ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الثلاثاء 21/06/2011


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

 

خطاب الأسد تسويف متكرر وفلسفة مهترئة

مسعود عكو

من على مدرج جامعة دمشق، ومتوسطاً ثلاثة أعلام سورية على يمينه وثلاثة أعلام على يساره، وفي غياب علم حزب البعث من خلفه، خطب الرئيس السوري بشار الأسد ثالثاً في خضم الأزمة التي تمر بها البلاد منذ أكثر من ثلاثة أشهر. الأسد خطب خطاباً تخلله ثماني عشرة مرة تصفيقاً من الحضور، وضرب يده بالميكروفون الذي أمامه مرة واحدة، وبدأ يسعل أكثر من مرة، وضحك مرتين فقط.

 

لم يقدم الأسد جديداً في خطابه، هذا هو العنوان الوحيد لقراءة الخطاب الثالث للرئيس السوري. خطابٌ كان مليئاً بالتسويف المستقبلي لكل الإصلاحات المزمعة تنفيذها في البلاد، وكرر الأسد ما يقولونه شبيحة الإعلام الرسمي السوري الذين يخرجون على وسائل الإعلام العربية والعالمية، معيداً ما قاله عن قضية المؤامرة والفبركة والتزوير في الفيديوهات وتصديق الأسد لروية تلفزيون الدنيا والقنوات الرسمية.

 

يكرر الأسد بأن كل الفيديوهات التي تنشر صور الشهداء وهم يقتلون بدم بارد، برصاصات رجال أمنه وجنوده وشبيحته، هو محض افتراء وكذب، ولا توجد سوى مؤامرة تحاط بسوريا وتستهدف مواقفها السياسية، وإن هذه الفيديوهات هي مفبركة ودفع لممثليها أثمان لتصويرها ولاستغلالها ضده وضد بلاده.

 

استرسل الأسد في حديثه بصيغة التسويف والمستقبلية في الإصلاحات، ولم يقل قط فعل أمرٍ باعتباره الآمر الناهي في البلاد. كان حرياً به أن يقول بصفتي رئيس الجمهورية أو القائد العام للقوات المسلحة، أأمر أو أعلن، أو أطلب، أو أي فعل أمرٍ يبين جدية العمل الإصلاحي. وعندما لا يعلم الأسد متى تعود قوات الجيش إلى ثكناته فإن ذلك لدليل قاطع على عدم معرفته الحقة بما يجري على أرض الواقع، بل هو مجرد شخص يوقع على أمر ما فقط.

 

تكلم الأسد بفلسفة مهترئة ومتكررة عن قضية الحوار الوطني، ويحتاج المرء إلى ساعات لفك طلاسم الحديث عن الحوار وقانون الأحزاب والانتخابات والإعلام والتعديلات الدستورية. الأسد يريد دستوراً جديداً أو تعديل الحالي بما فيها المادة الثامنة التي تفيد بأن حزب البعث قائد الدولة والمجتمع، وكان مبهماً حديثه عن التعديلات والقوانين الجديدة، فهل يقوم بذلك قبل الانتخابات النيابية في آب أغسطس القادم، أم ينتظر برلماناً جديداً، أم البرلمان يجب أن ينتظر حتى تتفرغ هيئة الحوار من أعمالها، أم ننتظر كل ذلك في كل ذلك، فلسفة معقدة جداً لا يعرف تفسيرها حتى الأسد نفسه.

 

الأسد أشار إلى أن الحركة الاحتجاجية هي شرائح ثلاث، وقسم الشعب السوري على أنه فئة محتاجة لتخفيض سعر المازوت الديزل وأسعار مواد البناء، وكانت هذه جل مطالب الوفود الشعبية التي قابلت سيادته في الفترة الأخيرة، كما أن الأسد قال أن الوفود جاءت لتطمئن وتنفي الشائعات عنه وعن عائلته، وهذا يعني أنه اكترث كثيراً بتلك الشائعات التي صدرت مؤخراً عنه وعن تولي شقيه ماهر الأسد ملف الحل العسكري العنيف على كافة أشكال الاحتجاج.

 

الأسد قال أن هناك 64 ألفاً من الخارجين على القانون، في بلد عسكري أمني فيه أكثر من سبعة عشر فرعاً أمنياً، هؤلاء يستغلون التظاهرات للنيل من الدولة ومؤسساتها، وهم ثلة كبيرة كان الأسد مستغرباً من عددهم.

 

أما الفئة الثالثة ووصفها بالمتطرفين والإرهابيين وأنهم مسلحون بسيارات دفع رباعية وحوامات وأسلحة متطورة وأجهزة اتصال فائقة الدقة والتطور، إضافة إلى محاولة هذه المجموعات السيطرة التساؤل الذي غاب عن ذهن الأسد وعن ذهن كاتب الخطاب أنه كيف يمكن لهؤلاء "الإرهابيين" من الانتشار على الجغرافية السورية. أين كانت الدولة بمؤسساتها الأمنية والعسكرية طول فترة حكم الأسد الابن؟ ولما سمح لكل هؤلاء الخارجين على القانون والإرهابيين من الدخول والتعشعش في البلاد؟

 

لم يتقدم الأسد بجديد أبداً، وما طلبه من المهجرين بالعودة إلا كلام خاوٍ، فيه رسالة إلى الخارج يريد أن يعلمه دروساً لا أن يتعلم منها، كما أن كل وعوده بالإصلاح أصبحت جوفاء، تتكرر في خطاباته الفلسفية المهترئة بصيغة التسويف والمستقبلية نافياً نفياً قاطعاً أي نية لديه أو لنظامه بالإصلاح. خطاب متكرر يقرب موعد رحيله يوماً بعد آخر.

=================

أين تنتج إسرائيل سم الاغتيالات الصامتة؟

صالح النعامي

saleh1000@hotmail.com

إنه المعهد البيولوجي في مدينة " ريشون ليتسيون "، جنوب شرق تل ابيب ، أكثر المنشآت الأمنية سرية في إسرائيل، والذي يفرض الكيان الصهيوني رقابة عسكرية مشددة على كل مادة إعلامية تتعلق به، لدرجة إن وسائل الإعلام الإسرائيلية تستقي المعلومات بشأنه من وسائل الإعلام الغربية التي تعتمد على مصادر خاصة داخل المعهد، وفي أوقات متباعدة.

المرة الوحيدة التي سمح للإعلام الإسرائيلي بتناول ما يجري في المعهد، كانت الشهر الماضي عندما رفع أحد العاملين في المعهد، ويدعى أفيشاي كلاين، على إدارة المعهد، أمام إحدى المحاكم الإسرائيلية، حيث جاء ضمن حيثيات دعوى كلاين، قوله إنه ساهم في تطوير مرهم لوقاية الجلد من هجوم بغاز الخردل. وتبين من خلال مضمون الدعوى وردود المعهد عليها الكثير من التفاصيل اللافتة، المتعلقة بعمل المعهد ومجالات عمله.

 ويشغل هذا المعهد 300 من العلماء والفنيين، ويضم عدة أقسام، كل منها يتضمن خط انتاج محدد لإنتاج أسلحة كيماوية وبيولوجية. ومعظم هذه الأقسام يتخصص في انتاج المواد البيولوجية ذات الاستخدام الحربي، مثل السموم التي تستخدم في عمليات الاغتيال، حيث تم داخل هذا القسم انتاج السم الذي استخدمته وحدة الاغتيال في الموساد المعروفة ب " كيدون " في المحاولة الفاشلة في اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل عام 1997، كما كشفت عن ذلك صحيفة " هآرتس " الإسرائيلية. لكن لا خلاف على إن أول استخدام لمنتوجات هذا المعهد في عمليات الاغتيال كانت أواخر عام 1977، حيث أجاز رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيغن لجهاز الموساد تصفية وديع حداد، أحد قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والذي كانت إسرائيل تتهمه بالمسؤولية عن عدد من العمليات التي استهدفت إسرائيل، كان آخرها اختطاف طائرة ركاب إسرائيلية إلى العاصمة الأوغندية " عنتيبي "، عام 1976. وحسب ما جاء في كتاب حديث للصحافي الإسرائيلي أهارون كلاين فقد تبين لإسرائيل أن حداد،الذي كان يقيم في بغداد، مولع بالشوكلاته البلجيكية، لذا سعى الموساد لتصفية حداد عبر دس مادة بيولوجية في هذا النوع من الشوكولاته،التي تقرر أن يقوم بنقلها مسؤول عراقي، كان عميلاً للموساد، وفي نفس تربطه علاقة بحداد. ويشير الكاتب أن هذه المادة البيولوجية أو السم قد تم انتاجها لأول مرة في المعهد البيولوجي. وكانت آلية عمل السم تقوم على التأثير التدريجي على صحة حداد، بحيث لا يموت فجأة فيتم الكشف عن هوية العميل والآلية المستخدمة. وبالفعل حدث تدهور على صحة حداد، وتم نقله لإحدى مستشفيات ألمانيا الشرقية، حيث تم تشخيص مرضه كسرطان دم، وتوفي حداد في 28 مارس عام 1978 . لكن تبين بعد 32 عاماً إن سبب الوفاة هو السم، الذي انتج في المعهد البيولوجي. ويمكن القول إن الكثير من عمليات الاغتيال التي لم يرغب الموساد في ترك بصماته عليها، قد تمت بهذه الطريقة، بحيث يمكن القول إن الكثير من حوادث الوفاة التي تعرض لها أشخاص ترى فيهم إسرائيل خطراً عليها، قد تكون ناتجة عن تأثير أحد منتجات هذا المعهد. ويمكن القول أن المادة السامة التي استخدمها عملاء الموساد في حقن القيادي في حركة حماس في دبي محمود المبحوح في شباط عام 2010، وأدت إلى وفاته، قد تم انتاجها في هذا المعهد.

وتشير التفاصيل الجديدة التي نشرت عن المعهد أنه يضم قسم يعنى بانتاج أمصال مضادة للسلاح البيولوجي، وتحديداً جرثومة " الإنتراكس "، والتي تخشى إسرائيل أن يقوم العرب وتنظيمات المقاومة باستخدامها في أي مواجهة معها مستقبلاً.

ويعنى المعهد بتطوير القدرات الوقائية لإسرائيل في مواجهة حروب تستخدم فيها الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، حيث إن هناك قسم خاص يعنى بتطوير عقاقير تستخدم في تقليص الأضرار الناجمة عن السلاح الكيماوي. ويعمل المعهد البيولوجي بتعاون وتنسيق كامل مع المؤسسة الأمنية ممثلة بالجيش والأجهزة الاستخبارية، ويتم تحديد سلم أولويات الانتاج داخل المعهد بناء على حاجة الجيش والأجهزة الاستخبارية، وذلك في ضوء صورة التقدير الاستراتيجي للمخاطر التي يتم استشرافها. ويستدل مما تم الكشف عنه حتى الآن إن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية التي وضعت في عين الاعتبار إن دولاً عربية قد تستخدم الغازات، مثل الخردل في هجوم محتمل على إسرائيل قد أوعزت للمعهد منذ زمن بعيد بتطوير مواد كيماوية تقلص من تأثير هذا الغاز. ويمكن القول إن إسرائيل سعت لتطوير ردود على غازات أخرى. ويعمل المعهد بتنسيق كامل وتام مع سلاح الطب في الجيش الإسرائيلي، حيث إن هذا السلاح هو المسؤول عن استيعاب منتجات المعهد وتوفيرها للوحدات العسكرية حسب الطلب. ويعمل المعهد بتنسيق تام أيضاً مع جهازي الموساد والشاباك، حيث إن هذين الجهازين هما المسؤولان بشكل أساسي عن معظم عمليات التصفية والاغتيال ضد أهداف عربية وإسلامية. ونظراً لأن جهازي الموساد وشعبة الاستخبارات العسكرية " أمان " مسؤولان عن جلب المعلومات الاستخبارية، فيفترض أن يتعقبا برامج التسليح غير التقليدية لدى العرب، وضمنها البيولوجي والكيماوي، وبالتالي الطلب من لمعهد تطوير ردود على هذه البرامج.

ولم يقتصر دور المعهد على توفير الوسائل القتالية في شقيها البيولوجي والكيماوي، أو توفير اللقاح والعقاقير اللازمة لتقليص الأضرار الناجمة عن استخدام سلاح كيماوي أو بيولوجي من قبل العرب، بل تعداه إلى توظيف المعهد في زيادة أرصدة إسرائيل من العملات الصعبة، حيث ذكرت النسخة العبرية لموقع صحيفة " هارتس " إن الولايات المتحدة دفعت للمعهد مئات الملايين من الدولارات لتطوير لقاح ضد جرثومة " الانتراكس "، التي قامت جماعات محلية أمريكية بتطويرها وشرعت في استخدامها على نطاق محدود في الولايات المتحدة. واللافت إنه قد تم تجريب لقاح مضاد للانتراكس على جنود إسرائيليين، مما أدى إلى إصابتهم بإعاقات، وهذا ما جعل الكثيرين في اسرائيل يشككون في الدوافع " الأخلاقية " لعمل المعهد، حيث إنه تمت المخاطرة بحياة الجنود لمجرد تحقيق أرباح مالية مقابل توفير الأمن للأمريكيين.

ويضم المعهد قسم خاص بإجراء التجارب على الحيوانات، حيث يتم إجراء التجارب بشكل خاص على الخنازير والأرانب. وفي أحيان كثيرة يتم إجراء التجارب على البشر، وتحديداً الجنود. فقد رفع عدد كبير من الجنود دعاوي على وزارة الدفاع الإسرائيلية بعدما تبين إن قيادة الجيش سمحت بإجراء تجارب عليهم لتجريب الأمصال المضادة للانتراكس، حيث أصيبوا بأمراض، وطالبوا الجيش بالاعتراف بهم كمعاقي حرب وتقديم تعويضات مالية كبيرة لهم. وقد اتخذت هيئة أركان الجيش الإسرائيلي مؤخراً قراراً بعدم إجراء مثل هذه التجارب على الجنود، وذلك تحت ضغط عوائل الجنود والرأي العام.

ومن المعروف إن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول دفيد بن غوريون هو الذي أمر ببناء المعهد البيولوج بناءً على توصية من عدد من العلماء اليهود، وطوال فترة حكمه التي امتدت من العام 1948 وحتى العام 1963، باستثناء الفترة بين عامي 1953-1955، التي تولى فيها الحكم موشيه شاريت، كان بن غوريون المسؤول المباشر الأول عن المعهد البيولوجي، وكان الوحيد المسؤول عن كل صغيرة وكبيرة فيه، حيث إن طاقم العمل كان لا يسمح لأحد بالإطلاع على أي معلومة دون الرجوع لبن غوريون، حتى عندما كان خارج الحكم في الفترة الممتدة بين عامي 1953 و1955، لدرجة إن طاقم المعهد لم يطلع شاريت عندما زار المعهد كرئيس للوزراء عام 1954 على البرامج التي كان يعكف على تطويرها.

على الرغم من إن عدداً من العلماء قد تعاقبوا على رئاسة المعهد، في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، إلا إنه يعتقد على نطاق واسع إن أكثر الرؤساء الذين تركوا بصماتهم على المعهد هو الرئيس الحالي أفيغدور شيفرمان، الذي يعتبر أكثر الشخصيات تأثيراً في عمل المعهد، والذي يعمل بشكل وثيق مع رؤساء الوزراء ووزراء الحرب وقادة الأجهزة الاستخبارية. ومن المعروف عنه إنه شخصية حازمة، لم يتردد في طرد علماء بسبب إشكاليات انضباطية.

يتضح مما تقدم إنه في الوقت الذي تتم فيه ملاحقة الكثير من الدول على برامج تسلح غير تقليدية متواضعة جداً مقارنة مع برامج التسلح غير التقليدي الإسرائيلية، إلا إن أحداً في العالم لا يحرك ساكناً من أجل ردع إسرائيل عن هذا السلوك، وهذا بكل تأكيد سيكون مدعاة لمواصلتها العدوان العربدة.

========================

خطاب الأسد .. خطاب المماطلة وتبرير الاستخدام المفرط للقوة

جان كورد*

* اعتراف الأسد بوجود أكثر من 63000 ملاحق قضائي بسبب الاجرام دليل على الواقع المؤلم الذي وصل إليه المجتمع السوري في ظل حكمه

* اعتراف الأسد بأن التعامل مع الاحتجاجات والتظاهرات أمر عائد للشرطة والقضاء يثبت بأن حشر الجيش السوري والأجهزة الأمنية السرية في الموضوع دليل على سوء تعامل نظامه مع الشعب

* اعتراف الأسد بأن النظام الاقتصادي ضعيف ومنهار يثبت فشل نظامه السياسي في حل مشاكل البلاد

* اعتراف الأسد بأن حفنة من "المخربين" قادرة على إلحاق كل هذا الأذى بالبلاد دليل على عدم قدرة نظامه على تجاوز المحنة الكبرى له

* اعتراف الأسد بوجود أكثر من ألف ومائة موضوع يجب دراسته اثبات على أن نظامه غط منذ استلامه الحكم في نومٍ عميق...

يحاول السيد الرئيس بشار الأسد من خلال تجاهل كل مناشدات المجتمع الدولي ودول الجيران والعرب لوقف حمامات الدم في سوريا ضد الشعب السوري الايهام بأن النظام في خير، ولكن هناك "مشاغبات ومخربين لاحل سياسي معهم!" وانما سينتهي النظام من تشويشهم عليه ببعض الاصلاحات التي يجب أن يسبقها حوار مدني شعبي ومن ثم حوار مركزي، وهو في ذلك يسعى لكسب الوقت وتخفيف وطأة النقد الدولي عليه، وبخاصة من منظمات حقوق الإنسان، ومجلس الأمن والقوى الديموقراطية في العالم.

ومن ناحية أخرى، فإنه بعد تهرّب دام عقداً من الزمن من الدخول في أي حديث جاد عن "الاصلاح السياسي" قد أضطر بحكم الضغط الشعبي الهائل للشارع السوري عليه إلى الدخول بحياء إلى هذا الموضوع الأساسي في محنته السياسية، ولكنه لم يمد يديه إلى أحد، سوى للذين يعترفون بشرعية نظامه ويساعدونه في البقاء والاستمرار مع اجراء بعض العمليات التجميلية والترقيعية للمؤسسات الحكومية والأمنية، بهدف إيقاف هذا الضغط الشعبي... لاغير.

كلامه التسويفي الممل عن النزاهة والأمانة والوحدة الوطنية والمستقبل السوري والمسؤولية الملقاة على عاتق المواطن، وكلامه الباهت عن حب الناس له، هو لاخفاء الصورة البشعة لأجهزته القمعية الدموية ولبعض أقربائه الذين يجرمون يومياً بحق هذا الشعب، وهو في حاجة ماسة لكسب الوقت على أمل سد كل الشوارع في وجه الشعب الثائر... ومحاولته إظهار نظامه بالعامل على احباط المخططات الطائفية هو من باب النفاق السياسي، حيث أن هذا النظام بالذات يعمل كتابع لملالي ايران الذين شطروا المنطقة بأكملها بنعرات طائفية قوية، من أبرز سماتها الاعلام الايراني الناطق باللغة العربية وتحويل لبنان إلى ساحة طائفية ساخنة والعمل على تشييع الشعب السوري برمته من خلال تسخير نظام الأسد...

لم يتطرّق الأسد بشكل جاد وموضوعي إلى القضايا الأساسية للشعب السوري، فقد أعاد مقولات النظام عن "الممانعة" و"المقاومة" ولكنه لم يذكر لماذا ربط أخاه سلام وأمن اسرائيل بأمن واستمرار النظام السوري. وتفادى الأسد الحديث عن الثورات العربية التي أطاحت بأنظمة مماثلة لنظامه، كما أهمل المجتمع الدولي ووجود معارضة وطنية – ديموقراطية قوية لحزبه ولنظام شبيحته في البلاد.

حاول تقزيم المعارضة الثورية العظيمة في البلاد في حجم "جوازات سفر" و"تخفيض سعر المازوت" ومقابلاته مع فئات من المواطنين (دون الأحزاب الأساسية المعارضة بالتأكيد) وكذلك في تحسينات مستقبلية على الاعلام السوري التابع لحكمه وعائلته وفي "تطوير الإدارة المحلية"...فلماذا لم يذكر شيئاً عن المطالبة الشعبية برحيله وعن اسقاط نظامه، في حين تطرّق إلى الاشاعات حول بقائه بعيداً عن الميكرفون طوال هذه الفترة التي شهدت فيها سوريا تحطيم سائر أصنام أبيه وصوره الكبيرة الحجم، وراح ضحية الثورة عليه أكثر من ألفي مواطن؟ ولماذا لم يقل كلمة واحدة عن آلاف الممعتقلين السياسيين الجدد منذ بدء الثورة في 15 آذار من هذا العام؟

يحتاج الأسد إلى مختلف أشكال المساعدة من المواطنين، لذلك فإنه تملّق تملقاً صارخاً، ولكنه في حاجة ماسة إلى اسكات المجتمع الدولي فلم يتحدث عن حاجته تلك، مع أن الأمر ضروري لبقاء نظام مثل نظامه، بل حاول تصوير المشهد السوري على أنه مجرّد "مؤامرة إخوانية" تمتد إلى عقود من الزمن، لاعلاقة للعالم الخارجي به وبصراعه مع السوريين...

نقاط ضعف النظام تزداد بعد هذا الخطاب التسويفي المماطل الذي يريد به تبرير الاستخدام المفرط للقوة ضد "المخربين!"، وتبرير استخدام الجيش "شرطة ضعيفة وصغيرة!" وتبرير التباطؤ "الحوار أولاً!" وتبرير عدم القيام بأعمال حاسمة في مجال الاصلاح... وتقزيم القضية القومية لثاني أكبر مكوّن اثني في البلاد إلى مسألة منح الجنسية لبضعة آلاف مواطن كوردي...

فهل يتملّص الأسد بهذا الأسلوب من مسؤولياته كرئيس للبلاد تجاه الجرائم الواقعة على الإنسانية في سوريا فحسب، أم أنه يمهد لمرحلة يضّحي فيها بأقرب الناس إليه من رجال الحكم ليظهر في النهاية كمصلح سياسي واجتماعي واقتصادي كبير في البلاد؟

إنه يلقي المسؤولية على "القيادة" ويتبرأ من حملها لوحده، ويزعم أنه سيحاسب من أجرموا بحق المواطنين، وأنه سيقود الحوار الوطني الشامل، وكذا وكذا...ولكنه يريد مزيداً من الوقت... فقد ينساه المجتمع الدولي وقد يصطاد في تلك الفترة فصائل من المعارضة السورية بذريعة الدخول في الحوار معها وقد يتعب الشعب من التظاهر الذي تسيل من خلالها دماء ابنائه وبناته، فيحتفظ الأسد بعرينه وتسير سوريا وراءه عقوداً طويلة من الزمن كما سارت مكبلّة بالأصفاد وراء أبيه...

لقد وضع الأسد جداول زمنية لكل عملية تسويفية وردت على لسانه، ولكنه لم يضع جدولاً زمنياً لمدى بقائه في الحكم...!

برأيي أنه بقدر ما يخطب الأسد بعيداً عن ساحات المدن ويلجأ إلى مجلس الشعب أو قاعات الجامعات أو حتى الجامع الأموي فإنه يفقد مصداقيته يوماً بعد يوم، والشعب السوري لن ينخدع بهكذا تسويف ومماطلة ويرفض الاستخدام المفرط للقوة من قبل النظام ورده سيكون بمزيد من التظاهرات السلمية وبمزيد من التماسك والتلاحم الوطني في وجه القمع المنظّم ومقالب السلطة الفاسدة الفاشلة.

*مسؤول موقع كورداخ / ألمانيا الاتحادية

======================

تكلم بشار.. ولم يقل شيئا .. الثورة الشعبية في سورية على أبواب الهدف الأول

نبيل شبيب

بعد انتظار المراقبين -وليس الثوار السوريين- لكلمة رئيس الدولة، المسؤول عن كل ما يجري على أرض الدولة، بدءا بقتل "المخرّب المندس المتآمر... إلى آخره": مؤمن إبراهيم حمودة، عن عمر ناهز "سبع سنوات" في بلدة إزرع.. في جنوب سورية، انتهاء بالألوف الذين شرّدتهم دبابات النظام وشبيحته من جسر الشغور وأخواتها، ومَن لم يُشرّد فقُتل واعتقل هناك.. في شمال سورية.

بعد انتظار أن يقول شيئا، ولو في حدود "فهمتكم" التونسية أو "استوعبتكم" المصرية.. قبيل السقوط المحتم، خرج بشار الأسد أمام جمع يهتف قبل الكلام وبعد الكلام: "بالروح والدم نفديك يا بشار".. "الله.. سورية.. بشار وبس".. فتحدّث كما تقول هذه الهتافات تماما : أنا موجود ولا وجود للوطن.. ولا وجود للشعب.. ولا وجود للتاريخ والمستقبل.

وهذا خطؤه الأكبر.. فالواقع الذي يعايشه أهل سورية والعالم من حولهم، يقول ويُسمع كل ذي صمم: الوطن موجود، والشعب موجود، والتاريخ موجود، والمستقبل يُصنع الآن.. ولم يعد لرأس التسلط الاستبدادي الفاسد وجود، إلا وجود زَبَد الماضي على أمواج سيل الثورة المتدفق.

 

شروط التغيير لا يمكن تغييبها

من المستحيل القيام بتحليل موضوعي منطقي لنص الخطاب الذي ألقاه بشار الأسد يوم 20/6/2011م، فهو لا يمثل "خطابا"، سياسيا أو غير سياسي، وليست المشكلة في كلماته، بل فيما لم يأت ذكره بكلمة واحدة في الخطاب، ليمكن تقويمه، وهذا ما يمكن تعداده على عجالة، ولا يحتاج إلى تفصيل طويل، فقد أصبح المسار الثوري التاريخي معروفا، صنعته الثورة الشعبية السلمية البطولية في سورية، وستتابع صناعته، لبنة لبنة، وإن لم يقل بشار الأسد عن ذلك شيئا، ولم يعد يمكن أن يحول دون تحقيقه بكلام ما.. بعد أن فقد واقعيا -منذ اتخذ موقف العداء لثورة شعب سورية- أي صفة لصناعة القرار حول مستقبل شعب سورية، بما في ذلك "صفة" وريث منصب الرئاسة المغصوب من قبل، وراثةً غير مشروعة.

تكلم بشار.. ولم يقل شيئا عن:

1- محاسبة القتلة على أكثر من 1400 شهيد من المدنيين وأكثر من 300 شهيد من شرفاء الأجهزة العسكرية والأمنية، بذلوا أرواحهم، أطفالا ونساء ورجالا، وهم في مقدمة صانعي مستقبل سورية، وإن زعم بشار الأسد -كالشبيحة الإعلاميين- أنهم ضحايا مؤامرات خارجية.

لم يعد يمكن القبول بأي "مخرج" للنظام دون محاسبة قضائية نزيهة للقتلة من داخل صفوفه، ولم يكن في "الخطاب" أي تنويه إلى ذلك من قريب أو بعيد، ولا دون الحساب القضائي النزيه عمّا ستكشف عنه الأيام المقبلات قريبا، بشأن من قُتل من المعتقلين، وأعطي عنوان "مختفين"، وما "حمزة الخطيب وتامر الشرعي" وأمثالهما -من الأطفال والبالغين- إلا دليل قاطع على وجود أعداد كبيرة ممن اعتقلوا وقتلوا على الأرجح، ولم تسلّم جثثهم المشوهة بالتعذيب لأهاليهم.

2- أكثر من 10 آلاف معتقل، ظلما وعدوانا، أثناء أحداث الثورة ومن قبل، حريتهم هي الشرط الأول من شروط أي موقف شريف، يصدر عن أي جهة سورية، من صانعي الثورة وأبطالها في الداخل، ومن جانب أي طرف يتحدّث باسمها أو عنها أو حولها، انتسابا أو واقعا، من خارج الحدود.. وسيان بعد ذلك هل "نسي" بشار ذكرهم أو تناساه.

لا يمكن الدخول في أي عملية حوار، أو إصلاح، أو نقل سلمي للسلطة، أو سوى ذلك من المسميات، بمشاركة أي طرف من أطراف السلطة المتسلطة على سورية حاليا، ممن لم يكن شريكا "مباشرا" أو "آمرا" في القتل والاعتقال، قبل أن يتمّ الإفراج عن جميع المعتقلين دون استثناء، والامتناع عن ملء السجون والمعتقلات ببدائل، كما جرى ويجري عبر بضعة عقود ماضية، وتضاعفت سرعة وتيرته خلال بضعة شهور مضت على اندلاع الثورة الشعبية.

3- أكثر من 10 آلاف مشرّد، لم يخرجوا من بيوتهم، أولادا وأمهات وآباء، ولم يغادروا قراهم ومدنهم، إلا بعد أن بدأت الدبابات بحصارها ثم قصفها، ليتكرّر المشهد الإجرامي الذي بدأ بدرعا، وانتقل إلى بانياس، وحمص، ودوما، والرستن، وتلكلخ، وتابع الطريق عبر مدن وبلدات أخرى، حتى جسر الشغور ومعرة النعمان، مع جميع القرى التابعة لكل مدينة من هذه المدن وسواها على حدة.. ولئن جهل بشار أو تجاهل، أنّ هؤلاء لا ينتظرون دعوتهم للعودة على لسانه، فهم يعلم، وشعب سورية يعلم، والعالم يعلم:

لا يمكن أن يعود هؤلاء إلى مقصلة السلطة، ولن تتوقف هذه المقصلة عن العمل، إلا بسقوط من يحرّكها، ولئن أثبتت كلمة بشار الأسد شيئا، فقد أثبتت خطأ "الشائعات" أنه غير شريك في المسؤولية عنها وعما ترتكب من جرائم قتل وترويع جماعية علنية.

4- لم يذكر بشار الأسد أيضا شيئا عن حوار وطني، وإن أسهب في الحديث المكرور الممجوج عن "حوار فوقي"، يجريه هو، مع من يريد، كيفما يريد، وقتما يريد، حول ما يريد، وجميع ذلك هو جزء من مكوّنات الاستبداد وممارساته، وليس جزءا من أي "حوار" أو "حلّ"، فلا حوار مع نظام يقمع.. ويقتل.. ويعتقل.. و"يعفو".. و"يصلح".. و"يشرّع".. بل كل ما يصنعه تحت هذه العناوين وسواها هو جزء من وجوده الاستبدادي، ينتهي مع سقوطِه، ولا يؤخّر الكلام المنمّق عنه سقوطَه.

إنّ الحوار الوطني الحقيقي الشامل جزء من عملية وضع نهاية للاستبداد، وقد أثبتت كلمة بشار الأسد، بخلوّها من أي إشارة إلى مؤتمر أو حوار أو تواصل أو مشروع للقاء وطني حقيقي جامع، أنّ ما يسمّى "النظام" قد استقال من كونه "نظاما مفروضا بالإكراه على سورية" وأصبحت مشاركته في مثل ذلك المشروع الوطني لسورية مستحيلة، وإن بقيت الأبواب مفتوحة، ليس أمام من "يختارهم هو للحوار" بل أمام "من يقبل الشعب بهم" من بين أولئك الذين يعلنون انفصالهم انفصالا كاملا، عن كيان الاستبداد القمعي الفاسد، كما يفعل حاليا عدد كبير من الضباط من الجيش وبعض الأجهزة "الأمنية"، بصورة متتابعة متصاعدة، رافضين أن يكونوا شركاء في جريمة مواجهة الثورة الشعبية بالقتل.

5- كل ما يمكن أن يصنع مستقبل سورية، بقي خارج قوسين في كلمة بشار الأسد، بدءا بدستور جديد، مرورا بقوانين قويمة جديدة، انتهاء بأجهزة جديرة بوصف أجهزة دولة.. وإن حاول أن يعطي عنوان "الإصلاح" لعملية ترقيع مخادعة، مشيدا بكونها "أبديّة لا نهاية لها"، جارية طوال 11 سنة مضت على وراثته كرسي التسلّط، وهو لا يجهل أن الثورة الشعبية قامت ضدّها، وكل حديث يتكرّر عنها يعني واقعيا مخاطبة الثوار بإلحاح: تابعوا طريقكم لإنهاء هذه المهزلة.

ويصعب القول إنه "معذور" في العجز عن قول جديد في ذلك، فالأصح أنّه يدرك حجم الفساد المتراكم الذي يجعل اسئتصال أي لبنة منه بإصلاح جزئي سببا في تساقطه، فالإصلاح الحقيقي هو بداية بناء مستقبل سورية، وهو بذلك نهاية ماضي الاستبداد الفاسد في سورية.. ويصعب على المستبدّ أن يتحدث بنفسه عن "طريق" نهايته. ومن المستحيل أن ينبثق دستور قويم وقوانين قويمة وقضاء قويم وأجهزة حكم قويمة، من قعر هيئة استبدادية حكمت البلاد تسلّطا، واستنزفت الثروات فسادا، وأصبحت نهاية وجودها، شرطا لا غنى عنه لبناء مستقبل آخر من بعدها، يستأنف تاريخ سورية المجيد من قبل تسلّطها.

 

نهاية التسلط وممارساته

لم يكن في كلمة بشار الأسد شيء يمكن اعتماده في محاولة الجواب على السؤال: ماذا أراد بها؟.. ولكن كان من الملاحظ أن اتهامه لشعب سورية بأنه فريقان: مندسون مخربون، ومتظاهرون مغرّر بهم، قد اختلط بصورة مرتبكة، بمحاولة سبك عبارات أخرى، لا جدوى منها، لدغدغة مشاعر الشباب الثائر في سورية (ومعه في الثورة جميع فئات الشعب الأخرى).. ولكن هذه العبارات الإنشائية، تكشف من حيث لا يعي صاحبها أو يعي ويتجاهل، عن عدد من الأمور الأساسية، في مقدمتها:

1- لم يفهم من لا يزال رفاقه يعتبرونه "رئيسا" مستوى الوعي الشعبي الرفيع الذي وصل إليه شباب سورية وعموم أهل سورية، رغم أكثر من أربعة عقود، لم تنقطع خلالها عملية غسيل الدماغ الجماعي جنبا إلى جنب مع عملية الإرهاب القمعي الجماعي، ولو فهم ذلك لَما حاول "دغدغة" المشاعر بلا جدوى!..

2- لم يعد لدى وريث منصب الرئاسة بعد أن سلّطت الثورة الشعبية عليه الأضواء الكاشفة، شيء يمكن أن يقوله بأسلوب "رجل دولة مثقف" كما ظهر -أو هذا ما شاع عنه- في بداية أيامه الفاصلة بين مهنته كطبيب ومهنته كحاكم مستبد متسلط، أي لم يعد لديه حتى القليل من القدرة على ممارسة مناورات "سياسية"، فمشكلته الحقيقية هنا هي أنّه لا يواجه عدوا خارجيا يتآمر ليهيمن، فيكذب ويخادع، ويمكن بالتالي التعامل معه بأساليب مشابهة، إنما يواجه الآن، بعد 11 سنة من التسلّط النكد، شعبا واعيا ثائرا مصمما على أن يسطر ملحمة بطولية غير مسبوقة، عنوانها إسقاط النظام القمعي رغما عنه.. فأي ردّ يمكن أن يجده "نظام" أظهرته ممارساته اليومية على شكل عصابة متسلطة، لا يميزها عن العصابات الإجرامية المنظمة، سوى استخدامها للأسلحة الثقيلة وليس للمسدسات والمتفجرات!..

3- يخاطر المستبد المتسلط على سورية مخاطرة كبيرة، فبعد الإخفاق في تحويل الثورة إلى حرب أهلية (ووضعُه مختلف عن المستبد في اليمن الذي حاول المحاولة نفسها، فليس لديه إقليميا ودوليا فريق قادر على المناورة طويلا عبر السعي العنيد من أجل إنقاذه دون جدوى) فهو يسلك طريق المخاطرة التي سلكها "شقيقه" المستبدّ الآخر، المتسلط على ليبيا.. هنا يمكن أن يفتح بشار الأسد الأبواب في سورية عبر استمرار التقتيل والاعتقال والتشريد، لاستدعاء تدخل خارجي يرفضه الشعب الثائر، وقد لا يستطيع الحيلولة دونه ما دام الاستبداد الفاسد يصنع عامدا كلّ ما يمكن أن يصنع من ذرائع وثغرات لتعريض سورية -وليس النظام المتهاوي- لمخالب هيمنة دولية، وكأنه يريد -كالقذافي- مجرّد الانتقام من شعب أبى أن يستمر الاستبداد الفاسد أربعين سنة أخرى.

 

الانصياع للإرادة الشعبية الثائرة

كلمة بشار الأسد "قطعت الشك باليقين"، وأصبح على الثوار، قادة الطريق إلى مستقبل سورية بعد الاستبداد الفاسد، أن يتابعوا هذا الطريق البطولي الذي سلكوه.. حتى يسقط آخر بيدق من بيادق الاستبداد الفاسد، اعتمادا على قوة الثورة السلمية البطولية الشعبية الشاملة، فمهما بلغ حجم التضحيات، لا يمكن أن يبلغ معشار ما سقط من ضحايا عبر العقود الماضية، وما يمكن أن يسقط ضحية استمرار الاستبداد الفاسد.. ولو لسنوات وليس لعقود أخرى.

كما أصبح على المعارضين بشتى أصنافهم ومسمياتهم وتوجهاتهم وتنظيماتهم، خارج الحدود وداخلها، أن يتخلوا -وهذا ما صنعه فريق دون آخر- عن تشتتهم وفق تلك التصنيفات، وأن يدركوا أن قيامهم بدور ما في بناء مستقبل سورية، رهن بانصياعهم هم لإرادة الشعب الثائر وقادته الأبرار في الداخل، فهذا -وحده- ما يمكن أن يثبّت انتسابهم إلى هذا الشعب الثائر، وقدرتهم على الاندماج فيه وفي طريقه إلى النصر المؤكد بإذن الله، وهذا -وليس ما قدّموه من قبل في العقود الماضية- ما يميزهم الآن عن القوى المشاركة في العصابة الحاكمة، التي فصلت نفسها عن إرادة الشعب طويلا، ولا تريد الانصياع لها الآن، وقد ظهرت قوية، ثائرة، فاعلة، قادرة على صناعة التغيير الجذري المنشود.. فمن يمضِ معها على هذا الطريق يصبح له وجود في مستقبل سورية، ومن لم يفعل يصبح جزءا من التاريخ، إما في صفحة سوداء تتراكم فيها ممارسات وخيمة، أو في صفحة ناصعة تخطها منجزات قديمة، ولكن عجزت أقدام أصحابها عن المتابعة الآن.. بإنجازات جديدة، لا مكان لها إلا تحت عنوان الثورة الشعبية، وتحت راية قادتها الأبرار في ساحات المدن والقرى السورية وشوارعها.. العابقة بريح النصر رغم الدماء والتضحيات، وما النصر إلا من عند الله القوي العزيز.

==================

في الموقف من الثورة السورية

محمد سراج

هكذا إذن وبهذه الطريقة افتضح النظام العربي المقاوم الوحيد في أبشع صورة إجرامية يمكن أن يكتشفها عنه رأي عام كان إلى وقت قريب جدا يتعاطف أن تصل رياح الثورة إليه، بدا إذن وهو في صورة مقاومة معكوسة وهو يقاوم سقوطه المحتوم في بحر ربيع ثوري جارف غير آبه بثمن الحرية الغالي "الحياة" فضلا عن أن يأبه أو يتعاطف مع أكثر الأنظمة العربية الاستبدادية سلبا لكرامة الإنسان.

فليس من الإنصاف إذن – ممن يتابع الحدث من خارج القطر السوري فضلا عن داخله - أن يبقى الرأي نصفا بين المقاومة الخارجية المفترضة للعدو، وهي في الحقيقة غير مكتملة منطقيا لمن لم ينخدع بترهات نظام مقاوم وهو قد شكل ويشكل أفضل حماية للعدو في الجولان، ومقاومة داخلية تفترض حماية أمن الوطن، وهي في واقع الأمر تخالف الواقع كونها أول من ينتهك حماية المواطنين جوهر المواطنة ولب الوطن؛ فالرأي النصف إذن هو شبه رأي لا يمكن أن يعتد بمنطقيته ولاجديته أو صدقيته وفقا للمجريات الحقيقية لوقائع الأحداث، وهنا يجب أن نفرق ونفصل بين شبه الرأي هذا قبل الثورة وبعد قيامها، كون قيام الثورة أبانت عن نصف الصورة الثاني الذي كان غائبا ربما عن أذهان طيبي النية الخلوص في الانجرار وراء دعاوى النظام المقاوم.

فلم يبق رأي معقول بعد وصول رياح التغيير إلى سوريا يمكن أن يجمع بين الاستبداد (الشر) والمقاومة (الخير)، حتى وإن صدّق بطيبته ترويجات الإعلام المقاوم، الذي لم يعد يدري كيف يتصرف أمام موجة المنطق الثوري التي اجتاحت المنطقة بعد عقود ساد فيها من اللامعقول الذي يمكن أن تفصح عنه وبوضوح الأيام القادمة، أعني بعد سقوط النظام المقاوم! فالمتابع الذي تغاضى عن أحداث حماة التي راح ضحيتها 35000 ضحية تبعا لأية علل لا يمكنه أن يبقى حبيسا لرأيه الذي لم يستطع تغييره ربما لأسباب تتعلق بالتكوين النفسي البنيوي أو بما راكمه الإعلام المقاوم بما يجعل من الإنسان حين يتخلى عن توهيماته إنما يتخلى عن جزء من ذاته التي صارت ترتبط به ارتباطا رمزيا يصعب الفكاك عنه، وهذا في حقيقة الأمر أمر مفهوم ومعقول وفقا للتفسير المقدم خاصة إذا التفتنا إلى الوراء ورأينا أن الأنظمة العربية التي لا يتذكر عنها إلا النكبات والنكسات فما كان من إنسان العالم العربي إلا أن بقي حبيسا لمنهج مقاوم غير مبني على المعطيات المعاصرة لتحقيق الأمن القومي العربي. فماذا نعني بالأمن القومي العربي؟

هو بلا شك البديل الأنجع والأنجح عن استراتيجية المقاومة الجزئية وهو الذي سيكون النتيجة الحتمية للثورة العربية المباركة التي تجتاح الوطن العربي بأسره مهما كانت التضحيات، استراتيجية أمن قومي يكون فيها الإنسان العربي مقررا ليس متفرجا ينتظر أية تحركات تكون لإشفاء الغليل ليس إلا بغض النظر عن العواقب والتبعات، أمن قومي مشترك يكون هدفه تحرير الأقصى وحفظ المواطن العربي من اية ردود أفعال لا تأبه به ما دام لا يخطط وإنما يسير بعشوائية الأجزاء.

وحتى لايلتبس الأمر على القارئ وتعتبر القضية وكأن الكاتب يسعى قسرا ولو رمزيا على فرض رأي وحيد وإنما الأمر يتعلق فقط بتحليل منطقي للموقف لا يتعد إلى جانبه الفعلي الموقفي مما يجري من أحداث في سورية تفقأ العين، وهي بمثابة الدابة التي تكلم الناس أو هي البينة التي تفصل بين الحق والباطل، وذلك كله سعيا للانتقال إلى الأمام في رؤيتنا السياسية للمنطقة، وهي الرؤية التي عليها تتوقف الكثير من المواقف حتى تلك البعيدة عن منطقة الصراع في الشام، ذلك أن وصول قطار الثورة إلى سورية أدى بالكثير إلى قلب نظرته عن الثورة بعد أن كان أشد مناصريها في تونس ومصر وصار يتكلم عن أنها مؤامرة في سورية، فبأي منطق؟!

ف"الموقف النصف" صادر عن عقل جزئي يعترف باستبداد النظام وربما بما يراه من إجرامه المفضوح في نفس الوقت الذي يعزي فيه نفسه على مسمى المقاومة ناسيا او متناسيا قدسية كرامة الإنسان واعتبارها من مقاصد الشرع والوضع؛ ورأيي أن المستقبل بعد استكمال الثورة العربية شوطها الثاني إن تبقت لدعاوى المقاومة بقية سيؤول إلى الموقفين المقاومة والأمن القومي، فعلى كل واحد أن يحدد موقفه ونأمل أن يكون لصالح الموقف المتقدم والذي تسير الثورة العربية لترسيخه بخطى ثابته هي نصر من الله وسيكون إثره فتح قريب بإذنه تعالى.

========================

مع نوح في سفينته

مشهد ينقله إليكم : الدكتور عثمان قدري مكانسي

يبذل الداعية جهده وينصح الناس ويهديهم إلى طريق الحق ولا ييئس من صلاحهم فإن خامره شك في ذلك تهاون ، وهذا لا يكون فيمَن فهم واجبه وعلِمه تمام العلم ، وقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عائد من الطائف - التي آذتْه - إلى مكة يقول حين عرض عليه ملك الجبال إذ جاءه يعرض عليه أن يهدم جبال مكة فوق رؤوس أهلها : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، وأبى ذلك ، ونراه صلى الله عليه وسلم في حصاره للطائف – بعد فتح مكة- وقد علم أن حصونهم لا يمكن الخلوص إليها – وقد سأله أصحابه أن يدعو عليهم – يقول : " اللهم اهد ثقيفاً وائت بهم " .

ويظل نوح عليه السلام يدعو قومه لا يكل ولا يمل حتى جاءه الوحي يقول " إنه لن يؤمن من قومك إلا مَن قد آمن " ولعله حزن لكفرهم واستكبارهم كما حزن رسول الله محمد عليهما الصلاة والسلام فقال له الله تعالى " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً " ويخفف الله عنه قائلاً " فلا تذهب نفسك عليهم حسرات" وقال كذلك " ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون" يقول الله تعالى لنوح عليه السلام " فلا تبتئس بما كانوا يفعلون" . ويظل الإنسان يعمل حتى يطلب إليه صاحب العمل أن يقف عنه وينتهي ، وصرح القرآن أن العمل يقف فقط حين تنعدم الفائدة ، أما إذا كان منه فائدة - ولو قليلة - فينبغي أن يستمر . ويأسى المرء حين يدعو إلى الحق ليل نهار ويرى الناس منصرفين عنه إلى الهوى وحظوظ النفس ..

وكان نوح عليه السلام – في إحدى حالات ضيقه من صد قومه وجحودهم – قد دعا على قومه " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً " وكانت ساعة مستجابة . فقد حكم المولى على الكافر الذي نأى واستكبر بعد أن جاءه الهدى بالعقاب المناسب " إنهم مغرقون " .

ولا بد من العقوبة لمن ظلم نفسه وحاد عن الحق وهو يعلمه زهداً به ورغبة عنه واتباعاً للهوى، إنّ نوحاً ظل في قومه يدعوهم إلى الله تسع مئة وخمسين عاماً يتابعهم ، " فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً " ويلح عليهم ، ويشرح لهم وهم سادرون في غيهم ، وقد كان أحدهم يأتي بولده إلى نوح ويريه إياه قائلاً : يا ولدي لقد حذرني جدك من هذا الرجل وتخرصاته ، وهاأنا أحذرك منه . وفيهم وفي أمثالهم يقول المولى تعالى " أتواصوا به؟! بل هم قوم طاغون" .

والعقوبة في القرآن الكريم للأمم أربعة أنواع " فكلاً أخذنا بذنبه : فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ، ومنهم من أخذتْه الصيحة ، ومنهم من خسفنا به الأرض ، ومنهم من أغرقنا ، وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " وكان عاقبة قوم نوح وقوم فرعون الغرق .

ولا بد من اتخاذ الأسباب في كل شيء ، ومنها عملية الإغراق هذه التي كتبها الله عقوبة على قوم نوح ، وإذا حُدّدَتْ العقوبة وجاءتْ ف " لات حين مناص " . لقد بدأ نوح والمؤمنون معه بالعمل المؤدي إلى تنفيذ العقوبة ، فلن يُساق الناس إلى البحار ليغرقوا ، إنما البحارهي التي تجتاحهم في عقر دارهم . ولأن الغرق لا يبقي ولا يذر من يبقى على الأرض فلا بد من صنع سفينة تحمل المؤمنين مع نبيهم بين جبال الأمواج القادمة من المجهول . ويبدأ النبي نوح يعمل عمل النجارين ، غير المهنة التي اعتادها الناس منه، فبدأوا يسخرون منه ، ( نجار ، ولعلهم يصفونه بالهبل والجنون لأنه يصنع سفينة كبيرة في مكان ليس فيه تلك البحار التي تحملها . وتصور معي الإيمان الراسخ الذي يمتاز به هذا النبي العظيم الذي يتحمل في سبيل الله كل هذه السخرية والهزء من قومه الذين يمرون به في كل آن ويسمعونه قارص الكلام وسيئه ، وهو صابر محتسب ، يرى عين الرعاية الربانية تحيط به من كل جانب فيأرز إليها ، ويسكن إلى رحمانيتها ، ويعمل بمعونتها وإرشادها " واصنع الفلك بأعيننا ووحينا " وهل أكثر أماناً من حفظ الله تعالى ورعايته؟! .

قد يسخر الناس منه بألفاظ نابية ،أو تعليق قاس ،أو ابتسامة ذات معنى ،أو إشارة فاضحة ، أو ضحكة مهينة : " وكلما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه " انقلبت الأمور فبدل أن يعتمد على قومه في مؤازرتهم ومساندتهم أمام الأعداء والغرباء يجدهم أكثر الناس إساءة إليه ، وهذا أمر يحزن ويفت في العضد في كثير من الأحيان . ألم يقل الشاعر الحكيم :

 وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند

والنبي نوح عليه السلام وهو يتلقّى منهم كل هذا يجيبهم إجابة الحكيم الذي يعلم أن العاقبة للمتقين ، وأن الدنيا مهما طال زمنها ذاهبة بأهلها ، والويل لمن يعصي الخالق العظيم ويشاقّه ، فإنه – سبحانه - يمهل ولا يُهمل ، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلِته. إنهم يسخرون ، وسوف تُحسب عليه سخريّتُهم . ويهزأون ويُحسب عليهم هزءهم. ولكنهم حين تحق الحقيقة غارقون في لجة الماء في هذه الدنيا ولن ينجو منهم أحد ، وسوف يكونون من أهل العذاب يوم القيامة خالدين فيه أبداً . فمن الذي يسخر من الآخر يا أولي الألباب ؟. " فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ " .

وجاء وقت الحسم ، لقد بنى النبي نوح عليه السلام سفينة الإنقاذ ، فمن يركبها ؟ إنها أزواج الحيوانات ، ليكون منها التكاثر مرة أخرى ، والمؤمنون من أهله والمسلمون الذين وحّدوا الله تعالى ، أما زوجته وبعض بنيه فمع الغارقين ، لقد كفروا به مع من كفر، وليس هناك من وساطة ورحمة إلا لمن استجاب للدعوة المباركة . ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة – وهي قرة عينه وأقرب الناس إلى قلبه – " يا فاطمةُ ؛ سليني ما شئت من مالي ، لا أغني عنك من الله شيئاً . " كان المؤمنون قلة ، وأصحاب القلوب الشفافة وأهل الهدى أقل عدداً ولكنهم أقوى أثراً ، فليست العبرة بكثرة العدد والعدة . إنها بالنوعية الرائدة الفريدة . ألم يقل الله تعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم " وإن تُطِعْ أكثر من في الأرض يُضلوك عن سبيل الله ؟" وقد قال الحبيب المصطفى في الدلالة على القلة الواعية الرائدة في المجتمعات " الناس كإبل المئة ، لا تكاد تجد فيها راحلة ."

وحين استوى المؤمنون في السفينة دعا القائد الرباني دعاء الحفظ والصون " وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ " تدفقت المياه كأغزر ما تكون من الأرض ، ونزل الماء كأقوى ما يكون نزوله من السماء ، وبدأ الماء يرتفع بقوة غامراً الوديان والوهاد ، لا يترك ثقباً في الأرض إلا دخله ولا كهفاً في جبل أو تل إلا غمره ، يخطف الناس والحيوانات والأشجار ، ويأخذها أخذاً عنيفاً ، وكانت السفينة تسير بهم في موج كالجبال ، يحفظهم سيد الكائنات ويسيّرهم بلطفه سبحانه ، وما الأمن والأمان إلا بمعية الله " لا إله إلا هو " ومن كان مع الله كان الله معه. ومن اتكل عليه كفاه .

كان قلب الأب الرحيم يتابع أحد أولاده ممن تنكب سبيل الهدى وخاض في الضلالة ، وهذا يحزن الأب كثيراً فهو يريد أن ينجو فلذة كبده فيكون مؤمناً ، لقد انطلق ابنه بعيداً عنه على الرغم أنه ناداه قائلاً " يا بنيّ اركب معنا ولا تكن مع الكافرين " والإيمان شرط الركوب في السفينة ، هذا ما قرره الله تعالى وقضاه ، والفتى يقوده الغرور إلى ارتقاء جبل يظن أنه يمنعه من الغرق ، فمهما ارتفع الماء فلن يرتقي الجبلَ خُمُسَه أو ربعَه أو نصفه ، هكذا اعتاد الناس إذا هاجمهم الماء ، وسوف يعود عاجلاً أو آجلاً إلى الانحسار ، فما لأبيه يصنع سفينة ويتعب نفسه الشهور في تركيبها ويتحمل هذا العناء كله؟! أفقد عقله يا ترى ، لعله كذلك ، ولعل الناس صادقون في وصف أبيه بما لا يليق برجل محترم ، هكذا كان يقول في قرارة نفسه حين ردّعلى نداء أبيه الرحيم يستعطفه أن يكون معه في الفلك . فكان ردّه عقوقاً ظاهراً وجحوداً متمكناً في نفسه " سآوي إلى جبل يعصمني من الماء " فكان آخر ما سمعه من والده الثاكل " لا عاصم من أمر الله إلا مَن رحِم " ففي هذا الموقف رحمة أو غضب ، ثواب أو عقاب . ولا يعلم هذا إلا قلب المؤمن المتصل بالله " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " فما إن انتهى الأب من دعوته لابنه أن يكون معه حتى " .. وحال بينهما الوج ، فكان من المغرقين " لم تنفعه القرابة ولا النسب . فهمَ هذا مصعبُ ابن عمير حين قال له أخوه أبو عزيز ، وقد أسره أحد المسلمين في غزوة بدر : يا أخي وصِّ هذا المسلم بي . فقال مصعب للمسلم : اشدُدْ عليه يا أخي فإن له أماً غنية تفديه . فقال أبو عزيز له : أهذه وصاتك بي يا أخي ؟! قال له : صَهْ ؛ إنه أخي من دونك.

انتهت العملية في أيام معدودة ، ولا بد من العودة إلى الحياة الطبيعية : فبلعت الأرض ماءها بأمر الله واستعادت السماء ما أنزلته ، فالإقلاع ارتفاع ، ألا نقول : أقلعت الطائرة ؟ نعم لقد استعادت السماء ماءها وعادت الأمور كما يريدها المولى كي تبدأ الحياة من جديد . وإذ بالسفينة ترسو في أعلى جبل الجودي لتكون عبرة للأجيال القادمة " ولقد تركناها آية ، فهل من مُدّكر" . نزل المؤمنون سادة على الأرض بمدد من الله وعون منه ، وقد كان الكفار قبل الغرق يسرحون فيها ويمرحون وكأنهم السادة الباقون ، ذهبوا كما ذهب أسلافهم من الطغاة ، وكما سيذهب أمثالهم من طغاة العصور القادمة ، ولكنْ " هل من مُدّكر " . وتصور معي الاستعلاء الحقيقي لرب السماء والأرض " وقيل بعداً للقوم الظالمين ". أقالها سبحانه مقرراً أفول نجم الظلمة مهما طغوا وبغوا ، أم قالها المؤمنون وهم ينزلون من السفينة ، أم قالتها الملائكة .. بعداً للقوم الظالمين .

ولعل الأبوّة حين تتملّك صاحبها تخرجه أحياناً عن الصواب – ولو كان معصوماً - أو تنسيه ما أمِر به قبل الصعود إلى السفينة ، فيختلط عليه الأمر ، فلقد نادى نوح ربه مسائلاً : " ربّ إن ابني من أهلي " ، ألم تقرر هذا حين سمحت لي أن أحمل أهلي في السفينة ، وقد مضى ولدي فابتلعه الماء . يارب إنك أرحم الراحمين فأحيِ ابني وأعده لي . أو لعله طلب أن لا يكون ابنه من أهل النار . فكان الجواب عتاباً أعاده إلى الصواب وذكره بقاعدة ما تزال هي القانون الأبدي إلى قيام الساعة . لا علاقة للنسب في العقيدة ، ولا صلة حقيقية إلا في العلاقة الإيمانية . وما عدا ذلك لا يُعتَدّ به ، ولو كان من ذريتك. " إنه ليس من أهلك ، إنه عمل غير صالح " وقد عاش نوح عليه السلام ألف سنة في أجواء الإيمان الحق ، فلا ينبغي أن يقع في مثل هذا الخطأ " إني أعظك أن تكون من الجاهلين "

وسرعان ما يفيء النبي الكريم إلى الحق ويقر بخطئه ويسأل الله تعالى العفو والمغفرة ، وهذا دأب القدوة الصالحة ترجع إلى الحق سريعاً . " قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ۖ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ " فكان الاعتراف بالخطإ أولاً والتوبة ثانياً وطلب العفو والمغفرة ثالثاً سبيلَ الصالحين جعلنا الله منهم .

وينزل النبي الكريم ومن معه إلى الأرض بسلام من الله وتحية منه وبركات... إن من يؤوب إلى الله تعالى يجد غفران الذنوب وستر العيوب ، والتجاوز عن الأخطاء ويجد المغفرة تحوطه والراحة الإيمانية تغمره .

هذا ما أخبر القرآن نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم من أنباء الرسل قبله ، ولم يكن يعلم من أنبائهم شيئاً ، وهذا دليل على أن القرآن من لدن حكيم عليم نزل به الروح الأمين على قلب الحبيب المصطفى ليكون نبراساً للبشرية يهديها إلى الصراط المستقيم .

=========================

النعيم هو أن يكون لك وطن

جابر عثرات الكرام السوري

يا إخوتي نحن السورين الذين حرمنا من وطننا على مدى و احد و أربعون .

لا ندرك ما هو الوطن و أي نعمة من الله أن يكون لك وطن نحن كمن ولد أعمى لا يعرف ماهي نعمة البصر و كذلك نحن لا نعرف نعمة الوطن .

أن يكون لك وطناً تشعر فيه بالامان الحقيقي أي أن تكون آمنا من ا ستدعاء أجهزة الأمن بدون سبب حقيقي فقط لأن مٌخبر حقير يحسدك لأمر ما,أو تكون آمنا من شخص يعتدي عليك أو على مالك أو عرضك و لا تستطيع أن ترده لأنه مدعوم أو لأنه على علاقة جيدة بأجهزة الأمن و القضاء الفاسدة.

وطن تشعر فيه بالعدالة بحيث تحصل على فرصة العمل لأنك تملك المؤهلات الكافية و لانك تستحقها و لا يسرقها منك شخص مدعوم أو شخص دفع رشوة لموظف حكومي , وطن تشعر فيه بالعدالة بحيث لن تكون مضطرا للدفع لأي موظف في الدولة كي تحصل حق من حقوقك.

وطن يحاكم الفاسدين والقاتلين و المهربين و المجرمين و القوادين و العاهرات بدل من أن يكرمهم و يسلمهم المناصب و يجعلهم قادة المجتمع.

وطن لا يحاكمك و يسجنك سنين على فكر تحمله.

وطن لا تلفق لك فيه التهم من الحكومة لانك لاتهتف لها حتى يبح صوتك.

وطن لا يحاكمك على إضعاف الشعور الوطني و انتقاص هيبة الدولة لانك تساءلت أين تذهب أموال الوطن أو شككت بأحد الفاسدين.

وطن يحتاج فيه من يعتقلك الى مذكرة من القضاء و تهمة حقيقية و يكون لك حقوق بمحام و محاكمة عادلة.

وطن لا يكون أقصى أمل أهل المٌعتقَل أين يعلموا من إعتقله و هل هو حي أم ميت.

وطن يحق لابنك أن يحصل على تعليم جيد و أن يحصل فيه على فرصة عمل و حياة كريمة.

وطن لا يفكر معظم شبابه بالاغتراب و الهجرة لتحصيل لقمة العيش رغم أنه من أغنى بلاد العالم بموارده.

وطن لا يستطيع فيه الفاسدين مراكمة المليارات بينما لا يجد معظم أبناء الوطن قوت يومهم.

وطن لا يكون فيه إمتلاك منزل متواضع حلم لا يجوز أن يراود مخيلتك.

وطن تستطيع أن تؤمن فيه لعلاج لابنك المريض دون أن تضطر لانتظارأشهر حتى يفرغ سرير في المشفى الوحيد في مدينتك (إن وجد) و الذي لا يوجد فيه أدنى درجات الخدمات و قد يموت المريض قبل أن يتوفر سرير فارغ.

وطن تشعر فيه بأنك مواطن و ليس عبد رقيق.

يا إخوتي هذهمجموعة بسيطة من الحقوق التي سوف تملكها إن كان لك وطن.

يا إخوتي هذا جزء بسيط من الوطن الذي لم نعرفه يوما و لكن نأمل بأن نحصل عليه و أن يكون لأطفالنا وطن.

يا إخوتي ان لم نشارك بانفسنا و أموالنا سيضيع الحلم بان يكون لنا و لاطفالنا وطن و سنبقى عبيد لدى آل الاسد بشارو حافظ و بشاروحافظ و بشار وحافظ ربما لمئات الأعوام.

يا أخوتي إن بقينا خائفين و متفرجين فلن نحصل على نعيم الوطن.

يا إخوتى الوطن أروع ما في الوجود فلا ندعه يفلت من بين ايدينا.

يا إخوتي من يستطع أن يشارك بنفسه فلا يتوانى سواء بالتظاهر او التكبير أو الاضراب او المقاطعة و الامتناع عن دفع الضرائب و لا ننسى الدور المؤثر للمغتربين في الامريكيتين و أوروبا الغربية بالتاثير على الراي العام للتأثير على حكوماتهم من أجل دعم الثورة,

يا إخوتي من يستطيع ان يشارك بماله فلا يبخل و لا يظن من يملك مائة أنه يجب ان يدفع فقط عشرة فهو غير مقدر نعمة الوطن بل هو مطالب ان يدفع الخمسين و السبعين و التسعين و هذا الوطن يجب ان يفدى بالغالي و الرخيص خاصة من يملك المال في سوريا أو من المغتربين حقا علينا و واجب : التكفل بأسر الشهداء و بالذين فقدوا أعمالهم و هدمت منازلهم و حرقت حقولهم و اعتقل معيليهم, لا تتقاعس و تبخل و تقول كيف استطيع إيصال المال لهم أي منا يستطيع الوصول اليهم فهم إخواننا و أقربائنا و جيراننا و هم موجودون في احيائنا و مدننا و قرانا.

يا إخوتي من ضحى بنفسه في سبيل وطننا جميعنا ألا يستحق أن نرد له جزء من الجميل و نكفل اطفاله.

يا إخوتي من ضحى بمنزله في سبيل وطننا جميعنا ألا يستحق أن نرد له جزء من الجميل و نساعده على ترميمه.

يا إخوتي من ضحى و سجن و تحمل التعذيب الوحشي في سبيل وطننا جميعنا ألا يستحق أن نرد له جزء من الجميل و نطعم اطفاله في غيابه.

يا إخوتي هو نعيم أن يكون لك وطن فإما أن تعمل من أجله و تستحقه و إما أن تتقاعس فيضيع منك.

=====================

خطورة قولبة المجتمعات

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

أعني بقولبة المجتمع أن يتم صبه في قالب واحد، فيراد لكل أفراد المجتمع أن يكونوا على لون واحد، وأن يفكروا بنفس الطريقة وأن يكون لهم نفس الموقف السياسي، ، فإذا قدر الحزب الحاكم تقديراً حوَّله إلى قرار ملزم، وما رآه حسناً وجب على المجتمع أن يراه حسناً، وما رآه سيئاً فهو كذلك، فهو قد جعل مقياسه للصواب والخطأ مقياساً مطلقاً ملزماً لكافة أفراد المجتمع..وبذلك يختزل المجتمع كله في حدود جماعة واحدة ويقيد بمواقفها ورؤاها.

لا نناقش في حق الجماعة الحاكمة بأن يكون لها اجتهاداتها وتقديراتها السياسية سواءً أصابت أم أخطأت، فمن حق الجميع أن يجتهد وأن يتبنى ما يراه مناسباً، ولكننا ننتقد محاولة حمل المجتمع كله على هذا الرأي لا لشيء إلا لأنه صدر ممن يمتلك سلطةً ونفوذاً، وكأن سلطته ونفوذه تمنح رأيه قدسيةً خاصةً تميزه عن غيره من الآراء..

إذا رأى الحزب الحاكم أن يتجنب التعليق على أحداث تجري في دولة مجاورة لاعتباراته السياسية، فهذا من حقه، لكنَّ ما ليس من حقه أن يفرض اعتباراته التي يراها على المجتمع كله فيمنع أي مقالة أو تظاهرة أو نشاط يرى رأياً آخر في المسألة..إن الاعتبارات والتقديرات السياسية التي يراها الحزب الحاكم تلزمه وحده، ولا تلزم المجتمع كله معه، وحق التعبير عن الرأي يجب ألا يكون مرهوناً بمدى اتفاقه أو مخالفته لرأي الحكومة السياسي، أو أن يكون وسيلةً للاستعمال التكتيكي فإن رأت الحكومة في إحدى المراحل أن تصعد على إحدى الجبهات أوحت إلى الناس بالتظاهر، وإن رأت أن تهدئ على تلك الجبهة منعت التظاهر، بل إن حق التعبير عن الرأي أياً كان هذا الرأي في اختلافه عن رأي أصحاب السلطة والنفوذ هو حق مقدس لا يقبل المقايضة..

ربما يبدو مشهد المجتمع أو الجماعة التي لا يسمع فيها سوى رأي واحد مشهداً إيجابياً في الذهنية العربية فهو دليل على الانضباط والتماسك ووحدة الصف، لكن هذه الإيجابية أقرب إلى الوهم منها إلى الحقيقة، فثمن هذا التماسك الظاهري باهظ يدفعه المجتمع أو الجماعة من مستوى الإبداع والتفكير فيها، وكلما كان حرص الجماعة على إظهار نفسها بمظهر المتماسك المنضبط أكثر كلما كانت أكثر ضيقاً بأي رأي يخالف التوجه العام فيها، فهي لا تريد أن تسمع سوى ما يتناسب مع أهوائها فتتعطل ملكة النقد لدى الأفراد وتصبح البيئة المجتمعية مضادةً للتفكير والإبداع.

والخلل يبدأ من الثقافة العربية في أنها تعلي من شأن قيم الجندية على حساب الاهتمام بقيم القيادة، فهي تكيل المديح للانضباط والالتزام والسمع والطاعة، بينما لا تثني بالقدر الكافي على التفكير الحر والنقد البناء وثقافة تعدد الرأي، ويربي المجتمع أبناءه منذ الصغر على إلغاء عقولهم وتقليد الكبار وعدم الإكثار من السؤال والاعتراض حتى لا ينبذهم المجتمع، وبذلك ننتج جنوداً لا قادة، مقلدين لا مبدعين..مع أن الأصل في الحياة البشرية هي القيم الثانية وليست الأولى لأنها هي التي تحقق إنسانية الإنسان، وهي التي تساهم في مسيرة التطور البشري، أما قيم الجندية فهي استثناء يصلح زمن الحروب ولا يجوز تعميمه ليصبح أسلوب حياة..

لقد سمعت رجلاً وهو يفسر سر تقدم الأمة فيما مضى وتخلفها في هذا العصر بأن الصحابة كانوا يقولون سمعنا وأطعنا ويسكتون، أما جيل هذا العصر فيتفلسفون ويجادلون، ولو صدق لقال إن السبب هو أن الذين سبقونا كانوا يفكرون، بينما نحن لا نفكر، وقد كان الصحابة أكثر الناس سؤالاً ومناقشةً للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان اتباعهم على بصيرة وليس اتباعاً أعمى.

إن ظاهرة الصوت الواحد والرأي الواحد في المجتمعات ليست ظاهرةً صحيةً، والانضباط والاستقرار الذي تعكسه هو استقرار متوهم، لأن الوضع الطبيعي أن يكون أفراد المجتمع متعددين في أفكارهم وآرائهم، وأن يكون المجتمع زاخراً بالنقاشات والحوارات الفكرية والسياسية، أما المجتمع الذي لا يشهد تعدديةً فكريةً وسياسيةً فهو مجتمع ميت توقف أفراده عن التفكير والنقد، فهم يقلدون ويتبعون على عماية.

وحين نحاول أن نظهر أنفسنا أمام الناس وكأننا طبعة واحدة، ونظن أننا نعكس صورة وحدة وتماسك تكف عنا انتقاد الآخرين فإننا مخطئون، لأن ما يستحق الانتقاد فعلاً هو ألا يكون هناك سوى رأي واحد، وقد خلق الله البشر متفاوتين وكرم كل واحد منهم بشخصية متميزة متفردة عن العالمين، فلا يوجد اثنان على وجه الأرض متطابقين تماماً، ومن يلغي فرديته ويؤثر الانصهار في القوالب الجامدة فإنه يكفر نعمة الله عليه..

وحين يصب المجتمع في قالب واحد ولا يسمح فيه بتعدد الآراء والرؤى فإنه يتحول إلى ما يشبه قطيع غنم يسيره رعاته دون وعي منه، وتقتل ملكة النقد عند الأفراد، فكل ما تراه القيادة الحكيمة الرشيدة صواباً فهو صواب، ولا داعي للتفكير والتساؤل، والنقد والإبداع.

قولبة المجتمع قتل له، لأنها تلغي فردية الإنسان وهي السر الذي يميز جوهره، هذه الفردية هي التي يتولد عنها الإبداع، وهي التي تثري المجتمع وتقويه، وتجعله مجتمعاً نابضاً بالحياة.

إن الحكومات التي تقتل الرأي الآخر وتسعى إلى صب المجتمع في قالبها الخاص، وتقضي على التنوع الفكري هي حكومات فرعونية بامتياز إذ أن مرض القولبة ينتمي إلى فرعون الذي كان يقول لقومه: "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد".

يتضح الفرق بين إطلاق العنان للتعدد والتنوع، وبين حمل الناس على رأي واحد من الفرق بين واقع المجتمعات الغربية النابضة بالحياة والإبداع وبين المجتمعات العربية الجامدة، فالثقافة الغربية تشجع التعدد الفكري والسياسي الحقيقي وتعمل على تنمية نزعة التفرد في نفس كل واحد، فكل إنسان يفكر بطريقة حرة ويحقق ذاته دون أن يكون مجبراً على اعتناق أيديولوجيات جامدة جاهزة..هذه الثقافة هي التي تنتج أصواتاً معارضةً للسياسات الغربية الرسمية، وتفرز مناصرين لقضايا العدالة العالمية .

تجد في الدولة الواحدة في الغرب تعدداً في الآراء من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ويعبر الجميع عن آرائهم بكل حرية بغض النظر عن اقتراب آرائهم أو ابتعادها عن الموقف الرسمي للدولة، ولم يحدث أن منعت الدولة تظاهرةً بحجة أن الاعتبارات السياسية والمصلحة العليا لا تسمح لهذا الرأي بالظهور إعلامياً، فهذه الاعتبارات ملزمة لها وليس للمجتمع، ولم نسمع عن تأثر العلاقة بين بلدين بسبب تنظيم تظاهرات في إحداهما، بل على العكس من ذلك فإن الحكومات الغربية تباهي العالم بحركات الاحتجاج الشعبية في بلادها بأنها دلالة نضج اجتماعي وسياسي، ومؤشر على الحرية وعلى مجتمعات نابضة بالحياة.

إن ظهور الرأي الآخر يقوي موقف الحكومة ذاتها وربما يساعدها في انتزاع مكاسب إضافية بالتلويح بورقة المعارضة في وجه الطرف الآخر، أي أن التنوع داخل المجتمع يعطي مساحةً واسعةً للمناورة، بينما قولبة المجتمع كله في قالب جامد يقضي على أي مساحة للمناورة ولا يبقي لدى الحكومة الاستبدادية أية أوراق للتلويح بها..

بذلك يتبين أن التعدد السياسي والفكري داخل المجتمع ليس مصلحةً لأحزاب المعارضة وحدها، بل فيه مصلحة للحزب الحاكم ذاته لأنه يمنحه مساحات واسعةً للمناورة السياسية، ويقلل من مخاطر ابتزازه من قبل الجهات الخارجية لأنه يكون حينها أكثر تجذراً في المجتمع، كما أن هذا التعدد يمنح الحزب الحاكم فرصةً للمراجعة وتطوير الأداء وإبقاء عناصره في حالة تحفيز إبداعي للبحث عن وسائل جديدة في المواجهة الفكرية والسياسية مع الآخرين وبذلك يكون وجود الآخر ضمانةً لعدم الجمود والتقوقع والفناء..

إنها فوائد عظيمة يجلبها التعدد لقوم يعقلون..

في المقابل فإن قولبة المجتمعات هي تهديد خطير للمجتمع بما في ذلك الحزب الحاكم، لأن صب المجتمع في قالب جامد يقتل ملكة الإبداع، ويؤدي إلى حالة من الفتور والتراخي، ويصادر ميزة الفردية والهوية ويربط كل صغيرة وكبيرة في إطار صارم من المركزية، وبذلك تصبح حركة المجتمع أكثر بطئاً وأقل مرونةً.

من مظاهر القولبة في المجتمعات العربية سيطرة النزعة المركزية، فتجد للحزب أو للحكومة صحفاً رسميةً ناطقةً باسمها وكذلك فضائيات ونشرات، وحتى لو أراد الحزب تنظيم تظاهرات فلا بد أن تكون تحت رايته متبناةً رسمياً منه، فكل شيء يخضع للمركزية، حتى وجود وزارة الإعلام في البلاد العربية هو دليل قوي على هذه القولبة، فوجود وزارة حكومية تحمل اسم الإعلام يعني ضمنياً أن الإعلام يجب أن يظل في خطوط معلومة لا يحيد عنها، بينما نجد الدول المتقدمة، ومنها إسرائيل لا تعرف مثل هذه الوزارة، بالتأكيد هناك صحف وفضائيات مساندة للحكومات، وتخدم خطها السياسي، ولكن العلاقة بين هذه الوسائل الإعلامية وبين الحكومات ليست علاقات مباشرةًً صارمةًً، وتظل هناك مساحة للتميز والإثراء.

ونحن لا نطرح هذا المثال ترفاً، بل لأنه يسبب أزمةً واضحةً في العالم العربي، فحين يسعى هذا النظام إلى أن يكون الإعلام تحت سيطرته مباشرةً وأن يراقب كل كلمة تخرج منه فهذا يعني أنه لم يعد يثق بأي مساحة للتنوع، وهذا يعني إلغاءً كاملاً للمجتمع، وأن كل ما على المواطن فعله هو أن يفتح فمه ليتلقى الوجبة التي طبخت له جاهزةً دون نقد وتفكير.

من الأمثلة الصارخة التي تكشف عن مرض القولبة في المجتمعات العربية هو ثنائية الاستقرار والحرية، فبينما تبرز مفردة الحرية في الخطاب الغربي وينظرون إليها بأنها قيمة مقدسة، فإن الأنظمة العربية تستبدل كلمة الاستقرار بها، والاستقرار كلمة خطيرة إن كان ظاهرها الرحمة ففي باطنها العذاب، فما أكثر ما تستغل هذه الكلمة لقمع صوت المعارضة، ومصادرة أي رأي آخر، بزعم أن البديل عن الحرية هو الفوضى، وكان ينبغي أن تقدم الحرية على الاستقرار، فالاستقرار الحقيقي لا يكون إلا بإطلاق الحريات، والاستقرار الذي يقوم على إسكات الرأي الآخر وقولبة المجتمع في إطار واحد هو استقرار زائف، سرعان ما تقتلعه رياح التغيير.

إن الحكومات الواعية تعلم أن مصلحتها هي في إطلاق الحرية وتشجيع الرأي الآخر، والجماعة الواعية هي التي تعمل على تقوية حضور المجتمع لا على تقوية التنظيم، لأن قوة المجتمعات هي الضمانة لاستمرار التنظيم ونموه وقوة مواقفه.

والمجتمع هو الأصل وليس التنظيم، فالتنظيم ليس سوى فرع من شجرة المجتمع يمكن أن يذوي ويموت، وينبت محله فرع آخر، لذلك فإن من الخطورة أن يتم تضخيم التنظيم على حساب المجتمع، فتقاس مصلحة المجتمع بمصلحة الحزب، ويصبح من يرى رأياً غير رأي التنظيم وكأنه خارج عن المجتمع..

إن حركة المجتمعات أعقد من أن يتم اختزالها في إطار حزب واحد أو رأي واحد، والشعوب تستعصي على كل محاولات التقييد والتأطير والقولبة.وحياة المجتمعات لا تكون إلا بالحرية الحقيقية التي تطلق العنان للتفكير والإبداع فيكون التقدم والازدهار..

والله أعلى وأعلم..

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ