-ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الخميس 15/04/2010


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


في إشكالية الحركات القومية ..

ـ النخب ـ

جلال /عقاب يحيى

مدخل :

بالانتقال من مظاهر الإشكالية في أهم تجلياتها، إلى جذورها، أو عواملها الرئيس، نجد أمامنا كمّاً كبيراً من المفاعلات المتداخلة التي شكّلت أرضية تلك الإشكالية، من جهة، وأبرز أسبابها القوية من جهة أخرى . ولأن الخوض التفصيلي فيها يتجاوز قدرة تحمّل سلسلة مقالات متتابعة، حيث أن إيفاءها حقها من البحث والتمحيص والكشف والنقد يحتاج إلى مؤلف كبير(كان لدينا مشروع مقدماته، وهو ناجز)، آثرنا الإيجاز، والمرور السريع على أهم تلك العوامل وظروفها، ومسارها ..

 

 النخب : تمهيد.. ودور ..ومسؤولية ..

 يجري الحديث كثيراً عن : موقع، ودور النخب في عموم الأحزاب السياسية، بما لها من أهمية في إنشاء وصياغة الأفكار وبلورتها، ونقل الوعي، وفي عمليات القيادة متعددة الأوجه، ومحاولات تجسيدها، أو ترجمتها في تشكيلات سياسية وقوى اجتماعية حاملة لها، أو معبّرة عنها، إلى هذه الدرجة أو تلك .

 

 في بيئة متخلفة، وبنى إنتاجية اختلاطية، تتعايش فيها أنماط إنتاجية ومعرفية متناقضة، ملتبسة( من رعوية وما قبلها إلى آخر منقولات أفكار وبضائع مجتمعات الاستهلاك)، وسط حالة ركود تاريخي تتصف بالتأخر، والفوات، والتكلّس، وضعف وتائر التطور، وبعوامل شدّ كثيرة للخلف عبر الماضوية متعددة المدارس والمشارب، ومن خلال تشابك الديني بالاجتماعي، بالمذهبي بالإثني، بمراحل الانحطاط والاحتلال والاستعمار، وثقافة تتسم بالفردية، والنمطية البدوية ـ العشائرية، والإقطاعية المتكرّشة رُغماً، وترهلاً لحمل جنينات برجوازية هزيلة الولادة، مصابة بفقر الدم والتغذية، ملحقة، وخدمية في أساسها، تابعة للخارج في علاقاتها وتسويقها وطرائقها وموادها المصنّعة، وفي سياساته الشمولية نحو البلدان المستَعمَرة (كأسواق تصريف ومنابع للمواد الخام وبعض الصناعات التحويلية)، المتشرّبة(ونقصد بها تلك التشكيلات بمجموعها) قدراً كبيراً من الأحادية، والاستبداد المكين الذي يتجاوز بعده التاريخي(حضارات الأنهار ومراكز المياه) باختلاطات إديولوجية دينية تقدد النص وترفعه إلى مرتبة القدسي غير القابل للتطوير أو المسّ، أو حتى الاقتراب منه، والمفسّر وفقاً لمصالح القوى الحاكمة والنافذة، وبشبكة من علاقات قيود ومراتبية القبيلة، والعادة، والدين، والمذهب، والمنطقة، والجهة، والأصول العرقية، وسط سيادة الجهل والأميّة والثقافة الشفاهية(على الأغلب)، وثقافة الخطاب المباشر الذي يخاطب الغرائز، والتهييج العاطفي، والعمومية، واللفظية بديلاً للبحث ومنهج النقد والتحليل والتركيب.. إلخ .

 

هذه التركيبة أفرزت(عموماً) نخباً وعلاقات ووعياً، وأحزاباً انعكاساً لها(إلى حدّ كبير)، وبما ينسجم ومستوى نضج تلك البنى، ومستوى قابلياتها على التطور، ومستوى التحديات الداخلية فيها، والخارجية عليها(سنمرّ على فعل تقليد الآخر الغربي، أو فعل القفز فوق المكوّن الواقعي، وآثار ذلك في المراحل اللاحقة ) .. فكانت حاملة لنقص المناعة : أصلاً وتوريثاً، ولقابليات الرجرجة التي تصل حدّ خيانة الأصول، والمبادئ التي ترفع، مع استعدادات مفتوحة، ونهمة للقبول بدور المطيع، والمدجّن، والموظف لدى السلطان وصاحب الحكم ورأس المال والنفوذ ....

 

وفي الوقت إيّاه تناط بالنخب أعباء كبيرة (استثنائية) لحمل هذا الواقع برمته على أكتاف التطوير والتغيير، ومواجهة مجموعة التحديّات الخطيرة، والمهام الجسيمة ـ الثقيلة، وباتجاه تقدمي يماشي حركة العصر، ومنجزات الحضارة البشرية، وموجبات فعل الثورة الحقيقية(أكتافها نظرياً)، وبما يفرض ـ موجباً ـ أن تكون بموقع القادر على الحمل، وبموقع المتقدّم مسافات على السائد، وبموقع المهيّأ طبقياً وفكرياً، ووعياً وتضحية وتجسيداً، وبموقع المتجاوز(بوعي وصدق) لإفرازات وعلاقات وحصيلة وحصون وتأثيرات تلك البنى المعيقة، المضادّة، عموماً.. حتى تكون نخباً بالفعل، وقادرة على لعب تلك الأدوار الاستثنائية، بل الأدوار الساحقة في عموم البلدان المتخلفة، ومثالها الوطن العربي(بتفاوت أوضاعه وبناه، وتشكيلاته الاجتماعية، وتاريخية الحركات الفكرية والسياسية فيه....) .

 

 لنقل أن الإشكالية كانت ـ منذ البدء ـ إشكالية مولد ناتج عن الظروف الموضوعية والذاتية للوطن العربي . ذلك أن الوطن العربي، ومنذ قرون بعيدة، بما في ذلك الفترة الزاهية للإمبراطورية العربية ـ الإسلامية، ساد فيه ما يعرف بأنماط إنتاج خاصة(تسمياتها كثيرة، وأشهرها : نمط الإنتاج الآسيوي)، والمختلفة عمّا عرفته أوربا من تراتبية طبقية شبه متعاقبة، وتخوم أفصح بين الطبقات . وهي أنماط شديدة المركزة، استبدادية المحتوى، أحادية الاتجاه، حابسة ومقيّدة للتطور وللاتجاهات والآراء الأخرى المخالفة، يلعب الريع دوراً مهماً فيها ويتلاقى مع النمط التجاري وفعله البارز، ونتاجه المعرفي ـ السياسي، ونظام رعوي متشارك، إلى هذه الدرجة أو تلك، مع النمط الزراعي، في إطار ملكية زراعية يختلط فيها تفسير ((ملكية الأرض لله)) مع وضع اليد عليها، أو الكثير منها من قبل الفئة الحاكمة، والتي تشكّل ما يشبه الروافد العكرة التي تصبّ جميعها، في النهاية، في أقنية الحاكم بأمره، القابض بقوة على مجمل الأوضاع، والتي لم تسمح(على الأغلب) في تشكيل إقطاعات كبيرة، مستقرة، واضحة في معالم إنتاجها وثقافتها، مخالفة ومتناقضة مع ما قبلها من أنماط رعوية وبدائية، إلى جانب مركزة المال(بيت المال)، والقرار في يد الفئات الحاكمة ومن يواليها ـ وبما فيه موقع ودور العامل الديني وتماوجاته وموجباته وسلبياته، وركوبه من قبل القوى الحاكمة، وطريقة تفسيره واستخدامه، وموقعه من الحاكمية، ومن الانقسامات الدينية والمذهبية، ومن الثقافة السائدة.. إلخ..

 

وبدورها : الحالة الإقطاعية المتناثرة، المتحلقة حول الحاكم وعطاءاته.. لم تسمح بتوفير الظروف للانتقال إلى الصناعة والإنتاج الآلي الذي يخلق طبقة عاملة كبيرة العدد، واضحة التخوم.. بما يوفّر الشروط للثورة على السائد، وفتح طريق التطور البرجوازي، على غرار الحالة الأوربية عموماً، التي حققت مجموعة من الإنجازات العملاقة في عموم الميادين، وتمكّنت من إحراز السبق على بقية الأوضاع والنظم(الحالة العثمانية في المشرق).

 

لهذه الأسباب المتضافرة كان الوطن العربي، على العموم، وفي معظم أرجائه، ومراحل سيروراته، يشهد حالة انحباس داخلي، وتكوّر يزيدها انغلاقاً الانهيار والتراجع والأزمات السياسية، والحروب الداخلية والخارجية، أدّت إلى وضع راكد خنق حركية التطور، ومنع(إلى درجة كبيرة) تطور، وفرز بنى وقوى إنتاج مفتوحة الأفق على الحياة، وبما يوفر شروط الانتقال إلى مراحل أخرى متقدمة، وبما يفتح الطريق على دينامية الفكر والسياسة، وعلاقات الإنتاج، والتي ترافقت مع تراجع كبير في عموم الميادين : الفكرية والفلسفية، والإنجازات العلمية، والأدب وغيره (خاصة في المرحلة التي يطلق عليها : عصر الانحطاط، ومرحلة " ملوك الطوائف" والمماليك).

 

 وإذا ما أضفنا إلى هذه الحالة التي استمرّت قروناً(توّجتها مراحل الفكفكفة والانهيارات والاستقلالات المتعرّجة، المتداخلة)، مراحل الاحتلال العثماني المتسمة(في معظم فتراتها) بنمطية متخلفة تزواج بين الحكم الإقطاعي المدمج بالعسكري، بالشمولي ـ القهري، المحشو بالمصادرة، والقمع والقتل والنهب وفرض الضرائب الباهظة، وتفقير الشعب وتجهيله، والتخثر الفكري والثقافي الذي أدى إلى تراجع(الإمبراطورية العثمانية) عن الركب الحضاري بمسافات كانت تتسع مع مرور الأيام، ومع تلك القفزات الهائلة التي حققها الغرب، بدءاً باكتشاف الآلة البخارية واستخدامها، إلى الكشوفات الجغرافية، إلى الثورة(البرجوازية ـ الفكرية) الشاملة لتحرير العقل والأفكار والاقتصاد من كل المعيقات، وفصل الكنيسة والدين عن الدولة، وإطلاق الحريات الديمقراطية على مدياتها القصوى، إلى الانتقال لاستعمار العالم ووضع اليد عليه، وما فعله ذلك من تراكم وتكديس الثروات، ومن القدرة على حصار الإمبراطورية العثمانية وتجريدها من أطرافها، ثم الوصول إلى عمقها، في وقت كانت تركيا ترسف فيه تحت سيطرة استبدادية عاتية، بالية يمثلها السلطان صاحب الصلاحيات المطلقة، الممسك بالسلطتين : الدينية والسياسية، بله بجميع السلطات، وعبر تلك الشبكة من المتصرفين والمتعهدين(العائلة والحاشية وقادة الجيش والأجهزة ـ من أصول انكشارية في الأغلب)، إضافة إلى تشديد القبضة على البلدان العربية، خاصة تلك القريبة من السلطنة ومحاولة إلحاقها تبعياً بالإدارة، وسَوق خيرة علمائها ومهنيها إلى تركيا تحت هذه الذريعة أو تلك، دون أن ننسى موقع وأثر ونتائج سلسلة الحروب المتواصلة التي خاضتها تركيا للتوسع، أو الدفاع عن حدودها الإمبراطورية، أو اتقاء الاعتداءات عليها، والتي استنزفتها مالياً واقتصادياً، وأنهكتها في جميع المجالات، واضطرتها للاستدانة، ثم الانصياع لنظام الامتيازات وشروطه المتصاعدة(تدخّلات مباشرة في شؤون الحكم و"الرعايا")، وللاحتماء بتحالفات خاسرة كلفتها الكثير، ناهيك عن دور النزعة العسكرية في صياغة الشخصية والفكر والعلاقات، وبصماتها القوية في الحكم والسياسة وتكوين النخب، وفي الهباء الذي لا يعود الإنفاق الكبير فيه لصالح تقدّم البلاد وتصنيعها وتطويرها اقتصادياً ...

 

ـ مرحلة الاستعمار الأوربي، وإن حملت، في بعض وجوهها، فكراً جديداً يتسم بالانفتاح، والدعوة إلى التحديث والحريات الديمقراطية، وجملة عطاءات الغرب الفكرية والعلمية والحضارية، بما في ذلك نظم الحكم الجمهورية القائمة على الانتخابات النيابية، والمشاركة الشعبية، والفصل بين السلطات، وإبعاد الدين عن الحكم، والتوجهات القومية المدججة بعديد الوحدات القومية التي قامت، وتقدّم النظم القانونية، والعسكرية، والإدارة، والعدالة، والمعاملة مع المواطن(نوع من استقلالية القضاء)، وتعزيز مفهوم ومساحة وحقوق المواطنية، ونشر التعليم والمطابع والصحف، والمفاهيم الجديدة عن العالم..إلخ ..

 

إلا أن الهدف الرئيس لحركة الاستعمار لم يكن، بالتأكيد، تقدّم وعمران البلدان المستعمَرة(كما يوهم المصطلح)، وإنما، وأساساً : السيطرة على الموارد والمواد الأولية والأيدي العاملة الرخيصة، وتحويلها(تلك اتلبلدان) إلى أسواق للتصريف والاستهلاك، وإلى مناطق مساعدة في عمليات التصنيع(ملحقات)، ناهيك عن الجانب العسكري الخاص بتنافس وتصارع تلك الدول فيما بينها، دون إغفال، أو تقليل أهمية العامل(الإيديولوجي ـ الحضاري) الذي يبدو شديد الوضوح في (المسألة العربية)، وكثير الكيدية والتركيز في ضرب المشاريع الوحدوية والنهضوية المستقلة(تجربة محمد علي الأشمل والأوضح والتي ُضربت بالقوة، ثم فُرض عليه التراجع والنكوص)، وتكريس وترسيم وموضعة التجزئة القومية، واغتصاب فلسطين وتحويلها إلى قاعدة متقدمة للإمبريالية والصهيونية العالمية ......

 

 ما يهمّ هنا أن المستعمر(الذي وحّد العالم بطريقة تعسفية ـ فرْضية)، وأخضعه، وقفز به إلى مصاف المرحلة التي وصلها هو(ولو نظرياً وبرقعياً، وشكلانياً فوقياً) قد قطع فعلاً طريق التطور الطبيعي لتلك البلدان بعملية قسرية ـ قيصرية، اختلاطية، تصنيعية ـ تركيبية، بفرض نمطه على البنى والقوى، وإخضاعها لآلياته، وما استدعاه ذلك من إيجاد طواقم وفئات وطبقات متناغمة معه، ملبيّة لسياساته، وإقامة بعض الصناعات الخدمية والتحويلية، وورشات العمل والمشاريع التي تسند وجوده واقتصاده وحروبه، ومقتضيات ضبط الأوضاع والتحكم فيها(شبكات الطرق والسكك الحديدية والمطارات والموانئ ـ مناطق تخزين العتاد والأغذية، وإقامة بعض المنشآت والصناعات الأولية.. وغيرها) بما أدّى إلى ما يشبه الولادة العسيرة(أو الحمل الكاذب) لفئات اجتماعية من منبت إقطاعي وعشائري وديني ، وتجاري، وحِرفي التحقت به وبمشاريعه واقتصاده دونما حاجة للثورة على واقعها بالذات، أو القطع معه، والتي أقام بعضها عدداً من الصناعات التحويلية المكمّلة(بعضها حاول منافسته لاحقاً ولو بحدود)، بينما اشتغل كثيرها في الترويج والسمسرة والعمولة والتوكيل . أي أن تلك (التطورات) لم تكن أكثر من قشرة رقيقة ـ سطحية، تصالحية، ظرفية، وليست نتاج تطور طبيعي لبنى وقوى وعلاقات الإنتاج المحلية، بما نجم عنه اختلاط جديد، وتداخل أكثر تعقيداً في تركيب الطبقات ومواقعها، وصعود بعض الفئات إلى العمل السياسي ومحاولة خلافته عبر إبقاء النوافذ مفتوحة له ولنفوذه.. الأمر الذي صعّب قيام طبقة برجوازية وطنية متعضدية، مستقلة، قادرة على إنجاز ثورتها الخاصة، وبالتالي : طبقة عاملة حديثة، كبيرة الحجم، متعضدية بحدود واضحة عن بقية الفئات الاجتماعية، أو عن أصولها التي جاءت منها . كما فتح هذا الوضع المجال لصعود الفئات الوسطى ـ الوسطية، والبرجوازية الصغيرة بشرائحها المتعددة(خاصة المثقفة والعسكرية) .

 

وبالوقت نفسه.. فإن وجود هذا الوافد المتقدّم(الذي سبقته في عديد البلدان العربية طلائعه : بعثات التبشير والمدارس التابعة لها، وحركة الطباعة والترجمة، والنشر، والصحافة، وفي الانتقال للغرب طلباً للعلم والعمل، وأفكاره المبثوثة بوسائل متعددة) ساهم في نشر ثقافة جديدة : حداثية، عصرية مختلفة جذرياً عن السائد، وبعيدة عنه بمسافات كبيرة، فاستقطبت غالبية النخب المتعلمة، وفئات واسعة من أبناء الإقطاع والوجهاء والعشائر.. فيما يعتبر بدايات إرهاصات الأفكار العلمانية ـ التحررية، التي عرفت شيئاً من البلورة عبر الحركات القومية وغيرها(الحالة الشيوعية وإن التقت في المصبّ إياه، إلا أن نشأتها جاءت بتأثير رئيس من انتصار الثورة البلشفية في روسيا، وزخم سنواتها الأولى، ثم ما اتسمت به المرحلة من ولادة وصعود حركات التحرر الوطني والقومي وتحولاتها المتعاقبة)، و التي نهضت تباعاً : تأثراً بحضارته من جهة، وبالنقيض لوجوده في الوقت نفسه من جهة أخرى(النقيض يتأتى من كون معظمها تصدى لمرحلة التحرر من المستعمر، وساهم، بأشكال مختلفة، في الوصول إلى الاستقلال) وهو بدوره ما مثّل حالة تناقضية برزت في المنعطفات والامتحانات الرئيسة التي تلت مرحلة الاستقلال .

 

 وبشكل عام، ورغم الدور الوطني، الصناعي، التنويري، الإنتاجي لشرائح برجوازية عربية حاولت قيادة مرحلة التحرر الوطني، أو التفاوض على الاستقلال مع المستعمر وخلافته، وقطعها شوطاً بعيداً، ومهمّاً في إرساء الحياة الديمقراطية، وإطلاق الحرّيات العامة(صحافة وأحزاب)، وتنظيم انتخابات نيابية متعددة.. فتحت مصاريع التطور المجتمعي السريع، ومهدت الطرق لانتشار وصعود الحركات القومية، والسياسية بشكل عام، ولحراك شعبي لم تعرفه المنطقة من قبل ..

 

 إلا أن حجم تلك القوى، وقدرتها المحدودة على الهيمنة(الاقتصادية والفكرية والمجتمعية)، وعجزها عن النهوض بالأعباء الثقيلة التي خلّفها المستعمر داخلياً، وخصوصاً على جبهة مواجهة الوجود الصهيوني المدعّم منه، وما لحقها من هزيمة منكرة في حرب ال1948..تلك الوقائع، رغم الزمن القصير، والتشعّب، إلا أنها أبانت خللاً كبيراً في بنية وطاقة تلك الشرائح على القيام بالثورة البرجوازية ـ القومية ـ التحررية..مما اضطرها، مرغمة إلى المساومة مع المستعمر السابق وبقاياه، واضطرارها، أيضاً، إلى توسيع حجم الجيش، وبالتالي : دوره، وتدخله في الحياة السياسية بشكل مباشر، وعنيف، أو من خلف الستار.. بما أوجد عاملاً جديداً أخلّ جذرياً بميزان القوى الداخلي، ووضع تلك المرحلة في مهبّ الانقلابات العسكرية المتتالية(كثيرة، ومتعددة الخلفيات)، وعلى مرمى القوى القومية الصاعدة التي تطرح نفسها بديلاً .

 

 في واقع الحال فإن نسبة الطبقة الوسطى، والتالية لها(برجوازية صغيرة) هي الأعلى في بلدان شبه زراعية، شبه رعوية، مطعّمة ببعض الصناعات الوطنية المحدودة . الطبقة الوسطى، خاصة فئاتها البرجوازية الصغيرة، وشرائحها المثقفة والطلابية، والعسكرية على وجه الخصوص.. تملك، ولأسباب متعددة، قابليات كبيرة على العمل السياسي وتلقف الأفكار الجديدة، والنزوع لمحاولة تغيير واقعها، والواقع بشكل عام، وهي شديدة الطموح لمنافسة البرجوازية الأكبر والحلول مكانها . ولأنها الخزان الأوسع للحراك المجتمعي.. فإن جلّ النخب السياسية تنتمي إليها، أو محسوبة عليها(بما في ذلك أغلبية الجماهير والمؤيدين) .

 

هذا على العموم، ولكن عند التدقيق والتمحيص، ورغم عديد الدراسات والكتابات التي شرّحت وشرشحت البرجوازية الصغيرة، ونسبت إليها كل أسباب الإخفاق، والأزمات المتعاقبة، والارتداد، وغيره كثير من التوصيفات الشائعة عن طبيعتها الزئبقية، وشرائحها المختلفة، وحركيتها غير المستقرة، وانتهازيتها، وتسلقيتها الطبقية، خصوصاً في الأدبيات الماركسية الطبقوية، وعند اليسراويين القوميين المصابين بهذه اللوثة الطبقية، ومحاولة تعليق كل أسباب الفشل والأزمة على ذلك المشجب ـ بشكل رئيس، وحصري، أحياناً.. فإن الإنصاف يدعو إلى التأكيد على أن البرجوازية الصغيرة(إذا ما عتبرناها طبقة، خاصة فئاتها الحرفية والمهنية والزراعية) كانت بعيدة ومُبعدة عن موقع القيادة والتأثير، وحتى المشاركة الواضحة، ويعود الأمر إلى شرائح بعينها محسوبة (بهذه الطريقة أو تلك) على البرجوازية الصغيرة، وهي التي تصدّرت وقادت وتحمّلت مسؤولية المراحل اللاحقة، ونخصّ منها أبناء الفئات شبه الميسورة، وأبناء الفلاحين والريف(وليس الفلاحين) الذين تلقّوا قسطا من التعليم الجامعي وغيره، وضباط الجيش برتبهم المختلفة(خاصة الوسطى والصغيرة)، بينما ندر وجود قيادات من أصول حرفية، أو تجارية، أو صناعية صغيرة، أو فلاحين بشتى مواقعهم الطبقية، ناهيك عن الحجم المتناقص، والمبتور لأبناء المدن والتجمعات الكبرى الحضرية.. مما سيكون له(بدوره) أثره في إشكاليات الحركات القومية، خاصة بعد وصول بعضها إلى السلطة، وبعد بدء امتحانها وطروحاتها وشعاراتها مع الواقع، وهو ما سنحاول توضيحه لاحقاً .

 

نعم، كانت بدايات معظم الحركات القومية، والسياسية على يد فئات تلقّت تعليمها العالي في الخارج، أو في الجامعة. أي من أبناء طبقة وسطى وأكبر قادرة على تحمّل أعباء تعليم الأبناء، وهو الذي لم يكن متاحاً إلا لقلة في المدينة، وأقلّ منها بكثير في الأرياف(أبناء الوجهاء والمتنفّذين والملاكين) . ولذلك نلاحظ أن معظم الأحزاب السياسية، خاصة القومية، انطلقت من الجامعات والمعاهد التعليمية وانتشرت فيها لوقت طويل، ثم حمل هؤلاء تلك الأفكار إلى ديارهم وأقطارهم وأماكن سكناهم، وعملوا على التعريف بها وكسب المؤيدين لها في أوساط محدودة (متعلمة على الأغلب).. بما وسم تلك الحركات بتلك السمات : التبشيرية ـ التعليمية ـ العاطفية ـ النخبوية ـ الزئبقية طبقياً، واستمر ذلك لبعض الوقت، انتظاراً لانتعاش الحراك الشعبي في ميادين تسخين شعارات تحرير فلسطين، ومواجهات عبد الناصر مع الاستعمار وقواعده وأحلافه(خاصة العدوان الثلاثي ـ 1956)، وتصاعد المدّ الوحدوي ـ التحرري الذي فتح جميع المجالات لانخراط فئات شعبية واسعة في العمل السياسي .

 

 ومع تضخّم الجيش(لضرورات مواجهة العدو الصهيوني)، وفتح التعليم أمام الفقراء والطبقات الدنيا من أبناء الفلاحين وفقراء المدن.. جرى تغيير لاحق في بنية النخب بغلبة هؤلاء فيها، ثم عليها، فاندفعت تلك الفئات المحسوبة على البرجوازية الصغيرة بأعداد غفيرة إلى العمل السياسي حتى أصبحت الثقل الواضح في معظم الأحزاب القومية والاشتراكية وحتى الإسلامية وغيرها، وكان وجود أبناء الريف واضحاً، وفي حركية متنامية، ثم طاغياً(يبرز ذلك جليّاً في حركة البعث العربي بعد اندماجها مع العربي الاشتراكي، ومع التطورات اللاحقة، خصوصاً بعد الوحدة المصرية السورية التي انزاح منها كثير من أبناء المدن للالتحاق بالحركة الناصرية وتعبيراتها ـ اللاحقة ـ المختلفة، فرجح ثقل أبناء الريف، ولاحقها ذلك بعد الوصول إلى الحكم ) .

****

النخب التي يفترض فيها، والمطلوب منها أن تكون متقدّمة على السائد بمسافات تسمح لها بجذبه نحو فكرها، ومن ثم القيام بعملية التغيير التي تتوافق والمهام، والشعارات، والبرامج العامّة المطروحة . إلا أنه، وفي معظم الحالات، والأحزاب، لم تكن تلك المسافة واضحة جيداً، ومبلورة بشكل منهجي ـ موضوعي يتيح رسم خطوط وتخوم التمييز، خاصة على صعيد التركيبة، وجوهر الوعي، والممارسة التي أبانت تلك الخالوطة المرتبكة، المتناقضة، خاصة على صعيد امتدادات السائد فيها، وتأثيره عليها(إلى هذه الدرجة أو تلك ـ خصوصاً في المنعطفات والامتحانات المطلوبة التي تتجاوز الشعارات والخطابات والتشدّق إلى عمق الأفكار وتأصلها، وأصالة الانتماء إلى خطّ معيّن، وهوية ذلك الانتماء ومقتضياته في الميدان) .

 

 وبقدر ما بدت عديد النخب طموحة للتغيير، وللانسجام مع الأفكار الجديدة التي تعتنقها، بقدر ما كانت في عمقها، وثقافتها البيئية القوية فيها رهينة حالة من الازدواجية والتناقض بما يشبه الانفصام غير المعلن، والذي استغرق بعض الوقت للإفصاح عن سماته وخيوطه المتصارعة بشكل كئيب وبائس . فهي تحمل آمال وشعارات وأفكار التحديث، والقضاء على الجهل والفقر والتخلف(وغيره كثير)، وتتطلّع إلى بناء مجتمعات متقدّمة، متطورة، تتجاوز بنى التخلف، والدينية والمذهبية العائق، والعنصرية، والإقليمية، ومجمل تركة القرون المفوّتة، وبالوقت نفسه ليست متخلصة تماماً من آثار تلك التركيبة والثقافة والتركة، فبدت شكلانياً : قفّازة تشبه الحالة البهلوانية (خصوصاً في مراحل ما قبل الحكم)، تميل إلى الشطحات الفاصمة التي لا تمتّ للواقع بصلات تسمح بتغييره من داخله، وليس عبر تحديه اللفظي، الاستهتاري، التنظيري، وبالوقت نفسه فقابلياتها للمصالحة معه ومهادنته، بل واستغلاله وركوبه(عند الحاجة) كبيرة ولا حدود لها . وهي حقيقة(سوى ما ندر) لم تحقق القطع الواعي ـ المصلحي مع بيئتها لتكون جديرة بالتغيير، ومهيأة له ـ كنخب ـ وقادرة على تجسيد الأماني وليس استغلالها وركوبها وتجويفها لصالحها الخاص .

 

وعلى الجبهة الحيوية الأخرى : جبهة المؤسسة العسكرية، فإن اللوحة أكثر قسوة، وتهشّماً، وقابلية للرجعة المتخلفة، ذلك أنه ورغم تلك الفورة الحماسية، الاندفاعية في الإقبال على العلم، والجيش، والسياسة، والشأن العام، ورغم العواطف الوطنية والقومية، والنوايا الصادقة في الدفاع عن تراب الوطن و"تحرير فلسطين".. فإن ظروف هؤلاء العسكريين لم تسمح بتكوّنهم في مدرسة الأفكار الجديدة التي يعتنقون، وبها ينادون، كي يعوها بعد تشرّبها وتمثّلها، فقد كانت مرحلة ما قبل تطوّعهم في الكليات العسكرية قصيرة لا تتعدى بضع سنوات المرحلة الثانوية العاجّة بالمظهرية والعمل التظاهري الفقير إلى التثقيف والتأمل والتحليل والتركيب، ولم يكن عمرهم الشاب يسمح بإنضاج ما يؤمنون به، مثلما لم تكن الأحزاب(ونعني بها هنا القومية بالتحديد) تملك خبرات ومؤهلات وبرامج ومرجعيات لإعداد عناصرها إعداداً يليق بحجم الآمال والأفكار المبثوثة، وبما يتجاوز الجانب المظهري ـ الشعاري ـ العام إلى العمق . وعندما انخرطوا في الجيش كانت تأثيراته أقوى فشكّلهم فيه (إلا ما ندر) وفقاً للسائد فيه . والسائد، عدا عن طبيعة الحياة العسكرية التراتبية، القائمة على القوة والضبط والأمر والتنفيذ، والاستخفاف بالحوار والنقاش والحياة المدنية(ناهيك عن التعددية والاختلاف وحرية الرأي)، هو الإقبال المفتوح على التدخّل في السياسة بتلك الطريقة المباشرة، الفجّة، والفرْضية، واستسهال الانقلابات العسكرية في الزمان والمكان اللذين يتفق فيهما مجموعة ضباط على التحرّك باتجاه الإذاعة والتلفزة والقصر الجمهوري وبثّ البيان رقم واحد(الذي يجد من يؤيّده ويصفّق له من النخب السياسية).. مما كان له أثره الواضح في بنية وتفكير معظم الضباط(الصغار قبل الكبار)، والذي يعني : إمكانية تطويع البلد، والأحزاب، والنخب المدنية لمشيئة تلك المجموعة الصغيرة من الضباط، واختراق منظومة الدستور والقوانين والمؤسسات، ومفهوم الدولة والاستقرار، بله الدوس عليها بسهولة لا تجد كبير غضاضة عند الأغلبية من السياسيين.. الذين كثيراً ما تعاملوا مع تلك الانقلابات، والتحركات، والضغوط العسكرية المتناوبة ـ المتعددة بنوع من الارتياح، والتواطؤ، والأمل بركوبها ..

****

وبشكل عام، فالنخب العربية لم تكن نخباً مهيّأة للمضي بعيداً في تجسيد الأفكار التي طرحتها، والسير بها مسافات معقولة، ناهيك عن عجزها الفاضح في إحداث الثورة القومية الوحدوية، الديمقراطية(كما كانت تنادي وتقول)، لذلك كانت قابلياتها كبيرة، ومفتوحة على الأرجحة، والتراجع، والخيانة(خيانة الأهداف)، والنكوص إلى قاع التخلف وعلاقاته، والاستنجاد به، وتوظيفه بصور درامية فاجعية.. تتخطى فيها الواقع الذي ادعت أنها قامت لرفضه وتغييره . يحدث ذلك ليس عند أول امتحانات لها في الواقع وحسب، وإنما بأشكال كثيرة متدرّجة، خصوصاً بعد وصولها للحكم وتذوّق طعم التحكم، والثروة، والرفاه، حين تبدأ بتغيير جلدها المظهري، والانقلاب على أمسها بطريقة فاحشة لا تحرّم فيها ممنوعاً آبقاً، حتى لو وصل مرتبة النهب وارتهان القرار الوطني، ومرتبة فعس ودعس المبادئ التي تواصل رفع صداها ليل نهار .

 

 إن هشاشة النخب، وشبكة روافد تكوينها : التناقضي، الالتقاطي، المتصالح عمقاً مع السائد، الرافض مظهرياً له، جعلها من طينة رخوة مليئة بالقابليات على الاستخدام المزدوج . قابلية أن تكون بوقاً، وجسراً، وغطاءً، ومطيّة للحاكم (بغض النظر عن قربه وبعده مما يُطرح من شعارات)، وقابلية أكبر على الاستقواء ببنى التخلف طالما أنها مفيدة لها، وحامية لمصالحها وبقائها في موقع المستفيد، والناهب، والمتحكم ـ وهو ما سنتابعه في المقال اللاحق حول القيادات ودورها ..

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ