ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 28/02/2011


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

 

الثورات العربية والقوة الشعبية.. ودلالات تغيّر الزمن

صناعة المستقبل رغم الاستبداد الدولي.. 

والاستبداد المحلي

نبيل شبيب

لعل القلق ممّا يمكن أن تصنعه القوى الدولية لإجهاض الثورات العربية أكبر ممّا ينبغي، ولعلّ قسطا لا بأس به من المبالغة يكمن أيضا في اعتبار الاضطراب الحالي في واقع القوى الدولية سببا حاسما في تفسير انتصارات الثورات العربية، من حيث ما تحقق من أهدافها حتى الآن، وما يمكن استشرافه من حتمية تحقيق المزيد من الأهداف.

 

الثورات الشعبية.. تحجّم دور القوى الدولية

يمكن أن نطرح سؤالا افتراضيا: لو أنّ ما تحرّك في تونس، فمصر، فليبيا، أو أن ما شهده يوم الجمعة 22 ربيع الأول 1432ه و25 شباط/ فبراير 2011م في المدن العربية في العراق والأردن واليمن والجزائر والبحرين وموريتانيا، علاوة على تونس ومصر وليبيا، قد وقع قبل بضعة أعوام، أثناء فورة الهجمة العسكرية الأمريكية فالأطلسية على المنطقة الإسلامية، أو من قبلُ في حقبة الحرب الباردة، أو عقب سقوط المعسكر الشرقي.. فهل يمكن القول إنّ القوى الدولية كانت قادرة آنذاك على ممارسة تدخل أكبر أو حبك مؤامرات أخطر، ممّا تصنع الآن، من أجل الحيلولة دون وصول الثورات العربية الأولى إلى انتصاراتها المبدئية، التي حققتها بالفعل مع رجحان كفة تحقيق التغيير الجذري على امتداد المنطقة العربية على الأقلّ؟..

لا ريب أن زعزعة دعائم الاستبداد الدولي –عسكريا وسياسيا وماليا واقتصاديا- لأسباب عديدة، أوجدت ظروفا دولية "انتقالية" مواتية، أكثر ممّا كانت عليه في حقبة الحرب الباردة والسنوات الأولى بعد انتهائها، ولكنّ الثورات العربية التي تصنع التغيير الجذري تستمدّ وقودها من الإرادة الشعبية وقوّتها، وتستفيد من العناصر الأخرى "المساعدة"، ومنها الوضع الانتقالي الحالي بين حقبتي استبداد دولي مطلق، ووضع جديد لم ينشأ ويستقرّ بعد.

الواقع هو أنّ القوى الدولية التي اعتادت على موقعها الاستبدادي الدولي على امتداد زهاء عشرة عقود، قادرة على التشويش والإزعاج والعرقلة، الآن وفي الفترة المقبلة، ولكن ليست قادرة على وقف عجلة التغيير التاريخي الجارية.

 

الثورات الشعبية تتجاوز تصوّراتنا التقليدية

ما يتردّد ساعة كتابة هذه السطور بشأن التخوّف من تدخّل عسكري غربي بذريعةٍ ما مع قابلية أن يُجهض الثورة الشعبية في ليبيا، يجري تعليله بأنّ ليبيا ليست تونس ولا مصر، من حيث ثروتها النفطية ومدى حرص الغرب على استمرار تدفقها إلى مصانعه ومساكنه.. ومن حيث موقعها المتوسط في الشمال الإفريقي، وتوظيفه "حاجزا" في وجه الهجرة الإفريقية.

وسبق أن تردّدت مخاوف مشابهة في الأيام الأولى لثورة مصر بعد ثورة تونس، واستندت إلى تعليلات تقول إنّ مصر ليست تونس، بالتالي لا يُنتظر من "القوى الدولية" –والمقصود التحالف الاندماجي الصهيوأمريكي أو الصهيوغربي- أن "تسمح" بسقوط نظام تعتمد عليه إقليميا اعتمادا شبه مطلق وشامل..

المشكلة كامنة فيما تعبّر عنه كلمة "تسمح" المستخدمة كثيرا في التعبير عن تصوّرات أو "قوالب" في التفكير، بقيت تفعل فعلها زمنا طويلا في صناعة السياسات العربية، الرسمية والمعارِضة، وهذا ما لم يتبدّل بعد، ولا يلام في ذلك المخلصون بالضرورة، رغم أن هذه التصوّرات المعتادة متخلّفة كثيرا عن وقع "خطى الثورات العربية".

هذه التصورات تتحكّم في رؤيتنا نحن -من الجيل الذي لم يصنع الثورات الشعبية الحالية- لمفعول المواقف الدولية والقوى الدولية، وعلى وجه التحديد في إعطائنا إياها موقعا متقدّما بين العناصر الحاسمة في السؤال عن مسار هذه الثورات واستيعابه، وسيّان بعد ذلك هل سيطر التخوّف لدى بعضنا ممّا ستصنعه.. بسبب سوابقها، أو سيطر التفاؤل لدى بعضنا الآخر.. بسبب اهتراء مفعول الهيمنة الدولية وترنّحه في المرحلة الحالية.

الثورات الشعبية تفرض علينا تبديل قوالب تفكيرنا على أكثر من صعيد، ومن ذلك ما يرتبط بنظرتنا إلى القوى الدولية وأدوارها.. تخوّفا أو تفاؤلا.

لعلّ في مقدّمة المداخل إلى ذلك أن نستحضر أمرا جوهريا: لقد ارتبط مفعول القوى الدولية على صناعة القرار أو توجيه السياسات في البلدان العربية والإسلامية على الدوام بأمر واحد حاسم: أنّها كانت تتعامل مع قرارات أنظمة أو قوى تقليدية، وسياسات أنظمة أو قوى تقليدية، لم تنبثق عن تمثيل الشعوب، ولا هي قرارات تصنعها الشعوب.

الأرضية هي أرضية مصالح ومطامع وانحرافات محدودة، وهو ما تستطيع القوى الدولية التعامل معه.. وبالمقابل لا تستطيع التعامل مع "الثورات" المعبّرة عن إرادة شعبية، بتلك الأساليب التقليدية القديمة، ولا يبدو أنّها قادرة –حتى الآن- على إيجاد بديل لها.

لا تسري تصوراتنا السابقة حول دور القوى الدولية على واقع الثورات الشعبية التي نعايشها، لأنها شعبية، ولو أنّها انطلقت كمحاولات تغيير سابقة عديدة، اعتمادا على أسباب القوة التقليدية، فلربما صحّ تخوّفنا أو تفاؤلنا بشأن ما ما يمكن للقوى الدولية والأنظمة المرتبطة بها أن تصنعه.. إجهاضا أو دعما.

من الضروري تقويم عناصر عديدة جديدة وهامّة واستشراف مفعولها في "حقبة الثورات العربية"، ورؤية ما تعنيه العناصر الجوهرية للثورات وانتصاراتها، أمّا عنصر المعطيات الدولية ومفعوله فهو واحد من عناصر ينبغي تصنيفها تحت عنوان عوامل جانبية، أو إضافية، أو مساعدة، أو معرقلة، ولن يكون عنصرا جوهريا من حيث السؤال الاستشرافي بصدد انتصار الثورات الشعبية أو إجهاضها.

 

القوة الشعبية هي "الجديد" في حقبة الثورات

إنّ التغيير الذي انطلقت مسيرته في البلدان العربية هو تغيير جذري في مسار عجلة التاريخ، ولا يوجد من يستطيع وقف عجلة التاريخ. ولانطلاقة التغيير وثبات مساره أسباب عديدة للغاية، ولكن السبب الجوهري هو القوة الشعبية الكبرى الكامنة فيه، والمرافقة لمراحله المتتالية حتى يبلغ غايته.

لم تنشأ هذه القوة الشعبية المغيّرة "فجأة" وإن فاجأت مَن استهان بها في "جبهة العدوان والاستبداد" أو في جبهة "القنوط والتسليم والموات".

توجد للثورات الشعبية العربية مقدمات عديدة سبقتها، كثيرة وفيرة، ويمكن التنويه هنا بواحد منها فقط، لارتباطه بالحديث عن دور القوى الدولية، وهو مفعول آخر حلقة في مسلسل العدوان الأمريكي/ الأطلسي/ الصهيوني الفاحش، الذي استعرض في الوقت نفسه –أو عرّى- حقيقة عجز القوى التقليدية الموجودة، من أقصى درجات "الارتباط الرسمي بعدوّ يمارس العدوان".. إلى أقصى درجات "مواجهته بما شاع وصفه بالإرهاب"، وكلّما تراكمت ضغوط هذا العجز الفاحش مقابل ضغوط ذلك العدوان الفاحش، تراكمت طاقات الانفجار الكامنة لدى الشعوب وازدادت اقترابا من لحظة الانفجار الثوروي. في هذا الإطار:

- كان أبرز المقدمات ظهورا للعيان هو الانتقال المبدئي –رغم القوى الدولية والإقليمية- من مرحلة الصمود البطولي من جانب المقاومة المعتمِدة على احتضان الشعوب لها، إلى مرحلة انتصارات مبدئية محلية..

- وكان أهمّ نتائجها الأولى: صناعة معطيات جديدة في واقعٍ قائم على الأرض وفي معالم الخارطة السياسية معا..

- وشعبيا واكب مسيرةَ المقاومة انتقالُ مفعولِ المعطيات التي أوجدتها من صيغة "الاستنجاد والاستغاثة" بمن لا تصل إليه النداءات أصلا، إلى ترسيخ الاقتناع بأن المصدر الأكبر للتغيير هو الإرادة الشعبية والقوة الشعبية.. فتراكمت الشحنة الكامنة لصناعة التغيير.

إنّ "نوعية" الحدث التاريخي هي الأهم، ولا يلفت الأنظارَ عنها الانشغال -بدافع أشبه بحب الاستطلاع- بمحاولة العثور على"تفسير" قاطع الدلالة يجيب مثلا على السؤال:

علام كانت بداية "انتصارات الثورة" بعد بداية "انتصارات المقاومة" في تونس تحديدا؟.. أو السؤال:

علام كانت مصر بالذات هي المحطة الثانية؟..

الأهم هو نوعية التغيير التاريخي الجاري، وامتداده.. سيّان أين انبثقت اللحظة الأولى لتفجيره –ولا يستهان هنا بتقدير ما وقع في تونس أولا وإجلال صانعيه- والنوعية هي ما يمكن تأكيده في "استنتاج" قاطع الدلالة هو أنّ الثورتين الأوليين طرحتا معا الدليلَ القاطع على أن الشرط الأوّل للتغيير الجذري المفروض هو الاعتماد المطلق على القوة الشعبية الذاتية، ثم تبقى تفاصيل التنفيذ ومجراه، وهذه لا بد أن تكون مختلفة من قطر إلى آخر من الأقطار العربية والإسلامية، فالتغيير الجذري الثوروي يجري بعد مرور زهاء عشرة عقود على فرض مفعول خرائط سايكس بيكو اعتمادا على قوة العدوان/ الاحتلال الخارجية، ثم زيادة تثبيته منذ "الاستقلال" اعتمادا على قوة الاستبداد/ التبعية المحلية.

الثورة هي الثورة حيثما بدأت وحيثما امتدّت.. ولكن لا بدّ أن تكون مختلفة في ليبيا، عن تونس ومصر، وستكون مختلفة في المحطات التالية أيضا، وهنا يسري المثل المعروف: أهل مكة أدرى بشعابها، وبالتالي هم أدرى بكيفية التحرك وتوجيه مساره وتفاصيله، المهمّ أنّ "أهل مكة" ليسوا قوى "تقليدية" اعتدنا في أذهاننا التحليلية –واعتاد السياسيون والمتسلّطون باسم السياسة- على استخدام معايير "تقليدية"، كلّما أردنا التعرّف على "خارطة شعاب مكة" في كل بلد على حدة، أو أردنا تقدير مجرى أحداث تفاجئنا وتحليلها واستشراف نتائجها، بما في ذلك ما يرتبط بتعامل القوى الدولية معها وتعاملها مع القوى الدولية..

نحن أمام دلالات زمن متغيّر.. والعنصر الجوهري المتغيّر فيه أنّ أهل مكة الأدرى بشعابها هنا هم الشعوب، وهي ماضية على طريق التغيير الجذري، منفردة ومجتمعة.

وقد سبقت "جماهير الشعوب" جميع النخب التقليدية، في اللحاق السريع والشامل بمسار الثورة فور رؤية نوعيةِ قياداتها الشبابية وأبصرت نوعية تحرّكها ووجهته الثابتة.. سبقت لسبب بسيط:

الشعوب.. أوعى وأقدر على استيعاب الحدث وصناعته بالتفاعل معه، بنسبة تزيد أضعافا مضاعفة على ما توهّمناه أو ساد عموما في تصوّراتنا عنها، حتى وإن ارتفع ارتفاعا كبيراً عددُ مَن يتحدّث عن فئته المعارضة أو اتجاهه الفئوي، مثلما يتحدّث السياسي الرسمي عن واقع "تسلّطه" انقلابا أو وراثة على مفاصل الدولة، ليطرح هذا أو ذاك نفسه "ناطقا باسم الشعوب".

هذا ما كان بالأمس.. أمّا اليوم فإنّ الشعوب تتحدّث بنفسها.. وهذا ما ينبغي أن نعوّد أنفسنا على استيعابه لاستشراف النتائج، التي لا يمكن أن تكون قريبة من الواقع، إلا بمقدار ما يكون هذا الاستيعاب قويما.

 

تماوج خارطة تكهّنات الاستبداد المحلي

ربما استوعبت أنظمة أخرى أو لم تستوعب ما يعنيه ارتباط الثورة نشأةً وأساليبَ وغايةً بالإرادة الشعبية وليس بوضع القوى الدولية والارتباط بها، فضلا عن القوى التقليدية المعارِضة. المشكلة ليس في الاستيعاب أو عدمه، بل فيما تصنع في الحالتين، ولا يزال الواقع الراهن يشهد على أنّها ما زالت تحاول أن تطمئن نفسها عند السؤال عن موعد وصول رياح التغيير إليها، فتعلّل النفس بالنجاة.. ولكن من زاويتين مختلفتين متناقضتين من حيث دور القوى الدولية:

1- فريق يرى "قشّة النجاة" في أنّ ارتباطه بالقوى الدولية أوثق وأقوى وأرسخ، ممّا كنت عليه أنظمة استبدادية سقطت.. فارتباطه يستند إلى مصالح ومطامع أكبر شأنا وتأثيرا ممّا كان مع مصر تخصيصا في نظره، ناهيك عن تونس..

2- وفريق آخر يرى "قشّة النجاة" في أنّه استطاع "الصمود" في مواجهة القوى الدولية على أكثر من صعيد، فلن تستهدفه ثورة شعبية لا "يريد" أن يرى فيها سوى عنصر واحد: أنها أسقطت نظامين مرتبطين بالقوى الدولية.. أي الاستبداد الدولي (ولا يزال الوقت مبكرا لرؤية كيف يراوغ حول استيعاب حدث الثورة في ليبيا!).

ما يسري من تهافت هذه التكّهنات حول عنصر القوى الدولية، يسري أيضا على التكهّنات المرتبطة بفهم دوافع الثورات العربية، فرغم ظهور أولوية هدف "التحرّر من الاستبداد والفساد" وأنه القاسم المشترك الأعظم بينها جميعا، ما وصل منها إلى الهدف الأول وما تحرّك مبدئيا وسيصل.. رغم ذلك توجد أنظمةٌ تمنّي النفس بالنجاة من خلال تركيزها هي على جانب واحد من الجوانب المتفرعة عن ذلك الدافع الأكبر والأوسع والأشمل، فتنظر إلى نفسها بمعيار ذلك الجانب الفرعي مع تضخيم شأنه، ولكن من زاويتين مختلفتين متناقضتين أيضا:

1- فريق يرى أنّ مفعول الفقر والبطالة لديه لم يصل عبر الاستيلاء على ثروات الشعب أو نهبها إلى مثل ما وصل إليه الأمر في مصر أو تونس.. فيكفي لتجنّب الثورة إذن أن يزيد الحاكم من نسبة توزيع "هِباته" المادية على بعض الفئات الشعبية، أي استخدام ثروة الشعب التي يراها الحاكم ملكا شخصيا له، لشراء ركون الشعب واستكانته لاستبداده، وسيّان بعد ذلك كم يوجد من أسباب أخرى لا يريد أن يراها وهي تُراكم وقود الثورة التغييرية، بما في ذلك علاقات التبعية مع القوى العدوانية الأجنبية مثلا.

2- وفريق آخر من المستبدّين يدرك بما فيه الكفاية حجمَ ما صنع من فقر وتخلف وبؤس عبر الاستيلاء على ثروات الشعب بجشعٍ أكبر فحشاً وطمعٍ أظهر للعيان، ليكدّس ويكنز من الثروات المغتَصبة، شبيه ما انكشف أمره وتبيّن أنّه يتجاوز بصورة مذهلة كلّ ما كان معروفا من قبل، في "خزائن قارون".. بعد ثورات شعوب تونس ومصر وليبيا..

يحاول ذلك الفريق الاستغناء عن بعض الفتات لتخفيف وطأة الحرمان من لقمة الطعام، وقد يضيف إلى ذلك تخفيف قبضته على حرية الكلام، ولكنّه يقاوم بشدة تصديق ما يراه بنفسه: جوهر ثورات التغيير الجارية هو التصميم المطلق على التغيير الجذري الشامل.. التصميم على إنهاء وجود الاستبداد جملة وتفصيلا، بما في ذلك الفساد اللصيق به حيثما وجد.

إنّ عدم استيعاب حجم الحدث التاريخي أو عدم "تصديق" ما يجري -رغم وضوحه- يصل إلى مداه الابعد والجانب الأخطر في تلك التوقعات والتكهنات لدى الاستبداد المحلي، وهو توهّم بعض الأنظمة أنّها قادرة بقوّتها الذاتية على تجنّب شمول التغيير الجذري لها، بإخماد الثورة إذا اندلعت، وإن لم يستطع سواها ذلك.. وتتناقض التصوّرات المعبّرة عن هذا التوهّم مع بعضها بعضا أيضا ما بين:

1- فريق يستقرئ العبرة فيما انكشف من "ثغرات أمنية" في نظام استبدادي انهار، تحديدا في تونس ومصر، ليراجع وضع نظامه الاستبدادي ويمنّي النفس بعدم وجود "ثغرات أمنية" –أي قمعية- غائبة عنه.. ويغفل عن أنّ النظامين كانا يفكّران بطريقة مماثلة بشأن سدّ "جميع الثغرات"!.

المفروض أن يصيب الهلعُ هذا الفريق، إذا فهم العبرة من ثورة ليبيا.. فهناك حيث بلغت "عبقرية صناعة السجن القمعي" أقصى مداها، تحقّق خلال أيام معدودات فقط، ما لم تعرف مثيلَه أيّ ثورة من الثورات إطلاقا.. لقد أدّت ثورة شعب ليبيا، بسرعة مذهلة (8 أيام ساعة كتابة هذه السطور) إلى انهيار أركان "النظام" أو ما يسمّى "نظام دولة"، جميعا، وإلى انتشار الثائرين في كل مكان.. وإلى حَشْر البقية الباقية من "عناصر البطش الإجرامي المحض" وراء جدران "باب العزيزية" وحولها في العاصمة الليبية.

إنّما من طبيعة "غرور المستبد بنفسه" ألاّ يعتبر بأمثاله ولهذا يقول لنفسه مثلا: لديّ شبكة قمع استبدادي أرسخ.. وليس فيها "ثغرات" لا أراها!..

2- وفريق آخر من الأنظمة الاستبدادية لا يرى إشكالية "الثغرات" أصلا، نتيجة استغراقه النرجسي المطلق بأنّ ما ابتدعه لنفسه أو ابتدعه أعوانه من طقوس التبجيل والتمجيد قد أوجد فعلا علاقة "العشق المطلق" من جانب المحكوم للحاكم –مهما صنع- فهو لا يستطيع أن يستوعب أصلا أنّ هذا محض "أوهام" لا تفيد ولا تقدّم ولا تؤخّر، وبالتالي لا يبصر من ورائها حجم التناقض في مقولاتٍ من قبيل "مستبد.. عادل" ومدى خواء مفعول الترويج لها.

لعلّ هذا التضخّم الخطير للوهم الذاتي في قلب صخب الحدث الجاري والتحوّل التاريخي الحتمي، هو المصدر الأكبر لنوعية مصير أيّ نظام استبدادي يرى.. ولا يبصر شيئا ممّا يحدث من بين يديه ومن خلفه.

 

موقع جيل المستقبل في القوة الشعبية

لئن تباينت تفاصيل رؤى القوى الدولية وما بقي من استبدادها عالميا، ورؤى الأنظمة الباقية المتشبثة باستبدادها محليا، فإنّها تلتقي –حتى الآن- عند قاسم مشترك بالغ الأهمية على خارطة عدم استيعاب الحدث بحجمه التاريخي وتأثيره المستقبلي، بل يكاد يسري ذلك على غالبية القوى التقليدية العاملة من منطلق المعارضة، أو تحت عنوان "النخب". المهمّ هنا بمنظور مستقبل التعامل مع الثورات الشعبية الجارية:

إنّ عجز القوى الاستبدادية الدولية والمحلية التي تريد "عرقلة" التغيير الجذري.. يقابله عجز كثير من القوى التقليدية التي تريد "الإسهام" في مسيرة التغيير بعد انطلاقها، ولكن تمتنع عن توظيف نفسها لهذا الغرض كما ينبغي، بحيث لا يتحول إلى "عرقلة" غير مقصودة.. سواء نتيجة إعطاء الأولوية للأسماء واللافتات أو الخوف على الإنجازات الماضية، أو كان عند بعض الأطراف نتيجة مباشرة لما يوصف بالانتهازية أو حب الزعامة كما كان حال "المستبدين" أنفسهم أو حال حواشيهم وأعوانهم.

كلا الوجهين المتقابلين لعجز "المسؤولين رسميا" و"المعراضين رسميا" كامنٌ في خطأ النظرة الذاتية إلى العنصر الحاسم أكثر من سواه في اندلاع هذه الثورات، وسيبقى هو الحاسم أكثر من سواه أيضا في ترجيح بلوغ غايتها عبر التغيير، الجذري نوعيا، الشامل جغرافيا، والمقصود: عنصر "الجيل الذي صنع الثورة".

إنّه جيل جديد لا يمكن استيعاب مواصفاته وقدراته وأساليبه وإمكاناته من خلال "قوالب التفكير" التقليدية التي اعتدنا عليها، وما زلنا نحاول تطبيقها على ما اعتبرناه مفاجأة كبرى: ثورات صنعها وقادها شبابٌ وفتيات، وأصبحتْ شعبيةً شاملة بأبعاد دولية.. تحت قيادتهم.

لا يزال تفسير هذا الجانب من "ظاهرة جيل المستقبل" قاصرا عن استيعابها، بل لم يبدأ الاستيعاب أصلا، لأنّ الآليات التقليدية المعتادة للتحليل والتفسير والفهم والتعليل.. آلياتٌ مستمدّة من معطيات عهدٍ انقضى وقد تصلح لاستيعاب مواصفات جيل من الماضي على وشك الرحيل، وليس لاستيعاب جيل المستقبل.

إنّ فهمه واستيعابه يتطلّب دراسات مستفيضة متجدّدة بمنطلقاتها وآلياتها ومعاييرها، ولن ينقطع حبلها في مواكبة مجرى الأحداث والمتغيّرات المستقبلية المرتبطة بها، إنّما يمكن هنا التنويه باختصار شديد إلى بعض الإشارات والدلالات بهذا الصدد:

1- لقد عرفنا جيل المستقبل –أو توهّمناه- جيلا إن ثار دمّر.. ولكنه ثار ليحفظ البلاد ويعمّر، ولا يزال أحرص ما يكون على أن يشقّ درب الحفاظ على البلاد وإعمارها، وعلى ترسيخ "سلميّة" ثورته رغم التضحيات والعقبات الكبيرة.

2- عرفنا جيل المستقبل –أو توهّمناه- جيلا حماسيا عاطفيا يقول ولا يفعل، ولكنّه مضى في ثورته واعيا ثابت الخطى، بصيرا بما يصنع وبصيرا بما يُصنع لإجهاض ثورته، وقادرا على الفعل، وعلى إرغام سواه على "ردود الأفعال".

3- عرفناه –أو توهّمناه- جيلا سبق تضليلُه فانحرف، أو تعصّب، أو تطرّف.. فأثبت في ثورته من الوعي ما أذهل الداني والقاصي، وأحبط كلّ محاولة لشق صفوف الشعب الأوعى من النخب والزعامات السياسية جميعا، وهذا ما جعل هذا الشعب الأوعى يرتضى سريعاً قيادة جيل المستقبل، ويلتزم برؤاه، وينجو معه من محاولات شق الصفوف واصطناع الفتن، لا سيما وأنّ تلك المحاولات اعتمدت أيضا على الأساليب التقليدية المعتادة، فبقيت غير مجدية إزاء مواصفات جديدة غير معتادة، ظهرت لدى جيل المستقبل وثوراته التغييرية.

4- عرفناه –أو توهّمناه- بشبابه وفتياته جيلا منشغلا بمشكلاته المعيشية، صغيرها وكبيرها، متباين الرؤى على خارطة الانقسامات في بلده من كل لون وطيف واتجاه، فاستطاع من خلال كفاءاته القيادية، ورؤاه المواكِبة لمجرى الحدث التاريخي الكبير ساعة بساعة، أن يحقّق على أرض الواقع في أصعب الظروف، أرسخ الصور التطبيقية المعبّرة عن واقع "الوحدة الوطنية" على امتداد أرض بلده وعبر مختلف الاتجاهات المنتشرة فيه.

5- عرفناه –أو توهّمناه- جيلا بعيدا عن الواقع بأفكاره وأطروحاته، إن كان قادرا على التعامل فربّما في حدود تواصل بعض فئاته داخل نطاقها، وإن استوعب قضايا كبرى فربّما في حدود البلد الذي يعيش فيه، وإذا بثورته في تونس ثم مصر ثم ليبيا.. (ثمّ...) هو الأوعى بواقع عالمه وعصره، الأقدر على التعامل مع مختلف القوى المؤثرة فيه تعاملا يمنع تعريض ثورته للإجهاض، وهو الأوعى أيضا بواقع أمته وبلاده، الأقدر على إحياء مظاهر وحدة الشعوب العربية والإسلامية، من وراء الحدود والنزاعات الرسمية، ومن وراء الانتماءات والتوجّهات الحزبية، ومن وراء جميع ما تنبّأت به من قبلُ هيمنةُ القلّة على الكثرة من نخب فكرية وإعلامية وثقافية، من جيل سبقه، بصدد موت العروبة ووحدتها، وانقضاء عصر "الإيديولوجيات" الدينية وسواها.. وكأنّ من قال ذلك كان ينعي نفسه، أمّا ما نعاه بفكره وقلمه، فقد ظهر –رغما عنه- حيّا فعالا على مستوى شعوب لا تختلف عن بعضها بعضا ما بين المحيطات الثلاث، ولا يعرقل تلاقيها ووحدة كلمتها وبناء مستقبلها، إلا مَن تمنع قيود الذاتية عبر ارتباطه بماضٍ انقضى، عن استيعاب الحدث التاريخي المستقبلي الكبير، وعن اللحاق بخطى جيل يصنع المستقبل عبر صناعة القرار وصناعة الحدث.

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ