        أشهر من العذاب و التحقيق ؟ ، هل
                        يا ترى سألوه عني ؟ و هل سألوه إن
                        تمكن من إقناعي بالاعتراف أم لا
                        ؟ هل دافع عني فعادوا إلى تعذيبه
                        ؟، لم أستطع أن أجد جواباً و
                        بقيت في حيرتي و ترددي و أنا
                        أدعوا الله أن يخفف عنه و يصبّره
                        .
                        
                         
                        و يبدو أن سلطان
                        النوم قد سرقني بعض الوقت
                        فاستسلمت له من شدة تعبي و نعسي
                        ، و لم أصحو إلا على صوت باب
                        السجن و هو يفتح ؛ فأسرعت إلى شق
                        الباب لأرى من الداخل ؛ فإذا به
                        السجان سهيل يسحب المقدم نبيل –
                        الممزق الثياب و الملطخ بدمائه -
                        من كتفه ، عدت إلى حائطي و
                        استندت عليه - بينما كان سهيل
                        يقوم بتحرير يديّ نبيل من
                        قيودهما و عينيه من عصابتهما -
                        خشية أن يفتح سهيل باب الزنزانة
                        و يراني و أنا أراقبهما من خلال
                        شق الباب ، لكن سهيل لم يفتح باب
                        زنزانتي ، و إنما دخل بنبيل نحو
                        الجهة الأخرى من السجن ؛ هناك
                        حيث كانت زنزانتي القديمة ، و
                        سمعت باب زنزانة يفتح و صوت سهيل
                        يصرخ بنبيل أن يدخلها ، ثم سمعت
                        صوت أقدام سهيل تتجه نحو
                        زنزانتي بعد أن أغلق باب زنزانة
                        نبيل .
                        
                         
                        يا الله ؛ ما أصعب
                        تلك اللحظات !! ، لا بد أنه قد جاء
                        ليأخذني ثانية إلى التحقيق ،
                        يبدو أنه قد جاء دوري ، و بينما
                        أنا خائف أترقب و أصغي إلى صوت
                        أقدام سهيل و هي تقترب من
                        زنزانتي ؛ وضع سهيل المفتاح في
                        قفل زنزانتي ، فخفق قلبي بسرعة ،
                        و بردت أطرافي ، و ارتعدت مفاصلي
                        ، و تغير لوني ، و ارتجفت شفاهي
                        الشاحبة ، و أنا أدعوا في سري يا
                        الله أعني ، يا الله كن معي ، يا
                        الله ارحمني ، يا الله احمني من
                        هؤلاء المجرمين ، و تسمرت في
                        مكاني و أنا أسمع صوت سهيل يصرخ
                        بي : 
                        
                         
                        - صرت هون ولاك ، مين
                        دعمك و جابك لهون ؟ ، طالع غراض
                        الكرّ الي كان معك برّه بسرعة . و
                        بدأت أجمع أغراض نبيل ؛ ثيابه ؛
                        بطانياته ؛ حافظات طعامه ؛ و
                        وضعتها جميعاً داخل بطانية ؛ و
                        قمت بربط أطرافها بعضها ببعض ، و
                        وضعتها على الدرجة الموجودة عند
                        باب الزنزانة . فصرخ سهيل من
                        جديد : 
                        
                         
                        - شيلا و لحقني و لا .
                        حملت الصرة و سرت خلف سهيل في
                        السرداب بين الزنازين و الموجود
                        عن يمين زنزانتي . حتى صرخ بي
                        سهيل ثانية و هو يشير إلى إحدى
                        الزنازين : 
                        
                         
                        - حطّا هون ولا و
                        ارجاع لزنزانتك و سكر الباب
                        عليك بسرعة . و ضعت الصرة على باب
                        زنزانة نبيل و عدت إلى زنزانتي و
                        أغلقت بابها ورائي . فتح سهيل
                        باب زنزانة نبيل و صرخ به : 
                        
                         
                        - دخّل غراضك يا منـ...
                        . ثم أغلق باب زنزانة سهيل ، و
                        عاد نحو زنزانتي . يا الله ها قد
                        عاد ، يا الله احمني منه و من
                        أسياده القتلة ، و بينما أنا في
                        توجسي و ترقبي ، إذ وضع سهيل يده
                        على باب زنزانتي و دفع المزلاج
                        الحديدي و أغلق القفل ؛ و ابتعد
                        خارجاً من باب السجن و أنا
                        أتابعه بنظري . الحمد لله ها قد
                        ذهب ؛ قلت في سري و أنا أتنفس
                        الصعداء . و غلبني سلطان النوم
                        بعد كل هذا العذاب و العناء و
                        التعب فاستسلمت له بلا مقاومة .
                        و لم أصحُ إلى على مزلاج زنزانتي
                        و هو يفتح ؛ و سهيل يصرخ بي : 
                        
                         
                        - تعال ولاك . فصحوت
                        من نومي العميق و قلبي يخفق في
                        جنبي بعنف ، وقفت على قدمي
                        المتورمتين بصعوبة و أنا أمسح
                        عينيّ بكفيّ و خرجت أسير وراء
                        سهيل إلى المجهول ، و عند باب
                        السجن وجدت حلتين ضخمتين
                        أحداهما في قاعها قليل من
                        اللبنة و الأخرى امتلأت حتى
                        نصفها بالشاي ، فعلمت أن الفطور
                        قد وصل ، فصرخ سهيل بي : 
                        
                         
                        - شوف ولاك ؛ هنت هلق
                        سخرة ؛ بدك توزع هالفطور
                        عالعرصات ، كل زنزانة فيها عرص ؛
                        إلا هالمهجع فيه عشر حمير ؛ لم
                        القصعات و الكاسات من أبواب
                        الزنازين و وزع الفطور عليها ؛
                        تحرّك بسرعة ولا . قالها و هو
                        يشير إلى باب المهجع عن يمين باب
                        السجن .جمعت حوالي ثلاثين قصعة
                        من الألمنيوم و مثلها من أكواب
                        الألمنيوم إضافة لقصعتي المهجع
                        الكبيرتين ، كانت اللبنة لا
                        تتجاوز الكيلو و النصف إلا
                        قليلاً ، قمت بتوزيع ملعقة
                        صغيرة من اللبنة في كل قصعة إلا
                        في الكبيرة فوضعت عشر ملاعق ، و
                        وزعت الشاي الذي تنبعث منه
                        رائحة الكافور الكريهة على
                        الأكواب فكانت حصة كل شخص نصف
                        كوب ، و وزعت قطعة من الخبز
                        العسكري السميك و اليابس و
                        المنتفخ بالعجين لكل سجين ، و
                        عندما وضعت حصة المقدم نبيل
                        أمام زنزانته كان ما يزال يئن و
                        يتأوه من الألم ؛ ثم أخذت حصتي و
                        دخلت بها زنزانتي و أغلقت الباب
                        خلفي ، و استندت ثانية إلى
                        الحائط و استسلمت للنوم من جديد
                        و لم أصحو إلا على صوت سهيل
                        ثانية و هو يفتح الباب علي و
                        يقول : 
                        
                         
                        - تعال ورايي ولا .
                        سرت خلفه خائفاً مضطرباً ؛ لكنه
                        لم يضع الأغلال في يديّ هذه
                        المرة ، و لا العصابة على عينيّ
                        أيضاً ، و خرجنا من باب السجن ، و
                        دخلنا غرفة صغيرة عن يمين باب
                        السجن ؛ و قبل الدرج الذي كنا
                        نصعده لغرف التحقيق مباشرة، كنت
                        قد دخلت هذه الغرفة مرة واحدة
                        يوم اعتقالي ، يوم سلمت أماناتي
                        ( هويتي ؛ ساعتي ؛ أوراقي ؛ محفظة
                        نقودي ؛ أربطة حذائي ، زنار
                        بنطالي ) و دوّنوا فيها ذاتيتي ؛
                        قبل أن يأخذوني إلى زنزانتي
                        القديمة ، وهناك كان مساعد أول
                        يجلس خلف طاولة مكتب حديدية
                        متسخة و صدئة ، فقال لي : اقعد
                        قدامي . فجلست على كرسي من
                        الخيزران أمامه ، فقال لي : هنت
                        هلق سخرة للسجن ، بتوزع الفطور و
                        الغدا و العشا ، و بتخدم السجن
                        جوّا ، شو بقلولك الشباب بتنفز ؛
                        المقدم وصّانا فيك ، هوه مسافر
                        يومين و برجع بدوا يقابلك بس
                        يرجع ، ما بدي اسمع مشاكل ها .
                        يالله انقلع عزنزانتك بسرعة . و
                        عدت إلى زنزانتي من جديد و أنا
                        أفكر بكلام هذا المساعد الغريب
                        ، و أتسأل في نفسي : ماذا يريد
                        مني المقدم ؟ لماذا وصّاهم بي ؟
                        هل سيطلب مني التعامل معهم كما
                        طلب من المقدم نبيل قبل ذلك ؟ يا
                        الله ؛ كلما خرجت من مشكلة وقعت
                        بأصعب منها ، متى سيفرج الله عني
                        من هذا السجن الرهيب ؟
                        
                         
                        -------------------
                        
                         
                        لقاء
                        لا أنساه..في أقبية السجون-8
                        
                         
                        د.هشـام
                        الشامـي
                        
                         
                        كان كلام مساعد
                        الذاتية الأخير لي لا يغيب عن
                        ذهني لحظة واحدة ؛ و بت أنتظر
                        لقاء المقدم المرتقب معي بحذر و
                        خوف و توجس من المجهول المنتظر ،
                        و تتالت الأيام علي و أنا أترقب
                        هذا اللقاء ، و أعمل في خدمة
                        السجناء بالسخرة ، هذه التجربة
                        الجديدة لي داخل السجن جعلتني
                        أتعرف على كل السجناء داخل هذا
                        القبو ، و جعلتني أتحيّن فرص عدم
                        وجود السجّانين للتكلم مع
                        السجناء و السؤال عن أخبارهم و
                        أسمائهم و تهمهم ، كما كنت أقوم
                        بنقل الأخبار من سجين إلى آخر ،
                        و ربما الدواء أو بعض الطعام و
                        الثياب أحياناً ، و قد كان عدد
                        السجناء في الزنازين يتراوح بين
                        ثلاثين و أربعين سجيناً ، بينما
                        يتم تجميع السجناء الذين انتهى
                        التحقيق معهم و أصبحوا جاهزين
                        للتحويل إلى السجن السياسي
                        الوحيد في تلك الأيام و الذي كان
                        بعد امتلاء سجن المزة العسكري
                        في دمشق ما زال يستقبل ( من فروع
                        المخابرات العديدة ) و يودع ( إلى
                        الدار الآخرة فقط بالإعدام أو
                        بالموت مرضاً أو جوعاً أو تحت
                        التعذيب ) و هو سجن تدمر
                        الصحراوي في غرفة صغيرة تدعى (
                        مهجع التجميع ) ؛ و الموجود إلى
                        يمين الخارج من باب السجن قبل
                        الباب الحديدي الخارجي مباشرة ؛
                        حتى إذا ما وصل عدد النزلاء فيه
                        ما بين عشر إلى عشرين يتم
                        تحويلهم إلى سجن تدمر المخيف ، و
                        كان المقدم نبيل في تلك الأيام
                        في أسوأ حالاته نتيجة تعرضه
                        للتعذيب اليومي المستمر ، و
                        حاولت مراراً في اليومين
                        الأولين أن أتكلم معه لكنه كان
                        يرفض الكلام ، ربما خيفة و حذراً
                        ، لكنني في اليوم الثالث ألقيت
                        السلام عليه أثناء توزيع الغداء
                        مع العشاء ( كانا يصلان معاً رز
                        أو برغل مع مرق البندورة للغداء
                        ؛ و شوربة أو بطاطا مسلوقة أو
                        بيض مسلوق للعشاء ) و قلت له : أنا
                        هشام أخو الشهيد أحمد ، فرد عليّ
                        قائلاً : شو عمتشتغل سخرة ، فقلت
                        : نعم ، فقال : هل حققوا معك ثانية
                        ؟ . فقلت : لا . فقال : دير بالك ترى
                        عرفوا كلشي حكينا مع بعض ؛ إذا
                        سألوك قول الي حصل بالحرف و لا
                        تغير الكلام ترى كلوا مسجل عندن
                        . و سمعت صوت السجان فابتعدت عن
                        باب الزنزانة ؛ و تابعت توزيع
                        الطعام ، و في أحاديث أخرى معه
                        قال لي : لقد حقدوا عليّ أكثر من
                        ذي قبل ؛ و لست أرى مخرجاً لي من
                        هذا المكان ؛ و أحس أن نهايتي
                        هنا ؛ و لكن الوضع بالنسبة لك
                        مختلف ؛ فقد اقتنعوا أن مساعد
                        الكلية الجوية قد افترى عليك ؛ و
                        سمعوا إدانتك لعملية مدرسة
                        المدفعية ؛ و عدم وجود أية علاقة
                        لك بأحد ؛ و ربما سينظرون لحداثة
                        سنك ؛ و أسأل الله أن يفرجوا عنك
                        ؛ و في حال حصل هذا فلا تنساني من
                        دعائك ؛ و أحملك أمانة أن تخبر
                        أهلي عن وضعي ؛ و أن تسلم لي
                        عليهم ؛ و لا تنسَ أن تسلم لي على
                        أهلك و خاصة على أبيك الكريم و
                        أمك الطيبة ؛ و توصي زوجتي
                        بأولادي ؛ و خاصة من ناحية
                        متابعة تعليمهم ؛ و لا تنس أن
                        تقول لولديّ سمر و سمير : إن
                        أباكما يحبكما كثيراً ؛ و لا ذنب
                        له بفراقكما ؛ و وصيته لكما أن
                        تهتما بأنفسكما و بأمكما و
                        تعليمكما و تحققا له ما كان يريد
                        منكما .
                        
                         
                        لقد كانت النسبة
                        العظمى من السجناء داخل هذا
                        السجن بتهم إسلامية ؛ سواء من
                        الأخوان أو من المحسوبين عليهم
                        ؛ فهذا الطيار اعتقل لأنه كان
                        يصلي في قاعدته ؛ و هذا الفني
                        كان يصوم ؛ و هذا كان ينتقد
                        مجزرة حماة ؛ و ذاك له أخ طيار
                        فار خارج القطر ؛ و لم يكن جميع
                        السجناء من القوات الجوية ، بل
                        كان هناك معتقلون مدنيون ليس
                        لهم علاقة بالجيش و الطيران
                        أبداً ؛ فمثلاً كان هناك نقيب
                        طيار من دير الزور و مدرس من
                        السويداء بتهمة بعث يميني ( أو
                        ما يسمونه بعث عراقي ) ، و طالب
                        حقوق من ريف اللاذقية بتهمة
                        الانتماء لحزب العمل الشيوعي (
                        كانوا يطلقون عليهم جماعة رياض
                        الترك و ذكر لي هذا الطالب أن
                        ثلاثة من أخوته اعتقلوا قبله
                        منهم أخته التي كانت تدرس الأدب
                        الإنكليزي ) ، و هناك ثلاثة
                        فلسطينيين اثنان بتهمة فتح ( و
                        يسمونهم الزمرة العرفاتية ،
                        أحدهما كان رائداً بتنظيم فتح و
                        قد اعتقل عدة مرات عند
                        الإسرائيليين ؛ و كان يقول
                        بالحرف الواحد : ما أحلى سجن
                        اليهود جمب هدول ) و الأخر من
                        الجبهة العربية لتحرير فلسطين (
                        التابعة للعراق ) و لبنانيان
                        واحد بتهمة كتائبي و أخر بتهمة
                        توحيد إسلامي ( من طرابلس ) ، و
                        البقية كانوا محسوبين على
                        الأخوان المسلمين ، و أكثر ما
                        أثر بي في تلك الفترة تلك
                        العائلة من جبل الزاوية و
                        المؤلفة من أم و ابن و ابنتان و
                        الذين تم اعتقالهم أثناء هربهم
                        خارج القطر على الحدود العراقية
                        ، و ذلك بعد أن قتلوا اثنان من
                        أبنائها في قريتها ، و فرت بمن
                        بقي من أبنائها لتلحق بزوجها
                        الهارب خارج القطر ، فاصطادوهم
                        جميعاً ، و وزعوهم على أربعة
                        زنازين في هذا السجن المظلم ، و
                        قد كانت الأم لا تفتر عن الدعاء
                        على الأعرابي الدليل الذي أخذ
                        كل ما معها من النقود ليساعدهم
                        على الهرب لكنه خانهم و سلمهم
                        ليأخذ من الأمن ثمن خيانته و
                        نذالته ، و قد كانت قصة هذه
                        الأسرة مأساوية بحق ، و خصوصاً
                        عندما كان أحد السجانين الأنذال
                        ؛ يحاول الاعتداء على إحدى
                        الفتاتين الصغيرتين ؛ فتصرخ
                        بقوة : يا أمي ؛ يا أمي ؛ خلصيني
                        منو . فتصرخ أمها معها ؛ و تصرخ
                        أختها و كذلك أخوها ؛ و يصرخ
                        أكثر المساجين معهم ؛ و لا
                        يزالون يصرخون و يدعون عليه و
                        يشتمونه حتى يتراجع عن السجينة
                        المغلوبة على أمرها و يهرب خشية
                        أن يسمعهم أحد ؛ ثم يعود بعد أن
                        يهدأ الوضع ليفتح الباب على
                        السيدة العجوز المريضة ؛ و يقوم
                        بضربها و شتمها بلؤم بحجة أنه
                        سمعها و هي تتكلم مع أبنائها
                        بصوت عالٍ ؛ أو يفتري عليها فرية
                        أخرى جاهزة . 
                        
                         
                        و بعد أكثر من أسبوع
                        من الانتظار و الترقب الحذر
                        استدعاني المقدم أخيراً ، و بعد
                        أن دخلت عليه مكبل اليدين
                        بالأغلال و العصابة على عيني ؛
                        صرخ بأبي كنان : - شلوا الطميشة و
                        الكلابيج و طلاع برى . فحرر أبو
                        كنان يدي من القيود و رفع
                        العصابة عن عيني و خرج . فخاطبني
                        المقدم : قعود ياشوف . فجلست على
                        كرسي أمامه . فسألني : منين جبناك
                        . فأجبته : من نادي الضباط . فقال
                        لي : بعرف ؛ شو كنت عما تساوي
                        هنيك . فقلت له : كنت عم ساوي فحص
                        للانتساب للكلية الجوية . فقال
                        لي : شوف بدك تقلي كلشي دار بينك
                        و بين هالكلب نبيل شاهين . فقلت
                        له ما دار بيننا بالتفصيل .
                        فشعرت أنه صدقني ؛ و لم يدرِ
                        أنني أعرف أنهم قد سمعوا كل
                        كلامنا و سجلوه . فقال لي : شوف ؛
                        هنت بعدك شب بأول عمرك ؛ و أمامك
                        مستقبل ؛ بدي جربك كم يوم ؛ إذا
                        أثبت حسن نيتك ؛ بدي جبلك أهلك
                        زيارة ؛ و بس نسيت كلشي شفتو
                        بهالسجن و حسيتك بدك تطلع و تبدا
                        بدايه جديدة و تكون مواطن صالح
                        بهالوطن رح طالعك فوراً ؛ بدي
                        اياك تنسى هالشهرين تلاته إلي
                        قضيتم معانا نهائي ؛ روح يا أخي
                        دخول كلية طب ؛ مجموعك كيس و
                        الوطن بحاجة لأطباء ؛ شو رأيك ؟
                        !.
                        
                         
                        فقلت له : فعلاً ؛ رح
                        ادخل طب أو هندسة و حقق أمنية
                        أبي و أمي ؛ أصلاً أهلي ما كانوا
                        راضيين أدخل بالجيش نهائي ؛ لسه
                        ما نسيو جرح أخي أحمد بعد .
                        
                         
                        فقال : طيب يالله
                        روح يشوفك رجاع عزنزانتك ؛ و حضر
                        حالك لنخلي سبيلك ؛ ترى أنا
                        خدمتك خدمة العمر ؛ ترى ما حدى
                        بدخل هون بيطلع ها . و صرخ بأبي
                        كنان ليعيدني إلى السجن ؛ و أنا
                        أقول له بفرح لا يوصف و كأنني لا
                        أصدق ما أسمع : الله يكتر خيرك ؛
                        الله يكتر خيرك ....
                        
                         
                        المشاركات
                        المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
                        
                         
                        
                        
                         
                        
                          
                         
                         
                         
       |