-ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد 13/12/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


"بلا زُغرَة، إنت مِن عيلة مِين...؟!"

الدكتور عبد القادر حسين ياسين*

في كتابه القيم Man and Superman  يقول الكاتب الآيرلندي الشهير جورج بيرنارد شو (1856  1950) أن أحد اللوردات الإنجليز شاهده في حفلة ساهرة دعت إليها أسرة عريقة   من ذوات "الدم الأزرق" فنظر إليه من وراء "المونوكل" وسأله:

"مستر شو ،  من أي الأُسر أنت؟‏"

أجابه بيرناردشو: "إنني لست من أسرة نبيلة ، كما أنت يا سيّدي اللورد... ، ولكن مجد أهلك يا سيدي اللورد ينتهي بك أما مجد أهلي فيبدأ بي!!‏ "

ولم يكن بيرناردشو مغالياً فيما قال، لأن اللورد ذهب ربما تاركاً وراءه ثروة خرافية من المال  ، كما لم يعد أحد يذكر اسم صاحبه اللورد صاحب "المونوكل"، بينما بقي اسم بيرناردشو يتردّد إلى يومنا هذا.

إن ما تركه الكاتب الايرلندي الأشهر بعد رحيله عن الدنيا لا يقدّر بثمن، وكان جوابه رداً على سؤال اللورد دليل إدراكه لمكانة الأدب عبر تاريخ البشريّة التواقة إلى المعرفة أكثر مما هي تواقة إلى ما يملأ الجيوب من دون نفع.‏

تذكرت ما قاله بيرنارد شو في الأسبوع الماضي عندما ألحَّ عليّ صديق لحضور حفل زفاف إبنته في غوثنبيرغ . ومع أنني لا أحضر حفلات الزفاف ، فقد كنت مضطراً للمشاركة ، بعد أن حلف بالطلاق...

وفي قاعة الاحتفال التي جهزت بما لذ وطاب ، فوجئت بوجود العديد من "وجهاء" الجالية الفلسطينية في غوثنبيرغ (كنت أعتقد ، لفرط سذاجتي ، أن هؤلاء  أقصد "الوجهاء"  إنقرضوا منذ سنوات...!!)  أحدهم  (من أصحاب "كروش الوجاهة") كان يتحدث بصوت عالٍ محاولا أن يسمع كل من يعنيه (ومن لا يعنيه) الأمر بأن الفودكا كانت السبب في تلف كبده...ولكنه "تعود عليها"

"وجيه" آخر كان ينفث دخان سيجاره الكوبي في وجوه البسطاء من عباد الله... ومع أنني لا أشرب ولا أدخن ، لاحظت أن كليهما ؛حديثا عهد"  كما يقول السوريون   فالأول كان يشرب الفودكا  كما يشرب الصعايدة "عصير القصب" ؛ أما الآخر فكان سعاله يوحي بأنه إنتقل  بقدرة قادر  من تدخين "الهيشي" الى السيجار الهافاني الفاخر بسرعة الصاروخ ("يرزق من يشاء بغير حساب" ، كما أن الله "يحب أن يرى أثر نعمته على عبده...!!").

قدمني المضيف ، والد العروس، الى ضيفيه. سألني الأول : "بلا زغرة ؛ إنت من عيلة مين..؟..إبراهيم  يقصد المضيف   قال لي إنك من عيلة ياسين .. أظن أني بعرف المرحوم أبوك... لما كنت أتعامل معه في تخليص البضائع من الجمارك... كان للحج الله يرحمه أفضال على الموظفين... إطعم الثم تستحي العين.."

وقلت له ، وأنا أنظر اليه وهو "يكرع" الفودكا: "أنا لست من عائلة ياسين وكيل شركات الملاحة العالمية وصاحب العديد من شركات شحن وتخليص البضائع.." وقاطعني الضيف الآخر ( صاحب السيجار) :

"أنتو أكيد من عيلة ياسين تاجر المجوهرات ...ثلث ترباع محلات الذهب والمجوهرات في سوق البخارية لأبوك"..

وأعترف بأن مثل هذا الهراء يصيبني بحالة من " المغص" المفاجئ...  ولكي يثبت أنه يعرف والدي "تاجر الذهب" ، أشار بيده الى المضيف وقال : " هاظا الخاتم اشتريته من عنده...وترجيته يراعيني في السعر ، بس مرظيش...كان طماع... كبل [قبل] مطلع من الدكانة كلتله [قلت له] : يا زلمة الطمع في الدين" (!!)

وبعد أن طفح الكيل ، رأيت أن أضع الأمور في نصابها... فقلت له : أنا يا سيدي الفاضل ، لست "إبن عيلة"... أنا فلاح إبن فلاح... والدي ليس وكيل شركات ملاحة عالمية ، ولا تاجر مجوهرات... حتى ولا حاج... والدي ، يا سيدي الفاضل ، كان "زبالا" في المخيم ، كان يجمع "الزبالة" من زواريب المخيم ويحرقها كي لا تتفشى الأمراض ، مقابل بضعة دنانير يشتري بها ما يسد جوع أطفاله و "الجوع كافر" يا سيدي ، وكان "يقوم بغسل الأموات قبل الدفن ، وكان "يسحر" الناس في رمضان ، ليس حباً في "الورع" و "التقوى" ، ولا طمعا في دخول الجنة التي أعدها الله للمتقين ،  وإنما لكي يجود علينا "المحسنون" بصدقة الفطر يوم العيد...الفرصة الوحيدة للأسرة لكي تتذوق شيئا يسمى "لحمة"..

وتذكرت أنني في "عرس" ، ولم أرغب في "النكد" و التنكيد" والاستطراد ، مراعاة مني لمشاعر الصديق الكريم الذي تفضل بدعوتي .

في تقديري أن حكاية كهذه (أقصد حكابة بيرنارد شو مع اللورد صاحب "المونوكل") تصلح لكل زمان ومكان ، خصوصاً في زمن الادعاء بأن حسابك المصرفي هو الذي يقرر مكانك ومكانتك في المجتمع ، وأن العالم ينتهي عند صاحب الشعور بأنه أكمل ما عليه من التزامات تجاه الأدب إذا كان أديباً، وتجاه العلم إن كان عالماً.‏

نرى في أيامنا هذه نماذج كثيرة من الكتاب والمثقفين الذين يصابون بالعقم لإقناعهم أنفسهم بأنهم أعطوا أفضل ما لديهم كأنه الكمال بعينه، بمعنى نهاية المطاف على درب الكتابة على غرار الادعاء في مجالات أخرى.‏

إن يقيناً كهذا اليقين يعتقد به صاحبه لسبب أو لآخر، لابدّ أن يطوّق قدرته على إعطاء ما كان يمكن أن يعطيه لو أنه أفسح المجال لنفسه.‏

ثمة العشرات من الكتاب الذين وإن بلغت شهرتهم الآفاق  بما حققوه من إنجازات على صعيد التأليف وقطف الجوائز العالميّة، لا زالوا مستمرين بالكتابة، وذلك لايمانهم بأن عليهم أن يكتبوا ما يعتقدون أنه الأفضل والأرقى.‏

إن وسائل الإعلام المقروء والمرئي والمسموع توفر لأبناء الجيل الحالي الوسائل التي تمكنهم من الاستمرار في مواصلة السير على درب الكتابة وما إلى ذلك من الهوايات الراقية، وكلّها مجالات تفسح المجال للمواهب الحقيقيّة كي تعلن عن نفسها إذا شاء أصحابها أن يختاروا مواقع مناسبة لأنفسهم فيها.‏

بقي على هؤلاء أن يقرّروا السير ، وأن لا يتوقفوا عند أول كلمة إطراء يسمعونها أو أول نجاح يعتقدون أنهم حققوه، وأن لا يصرخوا‏  قبل الأوان : انظروا أنا هنا، بل أنا وحدي هنا.‏

و"على قدر العزم تأتي العزائم".

ــــــــــ

* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في السويد.

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ