ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد 08/08/2010


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

 

الضحك: غريزة إنسانية، وضرورة حياتية!!

أ.د. ناصر أحمد سنه*

يقول النفري في (المواقف والمخاطبات):"واضحك.. فإني لا أحب إلا الفرحان". بينما يقول "نيتشه" في (هكذا تكلم زرادشت):"لقد أتيت لكم بشرعة الضحك، فيا أيها الإنسان  الأعلى: تعلم كيف تضحك!".

الضحك ليس مجرد "ظاهرة" بشرية، بل "غريزة/حاجة/ فضيلة" إنسانية خُص بها المخلوق البشري من خالقه جل شأنه:"وأنّه هو أضحك وأبكي"(سورة النجم: 43). لعلّه ـ وهو من أكثر المخلوقات شعورا بالألم والمعاناةـ أن يواجه بهذا الضحك صعاب الحياة ومشاقها، ويصمد أمام تحدياتها وتقلباتها، ويتحمل أحزانها وآلامها. فضلا عما يتهدده من "قلق/حصار" الموت، و"شبح" الفناء.

والإنسان ـ في إطار تلك المكابدة ـ ابتكر واخترع وطور أسباب وأنواع وأفانين الضحك والإضحاك والفكاهة والمرح والدعابة والطرفة والمزاح والتندر والتورية والتعرية والسخرية المهذبة الخ. أفانين مثلت ـ فردا وجماعات، شعوباً وقبائل ـ منافع نفسية وعصبية وفسيولوجية، ودلالات اجتماعية، وجماليات لغوية وثقافية.

 

الضحك.. بعض أسبابه، ونظريات تفسيره 

يقول "نيتشه": "إنني لأعرف تمامًا لماذا الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يضحك؟. فلما كان هو أعمق الكائنات شعورًا بالألم، كان لابد له أن يخترع الضحك. فالتعس هو الذي يضحك لكي يبدل بتعاسته فرحاً. لذا ليس من المستغرب أن تنبع أجمل فكاهة من أعمق الناس حزنًا". وقد تولد أجمل ضحكة عقب بكاء طويل.

يسبق الفعل الانفعال ويصنعه، والضحك عمل الإرادة، وفي وسع المرء أن يقرر أن يضحك، و"الناس لن يصبحوا سعداء إلا إذا كرسوا أنفسهم علي أن يصبحوا سعداء". فوفق نظرية الانفعالات لجيمس ـ لانج:"أننا لا نضحك لأننا مسرورون.. بل نحن مسرورون لأننا نضحك". فالمظاهر العضوية لانفعال السرور هي العلة الحقيقية للضحك، وهو ما أكده أيضا العالم النفسي "مكدوجال":"إذا كنا نشعر بالسرور حينما نضحك، فإننا نشعر بالسرور لأننا نضحك"(1).

إن اختلاق أسباباً للضحك، وصنع مواقف فكاهية باعثة عليه، وإعمال العقل لتنشيط خلايا المخ، وتغيير الحالة النفسية نحو البهجة ..أعمال ليست باليسيرة الهينة السهلة. فمؤلف الكوميديا يحرص، ويضع نصب عينيه، أن يشي ويوحي بالتفوق الدائم (ذكاء، ومعرفة، وإمكانات وقدرات الخ) لجمهوره ـ الذي يريد إضحاكه ـ علي شخوص مسرحيته وملهاته. ولعله من الجائز أن يجعل بعض شخصيات عمله تشعرـ داخل العمل الكوميدي ـ بتفوقها / وضحكها، لكن يظل ذلك دوما دون مستوي "شعور الجمهور بالتفوق" الذي هو سبب رئيس للضحك. لذا يعتبر مصدر الضحك كامناً في "الضاحك" نفسه، و"إحساسه الدائم بالتفوق / الامتياز الشخصي"، وليس في "موضوع الضحك ذاته"، وهو ما يفسر به كلا من"مارسيل بانيول"، و"بودلير" معظم أسباب الضحك وتنوعاته (2).

ولقد ربط البعض بين الضحك وبين معامل ذكاء الأفراد. فبقدر هذا الأخير يكون الاستمتاع بالفكاهة والنكات وبخاصة تلك التي تحتوي على رموزا (لها عدة مستويات للفهم). حني أنهم ذهبوا للقول"أننا لا نضحك على النكتة بقدر ما نضحك إعجابًا بذكائنا على أننا قد فهمناها".

إن غالب المواقف المُضحكة.. هزلية أو فكاهية أو كوميدية إنما تنطوي علي عنصر لهو ولعب، وهو يرحل بالمرء بعيدا عن جدية الحياة الواقعية. إن اللاجدية/ اللامبالاة في حالة الضحك هي سبب وباعث علي الضحك. ومن هنا يري "هنري برجسون" و"فرويد" أن تلك المواقف الفكاهية شأنها شأن اللهو واللعب تنطوي دائما علي مبدأ اللذة (3).

أما الفلاسفة الوجوديون فهم لا يعتبرون الضحك موضوعاً له أسبابه الخارجية، وإنما سلوكا ذاتيا، وفعلا إراديا يعبر عن الحرية الفردية.."أنا أضحك إذن أنا موجود".

ويقف خلف الضحك والإضحاك سبب هام وجوهري: التفاعل الاجتماعي. فالضحك في بعض الأحيان "حُكم/ عقوبة اجتماعية" علي من خرج عن المألوف العام، وعلي من لم يتحل بالمرونة الكافية (مثال من يركض فيتعثر، فيضحك منه المارة كونه أعوزته المرونة، استمر علي صلابته الآلية، ولم يتق عثرته)، والتكيف الاجتماعي اللازم، والتوافق الجمعي العام.

إن إدراك المشابهة، والإحساس بالتعاطف، والمشاركة والدهشة، والشعور بالنصر والتفوق، وتصرفات الجسد الآلية، والتكرار للكلمات والحركات، وكرة الثلج المتدحرجة، ومشهد الدومينو المتداعي، وعكس الأدوار وقلبها، وتداخل السلاسل، والتشوه القابل للتقليد من سليم معافى، والألعوبة"الأراجوز" بيد الآخرين، والتهكم والمقابلة والمقارنة، واستدعاء الخواطر والملابسات القريبة والبعيدة بحدث ما الخ. خصائص إنسانية عامة، وأسباب وإشكال وأساليب باعثة علي الضحك والإضحاك.

 

أنواع الضحك

للضحك صنوف وأنواع، فهناك ضحك السرور والرضا، وضحك التهكم والسخرية، ضحك المزاح والطرب، وضحك العطف والمودة، وضحك الشماتة والعداوة، وضحك الدهشة والمفاجأة، وضحك العجب والإعجاب الخ.

 

الضحك .. منافع نفسية وعصبية وفسيولوجية

الضحك يعتمد على "حياة" وحيوية وظائف الدماغ العليا. ففي مجال المخ والأعصاب تبين أن الفصوص الأمامية من الدماغ مسئولة عن الفكاهة والنكتة، بينما تشارك باقي مناطق المخ ومراكز التحكم الحركي في تنفيذ الاستجابات الطبيعية للضحك.. قهقهة، واستلقاءً، وضرب كف بكف، وحركة البدن الخ. وفي عام 1999م تم عمل دراسة تحليلية لمرضى بتلف في الفصوص الأمامية اليمنى (حيث تتجمع معطيات الانفعال والمنطق والإدراك الحسي)، وجد أن هؤلاء المرضى لا يستطيعون اختيار موضوعات الفكاهة (عادة ما يختارون الأكثر سخافة، وترخصاً، وتدنياً، وخشونة، ومنافاة للعقل الخ)، كما يجدون صعوبة في التحكم في مسارها (4). 

فوفق "حياة" وحيوية وظائف الدماغ نستطيع أن نتعلم كيف نضحك..مهمة قد تكون سهلة. لكن أن نتعلم كيف نُضحك الآخرين مهمة لعلها أكثر صعوبة. إن بعض علماء النفس يعتبرون الإضحاك الفني "فن الكوميديا" هو "فن الدغدغة العقلية". فن يعتمد علي كفاءة وبراعة استحداث استجابات سيكولوجية وعصبية للاستثارة الموجهة للدماغ.

لا يتصور احد أن الحياة كلها وردية اللون، مثالية الأحداث والوقائع. لذا فالضحك "ضرورة" يخفف من ضغوط الحياة، ويهون من المشكلات، قلة أو كثرة:"إذا لم تستطع أن تبكي وقد حزنك أمر، وعصتك الدموع، فاضحك ملء شدقيك، واستبدل بانفعال البكاء انفعال الضحك، فالانفعال إن لم يظهر أوجع وأمرض". بيد أنه في بعض الأحيان والمواقف يكون الضحك أفضل من البكاء،  فالتوازن العاطفي والنفسي يكون أكثر ارتباطا مع الأول عنه في الثاني.  

وقد فسر "مكدوجال" الضحك كغريزة من الغرائز الإنسانية الأساسية، وهي ترتبط بمشاعر الضيق والألم أكثر من ارتباطها بمشاعر البهجة والفرح. بيد أن "هربرت سبنسر" يري أن مشاعر الحزن والكآبة قد يحدث أو لا يحدث معها بالضرورة تعبير الضحك. ويذهب ـ شأنه شأن "ديكارت"ـ إلي أن عملية الضحك: "ظاهرة بدنية عضوية تحدث في غيبة العقل في التحكم في تنظيم العمليات الانفعالية"، لا بد لها من التحول الفجائي "رد الفعل/ فعل منعكس" من سياق إلي آخر في مجري الشعور، ودونما قصد أو إرادة. والضحك عنده ديناميكي "فائض في الطاقة" لها مخارج ثلاث متداخلة ومتحولة: مخرج الحركة العضلية، ومخرج الإحساس، ومخرج التفكير. لذا فالضحك أثر فسيولوجي ونفسي.. بما يستعمل من نشاط عضلي، وبما يزيل من توتر وقلق وانقباض نفسي. 

إن "فرويد" يعتبر الضحك والفكاهة من أرقى الإنجازات النفسية للإنسان وتصدر عن آلية دفاعية في مواجهة ما يهدد الذات. وتقوم هذه الآلية الدفاعية بتحويل حالة الضيق إلى حالة المتعة. فللنكتة ـ برأيه ـ "قناع عدواني أو جنسي لكي يخفي الشخص حالات الإحباط الخاصة به". وهو يؤكد علي أن للضحك والفكاهة وظيفة نفسية، وهو من سبل الصحة النفسية، بما يحقق من التوازن العاطفي. حيث يعود بنا إلي تلك الطفولة المنطلقة السعيدة، تساعدنا علي الهروب من عناء الواقع والاستمتاع بلذة الحياة. كما أن الطرفة أو النكتة علاج نفسي مثلها مثل الحلم الذي يراه النائم.. قصيرة، مكثفة، مختزلة غير منطقية. وتبقي الفكاهة "فن تحقيق المستحيل" الذي لا تستطيع أن تحققه في الواقع، فتسخر منه أو تحققه بصورة فكاهية رمزية (5).

ولا يقتصر تأثير الضحك على تحسين الحالة النفسية والمزاجية بل يتجاوز ذلك إلى شحذ قدرة الجسم على مقاومة الأمراض   فهو يحافظ على نشاط وحيوية أجهزة الجسم وسلامة ونضارة البشرة

 

وللضحك..دلالات ووظائف اجتماعية

هل كان لنا إن نضحك لو أننا كنا نعيش فرادي؟، ولماذا يضحك المرء إذا "دغدغه" آخر، بينما لا يضحك إذا قام هو بتلك العملية بنفسه ولنفسه؟. ولمن نضحك؟،وهل هناك علاقة بين إلقاء نكتة من شخص والضحك عليها من قبل آخرين؟. أسئلة تستدعي إجابات تدل في مجملها علي سوسيولوجية الضحك (6).

من اللافت أن الضحك يتضاعف بالجماعة ويكثر، فالإنسان لا يستطيع أن يضحك إلا في وجود غيره من الناس، فهو يمثل "ظاهرة اجتماعية".  لذا نري "برجسون" يميز بين فن التراجيديا كونها تحمل طابعا شخصياً، وبين الكوميديا ذات الطابع الاجتماعي العام. فمن شواهد ذلك أن من يلقون النكات على المستمعين يضحكون أكثر منهم، ربما لكي يجعلوهم يضحكون بالعدوى. والمرء قد يضحك على النكتة بمجرد إلقائها لأنه مهيأ، ومُنبه اجتماعيا لذلك، حني قبل أن يستوعبها. كما أننا قد نضحك على النكات السخيفة والنكات القديمة التي سمعناها كثيرًا من قبل، إذ يبدو أن الضحك يحتاج دائما إلى أن يكون له صدى وأن يجد له تجاوبا مع الآخرين.

يقول "هنري برجسون" إن المرء لا يستسيغ أصلاً الضحك حين يستبد به الشعور بالوحدة. فضحكنا دائما هو ضحك جماعة وليس ضحك أفراد. لذا فهو يزيل الحدود، ويقوي الروابط ويجعل الإنسان ينظر للحياة بمودة، وللجنس البشري بمحبة. كما يشي "إيزنك" إلي إن الضحك نوع سام من أنواع التكيف (السامي)، وإذا كان ذلك كذلك فلا بد أن يحقق التحمل والتسامح.

ويحتاج الوجدان الشعبي/ الجمعي الذي يتوارثه الأحفاد إلى ما يذكيه، ويحافظ عليه متقدًا من جيل إلى جيل، والفكاهة المتوارثة من أكثر الأشياء التي حافظت على تلك الروح الجماعية للمجتمعات. فدلالة الضحك الاجتماعية، وربطها بالمناخ الاجتماعي، أو الطقس الحضاري، تقوّي الروابط الاجتماعية، تذيب الفوارق بين الطبقات، وتزيل الخقد والشحناء، وتحد من "ثقافة العنف والعدوان".

      

وله جمالياته اللغوية والثقافية

الضحك ظاهرة جمالية، وهو كاللغة ـ وفق عالم النفس الشهير جان بياجيه ـ "يؤدي للأفراد وظائف مشتركة تقرب فيما بينهم، وله معان ودلالات ثقافية مشتركة". وكما أن هناك اختلافات في اللغة من وطن لآخر، كذلك هناك اختلافات في الفكاهة والنكات والضحك من وطن لآخر، بل داخل الأسرة الواحدة (7)، و"تعددت الفكاهة والضحك واحد".

ويحقق الضحك والفكاهة نوعاً من التواصل اللغوي الاجتماعي. فالمرء لا يضحك وحيدًا، بل لابد من مرسل، ومستقبل، وطريقة إرسال، ورسالة يتم التلاقي حول الإحساس بها. وشيوع الثقافة الجادة، وفي لبها لغة ثرية متداولة، تساعد على الارتفاع بمستوى الفكاهة الراقية التي لا تخلو من عنصري الذكاء والمعرفة.

إن البشرـ فرادي وجماعات ـ عندما يضحكون، فإنهم يكونون أقدر على البذل والعطاء والتسامح، والتواصل الاجتماعي والاقتصادي، يقول المثل الصيني:"من لا يستطع الابتسام فليس له أن يفتح متجرا". والضحك هو الربح الذي تتقاضاه هؤلاء وأولئك فورًا، فهو ينشّط خلايا المخ، ويجعل الإنسان قادرًا على أداء عمله، ويهيئ الجسم للاسترخاء العضلي، ويقوّي جهاز المناعة، فيقاوم المرء العلل الجسمية والنفسية مثل القلق والتوتر والاكتئاب:"إذا كنت مازلت قادرًا على الابتسام، فإن الأمور سوف تتحسن حتمًا"، وهو جواز المرور لقلوب الآخرين.

صفوة القول: من اللافت ـ في السنوات القليلة الماضية ـ أن المشهد الإخباري والإعلامي والعالمي يتشح بوشاح أسود. فتكويناته ومفرداته.. حروب وقتلي، ودماء وأشلاء، واستنزاف وأطماع ، وكوارث وأوجاع، وارتفاع أسعار، وتقييد أفكار، وأزمات غذائية، واحتجاجات عمالية، وانهيارات مالية، وهزات اقتصادية، ووقود حيوي، وتسابق نووي الخ. أمور تحتم علي الإنسان/ المجتمع (الحي)، الإنسان/ المجتمع "ذلك الضاحك.. المُضحك" أن يغالبها فيغلبها، ضَحكاً وإضحاكاً، عندها "يتفوق"عليها. وعندها يحق له ـ بتفوقه هذا ـ أن يصيح "صيحة النصر".

 

هوامش ومصادر:

1-        جلال العشري: الضحك فلسفة وفن، دار المعارف، سلسلة كتابك، العدد 85، 1979م، ص:10.

2-        المصدر السابق، ص:9.

3-        هنري برجسون: الضحك.. البحث في دلالة المضحك، ترجمة سامي الدروبي، عبد الله عبد الدايم، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998م، ص 16.

4-        د. عبد الغني عبد الحميد رجب: البقاء للأضحك، مجلة العربي العدد 552، نوفمبر 2004م، ص 140-145.

5-        جلال العشري: مصدر سابق، ص:21.

6-        هنري برجسون: مصدر سابق، ص 17 وما بعدها.

7-        جلال العشري: مصدر سابق ، ص:29.

ـــــــــــــــ

*كاتب وأكاديمي من مصر

nasenna62@hotmail.com

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

 

السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ