-ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء  08/04/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


رحلة في عقل بيجوفيتش

هل كان الإسلام سبباً في تخلّف الشعوب المسلمة ؟؟

محمد يوسف عدس

(1)

تساؤل جريء أثاره على عزت بيجوفيتش في صدر مقال بالغ الأهمية ، حرص على تذييله بتوقيعه تحت عبارة: ( كتبت هذا المقال في شهر سبتمبر 1967) ..

كان الرجل في ذلك الوقت لا يزال يجترّ مرارة الهزيمة المصرية النكراء أمام الجيش الإسرائيلي .. فيما سُمّي حينذاك بحرب الأيام الستة .. ولم تكن في الواقع أياماً ستة .. فقد علم الرجل أن إسرائيل كانت قد حسمت المعركة لصالحها في ست ساعات من صباح يوم أغبر هو الخامس من شهر مايو 1967 ..

وسوف يلاحظ المتتبّع لكتابات على عزت بيجوفيتش عن قرب أن مقالاته بعد هذا التاريخ المشئوم .. وعلى مدى عام كامل تتسم بنبرة غضب واضحة .. وتنطوي على مشاعر ملتهبة .. فقد كان يعتقد أن إسرائيل قد حصلت على انتصار سريع ورخيص لأن الجيش المصري (نتيجة لارتباك عارم وتشوّش في قياداته السياسية الحاكمة ) لم تُتح له الفرصة ليشتبك في معركة حقيقية مع الجيش الإسرائيلي وصدرت له الأوامر بالانسحاب من سيناء بشكل ارتجالي مهين ...

نلاحظ في هذه المقالة وما تلاها من مقالات أن على عزت يكتب كعادته بلغة منطقها قوي ولكن تكاد كلماتها تتوهج من حرارة مشاعره .. وهو يمزّق الأستار الكثيفة في محاولة للكشف عن أسباب الهزائم التاريخية التي لحقت بالشعوب المسلمة .. وليضع يده على أسباب التخلّف الذي يكبّل خطواتها ويعوقها عن الانطلاق .. إنه يمسك بتلابيب الأوضاع المأساوية التي يرزح تحتها عقل هذه الأمة وروحها التي أنهكتها الأخطاء المتكررة والمتراكمة عبر السنين .. ويقصد بتحليلاته النافذة (بعد تشخيص المرض تشخيصا صحيحا) أن يحدد معوقات النهضة .. ثم يرسم الطريق للخروج من هذا المأزق التاريخي لتنطلق الأمة في طريق نهضتها الصحيحة ..

 

معنى هذا أن بيجوفيتش - رغم إدراكه لفداحة الهزائم التي مُنيَتْ بها الأمة - لم يفقد للحظة واحدة طموحه في أن تنفُضَ الأمة عن نفسها ركام التخلف وتكسر كل قيودها لتنطلق في طريق النهضة ..

كان بيجوفيتش يتطلع في يوم من الأيام أن تنهض دولة إسلامية كبيرة مثل باكستان أو مصر لأن وجود هذه الدولة من ِشأنه أن يدعّم الدول الصغيرة والأقليات المسلمة المنتشرة في العالم .. وأن يردع أعداءها عن محاولة اقتناصهم وقهرهم أو إبادتهم كما حاول الصرب ذلك مع البوسنة وكوسوفا ..

ولكننا نرى في كتاباته وتحليلاته المبكرة أن باكستان التي خطط لها مؤسّسوها أن تكون الدولة الإسلامية النموذج قد بلغت من الاضطراب والانحراف عن رسالتها إلى درجة جعلتها عاجزة عن أن تقوم بدور ذي قيمة سواء في داخلها أو خارجها ..

ومن ضمن ما وجّهه إليها من نقد في ذلك الوقت (أعنى في بداية إنشائها) أن قياداتها الدينية وفقهاءها انشغلوا بقضية تافهة ركّزوا عليها فاستنفذت طاقاتهم وهى: [ هل نبدأ في تنفيذ أحكام الشريعة بقطع يد السارق أم نرجئ هذا الحكم حتى يتم تربية الناس على قبول الأحكام الشرعية بنفس راضية] .... وبينما كان رجال الدين يتعاركون على وجوب تنفيذ حكم الشريعة في السرقات التافهة كانت البلاد في نفس الوقت يتم نهبها على أوسع نطاق، وتُسرق الملايين من أموال شعبها بواسطة قياداتها السياسية الحاكمة..

كان بيجوفيتش ثاقب النظر في رأيه ونقده لباكستان .. فلا تزال حتى اليوم تعانى من نفس المشكلات المزمنة والانشقاقات المتواصلة .. والقيادات السياسية التي تتنافس على نهب البلاد .. والانقلابات العسكرية المتلاحقة التي تجد مساندة وقتية من الجماهير اليائسة ... والنخب السياسية الفاسدة المتنازعة على السلطة بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة ...

قدّر بيجوفيتش أن مصر بإمكانياتها البشرية والعلمية والتعليمية ومركزها بين الدول العربية وبتاريخها في صد العدوان المغولي والصليبي يمكن أن تتولى دور الراعي للدول الإسلامية الصغيرة .. ولكن خاب أمله فيها أيضا فقد نأت بنفسها عن كارثة التطهير العرقيّ التي قامت بها القوات الصربية ضد الشعبين المسلمين في البوسنة وفى كوسوفا ..

 

و عندما جاء بيجوفيتش إلى مصر سنة 1994 ليعرض قضية شعبه العادلة على القيادة السياسية فيها لم يحظ بلقاء رئيس الدولة .. ولم تتح له الدولة أن يخاطب جماهير الشعب المصري عبر وسائل الإعلام التي كانت كلها حكرا تملكه الحكومة وحدها .. ولولا الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي رتّب له لقاءً مع مجموعة من كبار المثقفين في القاهرة لخرج الرجل من مصر بخٌفّي حُنين ...

 

(2)

يؤكد بيجوفيتش أن حالة التخلف التي أصابت العالم المسلم الممتدّ على منطقة شاسعة من جبل طارق غربا إلى إندونيسيا شرقا ليست حالة بسيطة ولا طارئة وإنما هي شديدة التعقيد عميقة الجذور .. إنها حالة من الركود والسُُّبات العميق جعلت بعض المؤرخين الغربيين يعتبرونها ظاهرة ويطلقون عليها ( ليل الإسلام أو غروب الإسلام ) ... ويعتقدون أنها بدأت مع الاستعمار الإنجليزي للهند وامتدت إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، ولكن بيجوفيتش يرى أن جذور هذه الحالة وبداية أسبابها الحقيقية تعود إلى ما هو أبعد من ذلك ، كما أن آثارها مازالت قائمة إلى درجة كبيرة حتى يومنا هذا...

 

يقول بيجوفيتش: " إن أسباب نهضة أمة ما أو انحطاطها تكون دائما معقدة ومتعددة الأبعاد، يخضع جانب منها للإدراك والتحليل والمنطق وهو الجانب المتعلق بالأسباب الموضوعية ، بينما يظل جانبها الآخر خافياً غير خاضع للإدراك أو التحليل أو المنطق .. ذلك لأنه جانب يكمن في قلوب البشر وإراداتهم ..

 

وإن الإنسان ليتساءل هنا ما هي هذه الأسباب الكامنة التي جعلت ينابيع الحياة والإرادة والعلوم تنبثق في أرض مصر القديمة و في اليونان وروما والجزيرة العربية والهند والصين والمكسيك ...؟ ثم في أوربا وأمريكا .. كما نشهد اليوم ..؟ ... في الوقت الذي تعيش فيه وتموت أجيال لا حصر لها من "الفلاحين" في مناطق شاسعة خارج هذا النطاق الأول تكرر نفسها، أمسها كغدها .. وكل يوم يمر عليها مثل كل يوم كأنها تدور في حلقة مفرغة، لتستقر في مجاهل التاريخ ..؟؟ ".

 

ينتقل بيجوفيتش إلى استفسار متكامل مع الحالة السابقة فيتساءل: ما هو السبب الذي يجعل شعبا يكتشف هويته فجأة فتدب في كيانه روح النشاط والحركة وتتحول أرضه إلى حاضنة لأجيال من العمالقة والشجعان والرجال الأجِلاّء وفطاحل الشعراء ، بينما تظل شعوب أخرى تطلع عليهم الشمس نفسها وتغرب .. ويعيشون في ظروف مشابهة ، ومع ذلك تبدو حياتهم راكدة آسنة كأنها تغوص في مستنقع لا قاع له ...!ا؟

 

وتعليقا على هذه الأوضاع يدور كلام المعلقين والشارحين لتوضيح الأمور والأسباب على هذا النحو: إن العلة في ذلك تعزى إلى الحكام والمؤسسات والظروف الاقتصادية وأمية الشعوب ، وما شابه ذلك .. ويقول آخرون: إن الشعوب غير متعلمة ، ولذلك تحتمل طغيان الحكام ؛ وهؤلاء الحكام أنانيون ، ولذلك لا يعملون على تعليم شعوبهم، وإن المؤسسات التعليمية إنما هي انعكاس مباشر لمستوى المجتمع الثقافي .. ويعترض آخرون بقولهم إن حالة التدهور في التعليم وتخلّفه يرجع إلى تحكم النظام القائم عليه .. !

 

إذن ... فأين السبب وأين النتيجة في كل هذه الآراء ..؟

يقول بيجوفيتش: " إن علم التاريخ ليس علماً من العلوم التطبيقية - كالرياضيات مثلاً - ولاشك أن للتاريخ قواعد وقوانين ، ولكنها ليست من نوع قواعد العلوم الطبيعية التي تضمن لنا صحة افتراض ما .. إن قواعد التاريخ لا تمنحنا القدرة على أن نتوقع حدوث وقائع بعينها ترتيباً على معرفتنا بمقدمات سابقة ، أو تضمن لنا صحة تحليلاتنا لما قد جرى فعلاً من أحداث .. إن التاريخ قصة حياة ، والحياة هي انبثاق للحرية والعفوية وعدم الخضوع للتوقعات .. لذلك يظل التعريف الحقيقي للحياة سراً . .

ومن ثم .... لن تقوم – ولا يمكن أن تقوم – إجابة علمية محددة عن سؤال : ما سبب تخلف أمة ما ...؟

يحدد بيجوفتش في هذه النقطة غرضه من هذه المقالة فيقول أنه ليس بصدد بحث أو إحصاء أسباب تخلف الشعوب الإسلامية كلها ، ولكنه سيعرض لسببين اثنين يبرزان أكثر من غيرهما في تاريخ الأمة الإسلامية : الأول خارجي وهو هجوم المغول على العالم الإسلامي .. والأخر داخلي وهو التفسير الديني المحض للإسلام ..

 

فهو يعتقد أن الوعي الإنساني ما زال غير قادر على أن يدرك إلى الآن عمق الآثار المدمرة لكارثة الاجتياح المغولي ، مهما كتبنا وتحدثنا عنها ...! لقد تم تدمير مئات المدن وكل ما صنعته يد الإنسان في مساحة مترامية الأطراف .. في أكثر المناطق الحيوية بالنسبة للعالم الإسلامي ، حدث هذا بشكل لا مثيل له في تاريخ البشرية القديم والحديث...! .... وإنه لمن قبيل المعجزات أن تنهض من جديد تلك الشعوب التي اجتاحتها جيوش المغول وأفنت بعضها عن آخره ... ؟

ومن جانب أخر كان التفسير الديني المحض للإسلام ، الذي حصر الإسلام في دائرة رسالة دينية ضيّقة ، مهملاً ومنكراً دوره في تنظيم العالم الخارجي وتغييره ، من أبرز عوامل الإضعاف الداخلي لقوة الأمة الإسلامية ومناعتها ، وجعْلها غنيمة سهلة للجيوش البربرية الغازية ...

 

 (3)

لنعد الآن إلى الغرض الأصلي من هذا المقال ، وهو محاولة استخلاص الإجابة عن السؤال الذي جعلناه عنوانا لهذا المقال:

هل كان الإسلام ... (باعتباره دينا وفكرا ونمط حياة لملايين البشر الذين يُسمّوْن بالمسلمين) ... هو أحد عوامل تخلّف الشعوب المسلمة...! ؟

يقول بيجوفيتش: "هناك حقيقة لا يجب أن يمارى فيها أحد وهى أن الشعوب الإسلامية لم تكن متخّلفة في الماضي وهى ملتزمة بالإسلام .. أما اليوم فهي محسوبة بين الشعوب المتخلفة وهى لا تتبع الإسلام بالمفهوم العملي .. التاريخ شاهدي على ما قلته في الشق الأول ، وأنا وأنتم ونحن جميعا شهود على الشق الثاني الذي نراه اليوم ماثلا أمام عيوننا ..."

إن الإسلام مجموعة تعاليم حواها القرآن الكريم والحديث الشريف .. ولكن الإسلام أيضا هو عنوان لظاهرة تاريخية في العالم الواقعي ، وعنوان للحركة التي أنشأت نظاما رائعا للقضاء وإقامة العدل بين الناس كما أنشأت المدن والدول والحضارات .. إن الإسلام - سواء اعتبرناه رسالة أو اعتبرناه ظاهرة تاريخية - لَيرْفُض بكل قوة الركود والتخلف ...

 

ولنتذكر بأن الإسلام قد أُتُّهم من خصومه على مرّ التاريخ بأنه "دين السيف" .. ودين أولئك الذين لا يخشعون حتى في صلاتهم .. وأن هدفه هو السيطرة على العالم ، وليس تهيئة الإنسانية للمملكة الإلهية .. و أن الصوم في الإسلام أقرب إلى نظام صارم منه إلى الزهد والخشوع .. وأنه دين اختلطت فيه القسوة بالرأفة والعبادة بالانغماس في ملاذ الدنيا..!

إن هذا الهجوم بغض النظر عن بواعثه ، فيه جانب من الحق لأن الإسلام يسعى دائما إلى تحقيق عالمين : عالم جُوّاني وعالم برّاني ، عالم أخلاقي و عالم تاريخي ، عالم هذه الدنيا وعالم الآخرة ... لذلك يمكن تعريف الإسلام بهذه الثنائية التي هي خصيصته الأساسية .. والتي يتفرّد بها دون سائر الأديان .. إنه يطالبنا بالامتثال لله وبالعمل الصالح ...

 

ولكن رسالته الكبرى تتمثّل في مجابهة الشر والبغي والاستبداد والظلم والأعداء والأمراض والقذارة والخرافة .. ويمكن تلخيص هذه الرسالة بكلمة واحدة هي:  الجهاد .... ولذلك ليس غريبا أن يرى المفكر الفرنسي جاك ريسلر أن الإسلام بُنى على ستة أركان – وليس على خمسة فقط – حيث يضيف الجهاد ...

ولاشك في أن أوثق من فسّر روح الإسلام وجسّدها في أعمال وسلوك هم المسلمون أنفسهم في القرون المضيئة .. وستوضح الحقائق التي سنعرض لها أن المسلمين قد أدركوا أن الإسلام يفرض عليهم تحرير العالم وتغييره ، وأنه ليس دعوة إلى الاستسلام والقعود ....

ظهر الإسلام سنة 610 بين قبائل جاهلية بعيدا عن حواضر الشعوب التي كانت تملك الحضارات القائمة آنذاك ... وانتقل النبي  صلى الله عليه وسلم  إلى الرفيق الأعلى سنة 632م ... ولكن بعد مرور مائة سنة فقط على وفاته كانت الجيوش الإسلامية تقف عند أسوار باريس في معركة بوتيير سنة 732م .....

فتعال معي لنتأمل بركان الحياة الإسلامية الذي تفجّر ..

ولننظر إلى ما جرى في هذه الوثبة العملاقة التي حدثت في غضون مائة عام ...

 

(4)

لقد انبثقت حضارة كاملة مغايرة لكل الحضارات التي عرفها العالم قبل الإسلام .... وقد استطاعت أن تضع أسسها المتفرّدة على مدى مائة عام .. اتسمت بالحركة الدءوب والهدم والبناء ، وتم احتواء شعوب متحضرة كاملة في هذه الرقعة الشاسعة بقوة الدين والعلم فقط .. وليس بقوة السيف كما يفترى المفترون ... !

   فُتحت سوريا سنة 634م.

   وفُتحت دمشق 635م

   وفتحت الهند ومصر سنة 641م

   وفتحت قرطاجنة سنة647م

   وفتحت سمرقند سنة 676م.

   وفتحت الأندلس سنة 710م.

   وتوقفت الجيوش الإسلامية في فرنسا سنة 720م ...

ووصل الدعاة المسلمون إلى الصين سنة 629م وسلموا رسالة الخليفة إلى القيصر تاى شونغ ، وحصلوا على إذن بنشر الإسلام ، ثم أقاموا مسجدا في مقاطعة كانتون لا يزال قائما للآن .. ويُعدّ أقدم مسجد في هذا الجزء من العالم ...

هذه النهضة كانت بمثابة عملية تحرير هائلة للقدرات البشرية.. لم يحدث مثلها ولا قريبا منها في أي بقعة من العالم ..

يصفها الفيلسوف شْبنجلر: إنها سوف تظل فريدة من نوعها في تاريخ الإنسانية ....

ويقول عنها "هـ. ج. ويلز H.G. Wels في كتابه "تاريخ العالم":

"هزمت البحرية الإسلامية بحرية البيزنطيين في معركة قرب اللاذقية سنة 655م ... ويظل إلى الآن غير واضح من أين حصل العرب على تلك السفن... ؟ .....

ويحاصر المسلمون مدينة القسطنطينية سنة 662 و 667م ...

بينما تمتد الخلافة الإسلامية في عهد الخليفة عبد الملك وابنه الوليد (685م-715م) من جبال بيرينى غربا حتى الصين شرقا .....

وفى ظاهرة غير مسبوقة تستمر الدول الإسلامية مزدهرة في الأندلس والشرق الأوسط والهند ، مع مراكزها في قرطبة وبغداد ودلهي لمئات السنين .. وفى بعضها ظلـت ممتدة لأكثر من ألف عام .. !

لقد أخذ الإسلام يتراجع من الأندلس التي حكمها أكثر من 700 عام منسحبا تحت الضربات الموجعة لمحاكم التفتيش الكنسية مخلّفا وراءه أعظم حضارة شهدتها أوربا في عصورها الوسطي التي يطلقون عليها عصور الظلام .....

ولكن تجد هذه الحضارة العظيمة طريقها مرة أخرى إلى أوربا من ناحية الشرق عبر آسيا الوسطى التي انبثقت بها ينابيع جديدة من حضارة الإسلام لتغمر القسطنطينية ثم تفيض إلى أوربا عبْر البلقان ...

حاصر العثمانيون مدينة فينا أخر مرة سنة 1682م ( أي قبل نحو 300 عام )، بينما سقط الحكم الإسلامي في الهند قبل نحو 250عاما ، بعد عهد وصف بأنه "أجمل وأزهر عهد عاشته الهند في تاريخها .. أي في عهد أسرة المغول العظام (1526-1707م) ... "

 

كان هذا كله وفق تعبير"(هـ . ج . ويلز) ... المفكر الغربي.

ويتمهل بيجوفيتش عند هذه النقطة قليلا ليطلعنا على مزيد من التفاصيل حيث يقول:

" أحاول هنا أن أورد ُبعض الحقائق التاريخية لتقريب الصورة إلى ألأذهان .. فقد كان (أكبر شاه) أحد ملوك أسرة المغول العظام " وأحد أكبر عظماء ملوك الهند، بل إنه في تقدير المؤرخين المنصفين قد تبوأ مكانة متميّزة شامخة بين عظماء الحُكّام في تاريخ الإنسانية كلها .. أولئك الحكام الذين كانوا عظماء بالمعنى التام للكلمة . فأغلب جوانب النظام الذي أقامه في الهند مازال قائما إلى اليوم .. ذكر المؤرخون عنه قصصا وملاحم هي أقرب إلى الأساطير لولا أنها موثّقة في وثائق لا يمكن إنكارها .. قالوا عنه أنه كان أشجع الشجعان في القتال ولكن بمجرد أن يحقق النصر على أعدائه تتجلّى خصائصه الإنسانية الرحيمة في معاملة الأسرى والمهزومين .. كان عدوا لدودا لجميع ألوان الظلم والوحشية ... سخّر قوته لأعمال عظام وقت السلم ، وأقام المدارس في أنحاء الهند .. فلم تخْل مدينة صغيرة أو كبيرة إلا وبها مدرسة .. ولذلك نرى الدكتور شْميت في كتابه " تاريخ العالم " يقول: " لعل (أكبر شاه) لم يدرك أهمية ما أنجز لبلاده من تقدّم بقدر ما أدركه الإنجليز الذين قضوا على حكمه في الهند ، إلا أنه عمل أكثر بكثير منهم لإسعاد بلاده وتقد م شعبه" .....

انتهى عصر هذه الأسطورة الإسلامية سنة 1707م ....

وهو تاريخ ليس بالبعيد عن عصرنا الحاضر ...

 

(5)

يلفت بيجوفيتش نظرنا بقوة إلى ظاهرة نادرة في تاريخ الأمم ...

عندما تشرع الأمة الغالبة في تدمير كل شيء بأرض الأمة المغلوبة .. فعلها المغول في الزمن القديم وفعلها الإنجليز والأمريكيون ولا يزالون يفعلونها في العراق وأفغانستان .. وتفعلها إسرائيل كل يوم في فلسطين المحتلة على مدى ستين عاما ..

 

فهذه القوى البربرية الغاشمة لديها القدرة التكنولوجية الفائقة على الهدم .. ولكنها لا تملك مثقال ذرة من القدرة أو الإرادة على إعادة البناء كما تزعم دائما .. ولا تحقق شيئا مما وعدت به أبدا .. والواقع أكبر شهادة على ذلك ..

 

فقد وعدت أمريكا بإعادة بناء ما دمره الصرب في حرب البوسنة .. وقد مرت اليوم أربعة عشرة سنة على وقف الحرب وتوقيع الأطراف المتحاربة على اتفاقية دايتون للسلام ولم تفِ أمريكا بعُشر ما وعدت به لا في البوسنة ولا في كوسوفا .. ولن تعيد بناء العراق ولا أفغانستان .. وإنما تظل قضية إعادة البناء هذه معلّقة أبدا كورقة أمريكية للابتزاز وفرض الشروط والإملاءات والقهر والإذلال ..

 

ولست أستثنى من هذا تبرعات أمريكا لإعادة بناء ما دمرته إسرائيل في غزة كما تزعم .. إنما هي رشوة مقنّعة ستدخل جيوب رجال السلطة ليبقوا تحت السيطرة الأمريكية الإسرائيلية وفى خدمة مخططاتهما .. أراهن على ذلك .. وأراهن أن هذه الأموال لن يصل منها إلى غزة إلا الفُتات ( مُؤَجّلة وبشروطها المذِلّة ) .. وأرجو أن يحاسبني القراء على هذا الرهان...!!

 

ننتقل مع على عزت بيجوفيتش لنتابع الصورة المشرقة للمسلمين عندما كانت كفّتهم هي الغالبة .. يقول:

 

" لم يهدم المسلمون شيئا من الأراضي الخاضعة لسلطانهم ، بل انصرف جهدهم لاستيعاب العلوم التي ازدهرت بين الشعوب الواقعة تحت حكمهم فأتقنوها وطوّروها ثم نقلوها إلى الشعوب الأخرى .. ولا شك أن الفضل في هذا السلوك الإنساني المبهر إنما يعود إلى روح الإسلام وتعاليم الإسلام ..

 

وهذا واحد من قياصرة بيزنطة لم ينقطع عجبه من ذلك القائد المسلم - الذي وصفه بالهمجي - لإصراره على إدخال بند في اتفاقية السلام بينهما أن يضمن له حق شراء المخطوطات اليونانية .... وكان هذا القائد الموصوف بالهمجي قائداً عربياً مسلماً .. متعطّشا إلى العلم يبحث عنه في كل ركن من أركان الدنيا لأن قرآنه يحثه - بل يأمره -  باكتساب العلم والمعرفة وعمارة الدنيا على أفضل وأبهى ما يستطيع .... و يعلم أن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم هو القائل: " الحكمة ضالّة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها " ... ويعلم أنه قد جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ...

 

يقول بيجوفيتش: "لقد استوعب المسلمون إبداعات الفينيقين في مجال معالجة الزجاج ... وأخذوا من المصريين فنون النسيج التي ورثوها من أقدم العصور التاريخية ... واستفادوا من خبرة السوريين في مجال معالجة القطن ... ومن الفرس في مجال الحرير ....

 

وفى هذا يقول ريسلر: " لقد كان نسيج البيزنطيين والأقباط والساسانيين ذائع الصيت في ذلك الوقت ، ولكن استطاع المسلمون استيعابه وإتقانه والحفاظ على مستوى روعته." ..

 

وهناك نماذج من الأقمشة المصنوعة في ذلك الوقت محفوظة في متحف اللوفر بفرنسا وفى المتحف القيصريّ باليابان .. ولم يستطع أحد حتى الآن أن يجارى مهارة العرب وهندستهم في معالجة الزجاج .. ولا زلنا نشاهد حتى اليوم ضمن ما يحتفظ به متحف اللوفر والمتحف البريطانيّ من تحف إسلامية، قطعاً من روائع المصنوعات الزجاجية جُمعت من سامراء والفسطاط ...

 

وكان الكيميائيون العرب أول من أخترع الصابون وأقاموا مصانع لإنتاجه ... وكان للوزير الفضل البرمكى قصب الفضل في إنشاء مصنع الورق في بغداد ، ولكن صناعة الورق التي بدأت في الصين تطورت وانتقلت بسرعة فائقة عن طريق المسلمين في الأندلس إلى كل أنحاء أوربا ... بينما ظلت مدينة سمرقند تنتج أجود أنواع الورق في العالم مدة طويلة من الزمن ...

 

اختطّ العرب مدينة بغداد (المدينة الساحرة كما تعكسها قصص ألف ليلة وليلة) بعد أن فتحوا العراق .. وعندما حكمها الخليفة هارون الرشيد لم يكن قد مر على تأسيس بغداد أكثر من خمسين سنة ، ولكنها كانت حاضرة العالم في الثقافة والرخاء .. وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد سكان بغداد في القرن الحادي عشر بلغ أكثر من مليونين ، وكانت أكبر مدينة في العالم في ذلك الوقت .

 

وعند حديثه عن هارون الرشيد ... راعى الحضارة الإسلامية ... يقول ريسلر: " كانت عظمته تجذب نوابغ الرجال إليه مثل المغناطيس ، فجمع حوله برلماناً غير مألوف تكوّن من الشعراء والفقهاء والأطباء واللغويين والموسيقيين والفنانين ، ولم يسجل التاريخ أن قصر حاكم ما اجتمع فيه هذا العدد الكبير من العلماء الفطاحل ، مثلما حصل في عهد هارون الرشيد لأن عهده كان عهد حضارة راقية و عهد تسامح أخّاذ ..."

 

[وأقول أنا يا حسرةً على بغداد الحبيبة الجميلة مرتين : مرة بعد اجتياح المغول لها ومرة أخرى بعد الاجتياح الأمريكي البربري لها .. فمن يدلني على القصيدة الرائعة التي تغنّت بها أم كلثوم عن بغداد (مهد العروبة) ولحّنها رياض السنباطي ..؟ سمعناها في شبابنا فأبهرتنا ونحب أن نسمعها في الشيخوخة للتأسي ..ولنبكى قليلا على أطلال العروبة وشمسها الغاربة في بغداد ..!!] .

 

(6)

استمع معي إلى على عزت بيجوفيتش يتدفق حماسا وشاعرية وهو يعدد شواهد دامغة على سماحة الحضارة الإسلامية واحتضانها لكل أنواع البشر ورعايتها لكل الأديان .. إنه يقول باعتزاز: " في عهد الخليفة المأمون وُجد في أنحاء الخلافة الإسلامية أكثر من أحد عشر ألف كنيسة ، ومئات المعابد اليهودية .. بل ومعابد عبدة النار .. !!"

 

ثم يقول بيجوفيتش عن النهضة التعليمية في الحضارة الإسلامية: " أصبحت الجامعة النظّامية التي أسست سنة 1065م نموذجا أتّبعته المراكز العلمية في كبرى مدن الخلافة ، وكانت تدرس علوم القرآن والحديث والفقه وعلم اللغة والأدب والتاريخ وعلم حضارات الشعوب والآثار والفلك والرياضيات والكيمياء والفيزياء والموسيقى والهندسة .. وبعد قيام النظامية بمدة وجيزة أُسّست في بغداد الجامعة المستنصرية فكانت بحق مركز العالم الإسلامي .. تُدرّس فيها علوم الفقه والعلوم التطبيقية والآداب والفنون وغيرها .. وهذا النظام المنهجي لتدريس العلوم هو نفسه النظام الذي حاولت أوربا تقليّده بعد ذلك خصوصا في جامعة باريس ...

 

كانت الدراسة في المراحل الابتدائية ( أو ما يعرف اليوم بالمدارس الابتدائية والثانوية) بالمجّان لجميع الناس .. ومن أجل السماع من أعلام عصرهم والأخذ عنهم رحل الآلاف من طلبة العلم إلى مكة والمدينة والقاهرة ودمشق وبغداد .. وكانت خدمات الإقامة والطعام والدراسة تُقدّم للطلاب طوال رحلتهم مجانا في جميع المدن التي كانوا يمرون بها .. كما في البلاد التي استقروا بها لتحصيل العلم على السواء ..

 

وبعبارة أخرى يمكن أن نستخلص مما ذكرنا :

إننا نرى في العالم الإسلامي في القرنين العاشر والحادي عشر ظاهرة لم نسمع بها قط في أي حضارة أخرى ... فأينما يمّمت وجهك ترى الشغف بالكتاب والعلم ، وتسمع أصوات أفصح العلماء وأبرزهم تدوي في آلاف المساجد، وتعج قصور الحكام والأمراء بحلقات الشعراء والفلاسفة ، وتقابل في الطرقات علماء جغرافيا وتاريخ وشريعة يبحثون في العلوم المختلفة .....

 

لقد كانت هذه الفترة هي أهم المراحل في تاريخ الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية ... هذا على الأقل على حد قول (ريسلر) ...

 

حكم الإسلام العالم خمسمائة عام (700-1200م ) ... فعل ذلك بمحض تفوقه الحضاري على الأمم الأخرى ... وفقط  .....

 

حيث كان "الخليفة الناصر" في مدينة مراكش يتباحث مع الفيلسوف ابن رشد في فكر أرسطو وأفلاطون ، في وقت كان أمراء ونبلاء الدول الغربية يتفاخرون بأنهم لا يعرفون القراءة أو الكتابة "...

وكان الخليفة الحاكم الأموي يمتلك مكتبة تضم ّبين جنباتها 400 ألف مجلد ، بينما رأينا ملك فرنسا كارلو الخامس الملقب بـ "المعلم" يفتخر بعد ذلك بأربعمائة سنة بمكتبته التي تكونت من حواليْ ألف مجلد فقط .....!!

ويذكر اليعقوبي أنه أحصى سنة 891 م أكثر من مائة مكتبة في بغداد وحدها ...

 

ويضيف ريسلر قائلا: " لم يكن أحد من أغنياء المسلمين ليقوى على إمساك ماله عن الأنفاق في العلم والأدب والفنون، وتزويد المكتبات العامة والخاصة بالكتب ...

حتى قيل أن خزانة مكتبة مدينة النجف الصغيرة في العراق كانت تحتوى على ما يزيد عن 40 ألف مجلد ....

واحتوت مكتبة أبى الفداء وهو أحد الأمراء الأكراد في حماة على 70 ألف مجلد ...

ومكتبة المؤيّد في جنوب الجزيرة العربية أكثر من 100 ألف مجلد ...

ومكتبة مراغة على400 ألف مجلد ....!!

وكانت عناوين الكتب الموجودة في مكتبة مدينة الرِّي مدونة في عشر سجلات من الفهارس الضخمة ...

 

أما أكبر مكتبة على الإطلاق في العالم وقتذاك فقد كانت مكتبة العزيز بمدينة القاهرة حيث كانت تحتوى على مليون وستمائة ألف (1,600,000 ) مجلد ... منها 6,500 مجلد في الرياضيات وحدها و 1,800مجلد في الفلسفة ...!!

 

وأما مكتبة مدينة بُخارى فقد وصفها الفيلسوف الشهير ابن سينا بقوله :"رأيت كتبا لا وجود لها في أي مكان بالعالم ...!" ..

 

في معرض ذكره للحاكم العظيم في الأندلس الإسلامية عبد الرحمن الأول ومحاولته جمع العلماء من مختلف الأجناس في الجزء الغربي من الخلافة الإسلامية (من العرب والبربر والمرابطين والأندلسيين ) يقول ريسْلر : "إن هذا الهدف كان في حقيقة أمره حركة استطاعت عبر القرون اللاحقة النهوض بالأندلس الإسلامية إلى ذروة الحضارة البشرية .. وعند وفاة الخليفة عبد الرحمن الأول سنة 788م كانت الأندلس الإسلامية قد أضاءت عالم الغرب بأنوار العلوم والشعر والفنون الهندسية ."

 

ويذكر العالم الهولندي دوزى أن جميع سكان الأندلس الإسلامية كانوا يحسنون القراءة والكتابة في وقت كانت الكتابة في أوربا حكرا على عدد من رجال الكنيسة فحسب .. ثم يضيف : "لقد جذبت هذه الحضارة المزدهرة رجال الكنيسة وعامة الناس في الغرب النصراني فتقاطروا عليها بدون قيود ليلتحقوا بجامعات قرطبة وإشبيلية وطليطلة .. ليشهدوا ويتعلموا من محاضرات مشاهير العلماء المسلمين ... في هذه الجامعات الإسلامية العريقة ..."

 

[ أعلّق من واقع دراستي لأوضاع المجتمعات المسلمة في جزر مندناو وسولو بجنوب الفلبين خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر أنها كانت خالية من الأمية .. وهكذا لم تكن بلاد المسلمين تعانى من غول الأمية في عصورها الزاهرة وتحت حكوماتها المسلمة التي تخشى الله وتعمل لصالح شعوبها حتى في أقصى الأرض فيما يُعرف ببلاد واق واق ..

 

ولم تعرف الأمية طريقها إلينا وتترسّخ إلا في عهود الجور والاستبداد .. ولست أشك أن الأمية تؤدى وظيفة لا غنى عنها للحكومات المستبدة .. وصدق السياسي الذي قال إن الشعوب الجاهلة أسلس قيادًا من الشعوب المتعلّمة ..

 

ويعجب الإنسان كيف استطاعت الصين بتعداد سكانها الذي يقرب من مليار ونصف مليار نسمة أن تقضى على الأمية في بضع سنوات قليلة على الرغم من صعوبة اللغة الصينية .. بينما يفتخر قادتنا السياسيون بأنهم أبناء حضارة سبعة آلاف سنة .. ولكنهم حريصون (رغم ادعاءاتهم المضادة) على بقاء الأمية وترسيخها بين الكتلة الشعبية الأكبر من السكان لضمان استغلالها وتسخيرها لخدمة فئات قليلة من أصحاب المال والنفوذ ..

 

فلا تصدق من يقول أنّنا نحارب الأمية .. فعدد الأميين يزيد ولا ينقص ..

ويخرج من مدارسنا الابتدائية كل عام مزيد من الأجيال التي لا تعرف القراءة ولا الكتابة .. وإنما ستعرف البطالة والبلطجة ...

وفى مستقبل الأيام هم الرصيد السهل للعمالة الرخيصة، والمهام القذرة في مواجهة المظاهرات والانتخابات.. !! ]

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ