ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء 03/10/2012


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

 

التعامل الخارجي مع الثورة الشعبية في سورية (1) .. عوامل صناعة القرار الأجنبي وعقبة إرادة الشعب السوري

نبيل شبيب

(انظر : من الثوابت في صناعة القرار الغربي)

(1)

لو كانت مؤامرة حزبية.. أو تمرّدا مسلّحا.. أو انقلابا عسكريا.. أو تغييرا فوقيا كما يقال، لاستطاعت القوى الدولية أن تتعامل معها كما تعاملت مع سواها عبر العقود الماضية منذ أن تحقق الاستقلال العسكري دون أن يتحقق استقلال سياسي واقتصادي وفكري وأمني في البلدان العربية والإسلامية، ولكنّ ما تشهده سورية ثورة شعبية بكل ما في هذه الكلمة من معنى، بل بصيغة لم يعرفها تاريخ البشرية من قبل، ولهذا تقف القوى الدولية منها مواقف ليست تقليدية معتادة، أقصاها الدعم الفاجر والمطلق للنظام الاستبدادي الفاسد المنهار، وأدناها شنّ حرب كلامية عليه مع تمكينه من الاستمرار في تدمير الوطن ومقوّمات الدولة فيه، وإنهاك الشعب الذي يحتضن الثورة منذ اندلاع شرارتها الأولى وسيحتضنها حتى النصر بإذن الله.

 

بين صنعة الكلام وصناعة القرار

كلا.. ليست المشكلة التي تواجه صانع القرار في الغرب والشرق هي النوعية الهمجية التي يمارسها النظام الساقط أثناء سقوطه، ولا هي اللعبة الإقليمية التي يلمّحون إليها لتسويغ الامتناع عن تحرّك فعّال لوقف مسلسل المجازر، ولا سوى ذلك من الذرائع التقليدية وغير التقليدية التي يسوقونها في المؤتمرات والتصريحات الرسمية وشبه الرسمية على امتداد عام ونصف العام، دون كلل ولا ملل ولا حياء ولا خجل.. إنّما المشكلة الأكبر والأعقد التي يواجهونها في حدث الثورة، أنّ جميع ملامحها الظاهرة للعيان عبر المسار الحافل بالتضحيات والبطولات، يؤكّد أنّه سيسفر عن تحرير إرادة الشعب الثائر، ولم يعتد صانع القرار في القوى الدولية على التعامل مع أيّ دولة "صغيرة" تتحرّر إرادة الشعب فيها تحرّرا ناجزا، لا تقيّده إجراءات استبداد محليّ، ولا تعبث بها ألاعيب الهيمنة والاستغلال الدولييين.

في المرحلة الحاسمة الحالية من مسار الثورة الشعبية لم يعد يهمّ كثيرا استعراض ما كان حتى الآن، (1) بدءا بإخفاق محاولة الاعتماد طويلا على ما بات يعرف بالمعارضة السياسية التقليدية، ولا يصلح مصطلح المعارضة في حالة الثورة الشعبية، فالمعارضة السياسية لا تكتسب هذا الوصف إلا في دولة قائمة على صلاحيات دستورية لحكومة ومعارضة، (2) وصولا في الوقت الحاضر إلى محاولة اصطناع ولاءات خارجية بمسمّيات ثورية وعسكرية داخلية، مع استخدام وسائل تقليدية معروفة أبرزها توجيه قنوات المال والسلاح والعلاقات العامة والإعلام لهذا الغرض من جهة، والعمل من جهة أخرى على تشويه الوجه الثوري الشعبي الناصع بتضخيم بعض النتوءات والحوادث الانفرادية الشاذة عن مسار الثورة الشعبية.

إنّ السؤال الذي يواجهه الثوار الصادقون المخلصون هذه الأيام هو السؤال عن استيعاب كيفية صناعة القرار لدى القوى الدولية، ليتعاملوا معه على أرض الواقع، من منطلق الثورة، أي بهدف التأثير عليه في اتجاه تحرّر الإرادة الشعبية رغما عنه، وليس للتأثّر به في اتجاه القبول بالمساومات الخطيرة، أيّا كان مصدرها ومهما بلغت درجة تزويقها وتنميقها.

هنا ينبغي أولا تثبيت أمور باتت معروفة بصدد ما لا يلعب دورا حاسما في صناعة القرار، وفي مقدمته:

1- جميع ما يتعلق بالإنسان وحقوق الإنسان والحريات وما يسمّونه الأقليات.. إلا في حدود الإخراج المناسب للقرار بما يجنّب صانعه ارتفاع مستوى ضغوط الرأي العام عليه داخل بلده، عندما تتوافر للرأي العام فيه أصلا القدرة على متابعة ما يجري بصورة قويمة وكافية.

2- جميع ما يوصف بالتحالفات، المحدودة أو "الاستراتيجية" مع حكام محليين، ممّن يوصفون بالصغار أو الكبار، أو يوصفون بالأتباع بصورة مطلقة أو بالأصدقاء، وسواء في ذلك هل أدركوا هم أم لم يدركوا حقيقة الاستعداد للاستغناء عن أدوارهم والتخلّي عنهم، بل ربّما المشاركة في إسقاطهم بعد احتراقهم واحتراق إمكانية الاستفادة من بقائهم، وهذا الإدراك مفقود -للأسف- أثناء وجودهم في السلطة، بل حتى عندما يرون رأي العين -ولا يتعظون- كيف عايش سواهم ذلك التخلّي عنه، أو مات دون أن يصدّق أنّ ما جرى قد جرى وأنّ "حلفاء" الأمس ليسوا حلفاء.. كما كان مع المستبدين في الفيليبين وإيران وإفريقية الوسطى وسواها ومؤخرا في تونس ومصر وليبيا على الأقلّ.

3- المصالح، والمقصود المصالح "الجزئية" بالموازين الدولية، وإن لم تم تكن جزئية بمنظور من يتعلّق بها من أطراف صغيرة نسبيا، أي المصالح التي تقوم بين دولة كبيرة كالولايات المتحدة الأمريكية، أو مجموعة دولية كالمنظومة الغربية، وبين دولة صغيرة كالأردن، أو مجموعة دول إقليمية صغيرة كالخليج العربي، فلغة المصالح التي يكثر الحديث عنها، لا تسري إلا بشروط (1) أن يكون حجمها ضخما بمعايير الطرف الأقوى بحيث لا يمكن التعويض عنها (2) أن تكون قائمة فعلا على مبدأ المصالح المتبادلة ولا تمثل شارعا باتجاه واحد (3) ألا تكون مقترنة بمفعول الهيمنة والاستغلال الأجنبي عبر ما يوصف بمستشارين وخبراء وقواعد عسكرية ومراكز قوى محلية مادية واستثمارات حافلة بالخلل.

 

من عناصر صناعة القرار الأجنبي

ما سبق من عوامل أشبه بالأوهام، وإن كثر الحديث عنها، وعندما نلغيه كليّا -أو إلى حدّ كبير- من معادلة البحث عن العناصر الفعلية لصناعة القرار لدى القوى الدولية، يمكن أن ننظر إلى العوامل الحقيقية الفاعلة، من قلب آليات صناعة القرار؛ ومنها أو في مقدّمتها:

1- المصالح المادية بمنظور القوى المادية المهيمنة داخل كلّ دولة من القوى الدولية على حدة وعبر العلاقات المتشعّبة العابرة للحدود، والتي كشفت عنها ظاهرة العولمة ثم الأزمات المالية العالمية كشفا فاضحا.. ولم تتبدّل ولا ضعف مفعولها حتى الآن.

2- لعبة العلاقات المصلحية الدولية القائمة بين القوى والتكتلات الكبرى على عنصرين متكاملين: الصراع والتنافس في وقت واحد.

3- التنافس السياسي الحزبي الداخلي في كل دولة على حدة دون الخروج عن دائرة ضغوط المصالح الذاتية للقوى المادية المسيطرة فيها.

4- التأثير المحدود -إلا في حالات نادرة- للرأي العام المحليّ في كل دولة على حدة، والذي لا يفعل مفعوله إلاّ عندما تعود غالبية السكان إلى منطلقات معرفية حضارية، وتصل إلى رؤية أبعد مدى ممّا تصنعه ظواهر عديدة باتت "تصنع" الرأي العام صنعا، وإن قيل إنه "يعبّر" بحرية عن نفسه، كظاهرة الاحتكار المالي لوسائل الإعلام والفكر والنشر.

 

في ثورة سورية واقع استثنائي جديد بامتياز

لقد قامت الهيمنة الأجنبية ولا تزال قائمة اعتمادا على مرتكزات محلية (أشخاص ومراكز قوى) داخل منطقة إقليمية أو مجموعة بلدان أو في كل بلد على حدة، مما يسمّى العالم الثالث، ومنه المنطقة العربية والإسلامية بمجموعها.

الثورة الشعبية في سورية تنذر بأن تتحرّر الإرادة الشعبية في هذا البلد تحرّرا ناجزا لا ناقصا من وجود مثل تلك المرتكزات في المستقبل المنظور.

ومسار الثورة الشعبية في سورية ينذر بالعجز الخارجي عن إيجاد بدائل تعوّض عن الأدوار التي قام بها النظام الساقط، طوال أربعة عقود مضت وزيادة. يسري هذا العجز على القوى الإقليمية المتحالفة مع النظام الساقط، كإيران، والقوى الدولية الخارجية التي ارتبط بها، كروسيا، والقوى الدولية التي أعلنت من الناحية الرسمية تبنّي هدف "دعم" إسقاطه، كالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا.

ما الذي يفعله صانع القرار الأجنبي في حالة العجز هذه؟..

1- دعم المجرم الحليف إقليميا أو التابع دوليا، فلا وجود لمجرم بديل للتحالف معه أو الاعتماد على تبعيته، ويأخذ هذا الدعم الإجرامي جميع الأشكال الممكنة: السلاح الفتاك، المشورة في توجيه جرائم آلة القمع الهمجية، الوقاية إلى آخر مدى ممكن من إدانة سياسية أو حصار اقتصادي أو تدخل عسكري.. وهذا ما تفعله روسيا والصين وإيران ودويلات متفرقة هنا وهناك.

2- دعم الثورة من جانب قوى إقليمية ودولية أخرى ضدّ المجرم الفاقد لدوره القديم إقليميا وقيمته دوليا.. ولكنّه دعم حافل بالألغام، وهذا ما يتطلّب رؤية عدّة عوامل متكاملة في وقت واحد:

(1) النظام الاستبدادي الساقط كان أقدر من أيّ نظام استبدادي إقليمي آخر على توجيه الضربات لقضية فلسطين، لأنّه كان يصنع ذلك تحت عنوان "الدفاع" عن القضية المصيرية، كما كشف تزييف شعارات المقاومة والممانعة، بينما أثبت مرور السنين الطوال، أنّه كان يحمي حدود ما بعد حرب 1967م من أي مقاومة شعبية، فلسطينية أو سورية، يمكن أن "تزعج" الاحتلال.

(2) النظام الاستبدادي الساقط وجد سابقا الدعم المباشر للسيطرة في لبنان، فسيطر عليه فعلا، وكان محور هذه السيطرة هو المشاركة في القضاء على مراكز قوّة المقاومة الفلسطينية في لبنان، وترسيخ "منظمة حزب الله" مكانها. هذا علاوة على أدوار أخرى قام بها مثل ما ارتبط بالحرب ضدّ العراق بدعوى إسقاط نظام صدّام الاستبدادي.

(3) دعم الثورة إقليميا ودوليا الآن مقترن بصورة مباشرة بجهود متتابعة لم تنقطع للبحث عن بديلٍ يعوّض جزئيا على الأقلّ عن الجانب الذي ستفتقده القوى المعنية عبر السقوط النهائي للنظام الذي تلاقى معها على بعض ما تريد تحقيقه في مثل قضايا فلسطين ولبنان والعراق.

(4) مع ازدياد استحالة العثور على بديل، تتشبّث القوى المعنية، أي "الداعمة للثورة"، بأن يكون هذا الدعم مدروسا عبر قنوات "المال" و"السلاح" و" العبث السياسي والإعلامي"، بحيث لا يصل الدعم إلى مستوى التمكين من الحسم السريع بانتصار الثورة، وليس الهدف مقتصرا على تأخير الحسم فحسب، بل يشمل -كهدف مرتبط بأغراض مستقبلية- تدمير القسم الأعظم من مصادر القوة الذاتية في سورية، التي يمكن أن تصبح "متحرّرة" وفاعلة، مع تحرّر إرادة الشعب الثائر تحررا ناجزا.

(5) تقترن صيغ الدعم المدروس أيضا بتضخيم كلّ ما من شأنه زيادة خطر الانقسامات والصراعات والفتن المحلية في سورية الثورة، على أسس طائفية أو عرقية أو مصلحية، أو سياسية، وهو ما يخدم غرضين في وقت واحد، أوّلهما تسويغ بقاء الدعم دون مستوى الحسم وذلك لدى الرأي العام العالمي الذي يتابع ما يجري رغم كثير من الانحرافات في التغطية الإعلامية، وثانيهما العمل على إيجاد ثغرات الضعف والاضطراب في سورية الثورة بعد اكتمال إسقاط النظام الساقط، فهذه الثغرات هي مدخل الجهود المستقبلية التي لن تنقطع من أجل احتواء نتائج الثورة الشعبية، أو ما يمكن وصفه باحتطاف ثمار الثورة الشعبية.

. . .

ما الذي ينبغي صنعه بمنظور الثورة الشعبية والثوار؟..

هذا ما تحتاج محاولة الإجابة عليه إلى مقال آخر.

 (2)

التعامل الخارجي مع الثورة الشعبية في سورية (2)

تعامل الثورة والثوار مع صناعة القرار الأجنبي

نبيل شبيب

ورد في الجزء الأول:

ما تشهده سورية ثورة شعبية بصيغة لم يعرفها تاريخ البشرية من قبل، ولهذا تقف القوى الدولية منها مواقف ليست تقليدية معتادة، أقصاها الدعم الفاجر والمطلق للنظام الاستبدادي الفاسد المنهار، وأدناها شنّ حرب كلامية عليه مع تمكينه من الاستمرار في تدمير الوطن ومقوّمات الدولة فيه، وإنهاك الشعب الذي يحتضن الثورة منذ اندلاع شرارتها الأولى وسيحتضنها حتى النصر بإذن الله.

وجاء في حصيلته:

مسار الثورة الشعبية في سورية ينذر بالعجز الخارجي عن إيجاد بدائل تعوّض عن الأدوار التي قام بها النظام الساقط، طوال أربعة عقود مضت وزيادة، ولهذا نجد:

1- دعم المجرم الحليف إقليميا أو التابع دوليا دعما فاجرا، كما تفعل روسيا وإيران

2- دعم قوى إقليمية ودولية أخرى للثورة دعما حافلا بالألغام، وأخطرها:

- توجيه قنوات "المال" و"السلاح" بحيث لا يصل الدعم إلى مستوى التمكين من الحسم السريع لتدمير القسم الأعظم من مصادر القوة الذاتية في سورية..

- تضخيم كلّ ما من شأنه زيادة خطر الانقسامات والصراعات والفتن المحلية في سورية الثورة، على أسس طائفية أو عرقية أو مصلحية، أو سياسية، لإيجاد ثغرات أمام جهود مستقبلية لاحتواء نتائج الثورة الشعبية، أو ما يمكن وصفه باحتطاف ثمارها..

فما الذي ينبغي صنعه بمنظور الثورة الشعبية والثوار؟..

. . .

لا يوجد أحد قادر على إعطاء أجوبة وافية وواقعية ومناسبة ومقنعة، ولا توجد أجوبة نهائية أصلا، ولا جدوى من أجوبة تستمدّ صياغتها من "معين فكر نظري" أو "موقف انحياز ذاتي" أو "التطلّع لغرض فئوي".. كما لا يوجد أحد قادر على الزعم أنّه مجرّد من جميع المؤثرات وهو يقول: ينبغي صنع هذا أو ذاك.

ولئن ارتبطت السطور التالية ببعض الخبرة أو التخصص، فارتباطها الأكبر بما تعلّمه كاتب هذه السطور ممّا تتفجّر عنه طاقات الشعب الثائر يوميا، ليتبيّن أنّ اليد الربّانية تصنع الثورة، ولتتخذ هذه الثورة مسارا أشبه بمسار المعجزات وفق معايير صناعة البشر للحدث التاريخي، وهذا ما يستدعي الاعتذار مسبقا عن بعض الإطالة.. فما تعلّمه كاتب هذه السطور من الثورة والثوار كثير لا يكفي مقال لطرحه وبيانه.

 

الثورة التغييرية والسياسة الثورية

لا بدّ للثورة من سياسة تواكبها، وأهداف سياسية تتطلع إليها، وأساليب سياسية تتعامل بها، وساسةٍ ثوّارٍ يحملون الثورة في أعمق أعماقهم وهم يمارسون السياسة بألسنتهم ومعاملاتهم.. أمّا أن يقال -كما يقال باستمرار- الثورة في حاجة إلى سياسيين يمارسون السياسة كما اعتادوا عليها من قبل، بعجرها وبجرها، في عالم معاصر لم يشهد عبر تلك السياسة ما يحرّر الشعوب والأوطان، ولا ما يسقط الاستبداد والفساد، ولا ما يواجه الهيمنة الأجنبية والاستغلال، ولا ما يصدّ عدوانا آثما أو ينهي تخلّفا فاجرا.. فهذا مرفوض جملة وتفصيلا.

الثورة الشعبية في سورية في حاجة إلى فريق من ثوار يمارسون السياسة، تنضبط خطاهم وتضمحلّ أخطاؤهم المحتملة، من خلال ارتباطهم المباشر بالثورة والشعب الثائر، ومهما ارتكبوا من أخطاء فهي لا تعادل بحصيلتها نسبة محدودة من حصيلة أخطاء فاحشة أخرى، يرتكبها من لا يرتبطون بالثورة والشعب الثائر ارتباطا أوثق وأعمق وأوضح للعيان من ارتباطاتهم بتوجّهات حزبية أو سياسية أو فئوية أو مصلحية ذاتية.

ولأنّ الثورة الشعبية قامت ضدّ استبداد فاسد احتكاري إجرامي استمرّ زهاء نصف قرن، لا يوجد في الساحة السورية ساسة محترفون بمعنى الكلمة، إنّما يمكن أن يخدم الثورة الشعبية بعض من يفقهون شيئا من السياسة، ويعلمون بعض العلم عن الواقع السياسي المعاصر، وإن لم يولدوا في رحم الثورة، إذا ما ربطوا أنفسهم وأهدافهم الآن بالثورة والشعب الثائر، وصنعوا لأنفسهم الآن أساليب ووسائل سياسية تدور حول محور الثورة، فلا يتعاملون معها انطلاقا ممّا يرونه حتميات واقع محلي وعربي وإقليمي ودولي، بل يتعاملون من منطلق الثورة ووفق منطق التغيير الذي تفرضه تاريخيا، مع تلك "الحتميات" المزعومة.

لا بدّ أن تلتقي طاقة التغيير عبر الثورة ومسار التغيير عبر السياسة، على ما يتجاوز حدود كلام في مقالات ومؤتمرات ومواثيق وعقود، إلى حصيلة مرئية على أرضية سياسة الثورة، وعلى ألسنة الثوار السياسيين، والسياسيين الثوار، بصياغات بسيطة محكمة، وأن يكون واضحا لكل من يريد أن "يرى"، أنّ هذه الحصيلة هي "سياسة الثورة" ولا شيء سواها، مهما وجد سواها من ضجّة وصخب، أو مظاهر احتفالية مصطنعة.

 

الحاضنة الشعبية الجامعة على نهج الثورة

المصدر الأكبر لقوّة الثورة -بعد مشيئة الله عزّ وجلّ- هو الشعب، بجميع مكوّناته، وكافة فئاته وانتماءاته، ويستحيل أن تحقّق الثورة تغييرا جذريا حقيقيا وشاملا، عبر إسقاط استبداد طائفي، حزبي، فئوي، إجرامي، منحرف، إن تسرّب إليها أو إلى نتائجها، شيء من تلك المواصفات التي اندلعت الثورة الشعبية ضدّها وضدّ من ارتكب ما ارتكب من آثام وموبقات من خلالها.

يجب أن يكون واضحا في سياسات الثورة وجميع ما يعلنه الثوار باسمها، وفي ممارسات الثورة عبر الثوار وقياداتهم المدنية والسياسية والعسكرية، أنّها على طريق تغيير جذري تاريخي:

- ينهي ممارسات الاستبداد بجميع أشكاله.. فلا استبداد بعد اليوم بأي ذريعة تستغلّ شعارات مزيّفة

- ينهي ممارسات الفساد بجميع أشكاله.. فلا محاباة لأي فرد أو فريق أو فئة لأيّ غرض وفي أيّ مجال

- ينهي ممارسات الطائفية بجميع أشكالها.. فلا طائفية في وطن سوري تصنع الثورة علاقاته الشعبية

- ينهي ممارسات التبعية الأجنبية بجميع أشكالها.. فلا علاقة بعد اليوم تخدم الهيمنة الأجنبية

العقبة الأكبر لا تكمن في الثورة.. بل فيما يُصنع من خارج نطاقها لتنحرف عن مسارها. فرغم كلّ شكل من أشكال الافتراق ما بين أطراف نظام ساقط، وأطراف تدعم المجرم، وأطراف تؤيّد الثورة، تلاقى هؤلاء جميعا -لأغراض متباينة ومآرب تتناقض مع أهداف الثورة والثوار- على أمر مشترك:

تحويل الحاضنة الشعبية الواحدة للثورة، إلى محاضن لصراعات حاضرة ومستقبلية، فئوية باسم أقليات، عقدية باسم طوائف، عرقية باسم قوميات، مصلحية باسم طبقات، سياسية باسم اتجاهات.. وكما يستخدم النظام الساقط لهذه الغاية أساليب همجية مدروسة تواكبها موبقات سياسية وإعلامية خبيثة، فإن الأطراف الخارجية التي تدعمه تعمل للغاية نفسها نتيجة توهّمها أنّ هذا يضرب الثورة وينقذ "الاستبداد الحليف" من قبضة حاضنتها الشعبية، وكذلك الأطراف الخارجية التي تقول إنّها تدعم الثورة تمارس لعبتها الخطيرة التقليدية بدعوى الحفاظ على حقوق وحريات لجماعات وفئات وأقليات وما شابه ذلك من المسميات، ولا تصنع ذلك إلاّ من أجل صناعة ثغرات تنفذ منها الآن ومستقبلا لتحقيق مآربها هي، في حاضر الثورة ومستقبل دولة الثورة.

رغم المعاناة.. رغم آلام لا تطاق.. رغم ممارسات همجية لا مثيل لها في تاريخ البشرية القديم والحديث، يجب أن يعمل الثوار على الحيلولة دون أن ينتصر النظام الساقط بعد سقوطه، أو ينتصر داعموه بعد إخفاقهم، أو ينتصر المتربّصون به عداءً معلنا بل بالثورة أيضا دعما منقوصا وملغوما، ومثل ذلك الانتصار المرفوض يتحقّق -ولو جزئيا- عندما ينزلق فريق من الثوّار في اتجاه يحقّق مآرب الفصل بين الثورة وحاضنتها الشعبية، لأسباب فئوية أو طائفية أو قومية أو سياسية.

آنذاك يمكن أن تنتهي الثورة غلى "هزيمة" وإن أسقطت النظام الاستبدادي الطائفي الفاسد.

لا بدّ أن تتحوّل المعاناة التي بلغت آلامها عنان السماء إلى مصدر قوّة تشهد عليها الأرض والسماء، أنّ هذه الثورة الشعبية تقتصّ.. ولا تنتقم، تحاسب.. ولا تظلم، تمحق المستبدّ.. ولا تستبدّ، تقاضي المجرم.. ولا ترتكب جريمة، تبني.. ولا تهدم، تعدل.. ولا تميّز، توحّد.. ولا تفرّق، لأنّها ثورة شعب يقدّم التضحيات البطولية، ليخلو مستقبله من سفك الدماء ظلما.. دماء أي فرد من أفراده.

 

المبادئ والأهداف والنهج الإسلامي

لا يعني ما سبق إطلاقا أن تستجيب الغالبية الشعبية السورية المتديّنة، التي نشأت على الإسلام عقيدة وحضارة، أو عاشت الإسلام حضارةً ومنهجا، لمطالب استفزازية، تتعدّى على الإرادة الشعبية، كي تتخلّى الغالبية عن تشبّثها بهدف إقامة حياة إسلامية وحكم إسلامي، وفق ما قرّره الإسلام للإنسان جنس الإنسان، وحفظ من خلاله المبادئ الإنسانية الجامعة المانعة، وجعل الالتزام بها جزءا لا ينفصم عن الالتزام بالإسلام نفسه.

لا ينبغي أن تنطلق الثورة والثوار من مطالب الآخر، الودّية أو المعادية، والمغرية أو المتوعّدة، بل يجب أن تنطلق من مطالب الشعب الثائر، من إرادته الحرة، ومن إسلامه عقيدةً للمؤمنين وحضارةً لسائر البشر، عبادةً للمسلمين ومنهجاً للإنسان، لنقول بكل وضوح.. ودون تردّد، ليس من باب تلبية مطالب الآخرين، بل نتيجة الاقتناع المطلق بما لدينا:

لن تؤدّي الثورة إلى إكراه أي إنسان في ميدان المعتقد.. لأنّ الإسلام حرمّ ذلك فلا إكراه في الدين.

لن تؤدّي إلى المساس بكرامة ذكر أو أنثى بسبب أيّ انتماء.. لأن الإسلام فرض تكريم بني آدم دون تمييز.

لن تؤدّي إلى تمييز فئة على فئة أو فرد على فرد.. لأن الإسلام أمر أمرا قاطعا بالعدل للناس جميعا.

لن تؤدّي إلى حرمان آدمي من حريته.. لأن الإسلام قرّر تحريم استعباد الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا.

لن تؤدّي إلى حظر حقّ مشروع من الحقوق المعنوية أو المادية.. لأن رب العالمين يقول في كتابه الكريم {كلاّ نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا}.

ومن يتعدّ هذه المبادئ والأحكام الإسلامية يواجه العقوبة التي يستحقّ في الحياة الدنيا، كما يسري عليه بين يدي الخالق جلّ وعلا: (هلك المتنطّعون) و(ما شادّ الدين أحد إلا غلبه) وأمثال ذلك كثير.

لا ينبغي الانسياق وراء مقولات تزعم ضرورة تجنّب إعلان الحياة الإسلامية والحكم الإسلامي هدفا واضحا صريحا وثابتا، بدعوى أنّ الذين مارسوا ما مارسوه من عداء خارجي أو انحراف داخلي عمّموا صورة مشوّهة عن الإسلام، فالجواب على ذلك هو بيان الإسلام قولا وتطبيقا كما أنزل، وهو الذي حفظ موقع الإنسان، جنس الإنسان، في بناء المجتمع والدولة، وهو الذي قرّر مع نزول الوحي ما بات يعرف -بعد قرون وقرون- بسيادة القضاء واستقلاله، والفصل بين السلطات، وغير ذلك ممّا يزعمون أنّه من نتاج تنوير وحداثة، ولا يرون ما أقامته الحضارة الإسلامية عندما قامت على مبادئ الحياة الإسلامية الإنسانية والحكم الإسلامي الإنساني.. بكلّ ما تعنيه هذه الكلمات من معنى، بل يتجاهلون ما صنعته في واقع الحياة البشرية وتاريخها من تغيير كان أشبه بالمعجزات، ومن حق الثورة الشعبية في سورية وواجبها ومن مسؤوليتها إقليميا ودوليا أن تستأنف هذه المسيرة الإسلامية الحضارية الإنسانية بعد انقطاع طويل.

 

الرؤية المستقبلية والتعامل مع الآخر

مسار الثورة غدا، بعد اكتمال إسقاط النظام الساقط، هو ما يقوم على ما يرسّخ الثوار دعائمه الآن أثناء صناعتهم معجزة الثورة البطولية التاريخية، وعبر ما يوجدونه الآن من ضوابط كي تولد الدولة من رحم الثورة الشعبية، وكيلا تفتك بحصيلتها يد آثمة، من جانب أيّ طرف من الأطراف.

ما يسمّى "الأرض المحروقة" في ممارسات النظام الساقط ليس مجرّد "شتيمة" يستحقها، بل تمثل أحد التحديات الكبرى بين يدي الثورة والشعب.

إنّ ما يرتكب النظام الساقط من جرائم يطلقون عليها وصف جرائم ضدّ الإنسانية، لا تقتصر على (1) التعبير النوعي التلقائي عن همجية نشأ عليها واستفحل أخطبوطه السرطاني بممارستها، و(2) ممارسة الانتقام من الشعب الثائر و(3) محاولة زرع وتد بين ضحايا الإجرام من عموم المدنيين من الشعب وبين ثواره المسلّحين، بل تفرض جرائمه ضدّ الإنسانية -رغم الأعباء الجسيمة الكبيرة التي يحملها الثوار على عواتقهم ويحملها الشعب الثائر في واقع حياته اليومية- أداء واجبات إضافية إلى جانب محق الإجرام:

1- أن يعتبر الثوار واجب تأمين الاحتياجات المعيشية، كتأمين الضرورات الأمنية، جزءا من الثورة وواجبات الثوار، بالتعاون الوثيق مع عامّة المدنيين، ومع من يدعم الثورة من خارج أرض الوطن من المخلصين الصادقين.

2- أن يبدأ الآن ربط الجهود اليومية المضنية لهذا الغرض، بالتخطيط الضروري لتكون كل "لجنة شعبية مدنية" وكلّ "هيئة أمنية قضائية" وكلّ "شبكة تموين غذائية" وكلّ شكل آخر من أشكال التنظيم لتخفيف المعاناة في الحياة المعيشية، نواة أولى لإقامة البنية الهيكلية للمجتمع والدولة، وبداية لتحقيق أوّل هدف من أهداف الثورة بعد استكمال إسقاط النظام الساقط.

إنّ في سورية وخارج سورية من المتخصصين والخبراء والكفاءات القادرة على التخطيط والعمل، ومن المخلصين الذين لا يستطيعون المشاركة المباشرة في العمل المسلّح وحتى في المظاهرات البطولية تحت القصف، عددا كبيرا من السوريين الذين يجب استنفارهم لأداء هذا الواجب الإضافي، خارج نطاق أيّ انتماء، فالانتماء الوحيد المفروض والمطلوب اليوم هو الانتماء لسورية والثورة، وإن معيار الانتماء إلى الثورة ومستقبل سورية اليوم، لا يرتبط بعنوان أو تنظيم، ولا بمجلس أو هيئة، ولا ببيان أو موقف أو مؤتمر، بل يرتبط أوّلا وأخيرا بالمشاركة في الجهد الثوري المبذول للوصول بمسار الثورة إلى النصر وبالشعب الثائر إلى الحياة الحرة الكريمة العزيزة التي يتطلّع إليها ويبذل الغالي والرخيص من أجلها.

لا يتحقق ذلك دون تخطيط ولهذا أصبح التخطيط جزءا من العمل الثوري الواجب.

لا يتحقق ذلك دون الشروع في البناء ولهذا أصبح البناء جزءا من العمل الثوري الواجب.

ولا يتحقق ذلك دون تعاون شامل ولهذا أصبح التعاون الشامل جزءا من العمل السياسي القويم.

ولا يتحقق ذلك دون التخلّي عن كل سبب من أسباب التفرقة وأسباب التيئيس وأسباب الإحباط وأسباب نشر الروح الانهزامية، بدعوى سياسة واقعية، أو ضرورة معطيات إقليمية ودولية، ولهذا أصبح التخلّي عن ذلك كلّه دليلا على صدق الارتباط بالثورة، مشاركة مباشرة، أو دعما حقيقيا خالصا من الأغراض الجانبية.

وكما أنّ الثورة الشعبية العفوية فرضت -إقليميا ودوليا- واقعا جديدا اضطرت جميع الأطراف الأخرى إلى التعامل معه، سلبا أو إيجابا، فإن طريق الثورة في هذه المرحلة الحاسمة من مسارها، يتطلّب إقامة نواة مستقبلية للمجتمع والدولة، تفرض نفسها كجزء من واقع الثورة، فتفرض على جميع الأطراف الأخرى التعامل معها، بل هي الشرط الأوّل لانكفاء السلبيات في تعامل "الآخر" مع الثورة، والتحرّك -طوعا أو كرها- لتعامل إيجابي مع نتائجها وثمراتها، وهذا ما يمكن أن يتنامى بقدر ما يظهر للعيان أنّ الثورة لا تسقط الاستبداد الفاسد الهمجي فحسب، بل هي قادرة على صناعة المستقبل المنشود، بما يحقق للشعب الثائر أهدافه الجليلة المشروعة، ويفتح الأبواب أمام العلاقات النديّة القويمة مع كلّ من يدرك أن لا سبيل إلى التعامل مع تحرّر الإرادة الشعبية في سورية، إلا سبيل العلاقات الندية القويمة.

=============================

الثقافة السائدة في سورية هي عربية إسلامية

د. قصي غريب

إن عملية النهضة في سورية تتم عن طريق العودة إلى المنابع الروحية والأصول الحضارية مع انفتاح راشد على العصر ومدنياته وثقافاته وحضاراته الإنسانية الأخرى، والإستفادة من كل ايجابياتها، ولكن البعض المستلب يطل علينا من شرفة الأخر ويحاول استيراد حلول جاهزة لأوضاع سورية السياسية والاقتصادية من خلال التبشير بالحداثة والعصرنة على الطريقة الغربية بعد أن انبهروا وفتنوا بالغرب، وسيطرت على عقولهم الثقافة الغربية، وأقروا لها بعالمية تتخطى حدود الثقافات والحضارات الأخرى، بحيث انقلبوا إلى محطة تبشيرية لها بعد أن اغتربوا وارتبطوا بها، وعدوها معيار التقدم والتمدن، فقام خطابهم الفكري، والسياسي، والإعلامي على استحضارها، وتحولوا إلى قلم وبوق لها، وابتعدوا عن ثقافة الشعب السوري العربية الاسلامية، وأعلنوا احتقارهم لها، وإحساساهم بالتميز عنها، وخجلهم من الإنتماء إليها، فاشتدوا في الهجوم عليها إلى حد الإبتذال الرث، فوضعوا التراث موضع التناقض مع المعاصرة، وغفلوا أن حركة المجتمع تأخذ اندفاعها من معطيات الماضي لتواجه الحاضر وتقتحم المستقبل، فالشعب الذي لا ماض له لا يمكن أن يكون له حاضر ومستقبل، فالعبرة من العودة إلى الماضي هي لإدراك الذات من منطلق الايمان بفلسفة التاريخ لا نهجه، وفي تاريخنا من القيم الثقافية والحضارية ما هو كفيل بأن يكون لنا حافز للتقدم إلى الأمام، ولكنهم شنوا حملة غوغائية عنيفة على الثقافة والحضارة العربية الإسلامية مركزين في السلبيات بشكل يثير الدهشة، والإستغراب، والإستنكار مع أن لكل شعب في حياته سلبيات، فالتخلف مثلاً ليس له علاقة بالعنصر العربي أو الدين الإسلامي، فالعيب ليس فيه، لأنه حصل لشعوب أخرى خلال مراحل تاريخها، وهو حاصل اليوم لأكثر شعوب الأرض، وإنما العيب في التقاعس عن مكافحته، فمصير أي شعب من الشعوب متوقف آخر الأمر على مؤهلاته للحياة لا على الأوضاع التي تحيط به، فالأوضاع قد تقدم بعض الشيء أو تؤخر، ولكن كما يبدو أن هناك موقف أيديولوجي من الثقافة والحضارة العربية الإسلامية،لأنهم يصورون كل ما هو عربي بشكل سلبي، ويرددون الخطاب الشعوبي القديم ذاته، إذ يرمون العرب بكل العيوب، فهم معبأون بأحقاد العنصريين، فموقفهم ليس مجرد موقف سلبي بقدر ما هو أيديولوجي، ولذلك يؤدون دوراً تخريبياً بامتياز، فأسلوبهم منحرف لتحاملهم على قدرة الأمة على الانبعاث، وتحقيق الذات بأن يكون لها مكانة بين الأمم، ودور في الحضارة الإنسانية من جديد، فعلى الرغم من أن الوجدان السوري ما يزال متعلق بالثقافة والحضارة العربية الإسلامية إلا أنهم قد أعلنوا الحرب عليها، وجعلوا من المؤمنين بالهوية والثقافة والحضارة العربية الإسلامية متهمين بإثم كبير، وعقوبتهم الطاعة الملزمة لأفكارهم المعلبة المستوردة، نعم في سورية مشكلات وتحديات تواجه المجتمع السوري، ولكن لديه القدرة على مواجهتها، إذ تم إدرك قيمة العلم والتعليم، والإيمان بالديمقراطية بالقول والفعل، فالحداثة والعصرنة تحصل من دون الحاجة إلى نقل التجربة الغربية من خلال أن يكون لدينا مشروعنا الوطني الثقافي والحضاري الخاص المستلهم من تراث هذه الأمة وثقافتها وحضارتها، مع الاستفادة بما لدى الآخر من خبرة وتجربة، فالعالم اليوم قد ارتبط بعضه ببعض، وأصبح قرية كونية صغيرة نتيجة للثورة التكنولوجية في وسائل الإتصال والمواصلات، ومن الصعوبة الإنغلاق أو القطيعة الحضارية، ولكن، أي محاولة لإستيراد أفكار خارجية لا بد أن تخضع لعملية توفيق تجعلها متلائمة مع مفاهيم المجتمع السوري، من خلال ضرورة المواءمة بين الأصالة والمعاصرة، وتدشين عصر جديد قاعدته الأصالة، وبنيانه المعاصرة عن طريق الموازنة بين تحديات عصر العولمة، والمحافظة على الهوية العربية الإسلامية للمجتمع السوري، كي لا نصبح مجرد متلقين لقيم الأخر من دون مساءلة، ولا نسعى في الوقت نفسه إلى الإنعزال عن العالم المحيط بنا من دون الأخذ بما هو ايجابي من قيم العولمة، ولذلك لا بد من التعامل مع ثقافة العولمة بحكمة توازن بين الإستفادة من ايجابياتها، والحفاظ على القيم العربية الإسلامية للمجتمع السوري ولكن هؤلاء يريدون نقل التجربة الغربية إلى بلادنا بحذافيرها من دون أقلمتها مع القيم السائدة، ففي ظل المتغيرات الدولية الجديدة انتشرت الدعوة إلى تبني الديمقراطية الليبرالية، وبشكل محموم مع أن تطبيقها وتحقيقها في البلدان التي خضعت للنظم الإستبدادية لمدة طويلة عملية صعبة وشاقة، وتحتاج إلى مستوى ثقافي معين، ومن البناء الديمقراطي والإرتقاء بحقوق الإنسان، وفي هذا الشأن تقول وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت : الديمقراطية عملية مستمرة، وتحتاج إلى وقت، وهي لا تعني الإنتخابات فقط، بل تحتاج إلى وجود مؤسسات، ومعارضة قوية، ومجتمع مدني، وإعلاء حكم القانون، ولكن ما يطرحونه يشكل ظاهرة من الإنسلاب، والإرتهان الحضاري، فهم ما يزالون يتمسكون بالديمقراطية الليبرالية بصورتها المطبقة في الغرب، والتي هي حصيلة تطور كبير مر به استغرق أكثر من قرنين، ولكن هذا الانموذج الديمقراطي الغربي ليس من شأنه أن يساعد على تحقيق الأهداف في بناء مجتمع سوري عصري ومتمدن، لأن المجتمع السوري من الناحية الثقافية لا يتحمل تطبيق مثل هذه الديمقراطية، مما يشوه الصورة لها.

ولذلك يجب أن تتأقلم وتتكيف الديمقراطية الليبرالية مع الأوضاع السورية، من خلال تطبيق مبدأ المواطنة، واحترام حقوق الإنسان، والتعددية السياسية، وتداول السلطة سلمياً، والعدالة الاجتماعية، أي الجمع بين الحرية السياسية، والحرية الإجتماعية، والتوافق بين الأصالة والمعاصرة، فالمطلوب ديمقراطية تكون في مصلحة الشعب السوري، وتحافظ على التكامل الوطني، ومتلائمة مع القيم والثقافة العربية الإسلامية للمجتمع السوري، ومع انفتاح وتفاعل، وانطلاق على أفكار وتجارب، ومتطلبات العصر والحضارة الإنسانية، لا سيما وإن الديمقراطية ليست وصفة طبية جاهزة، فهي لا بد وأن تنسب إلى المكان والزمان، وتمارس في واقع اجتماعي محدد، ويجب أن ينسجم التطبيق الديمقراطي مع القيم والحقائق الثقافية والحضارية للشعب السوري من دون إغفال معطيات العصر، وتجارب وخبرات الشعوب الأخرى من خلال إيجاد حل متوازن لمعادلة الأصالة والمعاصرة بحيث لا يصبح مفهوم الديمقراطية غريباً، فالثقافة والحضارة اليابانية ازدهرت، لأنها استطاعت أن تأخذ من الثقافة والحضارة الغربية أسمى ما وصلت إليه من التقدم مع محافظتها على تراثها الروحي والفكري، فلو كان هؤلاء صادقون بالقول والفعل، ومؤمنون حقيقيون بالديمقراطية الليبرالية لقاموا بصياغة المشروع الديمقراطي الليبرالي بعد إخضاعه لعملية توفيق تجعله أقرب لطبيعة ثقافة المجتمع السوري، ومتلائماً مع مفاهيمه، ولكنهم ارتهنوا لتقليد الأنموذج الثقافي الغربي بحذافيره من دون موازنته بالقيم المحلية السائدة، وقد قالت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت : " إن لكل دولة ثقافتها وعاداتها، وأن الديمقراطية تختلف من دولة لأخرى ". ولهذا فان الهجوم على الليبراليين بدعوة أنهم عملاء للغرب، ويتحركون في فلكه ومشروعه لإعادة استعمار المنطقة من جديد يتحملها هؤلاء الغوغاء الذين لا ينتمون إليه بالحقيقة، ونحن من منطلق عربي إسلامي منفتح على معطيات العصر، واحترام الفكر الإنساني، والرأي الآخر فاننا ضد كل من يقول : بأن من يدافع عن الديمقراطية الليبرالية، ويؤمن بها، ويدعو إلى تطبيقها في بلادنا هو موال للأخر الخارجي، لأن بعد استقلال سورية طبقت في بلادنا، ولكن بما ينسجم مع ثقافة وقيم وطبيعة المجتمع السوري العربي الذي يشكل فيه الإسلام كديانة وثقافة وحضارة أساساً مهماً في تكوينه النفسي والحضاري، وفي بنيته العقيدية والاجتماعية .

ولذلك فإن محاولة طرح قيم جديدة مستوردة، وتشويه وإلغاء قيم سائدة بما يتفق وأهداف سياسة الأخر هو محاولة بائسة لعولمة ثقافة وحضارة الغرب لتنميط الجميع بدعوة الحضارة العالمية الواحدة وتسيدها كأنموذج للحضارة الإنسانية الشاملة، في حين ما يزال الغرب تحت سلطة غرائز الأثرة والتحكم، ففي الماضي اتجهت سياسة الدول الإستعمارية نحو طمس الهوية الثقافية والحضارية للشعوب المستعمرة، وفصلها عن تراثها القومي بغية تفكيك الشخصية القومية، والقضاء على هويتها، وإغراقها في ضياع تام، واليوم يسعى الغرب إلى فرض أنموذجه الثقافي والحضاري على العالم بفضل تفوقه العلمي والتقني مما أخذ يهدد ثقافات وحضارات الأمم الأخرى بالذوبان والإنقراض، لهذا فإن ثقافات وحضارات الأمم الأخرى مهددة في الوقت الحاضر أكثر مما كانت مهددة في الماضي، وهي مطالبة بمضاعفة الجهود التي تحافظ على وجودها، وهويتها الثقافية والحضارية، فوجود الأمم يرتبط بوجود ثقافتها الخاصة، وهويتها المميزة، فإذا زالت ثقافتها أو انمسخت في ثقافة أخرى زالت تلك الأمة من الوجود، وفي هذا الشأن يقول فرانز فانون : " لا أمة بدون ثقافة خاصة، ولا ثقافة بدون أمة "، والأمم الحية لا تتأقلم أبداً بإطار ينفي قيمها الثقافية والحضارية ويفرض عليها الخنوع والذوبان في ثقافة وحضارة الآخرين .

ومن هذا المنطلق فإن حضارة كل أمة هي : " مجموعة القيم، والمبادئ، والمفاهيم التي تؤمن بها وتعتنقها، وتوجه سلوكها، وتقوم مجتمعها " إنه تراثها التي استقام لها عبر القرون، وعن طريقه تكونت أخلاقيات وصفات نابعة من ركائزها الروحية، وأصولها الحضارية، فهوية أي أمة هي صفاتها التي تميزها عن باقي الأمم لتعبر عن شخصيتها الثقافية والحضارية، ولكن المفارقة في الوقت الذي يساند هؤلاء حقوق الأقليات القومية والدينية واللغوية، ويدافعون عنها بقوة يراد للمجتمع السوري ذي الأغلبية العربية المطلقة التنكر لحضارته الروحية، والفكرية بمحاولة قطع بينه، وبينهأ بعزله عن الإسلام الذي هو عقيدته وثقافته، ودفعه إلى متاهات الضياع ليسهل القضاء عليه، فهنالك باحث غربي ويدعى هانز فيشر لا يتردد في القول : " بأنه لا أمل للمجتمعات الإسلامية في الخروج من بوتقة الركود والتخلف إلا في التنكر لكل ما يربطها بالإسلام، والإقتداء بالأنموذج الديمقراطي الغربي "، ويظهر أن الهدف الاستراتيجي هو اجتثاث الجذور لتتهاوى المقومات وتصبح في مهب الريح، ولكن جهلوا أن التراث العربي الإسلامي يمثل إحدى الحلقات الأصيلة للتراث الإنساني، فقد قال المفكر العربي قسطنطين زريق : " كانت هناك دائماً حضارات تسود، وحضارات تتنحى إلى حين لكن دورات الصراع والتفاعل الحضاري كانت تسمح دائما للحضارات الأصلية بالإزدهار مجدداً، وحضارة الغرب تسود الآن، في حين حضارتنا في وضع المتنحي لا الميت "، ففي قمة ازدهار الحضارة العربية الإسلامية التي ورثت في القرون الإسلامية الأولى الثقافات والحضارات العالمية الهندية، والفارسية، واليونانية، وسطعت على العالم منذ القرن السابع الميلادي في زمن كان فيه الغرب يخيم عليه الإنهيار والتدهور، ويعيش في الظلام فقد استطاع الفكر العربي الإسلامي أن يضع حداً للجهالة والتخلف التي فرضتها على العالم الغربي التقاليد الدينية عن طريق الفارابي، وابن سينا، وابن رشد أن يعيد صياغة العقل الأوربي مقدماً لتلك الإنطلاقة التي بدأها القديس توماس الأكويني لتنتهي بحضارة عصر التحرير والتنوير، وقد عملت بعض المدن الأوربية المتوسطية، مثل : كريت، وصقلية، وأثينا، وأماكن، مثل : قبرص، والأندلس كمراكز وسيطة لحركة الترجمة، والنقل والتطوير عن العرب المسلمين، وأقلمته مع عصر النهضة في كافة المجالات، ولا يخجل الغرب من ذكر هذه الحقيقة، بإنهم نقلوا عن الحضارة العربية الإسلامية علومهم وطوروها، فالفكر العربي الإسلامي يخلق الحركة، و يقدم للعالم الغربي عصر النهضة عندما كانت حضارة العرب المسلمين في قمة الازدهار وسائدة، في حين كان الغرب ليس في وضع المتنحي، بل كان يخيم عليه الجهل والتخلف، ويعيش في الظلام، ولذلك فإن تجاهل وإقصاء التراث الثقافي والحضاري العربي الإسلامي الذي كان له دوراً فعالاً في تشكيل الحضارة الإنسانية في أن يكون له دوراً في عملية النهضة والتحديث والتغيير في بلادنا هو الجهل، والتخلف، والصفاقة بامتياز.

وبناءاً على ما تقدم، فإن هؤلاء الذين انبهروا وفتنوا بالغرب، فأصيبوا بعقدة النقص والدونية وجلد الذات لعدم نضجهم الفكري والسياسي، وحكموا علينا بالجدب، والإفلاس، والعقم، أصالتهم هشة، وثقافتهم ضحلة، وإنهم ليسوا من أبناء سورية إلا بالاسم، لأن جذورهم لا تتصل بالمنابع الروحية والأصول الحضارية للشعب السوري التي ولدت الإبداع في الماضي، إذ أن الذين لا يعون ماضيهم، وثقافتهم، وحضارتهم يشك فيهم، فجهلهم قد جعلهم يعتقدون إنهم بشتم وإهانة الثقافة العربية الاسلامية قد دخلوا العصر والحداثة، وأن ما يقومون به يصبحون مقبولون من الآخر، ولكنهم بالحقيقة يفتقدون إلى التربية الوطنية ويمارسون النخاسة، ، فما نراه منهم بعد أن فقدوا أصالتهم هو انحطاط حضاري، وانحراف فكري، وانهيار أخلاقي لمحاولتهم استيراد تجارب معلبة، فالنهضة لا تقوم باستيراد أفكار وتجارب أجنبية جاهزة، وإلغاء لقيم ثقافة سائدة، خاصة وإن الشعب السوري الذي يشكل فيه العرب أغلبية سكانية مطلقة لا يهون عليه أبداً التفريط بالثقافة والحضارة العربية الإسلامية التي تمنحنه شرف الانتماء، وعزة الأصالة من خلال الذوبان أو التعلق بذيل ثقافات وحضارات الآخرين.

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ