-ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

السبت 09/05/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


النصف المفقود

بقلم/ ختام العطاونة

كانت السماء صافية، والهواء البارد يلوح بأغصان الأشجار من كل جانب. أمي أطعمت حيواناتها وأنا قد أديت فريضة المغرب لتوي عندما هزّ صوت انفجار ضخم المكان. سقط الصاروخ بجوارنا، شعرت للحظات أنّ أرواحنا تصعد للسماء، فقد كان الصوت قريباً للغاية. خرجتُ مع والدتي كما أغلب الجيران لنرى المكان الذي أصابه الصاروخ عندما باغت منزل الجيران ذاته صاروخ ثان. أمسى المكان وكأنّه حلبة مصارعة الجميع يتصارع مع جراحه مع الموت. وها هي عربات الإسعاف تشعرك بقليل من الأمان. وصلنا بيت الجيران لنجد أنفسنا وسط جريمة فيها القاتل معروف وفيها الضحايا كثر. شهداء ارتقوا للعلياء، جرحى يئنون ويتوسلون المساعدة، أطفال يتساءلون بعيون بريئة عما يحدث حولهم وأين أمهاتهم وآباؤهم.

وها هي طفلة بعمر الزهور لم تتجاوز العامين تصرخ وتعبر بشفاه مرتعشة عن رعب وألم وخوف واستفسارات. حملتها أختي لمنزلنا، واطمأننا فيما بعد أنها غير مصابة، حمدنا الله كثيراً، فلا تحتاج لمزيد من الألم فيكفي ألم فقدانها عائلتها لتتألم من جسدها.

ثلاث شهداء، أب وولديه الذي لم يتجاوز الصغير فيهما الأعوام الأربع مقطع الأطراف ومحترق الجسد، وممزق الملابس، كان ثلاثتهم أشلاء، أغمضت عيناي وصرخت صرخة مكتومة دوت داخلي يا الله! ماذا يحدث؟

وها هي فتاة مصابة بعدة شظايا، تتألم من جراحها، وخوفها، رأيت الموت يحوم حولها. تنظر في كل ما حولها، وكأنّ دوامة الألم قد سحقتها داخلها. كانت جراحها طفيفة ولكنّ أكثرها إيلاماً كان في ساقيها. ثيابها ممزقة ويبدو أنها غرقت في بركة دماء، ورائحة البارود لم تغادر هواء المنزل بعد، الصغيرة تستنجد بنا، وكأننا ملائكة الحياة لها. ليتني أستطيع أيتها الصغيرة أن أبدلك ثيابك ثياباً جديدة أحيكها خصيصاً لك، أو ربما أستطيع أن أغتال الألم من عينيك بل ليتني أستطيع اختطافك من فكي الموت حيث الأمان والحياة.

تمشيت قليلاً في المنزل الكئيب، شاهدت داخل إحدى الغرف، أماً تحتضن جثمان ابنها الشهيد، وتحاول أن تهديء من روع ابنتها المصابة بإصابات خطيرة في جسدها، أمسكت بكتفيها، وحملتها بعيداً عن ابنها. حضنتها وحاولت جهدي أن أخفف ألمها، وأحدثها عما وعد الله الشهداء من نعيم، وعما وعد الله الصابرين على مصائبهم من مغفرة وجنان. حاولت أن أزرع في قلبها بعضاً من الهدوء رغم أني لا أستطيع أن أهبها جزء منه.

قمنا بنقل المصابين لمنزلنا، والأم الثكلى المكلومة بوليدها تأبى أن تترك جثمانه الطاهر بعيداً عنها، فقمنا بحمله إلى منزلنا. فأصبح لدينا في المنزل مصابين ثلاث، وشهيد، وأم ثكلى وطفلة فقدت عائلتها. قمنا بمحاولات عديدة للاتصال بالإسعاف والصليب لإخلاء المصابين والجرحى ولكنّ الجميع يتخوف من أن المنطقة مغلقة عسكرياً ولا يمكن الوصول إليها.

أحد المصابين الثلاث وكان أكبر الأولاد لتلك العائلة المنكوبة أصرّ على الخروج من المنزل رغم محاولاتنا الفاشلة بإثنائه عن تلك الفعلة. وترك المنزل تحيطه رعاية الله، وتهطل عليه الدبابات والطائرات بحممها القاتلة. ارتقت للعلياء بعد ساعتين تقريباً فتاة وفي اليوم التالي استشهدت الأخرى وقد كانتا في حال الخطر. فكيف لنا بعلاجهم وهم أشلاء ممزقة، وحروقهم في كل مكان. وكانت الأم تحتضن ابنها وبنتيها الشهداء تارة وتبكي تارة أخرى، ولم أجد ما أتفوه به هذه المرة فقد كانت آلامها أكبر من أي كلمات!

بل كانت أكبر بكثير لأنها لا تعلم بعد أن زوجها وابنها قد استشهدا ولازالا ملقيان في الشارع، لا يجدان من يمنع عن جسدهما الطاهر آفة العفن أو يغدق عليهما بكرم الدفن. لم نخبرها باستشهادهما في الخارج، بل كنا نخبرها بأنهما قد يكونا بخير، وقد يكونا قد تركا المنزل لمكان أكثر إيماناً!

بدأت الدبابات تقوم بقصف كل طريق يؤدي لمنزلنا، وربما قامت بإطلاق رصاص طائراتها على منزلنا، كان الرعب يدب في كل من في المنزل، فهناك جثث ثلاث، وأم تنوح وطفلة مصابة وأخرى تائهة بين الوجوه في منزلنا. لم أذق النوم في تلك الليلة، فقد كان صعب جداً أن نتحرك في حصار الدبابات لنا من الخارج وحصار الألم لنا من الداخل، والدتي وأخي وأختي باتوا تلك الليلة مع الوالدة المكلومة وجثث أبنائها الثلاث، أما أنا فقد حاولت النوم جاهدة مع أخواتي وأبناء أخوتي في غرفة أخرى بعيدة. فلا زال الأطفال لا يفهمون ما يدور، بلا لا يستطيعون تخيل أن هناك شهداء ثلاث في المنزل!

مضى الوقت بطيئاً جداً حتى خلنا أن الشمس لن تشرق أبداً. وربما إن أشرقت فلن تشرق علينا. فليلتنا هذه كافية لأن نشعر أنها الأخيرة. قضينا الليلة في الدعاء والتسبيح وانتظار الموت!!!

وبعد أن انتشر النور في المكان، كانت بلدوزرات العدو تعسكر بالقرب من منزلنا، ولم نستطع الحراك داخل المنزل أو من داخله للخارج حتى. وعندما اقتربت البلدوزرات أكثر خرجت والدتي تحدثهم أنّ البيت غير مهجور وأنّ هناك عائلة لازالت موجودة في المنزل، وبالفعل تراجعت الجرافات قليلاً عن المنزل ولكنها لم تغادر المكان. اطمأنت والدتي علينا في الغرفة البعيدة عن جثث الشهداء، فقد كانت قلقة طيلة الليل لعدم تمكننا من التواصل معها رغم أننا في منزل واحد لكننا لا نتحرك كثيراً داخل المنزل. عادت بعدها حيث الشهداء ووالدتهم الباكية وعدت أنا معها، علنا نفعل شيء.

حاولنا إقناع الأم الثكلى بأبنائها الثلاث أن تترك الغرفة وتأتي لمكان آخر، وبصعوبة بالغة فعلت. واكتشفنا بعدها أن الأم مصابة بعدة إصابات طفيفة وكذا ابنتها، فكانت مهمتي أن أقوم بتضميد جراحهما يومياً أثناء تواجدهما معنا في المنزل. رغم أني لم أعتقد ورغم خوفي الشديد، لكنها ضرورات الحرب، التي تجبرك على تحمل ما لا تستطيع، فأنت هنا تصارع من أجل الحياة لا من أجل أي شيء آخر وحينها تتقزم كل رغباتك وكل أحلامك وتتقزم فيها كل مخاوفك.

في صباح الأربعاء التالي، جاءنا عدد من جنود الاحتلال للمنزل، يستفسرون عن بعض الأمور، فأخبرتهم والدتي أن هناك شهداء ثلاث يجب أن يدفنوا حتى لا تتعفن الجثث، وهناك مقبرة بالقرب من المنزل، فرفض صارخاً في وجهها بوجوب السكوت. وفي صبيحة اليوم التالي شاهدنا جرافات ثلاث تقترب من البيت، فظننا أن مزرعتنا هي المستهدفة ولم نتوقع أنهم قادمون للمنزل خاصة وأنهم يعرفون أن هناك سكان لازالوا في المنزل ولم يغادروه بعد، ولكن الجرافات قامت باستهداف المنزل وطالبتنا بترك المنزل على الفور والتوجه نحو الغرب.

خرجنا من المنزل، دون أن نحمل منه شيء، بل تركنا كل شيء، الشهداء الثلاث، المزرعة، المنزل، الملابس، الدواجن والحيوانات، تركنا كل شيء بحثاً عن سبيل للأمان، وبحثاً عن طعم الحياة وسط الأشلاء والموت الذي يحاصرنا منذ مدة طويلة. وبدت الحياة بعيدة عنا تحتاج لسفر ساعات لكي نعود من بين القبور والأشلاء.

خرجنا من المنزل، وكان عددنا خمسة عشر فرداً. غادرنا، وسط الدبابات والدخان، ورائحة البارود والموت. تم تجريف المنزل على الفور، واغتيال الشهداء من جديد. زلزال ضرب البلدة بكاملها، كنا نظن للحظات أن السكان لازالوا في منازلهم، ولكنا تأكدنا أن لا أحد في المكان غيرنا. لم يكتف الجنود المجرمين بذلك بل قاموا بإطلاق النار باتجاهنا ونحن نغادر. ولكنّ عناية الله قد شملتنا. في طريقنا مررنا بالبيوت المدمرة، بالأشلاء المتناثرة، بالأشجار التي اجتثت من جذورها. ومررنا بامرأة عجوز، وإلى جوارها راية بيضاء فأدركنا أنها خرجت من منزلها مستسلمة، ولكنها لم تسلم، فقد أصابتها الرصاصات لتجبرها نوم ليلة لجوار الدبابات وهي تئن من ألم الخوف والدماء تنزف من جراحها، فأي لذة تلك التي يشعرون بها وهم يتقلون عجوز مستسلمة بل يبقونها على قيد الحياة يستمتعون بصراخها ووجعها.

عدنا صباح الأحد التالي، بيتنا لم يتبقى منه شيء، المزرعة تم القضاء عليها تماماً، جميع الحيوانات قد قتلت إما رمياً بالرصاص أو جوعاً. عثر على الشهداء الثلاث داخل المنزل ممزقة للمرة الثانية وجثة الطفل التي كانت ملقاة في الشارع وتم العثور على نصف جثة الأب بينما لازال النصف الآخر مفقوداً.

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ