ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الثلاثاء 13/09/2010


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

 

مراجعات فكرية (5)

"هَندَسَةُ الدعوة إلى الله"

د نبيل الكوفحي

ربما يكون العنوان مصطلحاً جديداً في العمل الإسلامي، يجمع بين علوم خواص المواد وتشكيلها وتوظيفها في خدمة الإنسان من جهة، وعلوم توجيه النفس البشرية وربطها بالخالق من جهة أخرى، ولا يمنح الله شمولية المعرفة والحكمة إلا لقلة قليلة من خلقه بعد الأنبياء، ولكن ربما يجري الله الحكمة في أمر ما من على ألسنة ضعاف خلقه، وربما يوفق هذا الاجتهاد وربما لا يصيب، وعل كل حسبنا ما قاله الحبيب المصطفى – ص- : (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ ثُمَّ اجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) ومعلوم أن قيمة أي اختراع جديد تكمن بفكرته ابتداءً ومدى الحاجة له وليس بحجمه ونوعه.

إن استمرار الحياة ونموها يستلزم البحث عن الجديد من الأفكار والوسائل والأدوات، وربما يكون من المهم أن نذكر بالقاعدة الذهبية التي تشكل أحد روافع التجديد في حياة الأفراد والجماعات التي تقول : ما الشيء الذي افعله إذا أديته بطريقة أخرى كانت النتيجة أفضل.

يقول الإمام البنا في رسالة المؤتمر الخامس: أيها الإخوان المسلمون: ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف، وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع، واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة. ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة، ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض.

تبدأ المعارف الإنسانية بأفكار بسيطة، ثم تتسع وتتحول الى علوم مستقلة، وتتشعب هذه العلوم الى تخصصات بمرور الوقت، وتتمازج التخصصات المتباعدة في تخصصات جديدة، فعلى سبيل المثال: كان الطب علماً واحداً، ثم ما لبث أن تفرع الى تخصصات، وجاء منها الطب الباطني، الذي ما لبث أن تحول الى جراحة وأعصاب ومسالك وغيرها، وكذلك علوم الهندسة، فتفرعت الهندسة المدنية على سبيل المثال إلى: تخصصات الإنشاءات والطرق والمرور والمساحة والمياه والبيئة والمواد وغيرها، وتمازجت علوم الأحياء ببعض العلوم الهندسية ـ فأنتجت الهندسة الطبية والهندسة الوراثية (أُطلقت على عملية نسخ و تعديل و زرع الجينات، أي المادة الوراثية)،

وجاءت الهندسة النفسية التي تتناول تصميم السلوك والتفكير والشعور، وكذلك تصميم الأهداف للفرد أو الأسرة أو المؤسسة ، وتصميم الطريق الموصل إلى هذه الأهداف (الهندسة النفسية هي المصطلح العربي المقترح لما يطلق عليه باللغة الإنكليزية Neuro Linguistic Programming أو NLP ، والترجمة الحرفية لها: البرمجة اللغوية للجهاز العصبي).

عرف علم الهندسة عند العلماء المسلمين بأنه: العلم بقوانين تُعرف منه الأصول العارضة للكم من حيث هو كم، وجاء تعريفه في (مدينة العلوم) بأنه: علم يعرف منه أحوال المقادير ولواحقها، وأوضاع بعضها عند بعض، ونسبتها وخواص أشكالها، والطريق إلى عمل ما سبيله أن يعمل بها، واستخراج ما يحتاج إلى

استخراجه بالبراهين اليقينية.

تتميز العلوم الهندسية (التطبيقية)، عن العلوم النظرية (المجردة) بمجموعة من الخصائص، اذ تبنى العلوم الهندسية على حدة التصور (التخيل والتنبؤ) والتصميم والتخطيط والتنفيذ والتحكم والصيانة، وتركز على تحويل الأفكار المجردة (الرغبات والحاجات) الى حقائق مادية ملموسة، وتعنى بالكم وتحدد المعايير والمواصفات، وتبحث دائماً عن التجديد في الجوهر والشكل، بحيث تؤدي الى زيادة في الكم وتحسين النوع، وتقليل التكاليف، وجاذبية وسهولة الاستخدام، ويشكل البحث العلمي أهميه في تطوير العلوم الهندسية.

إن هذه الحقيقة تستدعي منا التركيز على الجوانب العملية المجربة وتجربة الجديد أيضا، وعدم التسليم لما ورثناه من وسائل وطرق بل لا بد لنا من تشجيع التفكير – وان خرج عن المألوف- وان تتصل عملية الإحياء والتجديد، يقول الإمام البنا في رسالة هل نحن قوم عمليون: وها أنا ذا أصارح كل الغيورين من أبناء الإسلام بأن كل جماعة إسلامية في هذا العصر محتاجة أشد الحاجة إلى الفرد العامل المفكر .. إلى العنصر الجريء المنتج . فحرام على كل من آنس من نفسه شيئا من هذا أن يتأخر عن النفير دقيقة واحدة ....ولئن كانت الغاية التي نعمل لها جميعاً واضحة معروفة للكثيرين فأنا واثق من أمرين يلازمان هذه المعرفة : الأمر الأول : أن الوسائل غير معروفة ولا محدودة ، وقد تكون متعاكسة يخبط بعضها بعضاً ونحن لا نشعر، والأمر الثاني : أن الصلة منقطعة تماماً بين السابق اللاحق .. يصل السابق إلى نصف الطريق فإذا جاء اللاحق لم يتبعه لإنقطاع الصلة بينهم ، فيبدأ طريقاً جيداً قد يصل فيه إلى مقدار ما وصل سابقه وقد يقصر عنه.

ان الهدف من إطلاق هذا المشروع (هندسة الدعوة الى الله) تحديد الرؤى وتركيزها وتحويل الأفكار الى واقع مجسد وبناء النماذج  الاختبارية من خلال المحاكاة (Simulation: علم يقوم على افتراض نماذج مصغرة  سواء المادية الخبرية او المحوسبة، وإجراء التجارب عليها وبيان عيوب التصميم وتعديله)، وتحديد التصاميم العملية للمسارات واختيار وسائل العمل والتنفيذ، والاستفادة من التجارب السابقة، وتطوير نظم صيانة وإدامة للمسارات أثناء العمل.

تبرز أهمية علم الهندسة أو منفعته - كما يذكر القونجي - في الاطلاع على الأحوال المذكورة من الموجودات، وأن يكسب الذهن حدة ونفاذا، ويُروض بها الفكر رياضة قوية؛ لما اتفقوا على أن أقوى العلوم برهانا هي العلوم الهندسية. ومن جملة منافعها: العلاج عن الجهل المركب؛ لما أنها علوم يقينية لا مدخل فيها للوهم؛ فيعتاد الذهن على تسخير الوهم، والجهل المركب ليس إلا من غلبة الوهم على العقل.
وفي ذلك أيضا يقول ابن خلدون: واعلم أن الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله، واستقامة في فكره؛ لأن براهينها كلها بَيِّنَة الانتظام، جليّة الترتيب، لا يكاد الغلط يدخل أقيستها؛ لترتيبها وانتظامها؛ فيبعد الفكر بممارستها على الخطأ، وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهْيَع (أي: الطريق أو النسق)، ولتعليم الهندسة أهداف عديدة منها: تنمية الفهم العملي، وتنمية التفكير المنطقي، و تنمية الخيال.

إن الدارس في كتاب الله يجد الكثير من الآيات التي اشتملت على منظومة متكاملة يجب أن تؤدى مجتمعة حتى يتحقق المراد، يقول تعالى في سورة يوسف -108 (قل هذه سبيلي أدعوا الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين)، تضمنت الآية تحديد الغاية وهي : الدعوة الى الله، وتضمنت الكيفية وهي: على بصيرة، وتضمنت الإطار وهو: أنا ومن اتبعن.

إن أساس التميز الذي قامت عليه فكرة دعوة الإخوان المسلمين عن غيرها من الدعوات الإصلاحية السابقة – وان كانت كلها إسلامية- أنها حولت الفكرة الإصلاحية من عمل فردي لا يحكمه منهج، الى عمل جماعي منظم في إطار حركي ينطلق من غايات وأهداف لها وسائل  واليات عمل تحكمه قوانين وأنظمة تسعى لبناء واستعادة  دور الأمة  الحضاري.

يقول الإمام البنا في رسالة المؤتمر الخامس: ولقد أخذت أفاتح كثيرًا من كبار القوم في وجوب النهوض والعمل وسلوك طريق الجد والتكوين، فكنت أجد التثبيط أحيانًا والتشجيع أحيانًا والتريث أحيانًا, ولكني لم أجد ما أريد من الاهتمام بتنظيم الجهود العملية... وفي الإسماعيلية أيها الإخوان وضعت أول نواة تكوينية للفكرة، وظهرت أول هيئة متواضعة نعمل ونحمل لواءها نعاهد الله على الجندية التامة في سبيلها تحت اسم (الإخوان المسلمون) وكان ذلك في ذي القعدة سنة 1347 هـ.

ويقول محددا الإطار العام لهذا النموذج الجديد في العمل:... إن طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده، ولست مخالفاً هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول. 

ويقول سيد قطب في معالم في الطريق: حول عملية البعث الإسلامي: إنه لابد من طليعة تعزم هذه العزمة، وتمضي في الطريق .... لان وجود المجتمع المسلم لا يتحقق إلا بهذا. لا يتحقق بمجرد قيام القاعدة النظرية في قلوب أفراد مهما تبلغ كثرتهم، لا يتمثلون في تجمع عضوي متناسق متعاون، له وجود ذاتي مستقل، يعمل أعضاؤه عملاً عضوياً- كأعضاء الكائن الحي- على تأصيل وجوده وتعميقه وتوسيعه.

لقد وعى الإمام المؤسس لوازم هذا الأمر- دون شمولية تطبيق فلسفة العلم الهندسي- فحدد الأهداف والغايات والمراحل والوسائل وتوقع المخاطر والعقبات التي يمكن أن تعترض المسارات الدعوية. فقال في رسالة المؤتمر الخامس تحت عنوان فكرة الإخوان المسلمين تضم كل المعاني الاصلاحية: ... إن الإخوان المسلمين: دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية،  ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية.

ويقول في التدرج في الخطوات:  ... فذلك أنهم اعتقدوا أن كل دعوة لابد لها من مراحل ثلاث: مرحلة الدعاية والتعريف والتبشير بالفكرة ...، ثم مرحلة التكوين وتخير الأنصار ..، ثم بعد ذلك كله مرحلة التنفيذ والعمل والإنتاج، وكثيراً ما تسير هذه المراحل الثلاث جنباً إلى جنب.

ويحدد مراحل التوسع والتأثير في رسالة الى الشباب: إن منهاج الإخوان المسلمين محدود المراحل واضح الخطوات، فنحن نعلم تماما ماذا نريد ونعرف الوسيلة الى تحقيق هذه الإرادة: نريد أولا الرجل المسلم... ونريد بعد ذلك البيت المسلم ... ونريد بعد ذلك الشعب المسلم ...ونريد بعد ذلك الحكومة المسلمة...ونريد بعد ذلك ان نضم إلينا كل جزء من وطننا الإسلامي ... ونريد بعد ذلك ان تعود راية الله خافقة عالية على تلك البقاع التي سعدت بالإسلام حينأ من الدهر ...نريد بعد ذلك ومعه أن نعلن دعوتنا على العالم وان نبلغ الناس جميعأ، ...ولكل مرحلة من هذه المراحل خطواتها وفروعها ووسائلها.

وحدد العقبات في الطريق فقال : … و ستجدون أمامكم كثيراً من المشقات وسيعترضكم كثير من العقبات ، ... سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم ، وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام وينكر عليكم جهادكم في سبيله ، وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان ، وستقف في وجهكم كل الحكومات علي السواء.

بالرغم من عبقرية الإمام المؤسس في تجسيد الفكرة الإصلاحية بنموذج عملي قابل – من حيث المبدأ- للتطبيق، إلا انه لم يتم تطويره بما يكفي لمواجهة التحديات والعقبات التي تعترضه، ولم يتطور ليستوعب حجم الانتشار الكمي والتنوع الجغرافي له. وبرغم إبداع البدايات فلم ننجح -نحن الوارثون- في استكمال المسار الإبداعي الذي بدأه الإمام، فجَمُدنا على " فكرة المبدأ" وهي الغاية والهدف - أي المراد من أي فكرة هندسية- ولم نتوسع ونُجدد في" فكرة المنهج" وهي الكيفية المتعلقة بالأدوات والوسائل – أي طريقة التنفيذ والتصنيع الهندسية المتغيرة المتجددة -  ولم نقم بهندسة الكثير من المشاريع الجزئية والتفصيلية في العمل الدعوي، وليس سليماً أن نعزوا الفشل والقصور والضعف الى العوامل الخارجية بل (قو هو من عند أنفسكم).

إننا اليوم أحوج ما نكون لتطوير هذا المفهوم، لأننا كما وصفنا الإمام بقوله: أيها الإخوان : أنتم لستم جمعية خيرية ولا حزباً سياسياً ولا هيئة موضعية لأغراض محدودة المقاصد . ولكنكم روح جديد يسري في قلب هذه الأمة فيحييه بالقرآن، ونور جديد يشرق فيسدد ظلام المادة بمعرفة الله ، وصوت داو يعلو مردداً دعوة الرسول صلي الله عليه وسلم.

إننا ندعوا إلى إسقاط فلسفة التفكير الهندسي المتمثل في حدة التصور والتركيز والتصميم والتخطيط والتنفيذ والتحكم والصيانة والتجديد المستمر، فنحن بحاجة لجهود حثيثة تعيد تركيب العمل الدعوي على أسس كمية تراعي سنن الله في الخلق ونواميسه  في الكون والحقائق الإنسانية والاجتماعية وكيفية التعامل معها، ويدرك وكتشف علاقات الارتباط والتفاعل بين المكونات الإنسانية والاجتماعية والمادية والمعرفية المختلفة، والخروج بمعادلات تصلح لبناء نماذج لاستثمار مكنونات الأمة باتجاه تحقيق الأهداف، ويمكن للتفكير الهندسي أن ينمي الفرد والجماعة في مجالات كثيرة، فالهندسة يمكن أن تلعب خمسة أدوار أساسية هي: الهندسة كعلم للشمولية والارتباط، و كنموذج للدقة، و كمنشط للقدرة على الاستدلال، وكلغة للكشف والاستنباط، وكفن لعمليات التحويل.

إن الدمج ما بين المحسوس المادي وغير المحسوس النفسي عملية معقدة في البداية، لكنها تُحل وتُكتشف بالتعمق في التفكير وشموله، ذلك أن مستوى التفكير بمسألة رياضية او هندسية يعتمد على درجة تعقيدها، فالمعقدة منها تحتاج لجهود زمنية وعقلية كبيرة، وأول خطوة في ذلك هي عملية "تنهيج العقل" أي ترتيب طريقة تفكيره قبل حشوه بالمعلومات، بحيث بكون قادراً على فهمها وتحويلها الى مادة معرفية قابلة للتطبيق والاستخدام، إن الحديث الشريف الذي صححه الألباني وجاء فيه (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) يقتضي تحسين وتجويد العمل وصولاً به إلى مبتغاه، ويشمل العمل الكمي والنوعي، وضرورة أن يهتم بهذا الجانب في الأعمال الدعوية حتى تبتعد الأحكام والقرارات عن الانطباعات وتبنى على الحقائق.

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ