-ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الخميس 27/05/2010


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


السلم نمرة واحد

د. محمد حبيب

تخرجت في جامعة أسيوط قبل منتصف الستينيات من القرن الماضي وعينت معيدا بها، وبعد حصولي على درجة الماجستير وبداية عملي في الدكتوراه قررت الزواج .. كان ذلك قبل نهاية الستينيات حيث كانت لافتات «شقة للإيجار» تتصدر بوفرة الكثير من العمارات .. لم أجد صعوبة في اختيار شقة معقولة في حي مناسب .. كان إيجارها ثمانية جنيهات، لكن الراتب لم يكن يتجاوز ثلاثين جنيها، أنفق مما تبقى منه حوالي عشرة جنيهات أخرى على الكتب الخاصة والعامة .. بحثت عن فتاة ترضى بهذه الحياة بين تلميذاتي النجيبات، وبعد لأي، وفقني الله، ووجدت بغيتي ومضى الأمر سهلا ميسورا حتى نهايته.

وقد قال بعض أصحابنا: شيئان ييسر الله فيهما إذا صدقت النوايا، الزواج والحج .. لم يكن لدينا أثاث بالمعنى المتعارف عليه، ولا توجد ثلاجة أو بوتاجاز أو غسالة أو تلفاز أو نجف أو ستائر أو سجاد أو أي شيء مما يحرص عليه الشباب في بداية حياتهم آنذاك .. باختصار، كان هيكل الشقة موجودا، أما الحشو فكان مفقودا.

كنا نذوق اللحم مرة واحدة كل أسبوع أو أسبوعين، وكنا نعتبر ذلك فضلا من الله ونعمة .. نذهب إلى الجامعة ونعود منها سيرا على الأقدام مسافة لا تقل عن حوالي سبعة كيلومترات، وكانت الصحة على خير ما يرام، لا سكر ولا ضغط .. ولا سمنة .. لم تكن زوجتي تشكو أو تضيق أو تتبرم، فقد رزقها الله تعالى القناعة والرضا، ومع ذلك لم تتوقف أبدا عن الحلم، خاصة أنه لا يكلف شيئا .. لم يكن زهدنا اختيارا، بل كان أمرا مفروضا.

حين نسافر في بداية عطلة الصيف من كل عام، كنا نجذب باب الشقة خلفنا ونمضى، إذ لم يكن بها ما نقلق أو نخاف عليه ولو حدث - لا قدر الله - أن داهم اللصوص الشقة فلن يجدوا شيئا يسرقونه، بل ربما تركوا لنا شيئا من باب الشفقة، فاللصوص في الأيام الخوالي غير اللصوص في هذا الزمن الصعب.

في بداية السبعينيات اشترينا ثلاجة بالتقسيط غير المريح، رغم أنى لا أؤمن بالتقسيط حتى وإن كان مريحا، لكن للضرورة - كما يقولون - أحكام، والضرورات - كما هو معروف عند أهل الفقه - تبيح المحظورات .. كنا سعداء بها أيما سعادة، فها قد حانت الفرصة في هذا الجو القاتل أن نشرب كوب ماء بارد.

كانت الشقة في الطابق الرابع والأخير، والشمس الحارقة في صيف أسيوط تضرب فينا من كل اتجاه، ولا تغيب عنا إلا عند الغروب .. كان السلم مرتفعا وضيقا كالحلزون، تماما كسلم المآذن، ولا يوجد مصعد .. أتذكر جيدا ذلك الرجل المسكين الذي حمل لنا الثلاجة وصعد بها إلى شقتنا، إذ إنه بعد أن وضعها عن ظهره ...

قال وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة: تعرف يا بيه ..؟

قلت: ماذا؟

قال: لقد صعدت سلالم كثيرة، لكن هذا السلم نمرة واحد.

حين أردنا السفر في عطلة الصيف كالمعتاد بدأنا نفكر .. قالت زوجتي: هل نغلق باب الشقة خلفنا دون إحكام كما كنا نفعل دائما، أم علينا أن نتخذ بعض الاستحكامات حفاظا على الثلاجة؟

ضحكت وقلت: هكذا الإنسان.. يقلق من أجل لعاعة.. ماذا سنصنع بعد أن يمن علينا ربنا بالضروريات والتحسينيات والكماليات وما أشبه؟

المهم أن الحياة مضت هادئة وادعة، بحلوها ومرها، ورزقنا الله البنات والبنين ونعما كثيرة لا تعد ولا تحصى، ولله الفضل والمنة .. لكننا بقينا على حالة الزهد لا نفارقها ولا تفارقنا، إلا لماما.

أنا هنا لا أتحدث بطبيعة الحال عن عموم الناس، فهؤلاء من حقهم أن يعيشوا حياتهم، وأن ينعموا بطيبات الحياة، وأن تكون لهم آمالهم وأحلامهم، وأن يحققوا ما تصبو إليه نفوسهم في الثروة أو السلطة، طالما كانت إمكاناتهم تسمح بذلك، ولا حرج على فضل الله.

أنا أتحدث عن الدعاة والمصلحين، هؤلاء الذين نذروا أنفسهم للدفاع عن الحق والعدل والحرية، خاصة في هذا المناخ الرديء والسيئ الذي يتعرضون فيه لكل أنواع القمع والبطش والتنكيل .. هؤلاء يجب عليهم، طواعية واختيارا وليس قسرا وجبرا، أن يتخففوا من متاع الدنيا، أو أن يأخذوا من الدنيا ما يقيم أودهم، وألا يعيشوا حياة الدعة والراحة، فالطريق شاق وطويل والمرتقى وعر وصعب.

هؤلاء في حاجة ماسة إلى زاد ومخزون لا ينضب معينه من الأخلاق والإيمان المتجدد، حتى تظل الروح في وهجها وألقها الدائم، ولا يتأتى هذا إلا بالحياة مع الله والارتباط بالآخرة، وهذا باب واسع وكبير وبه تفصيلات كثيرة ليس هنا مقام تناولها .. لكن ما أريد التأكيد عليه هو أن هذا هو درب الأنبياء والرسل الكرام على مدار التاريخ، وهو أعظم الدروب وأفضلها على الإطلاق، وهو لم يكن دربا سهلا في أي مرحلة من مراحله، وإنما كان دائما وأبدا درب المعاناة والآلام.

وهكذا الدعاة والمصلحون في كل عصر ومصر .. هم لا يبحثون عن المعاناة والآلام، لكنها تفرض عليهم فرضا على أيدي الطغاة والمستبدين، فإما أن يثبتوا في طريقهم وعلى قيمهم ومبادئهم، غير عابئين بما يحدث لهم حتى ولو قضوا، وإما أن يتركوا مهمتهم وتضيع دعوتهم وتذهب جهودهم أدراج الرياح، أو يأتي غيرهم من أصحاب الهمم العالية والإرادة الصلبة والعزائم القوية، ممن يتميزون برصيد أخلاقي وروحي يتسامى فوق المادة وجواذب الطين.

بدون هذا الرصيد، لا أمل، وسوف نظل نراوح مكاننا، بل إننا في الواقع سوف نتراجع خطوات إلى الوراء .. إن الأخلاق هي أساس حياة الأمم وسبيلها إلى العظمة والمجد.. يقول شوقي في أعظم وأبلغ روائعه:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت               فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وقد أكد هذا المعنى العبقري في كثير من قصائده، ولولا ضيق المكان لأفضنا زيادة في البيان .. ولأن الطغاة والمستبدين يعلمون أن هذا الرصيد الأخلاقي والروحي هو مصدر القوة والعزة، فهم يحاولون النيل منه بشتى الوسائل والأساليب، تارة بالترهيب وتارة أخرى بالترغيب، أو ما يعرف بسيف المعز وذهبه، أو بسياسة العصا والجزرة.

هذه هي ساحة المعركة الحقيقية، إن خسرناها فقد خسرنا كل شيء، وبقدر الثبات والصمود والمقاومة، وعدم التنازل عن القيم والمبادئ، بقدر ما تحسم المعركة في النهاية لصالح الدعاة والمصلحين، وإن طال الوقت .. هذه هي سنة الدعوات .. إن الطغاة والمستبدين، وهم يخوضون هذه المعركة، إنما يستهلكون الوقت والجهد في حرمان الوطن من طاقات أخلص أبنائه .. ليس هذا فقط وإنما هم يزرعون ويحصدون، أو يتركون، إرثا متناميا من الحقد والبغض والكراهية والتعصب .. لذا لست مبالغا حين أقول إن الطغاة والمستبدين هم سبب نكبة البلاد وتخلفها، بل هم العقبة الكئود أمام النهضة والرقى والتقدم .. ولست بحال مع القائلين بالمستبد العادل، فالظلم والعدل نقيضان لا يجتمعان.

إن حياة الدعاة والمصلحين لها معالمها، ولمن يريد أن يسير على الدرب أن يتبينها وأن يسبر غورها وأن يعلم عن يقين ثقل تبعاتها وتكاليفها ....

ذكر الأستاذ عمر التلمسانى - رحمه الله - أنه زار الأستاذ الإمام البنا في بيته، فوجده بيتا بسيطا للغاية: مكتب متواضع، وكراسي من الجريد، ومكتبة عامرة بكل أنواع الثقافات .. حينما دعاه الإمام للجلوس، كأنما استنكف الأستاذ التلمسانى وهو الرجل الثرى المرفه أن يجلس على كرسي هذه صفته، فأخرج من جيب جاكتته منديل «الإسكريبيز» وافترشه على قاعدة الكرسي قبل الجلوس وحانت منه التفاتة للأستاذ البنا فوجده يبتسم ابتسامة حانية، لم يدرك الأستاذ التلمسانى مغزاها إلا بعد وقت طويل .. وهو يذوق مرارة الحرمان من النوم والراحة والماء والطعام .. وهو ينال ألوانا من التعذيب النفسي والجسدي لا يطيقه بشر ولا يتحمله إنسان.

وقد حكى لنا الدكتور أحمد الملط - رحمه الله - أنه التقى الإمام البنا ليتحدث معه في شأن المتطوعين للجهاد على أرض فلسطين الحبيبة، وكان الدكتور أحمد قد زين جيب جاكتته بمنديل على هيئة الأهرامات الثلاثة، وإذ بالأستاذ البنا وهو يستمع إليه يمد يده إلى المنديل البارز ويدسه بأصابعه داخل الجيب، وكأنه يقول له إن الحديث عن الجهاد والمجاهدين، وهذا الوقت العصيب، الذي تستباح فيه فلسطين من قبل الصهاينة، لا يناسبه ولا يليق به مثل هذه المظاهر.

أُثِر عن الأستاذ البنا أنه كان لا يسافر في القطار إلا بالدرجة الثالثة، ولم يكن يفعل ذلك إلا لأنه لا توجد درجة رابعة! وكان من عزيمته - رحمه الله - قيامه برحلاته الدعوية إلى أسوان في الصيف، وإلى وجه بحري في فصل الشتاء.. إنها تربية عالية للنفس ومحاولة لكبح جماحها، حتى تكون قادرة على التحدي والمقاومة .....

يقول الشاعر:

والنفس كالطفل إن تهمله شب على            حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

بالطبع، لا يستطيع هذا ولا هو مطلوب من كل الأفراد، حيث إن كل واحد منا له طاقته ودرجة تحمله، لكن كما يقال: تشبهوا بالقوم إن لم تكونوا مثلهم، وكما يقول الحق جل وعلا: «والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين» ( العنكبوت:٦٩)

أنا لا أدعو إلى قطيعة مع الدنيا، لكنى أريد أن نعطيها حظها ونصيبها، أو بمعنى آخر أن نأخذ حظنا ونصيبنا منها وأن نستمتع بها في عزة وكرامة، لا أن نقع في هواها ونلهث خلفها، فتستخدمنا أسوأ استخدام، وتطأنا بقدميها ونعليها دون أدنى شفقة أو رحمة، فنفقد بذلك كل جليل ونبيل.

لذا أقول إنه بجانب الرصيد الأخلاقي والروحي نحن كأفراد، في حاجة إلى بعض المال والجاه والسلطان .. المال له منافعه الكثيرة التي لا تخفى، إذ به يتحقق الاستمتاع بطيبات الحياة، قضاء حوائجنا وحوائج أهلنا وأولادنا، الاستغناء عن الناس، الإنفاق في سبيل الله والوطن، تركه لورثتنا من بعدنا ... وأما الجاه فهو ملك القلوب، ولا تستقيم الحياة دونه لأن الإنسان بطبيعته كيان اجتماعي لا ينفك عمن حوله، هو في حاجة إليهم كما أنهم في حاجة إليه، والقول المأثور عن بعض الصوفية «إن الاستئناس بالناس علامة الإفلاس» قول فيه نظر، وقد يكون المقصود به هو ألا يكون الاستئناس بالناس عوضا عن الاستئناس بالله سبحانه.

والسبيل إلى الجاه له وجوهه الكثيرة والمتعددة، منها على سبيل المثال: العلم، حسن الخلق، الصدق، التواضع، اللين، الرفق، الرحمة، الرأفة، السماحة، الصفح، العفو، الإحسان إلى الناس، عدم النظر إلى ما في أيديهم، مشاركتهم أفراحهم وأتراحهم، الدفاع عن حقوقهم، تفريج كربهم، الخفة إلى نجدتهم، وما إلى غير ذلك.

وأما السلطان فهو لازم وضروري حتى لا يجترئ علينا السفلة والحمقى والجهلة، وبالتالي نتمكن من العيش في عزة وكرامة.. وقد يكون السلطان متمثلا في موقع سياسي، أو قانوني، أو تنفيذي، أو اقتصادي .. وقد وجدت بعد طول تأمل أنه ليس هناك في هذا الصدد ما هو أفضل من مهابة الله، التي تتحقق بالتقوى والورع، فذلك يورث الإنسان مكانة ومهابة في قلوب الخلق .. رزقنا الله وإياك السيادة والسعادة في الدنيا والآخرة.

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ