-ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء 28/10/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


اغتيال الأرقام

الموضوعية والوجدان توأمان لا ينفصلان

نبيل شبيب

المعروف عند عموم العرب والمسلمين أنه قد قتل في العراق مليون أو أكثر أو أقل من أهله في حرب احتلاله.. وشرد "بضعة ملايين"، وشوّه عدد غير معروف، ومات نتيجة اليورانيوم المنضب والحصار ومنع الدواء عدد غير معروف.

وقُتل في العراق وجُرح من الغزاة من مختلف البلدان عدد معروف يوما بيوم عند أهل بلدانهم، وليس المقصود هنا "حجم" الأرقام كما، بل كونها محددة معروفة، وموضع اهتمام، باعتبار القتلى والمصابين من "البشر".

في فلسطين عدد القتلى معروف لأهل فلسطين عموما، إنما يدور الحديث غالبا بصيغة قُتل عشرات أو مئات وأصيب ألوف وشرد عشرات الألوف ومئات الألوف، في حرب بعد حرب وعدوان بعد عدوان، أما المعتقلون والأسرى من أهل فلسطين فألوف بعد ألوف، وتبلغ نسبتهم إلى مجموع أهل فلسطين المنكوبين النصف أو أكثر، ثم تطالعنا الأخبار بوجود "عدد ما" من المعتقلين العرب في السجون الإسرائيلية، ويوجد "الألوف" من أهل كل بلد عربي في سجون البلدان العربية، وعشرات.. أو مئات أو أكثر أو أقل من الفلسطينيين في السجون المصرية، وعلى الأرجح في سجون "عربية" أخرى، بعضها في "الهواء الطلق" ما بين الحدود!..

لا نكاد نسمع نشرة أخبار -من إذاعة أو تلفاز فيهما يوجد بعض الاهتمام بالبشر والأوطان- إلا ونسمع عن مزيد من الأرقام، فالسلطات الإسرائيلية اعتقلت "تسعة" أو أكثر أو أقل من الفلسطينيين في الضفة الغربية هذا اليوم، وربما أضيف إليهم رقم يتحدث عن قتلى، من ضحايا الأنفاق بين غزة الفلسطينية العربية وسيناء المصرية العربية.. وقد يأتي بين هؤلاء وهؤلاء نبأ عن اعتقال فلان من الحقوقيين في سورية، أو العلماء في السعودية، أو النقابيين في تونس، أو الحزبيين في المغرب.. هذا علاوة على مسلسل أرقام القتلى والمشردين في الفوضى الهدامة بباكستان وأفغانستان والصومال والسودان، وحتى في إيران وجنوب تركيا.. بينما يغيب ذكر الضحايا في الفيليبين وكشمير وفي نيجيريا والشاشان.. إلا لماما!..

*   *   *

لقد قتلتنا الأرقام وقتلناها.. قتلت فينا إحساس والوجدان وقتلنا فيها تعبير كل رقم منها عن "الإنسان"!..

قتلتنا وقتلناها حتى في حالة الحوادث الناجمة عن إهمال وتقصير، كغرق عبّارة، أو حريق مسرح، أو سقوط حافلة تحمل التلاميذ في ترعة موت مائية.. فلا حساب ولا عقاب ولا حتى استقالة أو غرامة!..

*   *   *

أفراد معدودون من قتلى الألمان في أفغانستان.. يؤثر مقتلهم على صناعة القرار بشكل أو بآخر، وقد يجعل الانسحاب أمرا محتما..

عشرات.. أو مئات من الأفراد ضحايا الحروب العدوانية، هم أرقامٌ لا تبلغ عُشر معشار ما لدينا من أرقام.. تبدل المزاج الجماهيري والإعلامي وتؤثر على صناعة القرار السياسي والعسكري في بلدان تشارك في تلك الحروب، فمنها من انسحب ومنها من بدأ يفكر جادا وعلنا في الانسحاب، ويمنعه الحرص على "حفظ ماء الوجه" من مفعول الهزيمة والحرص على حفظ طريق العودة إلى استخدام القوة مستقبلا من جديد في خدمة مطامع الهيمنة!..

والشهداء بالملايين أو بمئات الألوف والمشوهون المصابون بمئات الألوف والمشردون والمعذبون والميتمون.. جميع هؤلاء على امتداد العالم الإسلامي لا يدفعون أمة إلى انتفاضة ولا حكومة إلى استقالة ولا قمة إلى نهج سياسي قويم!..

أصبحنا نتابع "أخبارا".. ولا نرى دماء وأرواحا ولا أنينا وعذابا ولا خسارة بشرية ومادية فيما يطرق رؤوسنا يوميا من أرقام.. قتلتنا وقتلناها.. فلا يتحول الحديث عن مئات أو ألوف أو ملايين إلى قوة تحيي الوجدان، ولا إلى إبداع يحرك الأقلام، ولا إلى حياء يحجب بحمرة دم الضحايا حمرة المجون في شاشات النلفزة ويحجب بما تعنيه هذه الأرقام في واقع الأمة ومستقبلها بعض ما يعنيه التدجيل والغثاء في حاضرها ومستقبلها.

*   *   *

الأرقام تعني عند شعوب الأرض جميعا، وعند نخب الثقافات المختلفة، وفي الجامعات ووسائل الإعلام، ومراكز البحوث ومواقع صناعة القرار.. تعني أهم ركائز النظرة الموضوعية والتحليلات المنهجية والفكر والتخطيط..

ولدينا من الأرقام أضعاف ما لديهم مما يوجب أن يترك أثره، وقتلناه، بعبارات تسويقية من قبيل "انتهى عصر الإيديلوجيات!".. "دعوا الحماسة والعواطف!".. "هذا خطاب تحريضي".. فقتلت تلك العبارات وأمثالها الوجدان فينا!..

كيف نميز إذن دون وجدان بين عدد القتلى والجرحى وعدد الراقصين والراقصات!..

كيف نميز دون وجدان بين حمرة الخمرة وحمرة الدماء!..

كيف نميز دون وجدان بين أصوات الأنين والشكوى وبين صخب التهليل لرقم قياسي يحمل اسما عربيا فيما يسمى "موسوعة جينتس" الأمريكية، ولو صدقنا أنفسنا لحشوناها حشوا بأرقام قياسية عن ضحايا الحروب من قتلى ومشردين.. وعن ضحايا التخلف والعجز المصنوعَيْن صنعا من جوعى ومرضى ومتسكعين وعاطلين وبائسين!..

كيف نميز دون حياة الوجدان واستقامة الضمير ورجحان العقل ما بين أرقام التزوير والتزييف في تقارير لا تنقطع حول "تقدمنا" بين الأمم.. وأرقام قتلتنا وقتلناها عن واقع تخلفنا في كل ميدان.. أو بين أرقام تثبت عاما بعد عام "تفوقنا" بالأبراج ناطحات السحاب والقصور المترف ومصيرها الخراب.. وأرقام أخرى تثبت يوما بعد يوم تمريغ دماء أهلنا ودموعهم تحت التراب!..

كيف نميز بين أرقام تتحدث عن قلة تتسلط على القرار في كل بلد على حدة وفي سائر البلدان معا، وكثرة تتلقى سياط نتائج هذا القرار تهويدا، وصهينة، وأمركة، وتغريبا، وتمجيدا للتهويد والصهينة والأمركة والتغريب.. وأرقام تتحدث عن كثرة كاثرة في كل بلد على حدة، وفي سائر البلدان معا.. تريد التغيير وصكّت آذانها مقولاتٌ تزعم أنها "هي العاجزة" عن التغيير، وتبحث عن "قيادات" ولا تكاد تجد إلا أرتالا من النخب المتخصصة في نشر اليأس والقنوط والعجز والإحباط.. وأقصى ما تتقنه أن يتشدق كل فريق منها بما يراه هو من نهج أو مذهب أو حزب أو زعيم "ملهم" طواه التراب أو زعيم "ملهم" ما زال هو وابنه فوق التراب، وكل نخبة لا ترى شيئا صحيحا عند سواها.. وما كان ولا يوجد في مناهجها التي يمجدها ما صنع بالأمس أو يصنع اليوم إنجازا تتحدث عنه الارقام حديثا صادقا موضوعيا حياديا، في ميدان الحقوق والحريات، أو الحكم والحكمة، أو العلم والتقدم، أو الاقتصاد والصناعة، أو الفكر والأدب والفن والإبداع!..

لكل حالة من تلك الحالات استثناء ولا ريب.. نعم، إنما لا نذكر ذلك من باب تأكيد ندرته وحاجتنا إلى المزيد من مثله، بل نذكره غالبا تعزية لأنفسنا، أو خداعا لها، أو تشاغلا عن بذل جهد ينقل الإنجازات القليلة التاريخية والمعاصرة، من حالات "استثنائية" إلى حالات "طبيعية" لتكون هي القاعدة.. لا الاستثناء، فآنذاك فقط يحق لنا أن نبدل العبارة التي نستخدمها في وصف واقعنا البائس ونقول إننا على طريق النهوض، بدلا من أن نقتل العبارات ومفعولها مثلما نقتل الأرقام ومفعولها.

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ