ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

السبت 22/01/2011


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

 

استحالة اختزال ثورة الشعب في تونس

بين مقدمات الثورة وشرارتها ومسارها

نبيل شبيب

ليس انتحار البوعزيزي ما صنع ثورة شعب تونس، ومن يروّج لهذه المقولة يوهم كثيرا ممّن تُعقد عليهم الآمال من جيل المستقبل بأنّ هذا طريق صناعة الثورات ويلفت الأنظار عن سبل التغيير..

وليست بطالة الشبيبة وحدها سبب ثورة شعب تونس، ومن يروّج لهذه المقولة يروّج لمحاولات "شراء" مذلّة الركون إلى الظالمين بتسابقهم على تقديم بعض الفتات من الثروات المرهونة في أسواق الفساد..

ولم تستهدف ثورة شعب تونس حاكمها "الفرد المستبدّ" فحسب، ومن يروّج لهذه المقولة يعمل للالتفاف على الثورة باستنبات رأس آخر لنظام مستبد لم تكتمل بعدُ الإجراءات الضرورية من أجل أن يصبح "بائدا" فعلا..

ولم تكن ثورة شعب تونس سريعة مفاجئة، استغرقت أربعة أسابيع فقط، ومن يروّج لهذه المقولة يوهم بأن كلّ ما كان قبل حادثة الانتحار لا علاقة له بالثورة، وكل ما يجب صنعه بعد فرار بن علي، لا ضرورة له.

إنّ هذه الصور لاختزال ثورة شعب تونس وكل صورة أخرى على غرارها، تلحق الضرر المقصود غالبا، أو بحسن نية أحيانا، بالثورة وشعبها، ويعرقل وصولها إلى غايتها، ويساعد على تفعيل الأخطار الناجمة عن محاولات وأدها داخليا، وحصارها خارجيا، ويمكن أن يوصل إلى التيئيس من التعامل الشعبي معها خارج حدود تونس، وعلى وجه الدقة: التعامل مع دروسها الأساسية ونهجها، كنموذج لسواها ما بين المحيطات الثلاث، من حيث الجوهر وإن تعدّدت الأشكال التطبيقية.

 

الانتحار.. شرارة الثورة؟..

لكلّ ثورة من الثورات شرارة تلفت النظر إليها أكثر من سواها، وكان انتحار الشاب التونسي البوعزيزي هو الشرارة التي فرضت تركيز الأنظار عليها، ولكن لم تكن الشرارة الوحيدة، بل سبقها كثير سواها، فخُنق مفعوله في مهده، وأمكن إخماد نتائجه، بالقمع الاستبدادي، فهي لا تتميّز عمّا سبقها من حيث نوعيتها، بل تتميز بأن جميع ما تلاها -وهو الأهمّ والأكبر مفعولا- أخفقت محاولة قمعه وإخماده.

ثم ما الذي صنع الثورة بوقوع هذه الشرارة وسواها أو حتى دون وقوعها؟..

عندما يركّز شعب تونس على أنّ زوال الحزب الحاكم طوال سنوات الاستبداد على امتداد عقود مضت منذ الاستقلال، فإنّه يعبّر عن وعيه العميق بما صنع ثورته بأضعاف درجة وعي بعض مَن يختزلون أحداثها بحدود واقعة الانتحار فقط، ويغفلون بذلك عمّا قدمه شعب تونس من تضحيات متتالية، نتيجة ما صنعه استبدادٌ همجي، قتلا وسجنا وتعذيبا وتشريدا ومصادرة للكرامة والحقوق والحريات، ونشرا للقهر والفقر والبطالة، ووأدا للآمال والأحلام، وتنكّرا لعقيدة الشعب وعروبته وأصالته، وربطا لسياسات حكوماته المتعاقبة بمشيئة أعدائه من استعمار قديم واستعمار حديث.

كل فتاة في تونس انتُزع حجابها في الشوارع صنعت شرارة في موقد الثورة، وكل مهجّر في أنحاء المعمورة صنع شرارة في موقد الثورة، وكل أمّ أهينت كلّما سألت عن ابنها في المعتقل صنعت شرارة في موقد الثورة، وكلّ فقير تألّم لعجزه عن تأمين قوت أطفاله صنع شرارة في موقد الثورة.

لا يُستهان بما صنع البوعزيزي عندما صودرت عربة خضاره ومُنع حتى من الاحتجاج، إنّما هو تعبير فردي عن حالة فردية، تُضاف إلى ما لا يحصى من حالات مشابهة، فكشفت الأحداث عن واقع الشعب وليس عن واقع فرد، وساهمت في تتابع ما تلاها من تضحيات، فلا تلغي واقعة "الانتحار" ما سبقها بصور أخرى من التضحيات لا جدال حول مفعولها في صناعة الثورة.

ليس اليأس الذي يصنع الثورات وإنما الأمل الراسخ في التغيير، وليس ترك الحياة الدنيا بما فيها ما يقود إلى التغيير، وإنما الإصرار على مواصلة أداء الواجب الكبير المفروض من أجل التغيير.

ولا ينبغي عبر اختزال "شرارات الثورة" في حادثة الانتحار، أن يُروَّج في أوساط جيل المستقبل في البلدان العربية والإسلامية، للوهم القاتل بأنّه لا مجال لهم إلا "قتل" أنفسهم تخلّصاً ممّا يعانون، أو توهّماً بأن هذا يمكن أن يرفع المعاناة عن شعوبهم من بعدهم.

 

البطالة.. سبب الثورة؟..

لا يختلف الترويج لاختزال بداية اندلاع الثورة في انتحار البوعزيزي عن الترويج لحصر أسباب الثورة في البطالة والفقر، وهو ما وصل إلى مداه فيما "يبدو" من خلال تعبير بعض المسؤولين في بلدان عربية عديدة عن توهّمهم بأنّ بعض الإجراءات العاجلة تكفي للحيلولة دون انتقال الثورة بالعدوى، وهو –إذا صحّ أنّهم واهمون فعلا- وهمٌ مزدوج، فالمسألة ليست "عدوى" فحسب، وثورة شعب تونس لم تنتقل إليه بالعدوى أصلا، بل تقع الثورة نتيجة أسباب تلاقت وتراكمت، حتى أصبح التغيير الجذري الشامل نتيجة محتمة لشمول الأسباب وتراكمها، استبدادا وليس استغلالا فحسب، وإجراما بحق كرامة الإنسان وليس فسادا فحسب، وانحرافا في السياسات الخارجية والداخلية وليس في تأمين الكساء والغذاء فحسب. جميع ذلك وسواه هو الذي يصنع مقدمات الثورة والتغيير ويراكمها في معظم البلدان العربية والإسلامية الأخرى، الفقيرة منها والثرية، وقد سبقت تونس سواها لأسبابٍ لا يمكن استقراؤها جميعا، ولا يمكن حصرها قطعاً في سبب واحد هو الفقر.

لا يعني ذلك الاستهانة بحق كل إنسان في معيشة كريمة، وعمل كريم، ودخل كريم، ولا الاستهانة بأن هذا –وحده أيضا- من المسوّغات الكافية للثورة على المستبدّين الفاسدين، ولكنّ حقّ الإنسان في الأمن على نفسه وحرية كلمته وحقه في اختيار السلطات في بلده واطمئنانه إلى قضاء ينصفه وقانون لا عسف فيه ولا محاباة، جميع ذلك من مسوّغات الثورة أيضا، وجميع ذلك اجتمع في تونس مع البطالة والفقر والقهر والاستغلال والفساد، واجتمع في بلدان أخرى بأشكال متعددة، بما في ذلك تجاور الترف الفاحش مع الفقر المدقع والانحرافات السياسية الفاضحة وطعن القضايا المصيرية في الظهور والنحور.

لقد سبق لتونس أن صنعت مرحلة من مراحل ثورتها في ثمانينات القرن الميلادي العشرين، وكانت تلك محطةً على الطريق إلى ثورتها عام 2011م، إنّما كان من وسائل الالتفاف على ما حققته الثورة آنذاك تسميتها "ثورة الخبز" في الأرض الخضراء، وتصويرها مقتصرة على أهداف مادية، ممّا جعل في مقدّمة ما زعم الحكم الاستبدادي لنفسه من بعد أنّه يحقق "تقدما اقتصاديا" و"رفاه معيشيا" و"تعليما جامعيا".. وينشر الأرقام الحقيقية والمزوّرة حول ذلك، حتى صدّق من صدّق أن استقراره أمر محتم، مهما ارتكب من جرائم بحق الكرامة والحقوق والحريات الأخرى.

ومن يختزل أسباب ثورة تونس في "البطالة" وما يرتبط بها، يعجز عن استيعاب ذلك المستوى الرفيع من وعي شعبها الذي لا يطالب بلقمة الطعام فحسب.. بل يطالب بحريته وكرامته وتحكيم إرادته في جميع ميادين السلطة التي يريدها في بلده.

ومن يمارس هذا الاختزال يساهم في استمرار الغفلة عن الأوضاع البائسة في مختلف الميادين وليس في ميدان البطالة فقط، في معظم البلدان العربية والإسلامية الأخرى، وليس في تونس فحسب، وبالتالي في محاولة الترويج لمقولة إنّ بعض البلدان في منجاة من الثورة.. فهي ثرية، أو الترويج لبعض الإجراءات "المتأخرة" على صعيد مكافحة البطالة والفقر في هذا البلد أو ذاك، أنه كافية من دون إحداث تغيير جذري تتطلع إليه الشعوب، ويمكن أن تصنعه الشعوب.. وستصنعه.

تونس لم تكن رمزا للبطالة في عهد الحكم الاستبدادي فقط بل كانت رمزا للقهر على كل صعيد، حتى أصبحت "عاصمة" معظم ما ينعقد من لقاءات على مستوى وزراء الداخلية العرب، لابتكار مزيد من أسباب الهيمنة الاستبدادية على البلاد عبر وسائل الرقابة الإعلامية والأجهزة القمعية والتبعية للهيمنة الأجنبية.. ولعلّ هذا في مقدّمة أسباب الثورة في تونس قبل سواها، وهو في الوقت ذاته ما يؤكّد أن الثورة لا تنتقل بالعدوى.. بل يمكن أن تنتقل من بلد إلى بلد لتوافر أسباب الثورة في معظم تلك البلدان.

 

رأس الاستبداد.. هدف الثورة؟..

كلّ نظام استبدادي كالنظام الذي عرفته تونس منذ الاستقلال نظام أخطبوطي، له رؤوسه وأذرعه وتشعّباته، ولا تحقق أي ثورة أهدافها إلاّ بالقضاء على أخطبوط الاستبداد كله، وليس على رأسه فحسب، ولقد سبق أن سقط "رؤوس" الاستبداد في بعض البلدان ونبتت رؤوس أخرى، وبقي الاستبداد.

بل إنّ تعامل بقايا الأخطبوط الاستبدادي في تونس مع رأس الاستبداد ممثلا في شخص بن علي وعائلته وأشدّ الموالين المنتفعين من فساده، يكشف عن رغبة هؤلاء في "النجاة" من السقوط بالتخلّي عن رأسه، ويرفع درجة خطر استبدال وجوه بأخرى دون القضاء على الاستبداد قضاء مبرما.

إنّ الذين مارسوا القمع، والفساد، والإجرام، لم يكونوا أفرادا، بل هم نظام متشعب الأجهزة، وهذا بالذات ما يجعل وعي الشعب في تونس بأوضاع بلده، وبالمشاركين في الاستبداد فيه، هو الضمان لاكتمال الثورة من خلال القضاء على النظام وأجهزته، ورفض ما يُطرح عليه عبر التخلّي عن رأس الاستبداد والفساد، مع انسحاب شكلي من الانتساب إلى النظام والأجهزة التي مارست الاستبداد والفساد.

هيكل الاستبداد هو الدساتير التي اصطنعها، والقوانين التي اصطنعها، والتشكيلات الحزبية وغير الحزبية التنفيذية التي ابتدعها، والارتباطات بأمثاله خارجيا التي مارسها، وإن بقي هذا الهيكل ظهرت له رؤوس جديدة، وكل نقلة يمكن أن تُنسب إلى الثورة وشعبها، إنّما هي النقلة التي تُلغي وجود هيكل الاستبداد من حيث الأساس، دستورا.. بتشكيل هيئة وطنية جامعة جديدة تضع دستورا جديدا، وحكومة "وحدة وطنية" لا تضمّ أحدا ممّن كان جزءا من هيكل استبداد دمّر الوطن وأهله، وسياساته وثرواته، وحوّل وزاراته ومؤسساته ودوائر بلدياته إلى "خلايا استبدادية فاسدة"، لا يمكن أن ينبثق عنها وضع قويم، مهما تبرّأ الفاسدون من فسادهم، فتبرؤهم لا يتحقق إلاّ بتنحّيهم ومحاسبتهم، ومهما تحجّجوا بمشروعية دستورية، فليس لدستورهم ولا لهم بشخوصهم وأجهزتهم مشروعية، إنّما المشروعية لإرادة الشعب الثائر عليهم، وللشخصيات المنبثقة عن الشعب وثورته، ولأولئك الذين نالوا ثقة الشعب من خلال نضالهم عبر السنوات الماضية، فنالهم ما نال عموم الشعب من اضطهاد وقمع وتشريد.

هذا ما يجعل المشروعية الأكبر لتلك المجالس الإدارية المحلية التي يكوّنها أهل الحي الواحد والبلدية الواحدة من أهل الوطن الواحد، ويجعل المشروعية الوحيدة الممكنة لبداية "دولة وليدة جديدة" من صنع الثورة هي تلك التي تجمع في "هيئة وحدة وطنية" رموز الحركة الوطنية بأطيافها المختلفة التي كان أفرادها وزعماؤها شركاء في التعرّض للاضطهاد ولم يكونوا شركاء في ممارسة الاستبداد.

إن اختزال هدف ثورة الشعب في تونس في إسقاط رأس الاستبداد ورحيله، أو حتى في ملاحقة الدائرة الضيقة الأقرب إليه من عائلته وأعوانه، ينشر الوهم بأن الثورة "انتهت"، فيمكن تسليم المسيرة للأيدي "الخبيرة" في ممارسة السلطة من قبل، وإنما كانت خبرتها في صناعة الاستبداد والفساد وممارستهما، كما ينشر الوهم من حيث يريد أو لا يريد، بأن "بعض التغيير" في هذا البلد أو ذاك من البلدان العربية والإسلامية هو ما تتطلع إليه الشعوب، وإنّما تتطلّع إلى التغيير الجذري الذي لا يبقي للاستبداد مرتكزا ولا للفساد أثرا، بأيّ صيغة من الصيغ، وأيّ هيكل من الهياكل وأيّ جهاز من الأجهزة، فليس في أنظمة الحكم "استبداد جزئي" يزول بإصلاح جزئي، إنّما عمّ واستشرى في كل ميدان من الميادين، فإمّا أن ينقلب على نفسه في جميع الميادين، أو تنقلب عليه الشعوب.. ولا أحد يستطيع أن يحدّد مسبقا، متى وكيف، فمن أراد "النجاة" من عدوى الثورات فعلا، ولا يعتبر العدو "كلاما فارغا"، عليه أن يستبقها.. الآن، ولا يستبقها بإجراءات استبدادية احتياطية أكبر، بل بالتخلّي عن الاستبداد والفساد المتجسّدين في وجوده هو في السلطة.

 

ديمومة الثورة.. شرط النجاح

إنّ كل ثورة من الثورات على اختلافها هي في الأصل حدث ممتد زمنيا، وإن اقتصرت أحداث التحوّل المحوري الذي تصنعه على أيام أو أعوام، كما كان مع الثورات الفرنسية والشيوعية والإيرانية وسواها، فللأحداث مقدماتها من قبل، وللنتائج تطوّراتها من بعد. ولئن تميّزت ثورة شعب تونس بأنها ثورة شعبية بمعنى الكلمة، فلأنّ أحداث التحوّل المحوري في مسارها عام 2011م لم يكن من صنع "طبقة" كما في فرنسا، أو "حزب" كما في روسيا، أو "جماعة منظمة" كما في إيران، ولكنها –كسواها- ثورة صنعتها مقدماتها التي ساهمت فيها فئاتٌ شعبية، وأحزابٌ وجماعاتٌ تمثل مع بعضها بعضا الشعب، صنعها أفراد متميزون بما طرحوه من قبل فساهم في وصول الوعي الشعبي في تونس إلى مداه.. فبدا التحرّك "الشعبي دون قيادات" –كما يقال- لحظة التحوّل المحوري، وذاك ما يمكن اعتباره "قمّة" في إنجاز هؤلاء، أن يصبح الشعب قادرا على التحرّك التلقائي فلا يفيد عزل قياداته عنه، سجنا وتشريدا، فليس هذا التحرّك في صنع لحظة التحوّل المحوري في الثورة إلاّ لحظة من مجرى تاريخها، ولا ينفي دور القيادات المخلصة من قبل.

لا يمكن فصل الثورة الفرنسية التي اندلعت عام 1789م (نشأة الملكية الدستورية بعد الملكية المطلقة) وانحرف مسارها سنة 1799م (ترسيخ امبراطورية نابليون بونابرت الاستبدادية).. عن المفكرين الفرنسيين مونتسكيو وفولتيير وروسّو، كما لا يمكن فصل ما صُنع في فرنسا من بعد مع "الجمهوريات" الأولى والثانية عن مسار الثورة.. بغض النظر عن تقويمها أهدافا وأحداثا وتاريخا ومصيرا.

ولا يمكن فصل الثورة الشيوعية الروسية سنة 1917م وما صنعه لينين آنذاك، عن المفكرين الشيوعيين الأشهر من سواهم ماركس وإنجلز من قبل، ولا عن مسارها في الاتحاد السوفييتي وحيثما امتدت هيمنته، بغض النظر عن تقويمها أهدافا وأحداثا وتاريخا ومصيرا.

ولا يمكن فصل الثورة الإيرانية عام 1979م وما صنعه الخميني آنذاك عن المفكرين الإيرانيين السابقين، مثل علي شريعتي، ولا فصل ما آلت إليه عبر الحكومات التالية حتى الآن عن مسارها، بغض النظر عن تقويمها أهدافا وأحداثا وتاريخا ومصيرا.

ومن يتحدّث عن ثورة شعب تونس الآن، لا يمكن أن يفصلها عمّا صنع الزعماء المخلصون والمفكرون المخلصون والساسة المخلصون، وعامّة المخلصين من أبناء الشعب، رجالا ونساء، شيوخا وشبابا، عبر عدة عقود مضت رغم الاستبداد والفساد.

لم تبدأ ثورة شعب تونس يوم انتحار البوعزيزي ولم تنته يوم فرار بن علي، بل بدأت منذ أوّل مواجهة لفرد من أفراد تونس لاضطهاد استبداد السلطة، ولا يمكن أن تنتهي إلا مع نهاية جميع ألوان الاستبداد والاضطهاد على صعيد جميع أفراد شعب تونس دون استثناء. كما لا يمكن اعتبار ثورة شعب تونس "انتهت" الآن لتبدأ مرحلة ما بعد الثورة، ولهذا لا ينقطع شعب تونس عن التعبير عما يريد، فما يريده لم يتحقق بعد، ولن يتحقق إلاّ رغم الجهود المضادة، الداخلية والإقليمية والدولية، بل إن مراحل الثورة التالية هي الحاسمة أكثر من الأسابيع الماضية على اندلاع شرارة التحوّل المحوري في مجرى أحداثها وحلقاتها، وهي التي ستحكم –عند تقويمها- بشأن نجاحها أو إخفاقها، واستقامتها أو انحرافها، وتحقيق غاياتها أو بعض غاياتها.. هي التي ستمكّن في يوم قادم من تقويمها أهدافا وأحداثا وتاريخا ومصيرا.

إن اختزال "عمر" الثورة في بضعة أسابيع أو حتى بضعة شهور، لا يتناقض مع استيعاب مفهوم كلمة "الثورة" فقط، بل ينشر في الوقت نفسه تصوّرات خاطئة على مستوى الشعوب والنخب، كما لو أن الإعداد للثورات هو –فقط- إعداد لمسلسل مظاهرات واعتصامات واحتجاجات أو حتى عصيان مدني شامل، وليس صناعة الفكر والإنسان، ليصبح جميع ذلك من الوسائل الفعالة، سواء استخدمت عبر التخطيط حيثما أمكن أو تلقائيا حيثما وجب ذلك.

 

جوهر الثورة.. هو النموذج

الثورة فكرة حية لا تموت حيثما ظهر الاستبداد واستفحل، وجودها مقترن بوجوده، ونماؤها نتيجة لاستفحال همجيته، وطريقها هو ما يرفدها به الرافدون من المخلصين بعطاءاتهم دون انقطاع، وحياتها مستمرة ما دامت قائمة على معنى "الإنسان" وكرامته وحقوقه وحرياته، وتلك مسيرة لا تنقطع، وجميع ما يتفرع عنها وسائل، يمكن أن تختلف من وقت إلى وقت ومن مكان إلى مكان، ولكنها تلتقي عند قاسم مشترك هو جوهر التلاؤم بين الوسيلة ومن يمارسها والغرض المستهدف من خلالها، وجوهر تكاملها مع بعضها وتتابعها إلى أن تتحقق الغاية الأشمل والأبعد: تحرير الإنسان وحفظ كرامته وحقوقه وحرياته.

وكما يخشى كثير من المستبدين في بلدان عربية ما أصبح في نظرهم "شبح الثورة" يخشى من يرتبطون بهم في منظومة الاستبداد الدولي ممّا يعتبرونه "عدوى الثورة"، وإذا لجأ بعض المستبدين إلى محاولة تخفيف بعض الضغوط حيثما اعتقدوا بأن ذلك لا يؤثر على استمرار الاستبداد، ففي الغرب أساليب وأقاويل كثيرة للغرض ذاته، سواء في التبرؤ المتأخر من ارتباط الاستبداد في تونس بهم.. كارتباط سواه في بلدان أخرى بهم أيضا، ومن ذلك محاولة اختزال "مواصفات" من صنع ثورة تونس وفق الرغبة في عدم انتشارها، عبر الزعم أنّها من صنع شباب عاطل عن العمل ولكنّه ناشئ على "الثقافة الغربية"!... ولا يسري شبيه ذلك على جيل الشباب في بلدان عربية أخرى!!..

كأنّما لم يلتقِ أهل تونس رجالا ونساء، شبابا وكهولا، عاطلين ومحامين وصحفيين ونقابيين وأطباء وحتى الجنود على طريق صناعة الثورة!..

كأنّهم جاهلون بأن احتضان الغرب الأوروبي لاستبداد النظام في بلدهم اتخذ صورا فاضحة أثارت الاشمئزاز والغضب حتى داخل البلدان الأوروبية الغربية نفسها!..

كأنّ نشر التغريب في تونس من اليوم الأول للاستقلال لم يكن عن طريق الاستبداد الذي خلّفه الاستعمار الفرنسي في تونس!..

كأنّ أصحاب هذه المقولة يريدون إقناع الشبيبة في بلادنا العربية والإسلامية بأنّ الاستبداد الدولي لم يضع هدف التغريب على رأس أهدافه عبر الأنظمة الاستبدادية المحلية، وإقناع من يعاني منها وممّن يدعمها بأنّ التوغّل في التغريب هو طريق التخلّص من الاستبداد المحلي ومن يرتبط به!..

إن قضية الاستبداد هي ذاتها، محليا ودوليا، وإن قضية الثورة على الاستبداد هي ذاتها، محليا ودوليا، ومن ينكر قابلية أن تكون ثورة الشعب في تونس نموذجا لسواها يغفل –أو يتغافل عمدا- عن حقيقة أن قضية الإنسان في تونس، هي قضية الإنسان في كل مكان، وأن أوضاع الإنسان في تونس تشابه إلى درجة التطابق أوضاع الإنسان في البلدان العربية والإسلامية الأخرى، وأن تكوين إنسان تونس عقيدة وحضارة وتاريخا وثقافة لا يختلف عن تكوين إنسان سورية.. ومصر.. والأردن.. واليمن.. وباكستان.. ونيجيريا.. والخليج والشمال الإفريقي ووسط آسيا والبلقان.

لم يكن أحد يقدّر مسبقا أنّ ثورة شعب تونس التي كتبت ما سمّي "ثورة الخبز" فأُخمدت بالالتفاف عليها في أواخر ثمانينات القرن الميلادي العشرين، ستكتب حلقة تالية بعد بضعة وعشرين عاما،. رغم "الاحتياطات الإضافية" التي أضافها عهد استبدادي لاحق على ما سبق أن صنعه عهد استبدادي سابق، ولن يمكن لأحد من المستبدين أن يقدّر أن "احتياطاته" الإضافية لن تنهار بين ليلة وضحاها في حلقة تالية في مسار الثورة التي "يصنعها" وجودُ استبداده وممارساته بمختلف أشكالها، فيصنع نهايته بنفسه.

من أراد من السلطات تجنّب التغيير عبر الثورات عليه أن يدرك أيضا أنّ أحدا لم يكن يرى مسبقا أنّ انتحار البوعزيزي سيكون بداية أحداث التحوّل المحوري في مسار أحداث الثورة في تونس، ولا يمكن لأحد أن يرى مسبقا ما هي "الواقعة" التي ستشكّل الشرارة لبداية أحداث التحوّل المحوري للتغيير في أي بلد آخر يحكمه الاستبداد المحلي ويدعمه الاستبداد الدولي.

من أراد من السلطات تجنّب التغيير عبر الثورات عليه أن يصنع التغيير الجذري بنفسه قبل فوات الأوان.

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ