-ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الخميس 24/09/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


رمضانيات (27)

الأمُّ الرحيمة

د. عثمان قدري مكانسي

     روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول :   (( إنّ لله تعالى مئة رحمة ، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام ، فبها يتعاطفون ، وبها بتراحمون ، وبها تعطف الوحشُ على ولدها ، وأخّر الله تعالى تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة )) وفي رواية (( جعل الله الرحمة مئة جزء ، فأمسك عنده تسعة وتسعين ، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً ، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق حتى ترفع الدابّةُ حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه )) (1) .

     وتظهر رحمة الأم ببنيها في أحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واضحة جليّة ، فهي مثال العطف والحنان ، ونبع الشفقة والرأفة ، خلقها الله سبحانه وتعالى ينبوعاً يفيض على أبنائها بالحب ، ويؤثرهم بالرفد والعطاء ، فقد جعلها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صورة حية ، ينفذ منها إلى توضيح رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده ، فقد روى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قدم رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، بسبيٍ ، فإذا امرأة من السبي تسعى ، إذ وجَدَتْ صبياً في السبي (2) ، فألزقته ببطنها (3) ، فأرضعته ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أترون هذه المرأة طارحةًً ولدها في النار ؟ )) قلنا لا والله ، فقال :(( لَلّهُ أرحم بعباده من هذه بولدها )) (4).

     امرأة وقعت في ذلّ الأسرِ ، حزينة كاسفةُ البال ، كانت سيدة في أهلها وعشيرتها ، حرّة في كنف رجال قبيلتها ، مطاعةٌ في بيت زوجها ، فجعلها الأسر أمةً مملوكة وجارية مأمورة . . حالةٌ نفسيّةٌ صعبة يَذهلُ الإنسانُ بها عما حوله ، ويعتصر الألم قلبه ، ولكنَّ هذا كلّه لم يلهها عن ابنها وفلذة كبدها ، فقد بحثت عنه جاهدة حتى رأته ، فاحتضنته راغبة ، وألقمته ثديها حانيةً ، وضمّته إلى صدرها بين ذراعيها مشفقة ، امرأة كهذه لا تُسلِمُ ابنها إلى مكروه مهما صغُر ، وتدفع عنه الأذى مهما حقـُر ، وتفديه بنفسها من كل ضرِّ .

     امراة كهذه تَهَبُ ابنها كلَّ ما لديها ، وتسعى جاهدة ما وسعها الجهد إلى الذود عنه . . إنها الرحمة ما بعدها رحمة . . فحين انتبه المسلمون إليها ، ورأوا ما فعلته بولدها قالوا بصوت واحد : لا والله ، لا تسلمه إلى النار ولا تطرحه فيها .

     وهنا يلفتُ الرسول الكريم نظر المسلمين إلى رحمة الله بهم ، لهو تعالى أشدُّ رحمة بهم من هذه الأم بولدها . . أيّ رحمة إذاً يدّخرها الرحيم الرحمن لعباده ؟ والربُّ العظيم الغفور لمن آمن به وأطاعه ، وامتثل أمره ؟

     وهذه إحدى بنات النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُحتضَر ابنُها فتودُّ أن يحضر أبوها ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفاته ، فترسل إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنّ ابني قد احتُضِرَ (5) فاشهدنا ، فأرسل يُقرئها السلام ويقول : (( إنَّ لله ما أخذ ، وله ما أعطى ، وكل شيء عنده بأجل مسمّى ، فلتصبر ولتحتسب (6) فأرسلت إليه تـُقسم عليه ليأتينّها . . . )) (7) .

     فهذه ابنة الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ شأنها شأن الأمهات جميعاً ، ترى ابنها يذوي ويموت . . وبمن تستعين في هذا المصاب الجلل ؟ إنه أبوها رسول الله ـ صلى لله عليه وسلم ـ ، فحين يرسل إليها أن تصبر وتحتسب تفزع إليه مقسمة عليه أن لا يخيّب رجاءها ، وأن يوافيها ، فهي في أشدّ الحاجة إليه ليهوّن عليها المصاب أو يسرّي عنها في فلذة كبدها . .

     وهذه أم الربيع بنت البراء ، وهي أم حارثة بن سراقة الذي قتل في بدر تأتي إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ترجو أن تسمع منه عن ابنها الشهيد ما يثلج صدرها فقالت : يا رسول الله ألا تحدثني عن حارثة ؟ . . فإن كان في الجنّة صبرت ، وإن كان غير ذلك اجتهدتُ عليه في البكاء ، فقال : (( يا أم حارثة ، إنها جنانٌ في الجنّة ، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى )) (8) .

     إن فقدان الولد أمر عظيم يمزق القلب ، ويقطع الأحشاء ، ويفتت الكبد . . . وهي تسأل النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن كان في الجنة فسوف تلقاه إن شاء الله ، وصبرُها على فراقه رفعٌ لدرجتها ودرجته (9) في الجنة ، وإن لم يكن كذلك لتبكينّه بحرقة مَن يفقد العزيز الغالي إلى الأبد . . وهذا ما تستطيعه ، وجلّ ما تقدر عليه . . إنها الأم الثكلى والراحمة العطوف .

     وتعال معي إلى هذه الصورة الرائعة المتجسدة رحمة فيما روته السيدة عائشة رضي الله عنها قالت :

أ ـ    جاءتني مسكينة تحمل ابنيتن لها . .

ب ـ  فأطعمتها ثلاث تمرات .

جـ ـ  فأعطت كل واحدة منهما تمرة .

د ـ    ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها .

هـ ـ  فاستطعمتها ابنتاها .

و ـ   فشقّت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما .

     فاعجبني شأنها ، فذكرت الذي صنعتْ لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : (( إنَّ الله قد أوجب لها بها الجنّة ، أو أعتقها من النار )) (10) .

     إنه الإيثار الرائع الذي جعلها ـ عن رضا ـ تتخلّى عن نصيبها لابنتيها ، ولهذا كانت الجنّة تحت قدميها ، وأوصى النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها ثلاث مرات وربَّع بالأب بعد ذلك .

     وقد مرّ في بحث المرأة الكريمة ما فعلته السيدة أم سلمة رضي الله عنها حين سألت رسول الله    ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إنفاقها على بنيها حين قالت :

أ ـ    هل لي أجر في بني أبي سلمة أن أنفق عليهم ؟

ب ـ  ولست بتاركهم هكذا وهكذا .

جـ ـ  إنما هم بَنيَّ . . .

     وتقرّر أنها لن تتركهم قبل أن يجيبها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالإيجاب ، فالفطرة أجابتها قبل إجابته .

     وهل يحضُّ الإسلام إلا على المبرّات ، وفعل الخيرات ، والعطف على الأرحام وصلتهم ، وغرس الرحمة والودَّ في المجتمع كي ينشأ الأبناء صالحين أبراراً .

     وقد أورد النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصة المرأة كان ابنها يرضع من ثديها ـ وكل أم تحبُّ أن يكون ابنها وجيهاً ، عظيماً ، يُشار إليه بالبنان ـ فمََرَّ رجل راكب على دابّة فارهة وشارَةٍ حسنَةٍ ، فقالت : (( اللهمَّ اجعل ابني مثل هذا ، وكلُّ امرأة لا ترضى لابنها أن يكون خسيساً فاسداً مرذولاً . . فمرَّت به على جارية يضربونها ، ويقولون : زنيتِ سَرَقْتِ . . فقالت الأم حين رأتها : اللهمَّ لا تجعل ابني مثلها . . (11) .

     أما أم أيمن رضي الله عنها حاضنة النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي تكبره سنّاً بست سنوات ـ خدمته رضي الله عنها حتى شبَّ وبلغ مبلغ الرجال ، وكان يناديها أمي . . كان يجلُّها عليه الصلاة والسلام ، وزوَّجََها من أنصاري فولدت له أيمن ، فلما مات زوجها زَوَّجها من زيد بن حارثة رضي الله عنه فولدت له أسامة (( الحِبَّ ابن الحِبَّ )) ، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يزورها لفضلها        ـ يقول أبو بكر لعمر رضي الله عنهما ـ بعد وفاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها نزورها كما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يزورها ، فلما انتهينا إليها بكتْ ، فقالا لها : ما يبكيكِ ؟ ألا تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ !   قالت : إني لا أبكي أني لا أعلم أنّ ما عند الله خير لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولكني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء ، فهيّجتـْهما على البكاء ، فجعلا يبكيان معها (12) .

     فقد أحبته كأفضل ما تحب أم ابنها ، وترجو الخير بوجوده ، وانقطع الوحي حين التحق الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالرفيق الأعلى ، أفلا تبكي أغلى الأبناء وأفضل الرجال !! ؟

     والرحمة تنفع صاحبتها ولو اقترفت ملء قراب الدنيا آثاماً ، لأنَّ الراحمين في الأرض يرحمهم الرحمن (( وارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَنْ في السماء )) (13) . . فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن َّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( بينما كلب يُطيف بِرَكيّةِ ، قد كاد يقتله العطش إذ رأته بغيُّ من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقَها (14) فاستسقت له به ، فسقته ، فَغُفِرَ لها     به )) (15) .

     وهناك كثير من الأحاديث الشريفة تتحدّث عن رحمة المرأة بمن حولها . . . اللهمَّ ارحم نساء المسلمين ، ودلَّهُنَّ على الخير ، واملأ قلوبهن بحبك وحبَّ دينك ورسولك ، ونحن معهن يا رب العالمين .


(1)    رواه البخاري برقم ( 6000 ، 6469 ) ، ومسلم برقم ( 2752 ) ، وأحمد برقم ( 9326 ) .

(2)    هو ابنها .

(3)    كناية عن شدة الشفقة والرحمة .

(4)    رواه البخاري برقم ( 5999 ) ، ومسلم برقم ( 2754 ) .

(5)    احتُضر : حضرته مقّدمات الموت وعلاماته .

(6)    تنوي بصبرها طلب الثواب من الله وأن يجعل ذلك في صالح عملها .

(7)    رواه البخاري برقم ( 1284 ، 5655 ، 6655 ) ، ومسلم برقم ( 923 ) ، وأحمد برقم ( 21282 ) وغيرهم .

(8)    رواه البخاري برقم ( 2809 ، 3982 ، 6550 ) ، وأحمد برقم ( 12788 ، 12838 ) ، والترمذي برقم ( 3174 ) .

(9)    قال تعالى في سورة الطور الآية 21 : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ

      شَيْءٍ).

(10)  رواه مسلم برقم ( 2630 ) ، وأحمد برقم ( 24090 ) .

(11)  يرجع إلى القصة في كتاب (( قصص رواها النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ )) للمؤلف تحت عنوان : المرأة التي كلّمَتْ وليدها ص 49 ، والقصة رواها البخاري برقم ( 3436 ، 3466 ) ، ومسلم برقم ( 2550 ) ، وأحمد برقم ( 8010 ) .

(12)  رواه مسلم برقم ( 2454 ) .

(13)  كما في الحديث الذي أخرجه أحمد برقم ( 6458 ) ، وأبو داود برقم ( 4941 ) ، والترمذي برقم ( 1924 ) ، وانظر : المشكاة برقم    ( 4969 ) .

(14)  الموقُ : الخُفُّ . الركيّة : البئر . يَطيفُ به : يدور حوله .

(15)  رواه البخاري برقم ( 3467 ) ، ومسلم برقم ( 2245 ) ، وأحمد برقم ( 10205 ) .

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ