ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

السبت 30/06/2012


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

تأملات سياسية في القرآن : أطغى من فرعون (1)

د. محمد بن ناصر الكثيري

لقد شهد التأريخ عددا كبيرا من الطغاة العتاة وكان فرعون مضرب المثل في الطغيان والتجبر والتسلط على الناس وسلب الحريات فقد حاز غاية الطغيان في زمانه؛ ولذا أكثر القرآن الكريم من سرد مواقفه والتحذير من الطغيان الذي ترمز إليه شخصيته، ولكأن القارئ للقرآن لا يرى فيه إلا هدما لعروش الطغيان وتقويضا لها وتخليصا للإنسان من قبضتها، وأفاض في ذكر سيرة نبي الله وكليمه موسى عليه السلام ليكون دليلا وهاديا في كيفية مواجهة الطغيان وتقويض بنيانه وتحرير الناس من قيوده وأغلاله المرهقة، وكيف تمكن هذا النبي الكريم من إسقاطه وهو في قمة طغيانه على مرأى من أعوانه بل وعلى مرأى من الناس على مر التأريخ فنجاه الله ببدنه دون غيره من الطغاة ليكون لمن خلفه آية، الذين جاء منهم من ارتكب ما هو أطغى مما فعله فرعون وأعتى ﴿ وَمَا تُغْنِى ٱلْءَايَـٰتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوْمٍۢ لَّا يُؤْمِنُونَ﴾، يونس:١٠١.

 

فقد شهدنا في زماننا هذا من الطغيان ما فاق ما كان عليه فرعون من طغاة أسكرهم حب الرئاسة والجاه وأعماهم إمهال الله لهم وسكوت شعوبهم عنهم حينا من الدهر، فنسوا الله تعالى واحتقروا الناس وتجبروا عليهم وأفقروهم وأذلوهم وارتهنوا دولهم وأرضهم وخيراتها لأعدائهم وأصبحوا فراعنة وحوشا على شعوبهم ودوابا مذللة لأعدائهم! والله تعالى المستعان.

 

والتفاوت في الطغيان أمر متحقق ويتكرر في زمن دون آخر ومن وجوه دون أخرى، وقد وصف الله تعالى قوم نوح بأنهم أظلم وأطغى من عاد وثمود وقوم لوط، فهؤلاء الأقوام كانوا أبشع وأظلم من قوم نوح من بعض الوجوه التي عرفوا بها وتخصصوا فيها إلا أن قوم نوح أظلم منهم وأطغى من حيث العموم في قوله تعالى: ﴿ وَقَوْمَ نُوحٍۢ مِّن قَبْلُ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا۟ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ ﴾، القمر:٥٢ ، والله تعالى أعلم.

 

ولئن كانت بعض صور الطغيان المعاصرة تفوق في طغيانها ما كان عليه فرعون من طغيان إلا إنه ربما لن يجتمع الطغيان في شخص واحد ومن جميع وجوهه كما اجتمع في شخص فرعون موسى والله تعالى أعلم.

 

هذه التأملات محاولة لكشف الصورة البشعة للطغيان المعاصر الذي وقع الناس ضحية له يهيمن على حياتهم كلها ويدمر قيمهم الإنسانية بما يوجده من بيئة خاصة به لها قيمها وأخلاقها وموازينها، وفيها بعض من هذه الصور المقيتة والمسيئة للإنسانية في عصورها المتأخرة والتي كثيرا ما توصف بأنها تتسم بالتقدم والرقي وحفظ كرامة الإنسان وحقوقه:  

 

التصفية الجسدية:

 

قال فرعون في معرض محاجته لنبي الله وكليمه موسى عليه السلام: ﴿ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ ﴾، 19، فرد عليه موسى عليه السلام معترفا بخطئه: ﴿ فَعَلْتُهَآ إِذًۭا وَأَنَا۠ مِنَ ٱلضَّآلِّينَ ﴾، ٢٠﴿ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ... ﴾، الشعراء: ٢١. وانتهى الأمر عند ذلك فلم يكن فرعون بحاجة لتلفيق التهم لإدانة موسى، فموسى مقر بفعلته ولكن فرعون لم ينتهز هذه الفرصة ويستغل الموقف للتخلص من هذا الخصم اللدود فيحضر دفاتر التحقيق لتوثيق اعتراف موسى ويشكل له محاكمة صورية تحكم عليه بالإعدام بموجب اعترافه فضلا عن أن يأمر على الفور بقتله والقضاء عليه، بل لم يوظف هذه القضية إعلاميا لتشويه سمعة موسى والنيل من مكانته ومصداقية ما يدعو إليه!

 

وقد كانت فرصة سانحة لفرعون للقضاء على موسى والتخلص منه قبل أن تظهر دعوته ويعظم أمره، فالمبرر موجود لقتل موسى عليه السلام لكونه انتهج أسلوب العنف وأزهق نفسا بريئة فهو مستحق للقتل، العجيب أن فرعون لم يجازه بأي شيء على هذه الجريمة لأنها كانت خطأ وقد اعترف موسى به فلا مجال للعقوبة أو الإدانة بل ولا حتى التثريب وتشويه السمعة على هذا الفعل!

 

لم يعمد فرعون لسجن موسى على فعلته هذه أو على أي من مواقفه المتعددة معه التي يكفي لواحد منها عند فراعنة العصر أن يلقى في السجن دونما حكم أو مساءلة، ولم يكن المانع من ذلك أنه لم يكن في ذلك الزمان سجون بل لقد كان لدى فرعون سجن وفيه سجناء كما حكى الله تعالى عنه قوله: ﴿ لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهًا غَيْرِى لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ ﴾، الشعراء: ٢٩.

 

المبالغة في التهم الزائفة:

 

لم يتهم موسى عليه السلام بما يلفقه اليوم فراعنة العصر من تهم مزيفة مثل تهمة « التطاول على السلطان» وقد فعل عليه السلام عندما قال: ﴿ وَإِنِّى لَأَظُنُّكَ يَـٰفِرْعَوْنُ مَثْبُورًۭا ﴾، الإسراء: ١٠٢، على سبيل المثال. أو الاتهام بالتحريض على الحاكم " فرعون" وقد فعل عليه السلام عندما سعى لتخليص بني إسرائيل من سلطته. أو التحريض على الانشقاق ورفض الأوامر وقد فعل عليه السلام عندما وعظ السحرة عندما جاؤوا لمواجهته، وقد تمكن بالفعل من التأثير عليهم وخلخلة صفهم كما وصف تعالى حالهم بقوله: ﴿ فَتَنَـٰزَعُوٓا۟ أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا۟ ٱلنَّجْوَىٰ ﴾، طه: ٦٢.

 

البطش والإفراط في القوة والعقوبة:

 

لم يكن البطش والاعتماد على القوة في حسم الأمر مع موسى هو الخيار المفضل والمقدم عند فرعون ابتداء، لقد أتاح فرعون المجال لموسى بمناقشته تارة وبحواره تارة أخرى ثم عرض عليه المناظرة العلنية في نهاية المطاف، ففرعون رغم طغيانه وعلوه لم يحرق المراحل في المواجهة مع موسى عليه السلام كما يعمد جبابرة اليوم بالمبادرة باللجوء للبطش بمن يتوقع أن يشكل تهديدا ولو على المدى البعيد والمبالغة في استخدام القوة بحقه والإفراط في العقوبة على الخطأ اليسير بحجة الحسم والتنكيل وجعل الخصم عبرة للغير! 

 

الإعدام فكريا واحتكار الإعلام:

 

كان لموسى كما لفرعون حق استخدام وسائل الإعلام الجماهيرية المتاحة على حد سواء، فلم يحتكرها فرعون لنفسه ويمنع منها موسى وغيره! ولم يمارس فرعون الإعدام الفكري على معارضه موسى ولم يضرب عليه الحصار الإعلامي! بل ترك له المجال مفتوحا يعبر عن رأيه وينشر فكره بل أكثر من هذا أتاح له مخاطبة جميع الناس في عيدهم وموعد زينتهم فجعل موعد المناظرة هو يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى!

 

على عكس ماعليه الطغيان المعاصر اليوم من إقصاء للخصوم ومنع لهم من الظهور في وسائل الإعلام وحرمانهم من جميع المنابر أيا كانت! فأسماؤهم مدرجة في قوائم الممنوعين من المحاضرات والخطب، وجميع وسائل الإعلام لا تسمح لهم بالظهور فيها، فلا كتابة في الصحف ولا استضافة في القنوات التلفزيونية، ولو نشرت صحيفة لهم لما فسحت ولحجبت عن الصدور وقد يوقف تصريحها الإعلامي، أما المواقع الإلكترونية على شبكة المعلومات فتحجب أو تغلق تماما، وتسن الأنظمة لإيقاع الغرامات المالية ويتعرضون للابتزاز والمساومة والتهديد بقطع الأرزاق!

 

ومن عجيب أمر الطغيان المعاصر تهديد من يحاول التعبير عن رأيه ولو بشكل سلمي بسحق الجماجم! وفيه دلالة على مدى هوس هذه النفوس المأزومة وتعطشها للبطش وسفك الدماء وإزهاق النفوس، وفيه دلالة على أن الطغيان نبتة خبيثة توجد في بعض النفوس وتظل كامنة فيها وتحتفظ بالاستعداد للتحول إلى مشروع طاغية يوم تسنح لها الفرصة وتوجد لها البيئة فتنمو وتتعاظم، فالطغيان ليس مقتصرا على الحكام والرؤساء فقد يوجد عند غيرهم من المحرضين لهم على الظلم والبطش.

 

التجريم بالاتصال واللقاء:

 

كان لموسى كما لفرعون حق الاتصال وتكوين العلاقات مع من يشاء وقت ما يشاء دون أن تطارده تهم « الاتصال بجهات مشبوهة» أو « الارتباط بجهة خارجية»! هل كان ذلك كله لأن الأجواء السائدة آنذاك أكثر حرية وانفتاحا مما هي عليه في هذا الزمان؟!

 

كثرة الحجاب والأبواب الموصدة:

 

لم يحتجب فرعون رغم ملكه وكثرة جنوده، وتمكن موسى عليه السلام من الدخول عليه مرارا ومخاطبته مباشرة، فلماذا سمح فرعون لموسى بالدخول عليه؟ ولم لم يمنعه عن طريق الحاجب الأول عند البوابة الخارجية؟ بدعوى أنه مشغول أو لديه وفود رسمية أو اجتماع مهم! ومن يكون موسى لينال « شرف اللقاء به» كما هو حال المتجبرين المتغطرسين اليوم؟!

 

« النفط مقابل الغذاء والدواء» عار أخلاقي غير مسبوق:

 

عندما التقط آل فرعون الطفل الوليد موسى وجاؤوا به إلى فرعون الذي وهبه لامرأته واجتهد في الحفاظ على حياته وكلف من يبحث له عن مرضعة وأجرى لها المال، فهل كان نصيب الإنسانية في قلب فرعون أكثر من حال الطغاة اليوم الذين يذبحون الأطفال على مرأى من والديهم وأمام الشاشات العالمية؟ والذين يشنون حملات الإبادة الجماعية التي تشمل الأجنة في بطون أمهاتهم من خلال القصف العشوائي للقرى والمدن الآهلة بالسكان؟ أو الذين يفرضون الحصار على بعض الدول كما هو حال العراق خلال العقدين الماضيين فأصبح أطفال العراق ضحايا بريئة لهذا الحصار الجائر الذي لم يسمح بحليب الأطفال أو إدخال الأدوية لهم إلا من خلال صفقة مشينة عرفت بـ « برنامج النفط مقابل الغذاء» وصفقة « برنامج النفط مقابل الدواء» التابعين للأمم المتحدة التي شكلت عارا أخلاقيا تأريخيا غير مسبوق على هذا العالم في العصر الحديث من قبل من تجردوا من كل القيم عندما أخضعوا احتياجات الأطفال للمساومة للإستيلاء على النفط وتحقيق الأطماع في هذا البلد المنكوب على أيديهم!

 

ثم هل للإنسانية نصيب يماثل ما في قلب فرعون عند الذين فرضوا الحصار على العمل الخيري الإسلامي وطردوا مؤسساته من النيجر والصومال وأفغانستان والعراق ليحتكروه خدمة لبرامجهم التنصيرية في هذه الدول؟ دون اكتراث لمعاناة تلك الشعوب وما رأيناه من معاناة الأطفال ووفياتهم بسبب الأمراض الناتجة عن سوء أو نقص التغذية التي تعرضوا لها!

 

العجز الفكري:

 

كان فرعون على مستوى لا بأس به من القدرة على التفكير واستخدام الحجج العقلية رغم تواضعها وكان على ثقة بها وذلك لكونه قبل الدخول في مجادلة عقلية مع موسى وقال ﴿ ِإِن كُنتَ جِئْتَ بِـَٔايَةٍۢ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ ﴾، الأعراف: 106، بل وطلب الدخول في مناظرة علنية مفتوحة حيث يقول: ﴿ فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًۭا لَّا نُخْلِفُهُۥ نَحْنُ وَلَآ أَنتَ مَكَانًۭا سُوًۭى ﴾، طه: 58، الأمر الذي يتحاشاه الطغاة الصغار اليوم ويتهربون منه!

 

التبعية المطلقة وإلا الابتزاز السياسي:

 

لما استدعى فرعون السحرة ليستعين بهم في المواجهة المصيرية مع موسى عليه السلام، اشترطوا عليه أجرة لعملهم: ﴿ قَالُوٓا۟ إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَـٰلِبِينَ ﴾، الأعراف: 113، فما كان منه إلا أن قبل ولم يكتف بالوعد بما طلبوه من المال بل وعدهم بالمناصب الكبيرة في دولته بجعلهم من المقربين له فكان رده عليهم: ﴿ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًۭا لَّمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ ﴾  الشعراء: 42، وفي آية أخرى: ﴿ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ ﴾ الأعراف: 114، فلماذا تعامل مع الوضع بواقعية واعتبر طلبهم مشروعا ولم يفسره باعتباره ابتزازا سياسيا قائما على استغلال الظرف القائم والأزمة التي تمر بها الدولة كما هو حال التفكير لدى طغاة اليوم؟ ولم يسلك أسلوب طغاة الإعلام اليوم فيوجه لهم اتهاما بتخليهم عن واجب الدفاع عن الوطن في مواجهة الخطر الذي يرى أنه يهدد الجميع كما وصفه بقوله: ﴿ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَـٰذِرُونَ ﴾، الشعراء: 56؟

 

النظام الشمولي:

 

عندما آمن السحرة كان المأخذ لفرعون عليهم أنه لم يأذن لهم بالإيمان لموسى، فهل هذا الاحتجاج حقيقي أم أنه يريده مبررا للإنتقام وإيقاع العقوبة؟ وهل كان فرعون شموليا في إدارته فلا يحدث شيء في مملكته بدون إذن منه وتصريح مسبق كما هو حال الأنظمة الشمولية اليوم؟ أم أن قرارا بهذا الحجم لم يعتد أن يتخذ دون إذنه؟

 

الحرمان من التنقل:

 

لماذا ترك فرعون موسى يخرج عندما شاء بعد قتله القبطي، فلم يفرض عليه الإقامة الجبرية على أقل الأحول؟ ولم يغلق الحدود ويفرض حالة الطوارئ ولو بدون إعلان؟ ولم يقيم نقاط تفتيش؟ ولم يصدر قرارا بمنعه من السفر؟ ولم يعقد اتفاقيات مع المجاورين بتبادل « المجرمين»؟ هل كان عاجزا عن فعل ذلك واكثر منه وهو الذي عزم على أن يبني صرحا إلى السماء؟ وحقيقة الأمر أن شيئا من هذه القيود لم يكن فرعون رغم طغيانه يكبل الناس بمثلها!

 

الضغوط على الأقارب:

 

عندما خرج موسى هاربا من فرعون وقومه بقيت أسرته في مصر لم يتعرض أحد منها لأذى ولم يعتقل أخوه مثلا ليكون رهينة للضغط على موسى لكي يقوم بتسليم نفسه والعودة لتنفيذ « العدالة»! ولم تتعرض هذه الأسرة للضغوط لإعلان البراءة من ابنهم موسى عليه السلام رغم أنه "قاتل"!

 

الملاحقة الأمنية:

 

خرج موسى، فلم يطلبه فرعون؟ لم يرسل له فرقة المهام الخاصة لاغتياله أواختطافه، لم يرسل وفدا إلى مدين للتفاوض او الضغط أو المساومة لتسليمه، لم يرصد مكافأة سخية لمن يقبض عليه حيا أو ميتا! لم يسع لعقد اتفاقية تسليم المطلوبين مع القرى المجاورة لتحقيق « الأمن الشامل» للجميع! لم يفرض حصارا اقتصاديا على مدين أو يقطع العلاقات معها لتسليمه! هل كان ساذجا؟ ألم يكن يدرك خطورة موسى الاستراتيجية؟ وهو الذي ما فتئ يذبح أبناء بني إسرائيل للتخلص ممن سيكون هلاكه على يده! كلا لم يكن كذلك! ولكن طغيانه لم يكن يتجاوز مصره الذي بسط نفوذه فيه، فلم تكن لديه اطماع خارجية، وما دام عدوه خرج عن سلطانه فحسبه ذلك!

 

الضغوط الاقتصادية:

 

صحيح أن فرعون اتخذ من بني إسرائيل عبيدا له كما قال موسى عليه السلام: ﴿ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِىٓ إِسْرَ‌ٰٓءِيلَ﴾، الشعراء: 22، فهل قام فرعون بالتضييق على الناس في معايشهم وأرزاقهم أو الاحتيال عليهم لنهب ثرواتهم كما يحدث اليوم فلم يكتفوا بتهميش الناس وإقصائهم عن سياسة امورهم واحتكروا السلطة والأمر والنهي، بل عمدوا إلى أموالهم وارزاقهم فضيقوا عليهم سبل الكسب وأثقلوهم بالضرائب والرسوم والغرامات على كل شيء تقريبا فشملت الرسوم والغرامات حتى السير بدوابهم في الطرقات! فأحالوا حياتهم أكواما من الأعباء والقيود والأغلال! فلا تكسب بلا تصريح ورسوم! ولا بناء بلا تصريح ورسوم! ولا استيراد ولا استقدام ولا سفر إلا بذلك! بل وصل الأمر ألا تجارة ما لم يكونوا شركاء فيها! ولا حرية للناس في صرف أموالهم فلا يتبرع أحد أو يزكي إلا لمن منحوه تصريحهم! أما تحويل تبرعه أو زكاته أو صدقته لمن هم خارج كياناتهم فهو ممنوع تماما! فلا حرية لهم في التصرف بأموالهم!

 

احتكار الدين:

 

إذا كان فرعون يتهم موسى بتبديل الدين وإظهار الفساد فالطغاة اليوم يعلنونها صراحة ببراءة الخصوم من الدين لا لشئ إلا لمخالفتهم ومعارضة سياساتهم فكثيرا ما يصفون خصومهم بأن « الدين منهم براء» أو عبارة « ليس من الدين في شيء»! وما ذاك إلا لضيق نفوسهم التي نشات في بيئات الاستبداد التي لامجال فيها للرأي المخالف أو لكلمة « لا»!

 

الارتهان للعدو:

 

لقد حافظ فرعون على سيادة مصر فلم يرهنها ومن فيها وما فيها من الخيرات لأي أمة من الأمم، فكان سيد قراره فلم يكن يقبل أي إملاءات خارجية ولم يخضع لأي ضغوط أجنبية ولم يتخذ أي قرار ضد مصلحة الناس بدعوى وجود هذه الضغوط او الخضوع للقوى الخارجية! مما يسلب الناس شعورهم بالاعتزاز بوطنهم والولاء له والانتماء إليه ويضعف لديهم روح الدفاع عنه، ويشعرهم بالاستلاب والإهانة والضعة في بلادهم!

 

حصار العمل الخيري:

رغم ما كان يسود من أجواء العداوة مع موسى لم يمنع ذلك فرعون وقومه من التوجه لموسى بطلب مساعدته عندما حلت بهم الكارثة: ﴿  وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرِّجْزُ قَالُوا۟ يَـٰمُوسَى ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ۖ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا ٱلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِىٓ إِسْرَ‌ٰٓءِيلَ ﴾، الأعراف: 134. لجأوا لموسى عندما نزلت بهم الكارثة ولم يخضعوا لهواجس أن موسى سيستثمر ذلك العمل الخيري لتحقيق مكاسب دعوية او إعلامية أو سياسية مثلا!

 

العجيب أنهم هم الذين بادروا فهم الذين قصدوا موسى وطلبوا منه المساعدة وليس موسى هو الذي تقدم إليهم بطلب الإذن بالمساعدة وتقديم المعونة فردوا عليه برفض طلبه المساعدة ولم يمنحوه تصريحا بالعمل وقت الأزمة كما هو الحال اليوم عند من يرون الناس وهي تصارع الموت ويمنعون من لم يمنحوه التصريح بالعمل والمساعدة! وموسى عليه السلام لم يقدم المساعدة ابتداء ثم أوقفوه وصادروا أملاكه وأمواله وحبسوا أصوله! بل هم الذين توجهوا إليه ابتداء وتوسلوا إليه أن يبادر بعمله الخيري ومنحوه الوعود المؤكدة بالإيمان وهذا يدل على شدة توسلهم لموسى ورجائهم له.

 

التعويض بتعظيم الخطاب:

 

عندما يخاطب موسى فرعون فلا ابهة ولا عظمة، عندما يطلب منه أمرا يطلب مباشرة دون مقدمات فلا حاجة له أن يقدم بين يدي طلبه عبارات المدح والثناء والتعظيم، ولا توسل ولا ترجي ولا استجداء، فأين كل هذا من قوله عليه السلام لفرعون: ﴿ فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِىٓ إِسْرَ‌ٰٓءِيلَ ﴾، الأعراف: 105 ، وقوله: ﴿ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِىٓ إِسْرَ‌ٰٓءِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ﴾، طه: 47، بل أحيانا يرد عليه الخطاب بمثله وأشد، فلا يسمح لفرعون أن يهينه او يخطئ عليه حتى باللفظ، فلا يقبل الإهانة بحجة تحقيق مصلحة الدعوة مثلا، فعندما قال له فرعون: ﴿ ... إِنِّى لَأَظُنُّكَ يَـٰمُوسَىٰ مَسْحُورًۭا ﴾، رد عليه بقوله:  ﴿ ... وَإِنِّى لَأَظُنُّكَ يَـٰفِرْعَوْنُ مَثْبُورًۭا ﴾، الإسراء: 101، 102. وعندما يعنف عليه فرعون بقوله: ﴿ ... وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ ﴾، الشعراء: 19، يوجه موسى له اللوم الشديد مؤنبا له بشدة: ﴿ وَتِلْكَ نِعْمَةٌۭ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِىٓ إِسْرَ‌ٰٓءِيلَ ﴾، الشعراء: 22، فلا أحد أشد من جرمك يا فرعون عندما جعلت بني إسرائيل عبيدا لك وصرفتهم عن عبادة خالقهم سبحانه وتعالى! 

 

تغيير الاسم أو المناداة بوصف مقيت:

رغم شدة عداوة فرعون لموسى عليه السلام لم تمنعه أن يخاطب موسى باسمه فلم يقلب اسمه كما فعل طغاة قريش حيث كانوا يدعون نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم مذمما، ولم يناديه بوصف مقيت يطلقه عليه ويتواطؤ عليه مع الملأ من قومه!

=============================

فرحت فلسطين وحزنت إسرائيل

محمود صالح عودة

سأكون صريحًا معك؛ لو قلت لي قبل عام ونصف العام عندما زرت مبارك إنّ الإسلاميّين سيستولون على السلطة لقلت إنّك مجنونة. لم يتوقّع ولم يحلم أحد بهذا، ما توقّع هذا أيّ رجل مخابرات ولم يتمّ التخطيط وإجراء الحسابات لهذا اليوم.

 

ذكر هذا عضو الكنيست الإسرائيليّ بنيامين بن إليعيزر (فؤاد)، أحد أركان العلاقات الإسرائيليّة بنظام مبارك وصاحب المقولة الشّهيرة "مبارك كنز إستراتيجيّ لإسرائيل" بنبرة تشاؤميّة في مقابلة مع قناة الكنيست الإسرائيلي هذا الأسبوع. كما ذكر في ذات المقابلة أنّه على الجيش الإسرائيلي الاستعداد لمواجهة عسكريّة مع مصر في المستقبل.

 

ما خفّف من قلق بن إليعيزر وغيره من الإسرائيليّين المختصّين بالشؤون العربيّة هو المجلس العسكريّ في مصر، فقد أبدى المذكور وغيره ارتياحهم لعمليّة سلب السلطات التي قام بها المجلس العسكريّ من الرئيس المنتخب، ويرى مع غيره أنّ العمليّة تلك بمثابة حماية لأمن إسرائيل القوميّ.

 

لقد دخل محمّد مرسي قصر الرئاسة مكبّلاً من المجلس العسكري إثر الانقلاب الذي قام به الأخير من خلال سلسلة إجراءات مهينة بحقّ الشعب المصري وإرادته الحرّة، وإن كان مرسي والإخوان لم يطلقوا شعارات وتهديدات ناريّة ضدّ إسرائيل والغرب، وسعوا لطمأنة الجميع في وضع حسّاس للغاية، وأعلنوا أنّهم سيحترمون الاتفاقات الدوليّة بما فيها كامب ديفيد - مع ختمها بـ"ولكن" في معظم الحالات وإبدائهم معارضتها أصلاً  (مرسي) - إلّا أنّه يبدو أنّ إسرائيل وأمريكا لم يطمئنّوا لكلام الإخوان الذين يسعون لإنجاح تجربتهم الأولى في حكم مصر، وجاء الأمر من البيت الأبيض للمجلس العسكريّ الذي يتلقّى الملياردات من الإدارة الأمريكيّة لتكبيل الرّئيس المنتخب والضغط عليه، في محاولة لإدخاله "بيت الطاعة" الصّهيو-أمريكي مستقبلاً ووضعه أمام أمر واقع، مع الكذب العلنيّ باحترام الشعب وخياره الديمقراطيّ.

 

فاستمرار الرشاوى الأمريكيّة للعسكر المصريّ المسمّاة زورًا بـ"المعونات" خير دليل على موقف أمريكا الحقيقيّ من التحوّل الديمقراطيّ في العالم العربي والإسلاميّ وفي مصر تحديدًا، بالرغم من كلامهم المعسول، ولم تكن تلك الرشاوى لعيون المصريّين بل لعيون الإسرائيليّين وأمنهم، الذين يرون في المجلس العسكريّ في مصر أملهم الوحيد في الظرف الحالي.

 

لقد دخل محمّد مرسي - أعانه الله - مرحلة البلاء الأكبر بفوزه منصب رئيس الجمهوريّة في أكبر دولة عربيّة وتحمّله مسؤوليّة أكثر من 85 مليون مواطن يبحثون عن رغيف الخبز، والعمل، والتأمين الصحّي المناسب، ورفع مستوى التعليم ومطالب أساسيّة أخرى، بعد أن كان في صفّ المعارضة طوال حياته مع الشرفاء من أبناء مصر.

 

لقد فرحت فلسطين وحزنت إسرائيل بفوز مرسي، ولكن الثورة ما زالت في بدايتها، لا سيّما وأنّ الرئيس المصريّ الجديد ما زال لا يملك صلاحيّاته كاملة، وما زالت أمامه تحدّيات جسام وعلى رأسها إعادة المجلس العسكريّ المدعوم أمريكيًا إلى موقعه الطبيعيّ وقطع نفوذه السّياسيّ على مستوى الدّاخل والخارج، وبذلك يكتمل إلى حدّ بعيد التعبير الحقيقيّ عن الإرادة الشعبيّة التي طالما حاربتها قوى الاستكبار والاستعمار.

=============================

مواقف ثلاثة تستحق الشكر، و الإشادة من الثورة السورية

محمد عبد الرازق

  كلَّ يوم يمرّ من عمر الثورة السورية تكون مواقفُ ذات أبعاد إيجابية عليها؛ ممَّا يؤشر على أنها ثورة مباركة، و مؤيدة بتوفيق من الله، و من عباده المنصفين.

  و من هذه المواقف ما كان في الأيام القليلة الماضية على الساحتين: المحلية، و الإقليمية؛ و لنبدأ بالحدث الإقليمي نظرًا لاعتباراته الرسمية، و هو:

ـ رفض الرئيس ( محمد مرسي ) التهنئة التي بعث بها نظام الأسد إليه بمناسبة انتخابه رئيسًا لجمهورية مصر العربية. حيث ذكرت قناة العربية وفق ما نقلت عنها وكالات الأنباء أن الرئيس (محمد مرسي) قد رفض برقية التهنئة التي بعث بها ( بشار ) يوم (الثلاثاء: 26 حزيران ) قائلاً له: (إننا لا نعترف بشرعيتكم، ومن يمثل السوريين هم الجيش الحر، ومجلس قيادة الثورة، وتعيش سورية حرة أبية ).

إنَّ هذا الموقف المشرف، و المتوقع من رئيس مدنيمنتخب ديمقراطيًا في ظل تنافس أشادت به كثير من لجان المراقبة، أمر متوقع؛ و ذلك أن نوافذ الحرية لا يدخل منها إلاَّ ( الريح الطيب )، و أما ( الخبث ) قرين الاستبداد فيذهب جُفاء. لقد زال عن ( مصر ) عهد كانت تأتي فيه البيانات الختامية إلى الرئيس المصري قبل أن يلتئم شمل المؤتمرات، التي كانت ترعاها لأخذ العرب إلى مهاوٍ، جلبت البؤس و الدمار على المستويات جميعها؛ و لا سيما ( الداخلي منها، و الإقليمي ).

 و لذلك فإن المعول عليه في مثل هذا التغير على الثورة السورية سيكون كبيرًا، و ستشهد البوصلة تغيرًا في وجهتها نحو المزيد من التأثيرات الإيجابية على مستقبلها؛ فلم يعد هناك مواقف مصرية خارجية مائعة لا أرضية لها تجاه قضايا الأمة المصيرية، و تجاه الثورات العربية، و على الأخص السورية منها، و ليس ببعيد أن يكون شيء من ذلك على مواقف ( الأمين العام ) للجامعة العربية، لأنه لا يخرج عن دائرة السياسة الخارجية لمصر.

ـ الزيارة التي قام بها الرئيس السابق للمجلس الوطني السوري ( د. برهان غليون ) إلى عدد من مدن، و قرى محافظة ( إدلب ) في الأيام القليلة الماضية، التقى فيها عددًا من قيادات الحراك الداخلي ( من المدنيين، و العسكريين )؛ بغرض التنسيق في المواقف، و تقديم الدعم الذي يحتاجونه، وقد أشار المرافقون له إلى أن أجواء الزيارة كانت إيجابية جدًا، و قد أَطْلعَ فيها ( الدكتور غليون ) القيادات التي التقاها على عدد من الأمور المتوقع حدوثها على الصعيد الدولي، و سيكون لها تأثير إيجابي على الثورة السورية، و وقف على مدى تفكك النظام على المستوى الميداني.

لقد جاءت هذه الزيارة ضمن سلسلة زيارات قامت، و ستقوم بها قيادات المعارضة في الخارج إلى الداخل السوري، و كان منها زيارة عضو المجلس الوطني ( محمد سرميني ) التي اطلع فيها على الوضع الميداني في مناطق خاضعة لإرادة الجيش الحر في ( حماة، و إدلب )، و زيارات مماثلة لعدد من قيادات جماعة الإخوان المسلمين الذين اضطروا للهجرة من سورية منذ ثلاثة عقود، و أخرى لقيادات من المعارضة من غير هذين الحراكين.

 و هذا مؤشر على مدى انحسار سلطة ( الأسد ) على الأراضي السورية في مقابل تمدد قوات الجيش الحر فيها، حيث تشير التقارير إلى خضوع خمسين بالمائة من الأراضي لسيطرته، و لا سيما في الآونة الأخيرة التي شهدت انسحابًا ملفتًا للنظر لقوات ( الأسد ) من كثير من المناطق، ولا سيما في ( حمص، و إدلب، و حلب، ودير الزور، و درعا، و ريف دمشق ) تحت وطأة ضربات الجيش الحر الذي تحسن أداؤه ( نوعًا، و عددًا )؛ ممَّا نتج عنه مزيدٌ من الانشقاقات ( أفقيًا، و عموديًا ).

ـ انشقاق المقدم المظلي (حافظ جاد الكريم فرج ) من أبناء جبل العرب ( قرية الغارية ـ صلخد )،و هو الضابط الأعلى رتبة من أبناء الطائفة ( الدرزية ) الذي يعلن انشقاقه عن قوات الأسد، و انضمامه الى الجيش السوري الحر، و يعمل في مرتبات الفرقة الجوية ( 22 )، اللواء الجوي ( 14) في مطار ( أبو الضهور ـ شرق محافظة إدلب ).

 يأتي هذا الانشقاق في ظل تحول في مواقف مكونات المجتمع السوري من النظام، و لا سيما الطائفة (الدرزية ) التي أخذت مواقفها تشهد تحولاً نوعيًا بسبب التحول الكبير في مواقف الزعيم الدرزي اللبناني (وليد جنبلاط )، من الأزمة السورية؛ و هو ما كان له صدى ملحوظًا في صفوف ( دروز ) سورية المؤيدين له.

 و هذا الانشقاق النوعي قد سبقته انشقاقات أخرى أقل رتبة لعسكريين آخرين من ( الدروز)، و هناك انشقاقات مماثلة في صفوف ( العلويين )، و ( المسيحيين )؛  سيكون لها تأثير إيجابي على مستقبل الثورة في قابل الأيام.

==========================

إذا اختلف المقدار والتقدير فالعلة في التدبير

د. ضرغام الدباغ

إذا اختلف المقدار والتقدير فالعلة في التدبير، حكمة سياسية عربية / إسلامية رائعة، أين منها ديمقراطية العراق الشوهاء التي أسسها الأمريكيون ومعهم حلفائهم الإيرانيون، فلابد أن تكون هذه ملامحها بصفاتها التي أسفرت عن نفسها.

 

كنت قد قلت في وقت سابق، أن ليست هناك عملية سياسية في العراق، فأطراف ما يسمى بالعملية السياسية يهاجمون بعضهم ليس بالقبضات، بل بالأدوات الجارحة، ويوجهون ضرباتهم تحت الحزام وهو ممنوع في الرياضة قبل السياسة، وهو بمجمله يعبر عن صراع المتنافسين على الكعكة العراقية، كل يدفع بالاتجاه الذي يؤدي للسيطرة على هذا البلد العصي على الغزاة والمحتلون والمتآمرون اضرابهم ومن لف لفهم.

 

أول ضحية للديمقراطية المزعومة كان أحد قادة من تحركوا في عراق ما قبل الاحتلال وما بعده، كانت البداية دموية وذلك عندما اغتيل بطريقة بشعة محمد باقر الحكيم في النجف. وقد أميط اللثام عنها حيث قرأنا مؤخراً (قبل أيام فحسب) أن الاجهزة الإيرانية هي من اغتالته لأنها توجست فيه ميلاً للاستقلال والشخصية العراقية، ورؤية عراقية ربما لا تتطابق تماماً مع قوى الاحتلال. وهذا مؤشر خطير للغاية في تصفية شخصية بارزة قادت المعارضة العراقية زمناً طويلاً، ولكن ذلك لم يشفع له في تكوين رأي خاص.

 

وعلى مدى أكثر من تسعة سنوات التالية، طبعت كافة الفعاليات التي جرت في العراق بطابع الاحتلال، وسيادة إرادة قوى الاحتلال التي قدمت خسائر مهمة في الارواح والمعدات والنفقات المالية، على أيدي المقاومة وليس من المعقول أن تقدم ما حصلت عليه هدية لشخصيات مهما كان أسمها،  ففي نهاية المطاف هي شخصيات تتعامل مع محتلين وإرادتهم التي لها أهدافها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، ونجزم تماماً أن شيئاً في العراق لم يقدم للشعب إلا بموافقة قوى الاحتلال وتماثلها مع أهدافهم، والأمثلة أكثر من أن تحصى، في مقدمتها الأمن والتعليم وخدمات الماء والكهرباء والهاتف والصحة وسواها.

 

السيد طارق الهاشمي كان ضحية أخرى من الديمقراطية  الامريكية / الإيرانية الدموية، وعلى الأرجح فأنه مثل نقطة عدم توازن، فطلب منه أن يمتثل ولما أبى ذلك، سيق إلى المحاكم بتهمة الارهاب، وهي تهمة تصلح اليوم أن توجه حتى للأطفال الرضع، وماذا ينقصنا: لدينا شرطة هي نسخة ميليشياوية، ولدينا محاكم تسمع كلام الحكومة، ولدينا أجهزة تنفذ ما نطلب منها. هكذا ببساطة شديدة تفجرت قضية الهاشمي وما نشهده هو تداعيات ارتدادية لها.

 

والسيد الهاشمي يهدد ملوحاً وملمحاً بأن لديه من المعطيات والأدلة ما تشير إلى أن شخصيات نافذة في الحكومة تقوم باغتيالات وتصفيات، ولديها سجون وأجهزة سرية. ويعد بالمزيد من كشف الاسرار، ولكن للأنصاف الرجل يسيطر حتى الآن على أعصابه ولا يسيئ للعبة، ولم يصرح بعد بكل ما يعرفه وهو حتماً الشيئ الكثير.

 

ثم قرأت قبل أيام، تصريحاً لنائب الرئيس الامريكي بايدن، حين استدعاه الرئيس أوباما وعهد إليه بالملف العراقي، والمشكلة الناشبة بين أطراف الحكم. التصريح ينطوي على معاني كثيرة إذ قال: إزاحة نوري المالكي خط أحمر بالنسبة للولايات المتحدة. واليوم فقط قرأت في خطاب للسيد الطالباني موجه إلى أطراف المعارضة، يقر فيه ضمناً أن إزاحة المالكي غير مقبول إيرانياً ايضاً. وإيصال الخطوط بين النقاط بسيط ولا يحتاج لذكاء.

 

والسيد الطالباني ينوه في رسالته، أنه لن يقبل بوسمه بأنه حليف لإيران، وهدد علناً وبعبارات صريحة: إذا لم يكف من يكتب ويقول ذلك، فإنه (الطالباني) سيكتب ويفضح وثائقياً عن علاقات الأطراف كافة، وينشر الغسيل على الملأ.

 

هو صراع بين القوى التي تحتكر العمل السياسي بعد الاحتلال، صراع ميدانه حالياً البرلمان، أو مجلس الشعب، (قد ينتقل لمستويات أخرى)وهو مؤشر واضح على فشل العملية السياسية، وهو إخفاق يؤشر أيضاً فشل الاحتلال في خلق صورة عراقية مشرقة كما كان يبشر بها، بل انحدار متزايد صوب المجهول.

 

ودعوة السيد نوري المالكي الى انتخابات مبكرة بهدف انهاء الازمة السياسية المستمرة في البلاد منذ اشهر، بحسب ما افاد مكتبه الاعلامي، يمثل الهجوم المعاكس الذي شنه معارضوه بهدف سحب الثقة من حكومته، وفي هذا الهجوم المعاكس سيوظف السيد المالكي موقعه في الدولة من أجل الاطاحة بخصومه ووضعهم في موقف غير قادر على تكرار محاولاتهم بسحب الثقة من حكومته.

 

والخطاب يقرأ من عنوانه، فقد ذكر البيان الذي نشر على موقع رئاسة الوزراء انه "حين يرفض الطرف الاخر الجلوس الى مائدة المفاوضات ويصر على سياسة اثارة الازمات  فان السيد رئيس الوزراء وجد نفسه مضطرا للدعوة لإجراء انتخابات مبكرة، وماذا يعني ذلك سوى أنه عازم على أن يتغدى بخصومه قبل أن يتعشوا به، فالبرلمان برأيه باتت مؤسسة  بحاجة الى حركة اصلاحية سريعة وقوية، وأن السيد النجيفي رئيس البرلمان شخصية لا تصلح لقيادة مثل هذه المؤسسة. في مقابل ذلك، شددت رئاسة مجلس النواب في بيان لها، على ضرورة احترام الدستور من خلال وجوب حضور الجميع في مجلس النواب للمساءلة او الاستجواب عند طلب المجلس ذلك، متهمة المالكي برفضه حضور جلسة استجواب محتملة. وكان النجيفي قد اعلن في مؤتمر صحافي في وقت سابق ان طلبا باستجواب نوري المالكي سيقدم خلال يومين او ثلاثة ايام الى البرلمان، وأن تصويتاً محتملاً  سيليه على سحب الثقة منه.

 

والسيد المالكي، وهو المدعوم من طهران وواشنطن والذي يحكم البلاد منذ 2006، يريد أيضاً القول أنه قوي في الداخل بوصفه يتمسك بقوة بأدوات القوة والنفوذ في العراق، بالإضافة للدعم من القوى الدولية النافذة في العراق الولايات المتحدة وإيران، والسيد المالكي باشر بتأسيس مواقع نفوذه، وهذا بالتحديد هو احد فصول الازمة السياسية التي بدأت عشية الانسحاب الاميركي قبل ستة اشهر، وهي مساعي انتهت بهيمنة المالكي على الدولة  وبات خصومه الأقربون والأبعدون يتهمونه بالدكتاتورية، وهو موقف بات يشل مؤسسات الدولة ويهدد الامن والاقتصاد.

 

وحيث تنص  الفقرة الاولى من المادة 64 من الدستور العراقي "يحل مجلس النواب بالاغلبية المطلقة لعدد اعضائه (325) بناء على طلب من ثلث اعضائه او طلب من رئيس مجلس الوزراء وبموافقة رئيس الجمهورية، ولا يجوز حل المجلس في اثناء مدة استجواب رئيس مجلس الوزراء"،  فيما تنص الفقرة الثانية على ان "رئيس الجمهورية يدعو عند حل مجلس النواب الى انتخابات عامة في البلاد خلال مدة اقصاها ستون يوما من تاريخ الحل، ويعد مجلس الوزراء في هذه الحالة مستقيلا، ويواصل تصريف الامور اليومية".

 

ولكن هذه النصوص لا تعني ان الامر خال من اللعب وراء الكواليس يذكر ان رئيس الجمهورية جلال طالباني سبق وان ابدى تحفظات على خطوة سحب الثقة من المالكي .وفي موازاة الدعوة الى تقديم موعد الانتخابات التي يفترض ان تجري في عام 2014، طالب بيان مكتب المالكي للفرقاء السياسيين بالعودة " الى الحوار القائم على اساس الدستور وإجراء الاصلاحات في جميع مؤسسات الدولة"، أي التسليم بسلطاته وتقديم الطاعة وإلا ...!

 

بعد تثبيت هذه المعطيات يصح لنا القول أن الموقف السياسي العراقي مصاب بعطب ومفاتيح الحل لا تكمن بيد أبناءه أو المتعاملين به، مفاتيح الحل إنما تكمن خارج  البلاد بيد قوى قد تتفق حيناً وقد تتناقض حيناً آخر، ولكنهم في جميع الاحوال متفقون على أن لا تؤول مقاليد الحسم لأيدي عراقية، بمعنى آخر أن المثل السائد : اشتدي يا أزمة تنفرجي، لا يصلح للأوضاع العراقية،  ففي ظل أوضاعنا، نسير من سيئ إلى أسوء، واحتلال العراق لم يؤدي طبعاً، وطبعاً  مرة أخرى إلى حل أي مشكلة مهما كانت تافهة، وكأن هذا هو المطلوب، بل هذا هو المطلوب بالضبط. العبقرية وإن شئت قل الخباثة هي في تفصيل بدلة لا تلبس لا في الصيف ولا في الشتاء، ولا تنطبق في مقاساتها على جهة عراقية، وهنا لابد من الاعتراف أنها شطارة في التخريب، بحيث لا يأمن طرف طرفاً آخر، فخ تم تخطيطه بإحكام في دوائر عريقة في التخطيط الخبيث.

 

بالأمس قرأت مقالاً للسيد عادل عبد المهدي، يكتب عن العملية السياسية وإصابتها بأمراض يصعب علاجها حتى على يد أمهر النطاسين. أريد أن أعرف من يسمي مهازل كهذه عملية سياسية ؟

الشعب العراقي خبر هذه الألعاب، وعدوه بالديمقراطية ولكن كما يقول المثل العراقي الجميل: لا اللي راح أجاني ولا رد الخبر لي.

ـــــــــــــــــ

المقال جزء من مقابلة تلفازية مع إحدى الفضائيات العربية بتاريخ 27/ حزيران / 2012

=================================

مجزرة تدمر وأخواتها سلسلة دموية تطوق عنق النظام السوري

محمد فاروق الإمام

في هذا اليوم 27 حزيران 1980م، نفذت العصابات الأسدية الباغية مجزرة بشعة بحق 1000 سجين معتقل في سجن تدمر الصحراوي، كانوا من صفوة السوريين وأخيارهم من علماء وأطباء ومهندسين وأساتذة وطلبة جامعات وضباط، غالبيتهم محسوبون على جماعة الإخوان المسلمين المعارضة أو مناصريهم.

ونفذ هذه المجزرة البشعة أكثر من 100 عنصر بمختلف الرتب تابعة لسرايا الدفاع يقودها المقدم محمد ناصيف بأوامر من العقيد رفعت الأسد، حيث نقلوا من دمشق إلى مطار تدمر العسكري، بواسطة 12 مروحية، ثم توجه نحو 80 منهم إلى السجن، ودخلوا على السجناء في زنازينهم وأعدموا المئات منهم بدم بارد رمياً بالرصاص والقنابل المتفجرة.

ووفق ما يتوفر من معلومات فإن جثامين القتلى نقلت بواسطة شاحنات وتم دفنها في مقابر جماعية أعدت مسبقا في وادِ يقع إلى الشرق من بلدة تدمر، دون أن يعترف النظام السوري بارتكابه هذه المجزرة أو الكشف عن أسماء ضحاياها وأماكن دفنهم.

وقعت هذه المجزرة البشعة وسط تعتيم إعلامي محلي وعالمي بعيداً عن أي ضجة يمكن أن تثار حول النظام، ولم يكتشف الناس أو يعلموا بوقوعها إلا بعد اعتقال السلطات الأردنية اثنين من المشاركين في المجزرة، كانا ضمن مجموعة اتهمت بالتخطيط لاغتيال رئيس وزراء الأردن الأسبق مضر بدران، حيث أدليا بتفاصيل المجزرة، فسارعت في حينه منظمة العفو الدولية إلى مطالبة السلطات السورية بإجراء تحقيق في المجزرة، لكن دون جدوى.

ونشرت مواقع حقوقية سورية شهادات لعناصر شاركوا في تنفيذ المجزرة، فأكدوا فيها أن مهمتهم كانت مهاجمة سجن تدمر. وقدر أحدهم عدد القتلى بأكثر من 500 قتيل. بينما قال أحدهم إنه شاهد الأيدي والأرجل ملطخة بالدماء.

ووصفت لجنة حقوق الإنسان التابعة لمنظمة الأمم المتحدة -في حينه- المجزرة بأنها تتعدى حدود جرائم القتل العمد المعاقب عليها بموجب قانون العقوبات السوري، حيث يعتبر الآمرون بها وكل منفذيها مسؤولين جنائياً عن هذه المجزرة.

ولم تكن مجزرة تدمر هذه هي الوحيدة في عهد حافظ الأسد، بل وثقت منظمات حقوقية سبع مجازر جماعية في سجن تدمر وقعت خلال الأعوام 1980 و1981 و1982 وراح ضحيتها مئات السوريين.

في حين كشف عدد ممن أطلق سراحهم من المعتقلين فيما بعد أنه كان يتم يومياً إعدام ما بين عشرة وعشرين في اليوم الواحد على مدى وجودهم في سجن تدمر، وقد تجاوز اعتقال بعضهم 20 سنة.

وقد كثرت الكتب التي يصور أصحابها المآسي في تلك الفترة، من ذلك كتاب شاهد ومشهود للمعتقل الأردني محمد سليم حماد لمدة 11 عاماً صدر عام 1998م، وهو طالب أردني كان يدرس في جامعة دمشق، واعتقل مع آخرين. وقد صور فيه أهوال التعذيب في سجن تدمر، من صعق بالكهرباء, والتعليق من القدمين، والضرب المبرح، وتحدث الكاتب عن الأجواء المرعبة والإعدامات المتواصلة لسجناء الرأي داخل السجن، وقد شاهد وفاة عدد منهم، والكتاب مطبوع في الأردن.

وهناك المواطن السوري الذي آثر أن يروي مأساته في روايته المدهشة (القوقعة-يوميات متلصص) تحت اسم (مصطفى خليفة) وهو مسيحي يدين بالمذهب الكاثوليكي، وعاش لنحو 6 سنوات في باريس يدرس الإخراج السينمائي وفضل العودة إلى الوطن ليقدم خبرته لبلده فساقه حظه العاثر إلى سجن تدمر بتهمة الانتماء للإخوان المسلمين وأمضى في السجن الصحراوي سيء السمعة نحو 12 سنة وضمّن ذكرياته الأليمة في كتابه القوقعة الذي نشرته دار الآداب-بيروت 2008.

وكذلك كانت حكاية الشاب الأردني المهندس سليمان أبو الخير الذي كان يدرس في ألمانيا وكان ينوي زيارة أهله في الأردن في العطلة الصيفة فدخل سورية عن طريق البر في سيارة ألمانية، فكان جلاوزة الأمن على الحدود السورية له بالمرصاد، فاقتيد إلى أحد فروع المخابرات في دمشق، وليحط رحاله فيما بعد في سجن تدمر الصحراوي لمدة خمس سنوات، ويروي عذاباته في ذلك السجن الرهيب في كتاب تحت عنوان (الطريق إلى تدمر – كهف في الصحراء – الداخل مفقود، والخارج مولود) طبع في الأردن-دار الأعلام 2011م.

ذكريات مجازر تدمر وعذابات سجنائها والتعتيم على فقدان أكثر من 17000 معتقل دون الإعلام عن مصيرهم إن كانوا من بين الأموات أو في عالم الأحياء منذ العام 1980 وحتى الآن، وما خلفوا وراءهم من مآسي إنسانية وأسرية.. لا تزال هذه الذكريات كابوس يجسم على صدور السوريين ويؤرق حياتهم، وسيظل هذا هو الحال حتى القضاء على هذا النظام بكل مكوناته السادية التي لا تعرف إلا القمع والقتل والتدمير والفساد.

سلسلة المجازر الدموية المتواصلة منذ تسلق حفنة من الضباط البعثيين المغامرين جدران القصر الجمهوري في عتمة ليل الثامن من آذار عام 1963 والتي زادت وتيرتها وتوسعت أفقياً وعمودياً وكيفاً وكماً حتى الآن، تؤكد على أن على العالم أن يقف وقفة شجاعة تجاه هذا النظام الدموي لوقف خطره، الذي هو في توسع إلى خارج حدود سورية ليطال الدول المجاورة سعياً لجر المنطقة إلى صراع إقليمي، بعد أن يأس في قمع الثورة السورية التي باتت عصية عليه وعلى كل حلفائه رغم الدعم الكبير الذي يقدم إليه لنحو سنة ونصف، ورغم ما أقدم عليه من ارتكاب المجازر البشعة وما استعمله من أسلحة ثقيلة إضافة إلى الطائرات والبوارج الحربية بكل نيرانها الجهنمية وآثارها المدمرة للمدن والبلدات والقرى، وقد بات محاصراً حيث وجود هذه الأسلحة الثقيلة فاقداً السيطرة على ما يزيد على 70% من الأراضي والمدن والبلدات والقرى السورية في كل رقعة الخريطة السورية.

==========================

يوسف و الربيع العربي

تدندن ليلى

بليل ترّنح فيه الضياء

(( إذا الشعب يوماً ...))

و قبل المخاض

تهزّ الحناجر جفن المدى:

((يريد الحياة ...))

فيبتلّ ُبالصوت ثوب الوجود

لينفضَ عنه رذاذ الصدى

( يريدُ الحيااااه...))

يهيج المخاض

و ليلى تعطر مهد الوليد

بدمع تلألأ مثل الندى

على وجنة الياسمين

مخاض يغير وجه الحياة

و يرسم وشم انتصارْ

على جبهة الحلم قبل الربيع

أنين وخوف وطول انتظارْ

سنون عجاف و طول انتظار ْ

وقهر و ذلٌ

و في القلب غلٌ وطول انتظارْ

و شهقات أمّ تشق ّ الستار آه ٍ و آهْ

     .... أكاد أراه

     ( 2)

وفي السجن يخنق صوت البريء

بحبل السؤالْ:

( ولادة عسيرة

ومات الجنين

فأين الربيع؟!  )

و يلقي الخبرْ

وشاح السكون الموشّى

 بحمى الألم

يلحّ السؤال

ليقطع صمت المكان :

( أما زلت ترقب طيف الربيع

و يبصق سجّانه في غرورْ

يعيد السؤالْ:

( أما زلت ترقب حلم الربيع ؟ )

فتزحف نظراته المجهدة

ومن خلف قضبان سجن مقيتْ

بعيدٍ ...بعيدْ

تطلّ على بلبل غردا:

(فلابدّ أن يستجيب القدرْ ...)

فيضحك ذاك البريءْ

و سيف النظام ْ

يحزُّ الوريدْ

و يجتثّ أنفاسه بانتظامْ

يتمتم قبل الرحيل:

( فلا بدّ أن يستجيب القدر...)

            أكاد أراه ...

  (3)

وتغسل ليلى

ثيابَ التمنّي

بدمع الرضى

و تلقي على شرفة المجد ثوباً

من الصبر يلثمه المستحيل ْ

فيصغي إلى شجوها في السحرْ:

ربيعي أراه

يئن جريحاً

بأرض فلاة

براها الإله

لكلّ البشرْ

وجبّ الطغاة سحيق عميقْ

بعمق الظلام

وفوق الدلاء التي ألقيت ْ

ينوح الحمامْ

و رجع النداءْ

يؤوب وحيداً

يموت وحيدا

بقبر طواه جنون البشر

(4)

ربيعي أراه

ندياً

بلون الصباح

كسير الجناح

على المنحدرْ

و ينمي إليّ إذا الديك صاحْ

أزيز الرصاص

لهاث السلاحْ

يريد اغتيال الضياءْ

من الأرض حتى السماءْ

إذا الفجر لاحْ

وفوق السماء

و تحت السماءْ

رثاء براحْ

  (5)

ربيعي أراه

 بلون الدماءْ

و طعم الدماءْ

ووهج الدماءْ

وينساب مراً

فيحلو على ثغر حريّة أجهضت

يموت الجنين

و يذبل صوت الضمير البريءْ

و تقسو الجباه

و يعلو صراخ الغويّ الرديءْ

و يعلو صداه

وفي غرفة للولادة

ربيعي أراه

تهدهده أمنيات الشهيد

و أحلام ثائر

لأجل الحياة

لأجل الكرامة

يمدّ الوريدْ

كجسر يُعلّق بين الحياة

وعمر جديدْ

ربيعي أراه

(6)

أرى مدية ً

تحزّ رقاب الزهور

وتخنق نفح النسيم

وسهماً يصيد الغيوم

ليوقف غيثاً

يحيّي الربيع

وناعورة تسلخ الأضحيات

قرابين عيد

أكادأراه

و أسمع حين يمرْ

خرير دم ساخنٍ

يدندن لحن الشهادة

يصلي

لكيما يقول الجناة

بسخرية و امتعاض

وهم يحملون الرفاة :

فأين الربيع ؟!

و في غرفة للولادة

ربيعي أراه

 (7)

أسروا وكادوا

وجاؤوا أباهم

بإفك وزيفْ

وما أنتن الجرم حين يكون

دماً كاذبا

وظن الجميع الحقيقة

عسيرة

وظنوا الولادة تكون عسيرة

فألقى التراب قميص البريء

زكياً ..نقياً

ليرتدّ قلب الوجود بصيرا

وفي غرفة للولادة

ربيعي أراه

  (8)

و يمضي على الدرب موكب ثورة

يمر بحاجزْ

على حين غرة

كلاب عصي قيودْ

وفوق الرصيف ظلال لأسرى

وزحف جنودْ

بطونُ جياعْ

و كرش الوصيِّ

سمين وبارز:

(( توقف ْ..توقفْ))

فينبش كلب غبي ّ

متاع السعاة

لهاث يلاحق حتى النفس

بأمر الطغاة :

(( صواع الملك ...صواع الملك ))

وما في الحقيبة أي صواع

فيرنو ملياً

من الخف حتى العمامة ْ

يشمّ التراب ْ

 يشمّ القمامة ْ

وذاك السمين

قريب يراقبْ

تغيب مواكبْ

وتدنو مواكبْ

وما من صواع

وما في الحقائب إلا الكرامة

وتبحث عما يسمى الربيعْ

فأين اختفى ؟

وفي غرفة للولادة

و نفس الوسادة

وأم تعطّر مهد الوليد

فتياً نراه

قويّ الجناح

ربيعاً تدثر بالأرجوانْ

وقصّ بكفيه شوك الهوانْ

وفي الخلف جبّ الطغاة سحيق

هو الفجر لاح

أكاد أراه بعين القدر

بأرض خصيبة

براها الإله لكل البشر

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ