-ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الخميس 20/05/2010


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


نكبتنا سبقت هجرتنا:

نُكبنا يوم عُزل السلطان عبد الحميد الثاني

(2ـ2)

مصطفى إنشاصي

ثالثاً: رفضه الموافقة على المشروع الصهيوني

لمعرفة حجم الضغوط التي تعرض لها السلطان عبد الحميد ومارسها عليه اليهود، وخاصة (ثيودر هرتزل) مؤسس الحركة الصهيونية السياسية الحديثة؛ سأقسم الحديث عن جهود هرتزل التي بذلها مع السلطان عبد الحميد للحصول منه على موافقة لاستجلاب اليهود إلى فلسطين، إلى مرحلتين:

(الأولى) جهود هرتزل قبل المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897م

لقد بذل هرتزل جهود كثيرة ومحاولات مستميتة لمقابلة السلطان عبد الحميد عن طريق بعض أصدقائه المقربين من السلطان أو بواسطة بعض الدول، أو بالرشا والإغراءات المالية لحاشية السلطان. وقد بلغه أول رد عن طريق رفيقه (نيولنسكي) الذي أخبره بما حصل له في المقابلة التي أجراها مع السلطان في حزيران/يونيو 1896م:

"قال السلطان لي: إذا كان هرتزل صديقك بقدر ما أنت صديقي فانصحه أن لا يسير أبداً في هذا الأمر. لا أقدر أن أبيع ولو قدماً واحداً من البلاد، لأنها ليست لي بل لشعبي. لقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم وقد غذوها فيما بعد بدمائهم، وسوف نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا. لقد حاربت كتيبتان من جيشنا في سوريا وفلسطين وقتل رجالنا الواحد بعد الآخر في "بلفنة" لكن أحد منهم لم يرضى بالتسليم. وفضلوا أن يموتوا في ساحة القتال، الإمبراطورية التركية ليست لي وإنما للشعب التركي، لا أستطيع أبداً أن أعطي أحد أي جزء منها. ليحتفظ اليهود بملايينهم فإذا قسمت الإمبراطورية فقد يحصل اليهود على فلسطين بدون مقابل. وإنما لن تقسم إلا على جثتنا ولن نقبل بتشريحنا لأي غرض كان".

ورغم فشل رحلة هرتزل الأولى إلى القسطنطينية إلا أنه بقي عنده أمل بسبب وعود المسئولين الأتراك لخدمته، خاصة بعد أن علم السلطان بمشروعه الجديد الذي قدمه إلى السلطات العثمانية، وأبلغته حاشية السلطان: أنه "يدعو السلطان اليهود بحفاوة، للعودة إلى وطنهم التاريخي، وليستقروا هناك بحكم ذاتي مستقلين إدارياً وتابعين للإمبراطورية التركية. ومقابل ذلك يدفعون ضريبة".

وقد ذهب هرتزل بتلك النتيجة إلى لندن لإجراء اتصالاته مع الدول الكبرى وكبار مسئولي اليهود وغيرهم، وبعد مضي حوالي شهرين على رحلته الأولى إلى القسطنطينية أرسل هرتزل إلى السلطان عبد الحميد بتاريخ 25/8/1896م ملحقاً لمشروعه الذي يريد من السلطان الموافقة عليه، تضمن عرضاً مغرياً جداً يتمثل في:

"عرض قرض متدرج من عشرين مليون جنيه استرليني يقوم على الضريبة التي يدفعها اليهود المستعمرين في فلسطين إلى جلالته، تبلغ هذه الضريبة التي تضمنتها جماعتنا مائة ألف جنيه استرليني في السنة الأولى وتزداد إلى مليون جنيه استرليني سنوياً. ويتعلق النمو التدريجي في الضريبة على هجرة اليهود إلى فلسطين. أما سير العمل المفصل فيتم وضعه في اجتماعات شخصية تعقد في القسطنطينية مقابل ذلك يهب جلالته الامتيازات التالية: الهجرة اليهودية إلى فلسطين التي ليست فقط تكون غير محدودة بل أيضاً تشجعها الحكومة السلطانية بكل وسيلة ممكنة. ويعطى المهاجرون اليهود الاستقلال الدائم. المضمون في القانون الدولي. في الدستور والحكومة وإدارة العدل في الأرض التي تقرر لهم (فلسطين كدولة شبه مستقلة)". وعندما استلم هرتزل براءة الوسام الذي منحه إياه السلطان كتب إليه شاكراً بتاريخ 22/10/1896م: "حينما يسر جلالتكم أن تقبلوا خدمات اليهود سيسعدهم أن يضعوا قواهم تحت تصرف ملك عظيم مثلكم".

وفي الوقت الذي كان هرتزل يشكر فيه السلطان ويتملقه كان يتآمر عليه ويتحين الفرصة للانقضاض عليه وفرض مطالبه، فقد كان يريد أن يُبقِِ على الدولة العثمانية في حالة ضعف، اعتقاداً منه أن حاجاتها للمال سوف تضطر السلطان للتعامل مع أي إنسان من أجل الحصول على المال، وكان يظن وهو يقدم عروضه المالية المغرية للسلطان من أجل الحصول على فلسطين، أن السلطان سيقبل بعروضه بدلاً من القروض الأوروبية وما يترتب عليها من فوائد عظيمة، لذلك عندما علم بنية بريطانيا خلع السلطان عبد الحميد، كتب في يومياته بتاريخ 12/9/1896م يفصح عن نياته في بقاء تركيا ضعيفة لاستغلالها: "جاء من لندن أخبار عن تفكير الدول لخلع عبد الحميد. إذا تحقق ذلك ماتت الفكرة الصهيونية مدة طويلة من الوقت. فإن السلطان الجديد سيجد المال ولن يحتاج لنا".

وقد قام هرتزل بحملة دعائية ضد أي مشروع قرض لتركيا، وحرض رجال المال اليهود الكبار على عدم المشاركة في أي مشروع من هذا النوع، لأنه سيقطع الطريق عليهم إلى فلسطين، وأنه سوف يعرضهم لمسؤولية خطيرة جداً.... إلا أن السلطان عبد الحميد رفض مشروع هرتزل وعروضه المالية، وفضل القروض الأجنبية على الرغم من مساوئها على الرضوخ للأطماع اليهودية في فلسطين، ونجحت مساعيه في الحصول على قرض أوروبي، وعندما علم هرتزل بذلك جن جنونه، وغضب كثيراً واتصل بصديقه نيولنسكي للتأكد من صحة ما قرأ في الجرائد، فقد كتب في يومياته بتاريخ 26/1/1897م يقول: "تلقت الجريدة الحرة الجديدة هذا الصباح خبر إتمام التدابير المالية مع تركيا (تحت ضمانة الدول كلها) لم أصدق الخبر في البدء وتلفنت لنيولنسكي الذي اكتفى بالتأكيد أنه أمر سيء لنا)" يوميات ص47. أما عن سبب غضبه فهو لأن القرض "سيعطي الأتراك أربعة ملايين جنيه، سيساعدهم هذا المبلغ على الطفو فوق سطح الماء". وأخذ هرتزل يمني نفسه بفشل القرض: "أرجو أن لا يوافق السلطان على ذلك. وأن يذكره الباشوات الذين لم ينلهم أي بخشيش، بما يهدد كرامته كخليفة".

ولم تتوقف جهود هرتزل بل زاد في اتصالاته بجميع الدول الكبرى، وبدأ في تأليبها على بعض وفي الوقت نفسه يدعي لكل منهم أن الصهيونية تخدم مصالحهم، ويدفعهم للتنافس لمساعدتها. وأيضاً حاول الاتصال بالسلطان عبد الحميد على أمل الموافقة على مطالبه، حيث اتصل بالسفير العثماني في النمسا "محمود نديم" في 24/3/1897م، وأعلن هرتزل تبرعه بمساعدة السلطنة إن كان السلطان يريد ذلك ومدحها أيضاً، فقال: "ثم امتدحت من حيوية تركيا، وهي البلد الذي سيرى أمجاداً عظيمة إذا ارتأى قبول الهجرة اليهودية" يوميات ص53. وكان هرتزل يقوم باتصالاته تلك بتركيا وغيرها من أجل تهيئة الأجواء لانعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في جو ملائم يضمن له النجاح.

ثانياً: جهود هرتزل بعد المؤتمر الصهيوني الأول حتى وفاته عام 1904م

بعد انعقاد المؤتمر الصهيوني في آب/أغسطس 1897م بدأ هرتزل يجري اتصالات مكثفة بجهات أوروبية عديدة. على رأسها ألمانيا التي كانت تُعتبر صديقة لتركيا، وكان يعلق عليها أملاً كبيراً في الحصول على وساطة له عند السلطان عبد الحميد، لتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين، والحصول على وعد بمنحهم وطن قومي فيها. ففي 17 تشرين الأول/أكتوبر أرسل هرتزل رسالة إلى قيصر ألمانيا يطلب مساعدته بإقامة شركة يهودية تحت الحماية الألمانية تهتم بأمور هجرة اليهود إلى فلسطين، ويطلب منه بذل جهوده مع السلطان لإقناعه باستيطان يهودي في فلسطين ليكون ذلك موضوعاً من الموضوعات الهامة التي سيثيرها القيصر مع السلطان عند سفره إلى الآستانة.

وفي الوقت الذي كانت تبذل فيه الحركة الصهيونية جهودها مع الدول الأوروبية الكبرى لإنجاح مشروعها لتحويل فلسطين لوطن قومي يهودي يضمنه القانون العام، قرر هرتزل في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 1897 الاعتماد على "جمعية الاستعمار اليهودي" في إنشاء مشاريع مالية يهودية في تركيا كسبيل مثالي لإنشاء "الوطن القومي" كما يبدو من الرسالة التي كتبها بتاريخ 29/11/1897م. كما حاول هرتزل الاتصال بالسلطان العثماني مرة أخرى، حيث اجتمع في 4/2/1898م بالسفير العثماني في ألمانيا (أحمد توفيق) من أجل وساطته لتحقيق المشروع الصهيوني في فلسطين، مقابل القروض المالية التي كان يحاول أن يستخدمها هرتزل وسيلة لحمل السلطات العثمانية على الموافقة على مشروعه، إلا أن السفير العثماني نصح هرتزل بأنه من الصعب بيع فلسطين أو حصول اليهود على مقاطعة خاصة بهم. وفي مقابلة ثانية لهرتزل مع (أحمد توفيق) بعد أربعة أيام من الأولى نصح الثاني الأول "بان يطالب بقطعة أرض في آسيا الصغرى هذا سيكون أضمن لنا ـ لليهود ـ ورفضت هذا....".

وقد خرج المؤتمر الصهيوني الثاني بتوصيات وقرارات كان منها إطلاق يد هرتزل في التفاوض مع الدول الأوروبية لخدمة المسألة اليهودية، ولما كان هرتزل يعلم بمدى الصداقة بين ألمانيا وتركيا فقد وجه جل اهتمامه إلى ألمانيا، حيث كثف محاولاته لإقناع القيصر الألماني، الذي كان على وشك التوجه إلى الآستانة للقاء السلطان عبد الحميد هناك. وقد لحق هرتزل بالقيصر الألماني إلى الآستانة وحاول الاجتماع به، وقد تم له ذلك في 18/10/1898م وقد دار حوار قومي بينهما، عرض فيه على القيصر (غليوم الثاني) مشروعه ومدى الفائدة التي ستعود على ألمانيا إلا أن الإمبراطور الألماني لم يعطه قراراً نهائياً، لا بالرفض ولا بالإيجاب. يوميات ص114ـ 116. وكذلك عندما اجتمع هرتزل بالقيصر في القدس، لم يحصل منه على أكثر من ترحيب وتشجيع بأن يعود اليهود إلى فلسطين كرعايا للدولة العثمانية من أجل المساعدة في مجالات الزراعة وتنميتها.

ومع بدء جلسات المؤتمر الصهيوني الثالث الذي عقد في آب/أغسطس 1899م أرسل هرتزل إلى السلطان العثماني رسالة يعرض فيها رغبة الصهاينة المجتمعين بأن يكونوا مخلصين لعطفه نحو رعاياهم، وأنهم يرغبون في إغاثة اليهود التعساء في دول أوروبا. يوميات ص149. إلا أن السلطان عبد الحميد لم يرسل إليهم برسالة جوابية بهذا الخصوص.

وقد استمر هرتزل في محاولاته لمقابلة السلطان عبد الحميد دون كلل أو ملل، وقد وسط هذه المرة (فامبري) وهو مستشرق هنغاري يهودي الأصل، وفي 8/5/1901، اخبر (فامبري) هرتزل أن السلطان سيستقبله "ولكن ليس كصهيوني، بل كرئيس لليهود وصحفي ناقد". يوميات ص172. وقد حذر (فامبري) هرتزل من السلطان لأنه يكره الصهيونية قائلاً له: "إياك أن تحدثه عن الصهيونية، إنها فانوس سحري، القدس مقدسة لهؤلاء مثل مكة إلا أن الصهيونية جيدة ضد المسيحية".

وقد كان هرتزل متفائلاً جداً، منذ أن أخبره (فامبري) بموافقة السلطان على مقابلته، وكان يتصور أن السلطان سيوافق على بيعه فلسطين، وأنه لا عقبة أمام هرتزل إلا كيفية تدبر المال اللازم لذلك، ولم يكن يعلم أن رد السلطان عبد الحميد سيكون نفس الرد السابق لأن فلسطين أرض مقدسة مباركة عند المسلمين ولا يقبل أي مسلم غيور على دينه التفريط فيها. وعندما جرت المقابلة بتاريخ 18/5/1901م اصطحب هرتزل معه حاخام اليهود في تركيا (موسى ليفي)، وفي الاجتماع بدأ هرتزل ممالأة واستعطاف السلطان ـ بواسطة المترجم إبراهيم بك ـ وقال له: "إني أكرس نفسي لخدمته لأنه يحسن إلى اليهود، واليهود في العالم كله مدينون له بذلك، وإني بشكل خاص مستعد لتأدية أية خدمة له خاصة الخدمات الكبرى". وأشار إلى الخدمات المالية فصلاح الاقتصاد العثماني المتدهور وتصفية الديون المقدرة بمليون ونصف المليون جنيه، وعرض توسطه لإيقاف حملات صحف "تركيا الفتاه" في أوروبا، ثم لمح إلى أن الحركة الصهيونية تهدف إلى إيجاد "ملجأ لليهود" في الأراضي المقدسة، وكان الحاخام (موسى ليفي) يؤيد هذا الرأي.

فبادره السلطان غاضباً: "إننا نظن بأن بني قومكم يعيثون في الممالك المحروسة الشاهانية بعدالة ورفاه وأمن ... وأضمن أنكم تعاملون نفس المعاملة الحسنة التي يعامل بها كافة تبعتنا دون تفريط، أو تمييز ويعيشون في أمن واعتماد. هل لكم شكاية ما أو هناك معاملة غير عادلة ولا نعرفها نحن؟". ويضيف المؤرخ التركي (جواد رفعت اتلخان) ـ المعاصر للسلطان عبد الحميدـ بأن الحاخام (موسى ليفي) أجاب السلطان بخوف وقال: "أستغفر الله سيدنا... بفضل ظل شاهانتكم نعيش بكمال الرفاه. حاشا لا توجد لنا شكاية ما، إننا نسترحم فقط جعل قومنا العائشين مشتتين"مشتت" فوق الأرض صاحب وطن في ظل شاهانتكم ليقوموا هناك بفرائض الشكر والدعاء لحياة سيدنا العظيم طول بقاء الدنيا". فرد السلطان منزعجاً: "لا يمكن أن نعمل أكثر مما عملناه حتى الآن لجماعتكم حيث أنكم تستفيدون من كافة خيرات بلادنا كمواطينينا الآخرين، بل أنتم متنعمون ومرفهون أكثر من سواكم في أحضان شعبي الشفيق، فأظنكم نسيتم الاضطرابات والعذاب ـ الذي كنتم ترونه في أنحاء الدنيا". ثم وقف السلطان لحظة ودار نظره إلى هرتزل ثم إلى الحاخام وقال له: "أليس كذلك يا حاخام أفندي؟ أن بلادنا التي حصلنا على كل شبر منها ببذل دماء أجدادنا... لا يمكن أن نفرط بشبر منها دون أن نبذل أكثر مما بذلناه من دماء في سبيلها".

وذكر السلطان أنه لو علم بأن هذا الاجتماع سيدور حول فلسطين دون القضايا المالية لاضطر منذ البداية لإلغائه.

بعد تلك المقابلة لم ييأس هرتزل من المحاولة ثانياً، فأعاد الكرة مرة ومرات عارضاً مشاريعه المغرية تارة، ومحاولاً استغلال نفوذ الدول الأجنبية الأوروبية للضغط على الباب العالي، ومحاولة إقناع السلطان عبد الحميد بالفكرة تارة أخرى. واستمرت جهود هرتزل في جميع الاتجاهات من أجل الحصول على فلسطين دون أن تثنيه كل المحاولات الفاشلة حتى وفاته عام 1904م، وكان أصعب مواقف الفشل التي تعرض لها مع السلطان عبد الحميد الذي أفهم وسطاء هرتزل رفضه تحقيق مشروع اليهود في فلسطين قائلاً: "انصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطوات جديدة في هذا الموضوع. إني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض. فهي ليست ملك يميني بل ملك شعبي، لقد قاتل شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه، فليحتفظ اليهود بملايينهم، إذا مزقت إمبراطوريتي فعلهم يستطيعون آنذاك بأن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، ولكن يجب أن يبدأ ذلك التمزيق أولاً في جثثنا وإني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا، ونحن على قيد الحياة".

وقد أثر رد السلطان ذلك على الجهود الصهيونية والدول الأوروبية التي رأت أن السلطان لم يغير موقفه، إلا أن هرتزل رغم كل ذلك ظل يسعى لدى الدولة العثمانية على أمل الحصول على فلسطين، ولم يكف عن محاولات الوساطة التي كان آخرها قبل موته بأيام قليلة. حيث وعده وزير خارجية النمسا والمجر بالوساطة لدى السلطان.

تضحية السلطان عبد الحميد بعرشه من أجل فلسطين

كان الإسلام ومازال هو العدو المشترك الذي اجتمعت عليه كلمة وخطط الصالب والمصلوب ـ بحسب عقيدة النصارى ـ وفلسطين كانت هي مركز الهجمة اليهودية ـ الغربية لتفكيك الوحدة السياسية للمسلمين والقضاء على الإسلام، التي من خلال انتزاعها سيتم تحقيق أهدافهما ضد الأمة والوطن. ومنذ ذلك الحين بدأ الغرب الصليبي يضع أسس واضحة الأهداف والغايات للتحالف الذي سينشأ بينه وبين اليهودية العالمية، متمثلة في الحركة الصهيونية التي تسعى آنذاك لتحقيق الحلم اليهودي التوراتي باغتصاب فلسطين. وقد كان جوهر ذلك التحالف يقوم على أساس: أن الإسلام، والعروبة هما العدو المشترك لهما، الذي يهدد وجودهما قبل غاياتهما وطموحاتهما للسيطرة والهيمنة على العالم وخاصة وطننا. "العروبة: بمعناها المرادف للإسلام، وليس معناها كبديل عنه ونقيض له، لأن أهلنا في المغرب العربي كانوا يستعملون مصطلح "العروبة" ضد محاولات الفرنسة، كمرادف لمصطلح "الإسلام" وليس بمعنى مضاد له.

ولأن الغرب أدرك خطر طموحات السلطان عبد الحميد في إصلاح أوضاع الدولة العثمانية، ومحاولة استعادة مجد الإسلام من خلال إعادة القوة والنهضة للخلافة وتوحيد المسلمين خلفها، منذ توليه حكم السلطنة، فقد بدأ حملة تشويه له وقدمه للعالم من قبل أجهزة إعلامه على أنه: السلطان الأحمر الدكتاتور، الظالم، الجاهل، مصاص الدماء، عنوان الجهل والتخلف، وحُمل ظلماً مسؤولية تدمير الدولة العثمانية، في الوقت الذي كانت تقارير موظفيه وقادة الحكم والفكر الغربيين تقول عكس ذلك! فلقد كتب (جون هاسلك) في كتابه "السلطان الأحمر عبد الحميد": "لقد استقبل مجيء السلطان عبد الحميد باحترام بالغ من الدول الكبرى، لجديته، وعدم انغماسه في الترف والملذات وتمضيته أكثر أوقاته في رفع شأن الدولة والقيام بالإصلاحات الأساسية، على الصعيد الاقتصادي والعسكري". تلك الصفات هي التي جعلت (بيكونسفيلد ـ دزرائيلي) اليهودي يكتب إلى سالسبوري يقول: "إن السلطان الجديد، تنعقد عليه الآمال حقاً، فهل يصبح كسليمان العظيم؟", بل حتى في العقد الأخير من القرن التاسع عشر كان بمقدور كاتبة أن تقول عنه: "إن جده النادر واقتصاده الفريد وأهدافه العتيدة، وشجاعته المعنوية، قد أكسبته احترام رعاياه وتقدير الأجانب الذين يزورون عاصمته". وكانت إنجلترا تنظر إليه على أنه دكتاتور مستحب، لأنه حسب تعبير اللورد (دزرائيلي): "لم يكن فاسقاً ولا ظالماً ولا قابلاً للرشوة...".

وقد صفه جمال الدين الأفغاني: "إن السلطان عبد الحميد لو وزن بأربعة من نوابغ العصر لرجحهم ذكاءً ودهاءً وسياسة، خصوصاً في تسخير جليسه. ولا عجب إذا رأيناه يذلل ما يقام في ملكه من الصعاب من دول الغرب، ويخرج المناوئ له من حضرته راضياً عنه مقتنعاً بحجته، سواء في ذلك الملك والأمير والوزير والسفير". ويضيف: "ورأيته يعلم دقائق الأمور السياسية، ومرامي الدول الغربية وهو معد لكل هوة تطرأ على الملك، مخرجاً وسلماً".

وعندما استمرت سياسة السلطان عبد الحميد بالتصلب في وجه الأطماع اليهودية ـ الصليبية في وطننا، وأصبح عقبة كئود في وجه مخططاتهما كان لا بد أن يتآمران عليه لخلعه والتخلص ليس منه وحده، ولكن من النظام السياسي الإسلامي كله ـ الخلافة الإسلامية العثمانية ـ وقد كان لليهود الطامعين في فلسطين الدور الأكبر في خلعه، خاصة وأنه كان من ضمن القرارات الضمنية للمؤتمر الصهيوني الأول عام 1897م: "أنه في حال استمرار رفض السلطان ـ عبد الحميد الثاني ـ للمطالب الصهيونية فإن تحطيم الإمبراطورية التركية شرط أساسي لإقامة حكومة صهيونية في فلسطين".

وعندما أعلن هرتزل فشله في الحصول من السلطان على أي مكسب على الرغم من كل الإغراءات التي قدمها له، قال: "إني أفقد الأمل في تحقيق أماني اليهود في فلسطين، وإن اليهود لن يستطيعوا دخول الأرض الموعودة، ما دام السلطان عبد الحميد قائماً في الحكم مستمراً فيه". حركت الصهيونية والماسونية اليهودية والغرب الصليبي أدواتهم في جمعيتي "الاتحاد والترقي" و"تركيا الفتاه" بالتعاون مع يهود الدونمة وسالونيك للتآمر على السلطان عبد الحميد وإسقاطه جزاءً له على موقفه السالف، فكان أول عمل قاموا به انقلاب عام 1908م الذي تمخض عن إعلان الدستور وإجراء انتخابات للهيئة التشريعية وأطلقت الحريات... ولم يكتفِ اليهود بذلك بل أجبروا السلطان عبد الحميد في العام التالي عن طريق أدواتهم المذكورة التخلي عن الحكم عام 1909م: "ويمكن القول أن ثورة 1908م وحادثة خلع السلطان 1909م لعبتا الدور الأول والفعال في انتعاش الأماني الصهيونية لإقامة مملكة إسرائيل في فلسطين. وقد أثبتت الأحداث بعد ذلك تزايد الهجرة اليهودية إلى الأراضي المقدسة".

 وذلك الانقلاب كما يقول الدكتور (أنيس صايغ) كان في ظاهره: "حركة قومية إصلاحية عربية تركية غير أن اليهود أسهموا فيها وغذوها كوسيلة للتخلص من عبد الحميد لوضع حكم عنصري يقصي المستشارين العرب ويسهل على السلطات الجديدة منح ما يطلبون من امتيازات". اما الدكتور (عبد الوهاب الكيالي) فيعلق على التحالف العربي ـ التركي لإسقاط السلطان عبد الحميد: ولأن شهر العسل العربي التركي الذي أعلنته "جمعية الاتحاد والترقي" العربي العثماني كان قصير الأجل، فسرعان ما اتضح أن عناصر "جمعية الاتحاد والترقي" كانت تركية أولاً ويهودية ثانياً، وكان الاتجاه القومي الطوراني يقضي بسياسة "التتريك" وطمس معالم اللغة العربية من الشخصية العربية، "بل إن الاضطهاد التركي للعرب ازداد عما مضى وأحس العرب بالاحتقار والسخرية بهم وبتراثهم أكثر من أي وقت سبق كما أسيئت معاملتهم وأضعفت لغتهم". فقد ركز قادة الاتحاد والترقي هجومهم على عزت باشا العابد وأبو الهدى الصيادي وكانا من العرب المقربين إلى السلطان عبد الحميد.

أما (لورنس العرب) فقد اعتبره أنه كان بمثابة: "ثورة على المفهوم المألوف للإسلام وعلى فكرة الجامعة الإسلامية عند السلطان عبد الحميد". وقد ذكر السفير البريطاني في تركيا لوزير خارجيته في ذكرته التي رفعها إليه في أغسطس 1910 إن لجنة الاتحاد والترقي تبدو في تشكيلها الداخلي تحالفا يهودياً تركياً مزدوجاً.. إن اليهود الذين يبدون الآن في موقف الملهم والمسيطر على الجهاز الداخلي للدولة يعملون على سيطرة الاقتصادية والصناعية على تركيا الفتاة، ولكي يصل اليهود إلى مكان النفوذ في تركيا الفتاة فإنهم يشجعون الاتجاهات القومية التركية.".

فقد "لعبت المحافل الماسونية مع يهود (الدونمة) دوراً مؤثراً في التخطيط لخلع السلطان، وكانت بمثابة العقل المدبر، كما كانت الدول الأجنبية بمثابة الممول لأنه كان لها نفوذ كبير في أوساط الباب العالي وبين الأتراك الشبان. وكانت الماسونية قد بدأت في الانتشار في أراضي الدولة العثمانية منذ وقت بعيد، ويقول الأب 0لويس شيخو) عن موقف تركيا من الماسونية (كانت تركيا بين أوائل الدول التي ناهضت الماسونية منذ عام 1748م، وأن بين قوانينها ما يحضر على العثمانيين الجمعيات السرية)".

ولقد كشف بعض زعماء الانقلاب عن اعترافه بأنه وقع خديعة الحركة الصهيونية والتآمر الاستعماري، فهذا (أنور باشا) الرجل الذي قام بالدور الرئيسي في الانقلاب على الخلافة عام 1908م، والذي تسبب في تدهور الدولة العثمانية، يقول في حديث له مع (جمال باشا) ـ الذي قاد حملة التتريك في بلاد الشام، وأصدر أحكام الإعدام ضد الذين قاموا بهذه الحملة من العرب ـ إذ كانا يحللان أسباب الاندحار الذي أصاب الدولة التركية: "أتعرف يا جمال ما هو ذنبنا؟ وبعد تحسر عميق، قال: نحن لم نعرف السلطان عبد الحميد فأصبحنا آلة بيد الصهيونية، واستثمرتنا الماسونية العالمية، نحن بذلنا جهودنا للصهيونية فهذا ذنبنا الحقيقي. وذلك ما أثبته السلطان عبد الحميد في مذكراته فكتب: "وانتظم يهود العالم وسعوا ـ عن طريق المحافل الماسونية ـ في سبيل (الأرض الموعودة) وجاءوا إلي بعد فترة وطلبوا مني أرضاً لتوطين اليهود في فلسطين مقابل أموال طائلة وبالطبع رفضت".

وبخلع السلطان عبد الحميد استطاع اليهود النفاذ إلى قلب الدولة العثمانية عن طريق "جمعية الاتحاد والترقي"، التي استصدرت من السلطان (محمد رشاد) مرسوماً يسمح لهم بالموافقة على الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وقد وضع الاتحاديون شعارهم "حرية، مساواة، عدالة" وهو نفس شعار الماسونية والثورة الفرنسية، وقد وضعوه على قطعة نقود تركية.

بخلع السلطان عبد الحميد زالت العقبة الكؤود التي كانت تمنع الصهاينة من تحقيق أهدافهم في فلسطين، وازداد النشاط الصهيوني في فلسطين خاصة وأن الحكم الجديد أبدى تأييداً رسمياً للحركة الصهيونية، "ولا شك أن موقف الاتحاديين هذا المؤيد للصهيونيين نابع من الروابط القوية بينهم من خلال الحركة الماسونية التي جمعت بينهما قبل استلام الاتحاديين الحكم. ولقد هاجم الرأي العام في الآستانة علناً في المساجد والصحافة ودوائر الحكم الاتحاديين والصهيونيين والماسونيين".

وقد استمر المخطط اليهودي ـ الغربي للقضاء على الخلافة الإسلامية، وكان خادمهم هذه المرة (مصطفى كمال أتاتورك) الذي كان عضواً في "جمعية الوطن التركية" ثم عضواً في "جمعية الاتحاد والترقي" ثم انضم إلى المحفل الماسوني "فيداتا". وعن حقيقة حركة أتاتورك التي أطاحت بالخلافة الإسلامية 1924 يقول "سيتون واتسون" "إن الأدمغة الحقيقة في حركة مصطفى كمال أتاتورك كانت يهودية سلانيك ومن الرأسماليين العالميين في فيينا أو بواديست وبرلين وربما  في باريس ولندن".

والدليل على ماسونية أتاتورك أن مبعوث تركيا أيامه إلى مؤتمر لوزان الذي عقد في باريس 1923م، كان الحاخام (حاييم ناعوم) كبير حاخامي اليهود، الذي رفض تعيين أتاتورك له بعد ذلك سفيراً لتركيا في أمريكا وفضل أن يكون حاخاما لليهود في مصر. لذلك ليس غريباً أن يوافق الوفد التركي على تلك الشروط المجحفة التي أملاها عليه اليهود والغرب الصليبي في مؤتمر لوزان وهي:

1- إلغاء الخلافة إلغاء تاماً.

2- طرد الخليفة خارج الحدود.

3- مصادرة أمواله.

4- إعلان علمانية الدولة.

وقد جاء في تفصيلات الشرط الرابع:

أولا: إدخال الحروف اللاتينية بدل العربية.

ثانيا: منع إقامة الأذان باللغة العربية.

ثالثا: وقف تعليم الدين والقرآن في المدارس.

رابعا: تغيير هيكل الحياة البشرية والتقاليد والأعراف كاستخدام القبعة بدل الطربوش، وإدخال سائر العادات الغربية.

وعلق نجاح المؤتمر على تحقيق الشروط وبالفعل طبق حكام تركيا هذه الشروط ولم تنسحب بريطانيا من تركيا حتى حققت تلك الشروط، وعندما احتجت المعارضة في مجلس العموم البريطاني على كروزن لاعترافه بتركيا. أجاب: "إن القضية التركية قد قضى عليها ولم تقم لها قائمة إننا قضينا على القوة المعنوية فيها وهي الخلافة الإسلامية". وأخيراً ارتاح الغرب من الخلافة الإسلامية التي كان يعتبرها البريطاني (سيرويلم): "سيادة تركيا على الآستانة عار على المدنية يجب محوه".

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ