ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

السبت 06/10/2007


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


أي مستقبل لتركيا وسياستها الخارجية

بعد انتخاب غول رئيسا للجمهورية فيها؟

د.لقمان عمر محمود النعيمي*

يعد عام 2007 العام الأكثر أهمية لمستقبل تركيا ومسارها في القرن الحادي والعشرين على جميع المستويات، نظرا لما شهده هذا العام من حدث تاريخي كبير تمثل بفوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية المبكرة التي جرت في 22 تموز، حيث حصد (340) مقعداً من مقاعد المجلس الوطني التركي الكبير (البرلمان) البالغة (550) مقعداً، والذي على أساسه –أي هذا الفوز- حصل مرشح حزب العدالة والتنمية (عبد الله غول) ووزير الخارجية الأسبق الذي بسببه حصلت أزمة الرئاسة التركية وعقد الانتخابات البرلمانية المبكرة، على الأغلبية من الأصوات في الجولة الثالثة من التصويت في المجلس الوطني التركي الكبير والتي جرت في 28 آب من هذا العام.

فما الذي جرى؟ ولماذا فاز حزب العدالة والتنمية في هذه الانتخابات المبكرة؟ ولماذا ترشح غول بدلاً من أردوغان للرئاسة التركية؟ وما هو مستقبل تركيا في عهد حكومة أردوغان الثانية؟

على الرغم من أنّ أغلب استطلاعات الرأي ذهبت إلى ترجيح حصول حزب العدالة والتنمية مرة أخرى على الأكثرية في الانتخابات البرلمانية التركية، إلاّ أنّ عنصر الإثارة والأهمية في هذه الانتخابات تمثل بتحدي أردوغان التاريخي للجميع بأنّ حزبه إذا لم يحصل على الأغلبية المطلقة، التي تمكنه من تشكيل الحكومة منفرداً، فإنه سيعتزل الحياة السياسية، مما منح هذه الانتخابات سخونة كبيرة، إذ كان من المتوقع أن تكون نقطة تحول تاريخية بامتياز؛ فإمّا أن تكرس أردوغان زعيماً تركياً يقود ثورة صامتة جديدة على الثورة الاتاتوركية فتمتص ما يمكن تسميته بالتشدد في التوجه العلماني وإمّا أن تعلن نهاية رجل شجاع امتلك كاريزما وقوة وحضوراً تجاوز حضور أستاذه نجم الدين أربكان رائد الحركة الإسلامية التركية المعاصرة.

لقد كانت هناك عناوين متعددة للمعركة الانتخابية الجديدة؛ فالبعض رأى أنّها معركة الإسلام المعتدل والعلمانية المتطرفة، والبعض الآخر رأى أنها معركة المدنيين مع ما يسمى بـ"الديمقراطية العسكرية" (على حد تعبير الخبير بالشؤون التركية والمدير العام لمركز البحوث والتوثيق في لبنان الدكتور محمد نور الدين)، أو امتحان الغرب في تركيا (وفقاً لأنور إبراهيم السياسي الماليزي المعروف)، لكن العنوان الذي لا يمكن تجاوزه أو تحديه هو أنها كانت معركة "أردوغان" كنموذج استثنائي في الحياة السياسية التركية يقوم على أسس جديدة تتمثل أولاً؛ بكسر المعادلة التاريخية في احتكار العلمانية المتطرفة للحياة العامة، وثانياً؛ بإعادة هيكلة الحركة الإسلامية في شعارها وبرنامجها ووجهتها، وذلك بدفعها نحو "التصالح مع العلمانية" (على حد تعبير المفكر المصري الدكتور عبد الوهاب المسيري) أو طرح مفهوم جديد هو "العلمانية المؤمنة" (على حد تعبير الكاتب اللبناني توفيق شومان)، أو بالانتقال بنموذج ما يسمى بـ"الإسلام السياسي" إلى درجة قصوى في البراغماتية والعملية والديمقراطية والحداثة بتبني نموذج "الأحزاب الأوروبية المحافظة" (أو الديمقراطية المسيحية) كنموذج سياسي للإسلاميين، يقوم على قلب أولويات واهتمامات الأحزاب الإسلامية من الصراع على الرموز الدينية والتاريخية (الإسلام هو الحل، الحجاب، التعليم الديني، عقوبة الزنا وتطبيق الحدود...الخ) إلى الانجاز السياسي والاقتصادي والوطني العام، الذي يمنح الإسلاميين شرعية واقعية وليست شعاراتية.

لقد اختلفت معركة الانتخابات البرلمانية التركية التي جرت في 22 تموز في قضاياها الرئيسية عن الانتخابات السابقة التي جرت في خريف 2002، والتي خاضها حزب العدالة في سياق أزمة اقتصادية عاصفة مقرونة بشعور عام لدى الأتراك بفساد الطبقة السياسية الحاكمة حينذاك؛ فبعد قرابة أربع سنوات من رئاسة أردوغان للحكومة أضحى الشعب التركي أمام معطيات اقتصادية وسياسية جديدة في مقدمتها نجاح حزب العدالة والتنمية في الاستمرار بالحكم على الرغم من تحذيرات المؤسسة العسكرية المستمرة للحكومة التركية، وعدم انجرار الحزب إلى معارك خاسرة توفر للعسكر حججا دستورية وقانونية لقلب الحكم مرة أخرى على "الإسلاميين" أو (العلمانيين الجدد) كما يسميهم البعض، ونجاحه كذلك في تجاوز الأزمة الاقتصادية بكفاءة عالية تتمثل بأرقام ومؤشرات تشكل الرصيد الأكبر للحزب في حملته الانتخابية، وفي مقدمة هذه الأرقام انخفاض نسبة التضخم من (70%) عام 2002 إلى قرابة (10%) عام 2006 وزيادة حجم الاقتصاد التركي بنسبة (30%) و ارتفاع الناتج القومي الإجمالي بالثلث، وارتفاع سعر الليرة التركية ومعدل النمو خلال السنوات الأربع بـ(7%)...الخ.

فضلاً عن ذلك، حققت حكومة حزب العدالة والتنمية انجازاتٍ مهمةٍ على صعيد السياستين الداخلية والخارجية أهمها:

-  مصالحة بين تركيا وتاريخها العثماني.

-  تحقيق أكبر قدر ممكن من الديمقراطية والحرية.

-  انفتاح كبير على الاتحاد الأوروبي.

-  إنهاء العزلة التي وضعت تركيا نفسها بها منذ عقود.

-  بناء علاقات جيدة مع الدول العربية والإسلامية.

-  محاولة أسلمة المجتمع والدولة ولكن بنكهة تركية غير معهودة في أي مكانٍ آخر.

-  الحد من تدخل الجيش في السياسة التركية.

-  إجراء عدد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية المهمة في البلاد.

-  تثبيت دعائم الاقتصاد التركي لا سيما في المجال الصناعي.

-  تقليل مستوى التفاوت الطبقي في المجتمع التركي ورفع مستوى الدخل الفردي.

قبل أسبوع من إعلان حزب التنمية والعدالة اسم مرشحه لرئاسة الجمهورية التركية كان الشارع التركي يغلي متسائلاً فيما إذا كان رئيس الوزراء التركي ومؤسس حزب التنمية والعدالة "رجب طيب أردوغان" سيترشح لمنصب الرئاسة الأولى حينها قال أردوغان لمجموعة من الصحفيين، أن مرشح حزبه لرئاسة تركيا سيشكل "مفاجأة". وجاء يوم 24 نيسان 2007 ليكشف أردوغان عن المفاجأة وليعلن أن مرشح حزبه للرئاسة الأولى هو زميله الذي تتلمذ معه على يد "أربكان" وانشقا عنه معاً وأسسا "حزب التنمية والعدالة" معاً فإذا به "عبد الله غول". فلماذا لم يترشح أردوغان للرئاسة وما الأسباب التي دفعته لاختيار "غول" بدلاً عنه؟

مما لا شك فيه أن أردوغان كانت لديه الرغبة الأكيدة لشغل منصب رئيس الجمهورية التركية إلا أنه على ما يبدو عدل عن ذلك بعد مشاورات مكثفة داخل حزب العدالة والتنمية التي يسيطر على أغلبية البرلمان والذي يتزعمه أردوغان وذلك للأسباب التالية:

1. إن منصب رئيس الجمهورية هو منصب فخري يحتاج لشخصية كارزمية مثل عبد الله غول وليس إلى شخصية طموحة وعملية مثل أردوغان الذي يرأس الحزب الأكثر تأثيراً في الشارع التركي.

2. دخول تركيا الانتخابات المقبلة وبالتالي فإن حزب العدالة بحاجة لرئيسه أردوغان في إدارة الحملة الانتخابية لما يتمتع به من شعبية واسعة في الشارع التركي وذلك لحصد أكبر عدد من المقاعد البرلمانية لصالح الحزب. وفي هذا يقول سرحان شفيق الاقتصادي في بنك (موركان ستانلي) إن "بقاء أردوغان زعيما لحزب العدالة والتنمية سيعزز فرص فوز الحزب في الانتخابات العامة التي ستجرى في وقت لاحق من هذا العام".

3. خشية الحزب من الانقسامات الداخلية في حال تعرضه لأزمة كما حصل مع "حزب الرفاه" الإسلامي الذي كان كل من أردوغان وغول أحد كوادره ثم انفصلا عنه ليؤسسا حزب العدالة والتنمية، حيث أن احتمال ترشح أردوغان للرئاسة أدت لتعبئة ما بين نصف مليون إلى مليون ونصف متظاهر مناصرين للعلمانية ومعارضين لاردوغان وحزبه بحسب التقديرات في 14 نيسان في أنقرة. وإذا أخذنا بالاعتبار ما ذكرته مجلة (نيوزويك) الأمريكية في كانون الأول 2006 بان هناك احتمالية تصل الى (50%) أن يقوم الجيش بانقلاب في حال تم وصول شخصية إسلامية التوجه للرئاسة الأولى فإنه يتبين لنا أهمية الخطوة التي قام بها أردوغان في حسم مسألة ترشحه للرئاسة.

4. ما يتمتع به غول من سمعة طيبة وما يوصف به من اعتدال إضافة لما حققه من انجاز دبلوماسي خلال فترة توليه لوزارة الخارجية التركية فضلاً عما يوصف به من قبل الأحزاب التركية الأخرى بأنه الرجل الأكثر اعتدالاً داخل حزب التنمية والعدالة، فترشيح غول للرئاسة قلل من نقمة العلمانيين على الحزب وبالتالي خفف من حدة الاحتمالات بانقلاب عسكري كما هو معهود في تركيا. وفي هذا الصدد قال "وولفانجو بيتشولي" وهو محلل متخصص في الشؤون التركية "رغم حقيقة أن زوجة غول ترتدي الحجاب إلا أنه سياسي معتدل رقيق الحديث يتمتع بثقة الجيش والمؤسسة العلمانية أكثر من زعماء حزب العدالة والتنمية الآخرين".

5. إن إشغال حزب العدالة والتنمية لسدتي الرئاسة في تركيا سيعزز من الحراك السياسي حيث ستتحد الأحزاب العلمانية بكل أطيافها مع مؤسسة الجيش لمراقبة أداء الحكومة على الرغم مما هو قائم بينها من اختلاف في التوجه من جانب ومن جانب آخر فإن شغل منصبي رئيسي الجمهورية والحكومة من نفس الحزب من شأنه أن يحرر أداء الحكومة ويسهل من تطبيق أجندتها السياسية في الداخل وبالتالي يحقق لها نشاطاً دبلوماسياً غير مسبوق خصوصاً إذا ما علمنا أن الرئيس المنتهية ولايته (احمد نجدت سيزر) المتمسك بالعلمانية ردّ عدة تعيينات على رأس مؤسسات أساسية، معتبرا المرشحين الذين طرحتهم حكومة أردوغان غير مناسبين. هذا في البرامج الداخلية أما في السياسة الخارجية فقد حال الرئيس "سيزر" دون استقبال كل من الرئيس العراقي "جلال الطالباني" والرئيس الإيراني "أحمدي نجاد" في أنقرة على خلاف ما كان يرغب به رئيس الحكومة أردوغان الذي أراد علاقات طيبة مع دول الجوار.

إن إنتخاب عبد الله غول رئيسا لتركيا، قد اسدل الستار على معركة سياسية وضعت المؤسسة العسكرية والعلمانيين في مواجهة حكومة حزب العدالة والتنمية صاحبة الشعبية الكاسحة، التي خرجت منها منتصرة وبجدارة. معركة كسبها حزب العدالة والتنمية لكنها شهدت الرئيس غول يخرج عن مساره ليهدئ من روع خصومه؛ فعقب مراسم أداء اليمين الدستورية في 28 آب 2007 قال غول أمام المجلس الوطني التركي الكبير: "إنني سأكون ممثلاً لجميع المواطنين، وسأكون –بالكلية- غير منحاز" مؤكداً أن "تركيا جمهورية ديمقراطية وعلمانية تقوم على مبادئ العدل الاجتماعي وهذه هي القيم الأساسية للدستور وعلينا أن ندافع ونعمل من أجل ترسيخ هذه القيم".

كلمات طمأنت قلوب الجميع باستثناء العلمانيين الذين لا تزال تراودهم شكوك عميقة في أن غول يضع معتقداته الإسلامية وإيديولوجيته الفكرية فوق القيم المؤسسة للجمهورية التركية. وخرجت صحيفة (راديكال) التركية وفي صدر صفحتها الاولى تقول "السيد غول لا تنس ما أقسمت على حمايته".

ومما لا ريب فيه أن ما من أحد يختلف في أن غول سياسي محنك؛ ففي الفترة التي أمضاها في منصب وزير الخارجية قاد مسعى تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي كما كان في طليعة من دفعوا قدما ببنود الإصلاح من قبيل إلغاء عقوبة الإعدام وتجذير قيم حقوق الانسان. وتبدو الحكومات في الغرب سعيدة أيضا لأن غول الذي يتحدث الانكليزية بطلاقة والذي تربطه علاقات وثيقة بوزراء الخارجية الأجانب قد صار رئيسا لتركيا، بيد أن الصفوة الليبرالية فضلا عن العلمانيين المتشددين في الجيش يخشون من انه مع وصول غول إلى القصر الرئاسي فإن حزب العدالة والتنمية لن يجد الآن ما يحول بينه وبين هدم التقاليد العلمانية للدولة والتي وضعها مؤسس الجمهورية التركية الحديثة أتاتورك. وفي نواح عديدة لم يكن رمز المعركة غول نفسه بل زوجته (خير النساء)؛ ففي بلد يحظر ارتداء الحجاب في المكاتب الحكومية والجامعات فإن (خير النساء) ستصبح أول سيدة لرئيس جمهورية تركي ترتدي الحجاب. ويرفض غول الانتقادات الخاصة بحجاب زوجته قائلا إنها غير ذات صلة. وقال غول أثناء الحملة الانتخابية: "أنا الذي سأصبح رئيسا وليس زوجتي إنني أرى أن الحجاب أمر شخصي وليس قانونيا".

ورغم كل ذلك فإن الحجاب يبقى مجرد رمز، والخوف الحقيقي الذي جعل أكثر من مليون متظاهر من مناصري العلمانية ينزلون إلى الشوارع احتجاجاً على حكومة حزب العدالة والتنمية هو أن رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان سيحاول من الآن وصاعدا أن يسارع في تنفيذ أجندة سياسية "إسلامية سرية" وأنه لن يكون هناك هذه المرة قيود أو مكابح رئاسية توقف أجندته.

الآفاق والتوقعات:

ويبقى التساؤل مطروحاً: ماذا بعد فوز غول وحزب العدالة والتنمية في تركيا؟!

الإجابة على هذا السؤال: يمكن الاستدلال عليه من رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان نفسه عندما علق على ذلك قائلاً: "إن فوز الحزب بأغلبية مطلقة لن يغير من الأسس العلمانية للدولة التركية"، مشيرًا إلى سعي الحزب وحكومته للتعاون مع الجميع وانه سيبقي العلاقة متوازنة مع الجميع أيضاً. كما علق غول بعد فوزه بالرئاسة قائلاً: "سوف أتعاون وأتكاتف مع الحكومة المتمثلة في رئيسها رجب طيب أردوغان الذي أعتبره صديقاً لكل الشعب التركي، وكذلك سأكون أنا صديقاً لكل الشعب التركي".

وعلى هذا وفي ضوء نتائج الانتخابات الأخيرة وفوز عبد الله غول يتبادر إلى أذهاننا سؤال مهم وهو إلى أين تتجه تركيا تحت رئاسة غول واردوغان؟!!

يمكن القول أنه رغم النجاح الساحق لحزب العدالة والتنمية وفوز عبد الله غول بالرئاسة فإن المواطن التركي يطرح تساؤلاً هو: هل يستطيع عبد الله غول وحزب العدالة والتنمية أن يظل كل منهما محافظًًا على التزامه بالثوابت الديمقراطية، وأن يستمر في ولائه للتراث العلماني الذي أرساه أتاتورك وتنقيته من الجوانب الاستبدادية (التغريبية) القوية التي علقت به وبالتالي تحقيق المعادلة الذهبية بين انتمائه ومشروعه الإسلامي، والجذور والهوية والثقافية الدينية لدى غالبية الشعب التركي من جهة، وبين احتياجات ومتطلبات بناء الدولة العصرية الحديثة، وترسيخ مفهوم "الإسلام الوسطي المعتدل" المنفتح على الحضارة الحديثة، مما يعني تجاوز العلاقة المتوترة بين ثنائيات الأصالة والمعاصرة، القديم والجديد، الخصوصية والكونية، الأنا والآخر، النقل والعقل؟ ثم يقول هذا المواطن البسيط: إذا تحقق ذلك فإننا سوف نعرف الإجابة على التساؤل المطروح: تركيا إلى أين؟

في ضوء التجربة السابقة لحكومة حزب العدالة والتنمية خلال السنوات الأربع الماضية في تركيا، وما صاحبتها من تحديات داخلية وخارجية كبيرة، والمشروع الإصلاحي للحزب وطموحاته في عمل علاقات جيدة ومتوازنة مع جميع الأطراف الداخلية والخارجية، يمكن الإشارة إلى السياسات المتوقعة للحزب في تشكيلة حكومته الجديدة على الصعيدين الداخلي والخارجي كما يلي:

أولاً: على الصعيد الداخلي: يبرز هناك ثلاث تحديات رئيسية للحكومة خلال فترتها المقبلة هي الحفاظ على المستوى الاقتصادي الحالي ومحاولة تطويره أكثر بإجراء الإصلاحات اللازمة لذلك، والعلاقة مع المؤسسة العسكرية في ظل مضي الحزب قدما في تنفيذ برنامجه الإصلاحي وأجندته السياسية، والتعديلات الدستورية المقبلة.

1. الاقتصاد التركي:

يعتقد خبير الشئون التركية إبراهيم أقباب أن التطور الاقتصادي بعد الفوز الكبير الذي حققه حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية وإعطاء الحكم والرئاسة لعبد الله غول سيكون مضاعفًا؛ لأن حكومة العدالة الأولى أثبتت أنها ركيزة الاستقرار في تركيا والضامن لها، ولذا تلقى في هذه الانتخابات تأييدًا شاملاً من الشعب، الذي انحاز للحزب ولوزير خارجيته الذي أصبح رئيسًا للدولة الذي منح بلاده الاستقرار الاقتصادي.

ويشير إلى أنه ٍيتوقع أن تزيد بقوة الاستثمارات الأجنبية داخل تركيا، التي طالما كانت حلمًا لقادة العدالة والتنمية في مسيرة الإصلاح الاقتصادي التي بدأوها منذ عام 2002، وكذلك سيشجع رجال الأعمال الأتراك على الاستثمار داخل بلادهم بعد أن كانوا يخشَوْن على أموالهم وأعمالهم من المناخ السياسي الذي لم يكن مستقرًا تمامًا في تركيا. واتفق معه خبير الشئون التركية سفر توران، حيث يرى أن نتائج الانتخابات التشريعية التي أنصفت حزب العدالة والتنمية وكذلك فوز عبد الله غول إشارة إلى أن الناخب التركي صوت للاستقرار الاقتصادي للبلاد الذي حققه هذا الحزب؛ لأن الناخبين الأتراك رأَوْا أن العدالة والتنمية أدار البلاد اقتصاديًا بشكل أرضى طموحاتهم، وأعطاهم الأمل في غدٍ مشرق، ولذا توقع أن يستمر الانتعاش الاقتصادي علي يد حكومة العدالة والتنمية. كذلك أكد الدكتور (محمد نور الدين) أن الإنجاز الأساسي لحزب العدالة والتنمية في حكومته الأولى كان اقتصاديًا، من خلال ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي التركي، وتراجُع معدلات التضخم فيه، والقفزة التي أحدثها في زيادة الصادرات التركية عن الواردات.. ولكل هذه المعطيات منحه الشعب التركي الثقة المطلقة في الانتخابات التشريعية ليكمل مشروعه الاقتصادي الذي تلمَّسه بالفعل المواطن التركي العادي. والدليل على نجاح حزب العدالة والتنمية اقتصاديًا هو التفاف الكثيرين من رجال الأعمال حوله؛ لأنهم رأَوْا فيه أنه الحزب القادر علي تحقيق الاستقرار السياسي، الذي يضمن ازدهارًا لرؤوس أموالهم ومشاريعهم في تركيا.

2. العلاقة مع المؤسسة العسكرية:

     إن الفوز العريض الذي حققه حزب العدالة والتنمية وكذلك عبد الله غول يمثل ضمانة قوية له في أية مواجهة محتملة مع الجيش، على خلفية القاعدة الشعبية العريضة التي يتمتع بها كلاهما، والتي منحته ثقتها في الانتخابات. والجديد أن الجنرالات المتقاعدين من الجيش التركي يحاولون إقناع القادة الحاليين بالجيش لتغيير مواقفهم المتشددة، وفق المعطيات الجديدة على الساحة التركية، وأن زمان الانقلابات العسكرية لم يعد مقبولاً لدولة كبيرة مثل تركيا. وأعتقد أن فوز العدالة والتنمية سيحجِّم كثيرًا من الأصوات المتشددة في صفوف الجيش، فالشعب قال كلمته، وأي تحرك لتقويض إرادة الشعب لن يكون مقبولاً باعتقادي.

       ويمكن القول أيضًا إلى أن الجيش التركي الذي يصَدِّر نفسه على الدوام بوصفه حامي العلمانية في البلاد، وجد نفسه في ورطة بعد فشل الأحزاب التي ساندها، فالانتخابات التشريعية الأخيرة كانت صراعًا بين الفريق المؤيد للديمقراطية (العدالة والتنمية) وبين الفريق المعارض لها (الجيش والأحزاب العلمانية) والفوز الذي حققه العدالة والتنمية كان انتصارًا كبيرًا للديمقراطية وضع الجيش في مأزق، فكيف سيقول للشعب الذي اختار العدالة.. أنتم على خطأ وأنا أعرف مصلحتكم أكثر منكم؟ واختياركم للعدالة كان على غير حق، ومن هنا فالجيش في مأزق كبير، وهو الآن في مواجهة مع الشعب وإرادته وليس مع العدالة والتنمية بالتحديد.

       إذا كان الجيش يحترم الديمقراطية فعليه أن يحترم نتائج الانتخابات التشريعية، وبالتالي عدم التدخل في مسار الوضع الديمقراطي في أي أمر آخر كما في رئاسة الجمهورية، ولكن كما يقال في تركيا :"هنا تركيا"، فإن مسألة احترام الجيش للجمهورية غير مضمون، فحصول رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس السابق على (50%) من الأصوات في ثلاثة انتخابات تشريعية خلال عقد الخمسينيات من القرن الماضي لم يحل دون إعدامه بعد انقلاب عام 1961. ومع الاعتراف بأن الظروف تغيرت فتبقى كل الاحتمالات المتعلقة بمواقف الجيش واردة بما فيها الانقلاب العسكري. إذن فإن شعبية أي حزب في تركيا لا تعصمه من بطش الجيش، بل إن الضامن لاستمرار أي حزب يتوقف على مدى انسجام هذا الحزب مع المؤسسة العسكرية. وفي ظل الدستور الحالي تبقى هناك هيمنة لبعض المؤسسات غير المنتخبَة على قرارات مصيرية في البلاد كالمحكمة الدستورية ووزارة التعليم العالي، بالإضافة إلى الجيش.

3. التعديلات الدستورية:

       لا شك أن الرئيس المنتخب عبد الله غول و حزب العدالة والتنمية في ظل حكومته الثانية سيتوجه بقوة نحو إجراء تعديلات جوهرية في الدستور، ومن المتوقع أن يقوم بتحضيرات سريعة في هذا الخصوص؛ لأن الدستور الذي عُدل آخر مرة عام 1982 تحتاج موادُّه إلى تعديل سريع، كما في المادة الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية، الذي يجب أن يكون بالانتخاب المباشر من قِبل الشعب كما توجد بعض التعديلات الأخرى التي تطالب بها قواعد حزب العدالة مرتبطة بالمدارس الثانوية الدينية، التي يدخل أبناؤها الجامعات بدرجات أعلى من نظيرتها من المدارس المدنية، وهو تناقض دستوري يخالف المساواة. وذلك أصبح تعديل الدستور الآن مطلبًا لحزب العدالة والتنمية، وللأحزاب الأخرى، فالدستور الحالي به نصوص غامضة، وغير واضحة المعالم، وكل فصيل سياسي يفسرها كما يشاء أو على حسب هواه، وهذا يتسبب في مشاكل كبيرة داخل تركيا. وبالتالي التعديل الدستوري أمر ملحّ لاستقرار تركيا.

ثانياً: على الصعيد الخارجي: هناك ثلاثة مسائل رئيسية في هذا المجال وهي عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، والعلاقة مع الولايات المتحدة، وسياسة تركيا الإقليمية.

 

 

1. عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي:

أكد الخبير السياسي التركي إبراهيم أقباب أنه فيما يتعلق بمستقبل المفاوضات لانضمام تركيا للاتحاد الأوربي فإنها ستسير ولكن بشكل بطيء؛ لأن تركيا ربما تراجع مواقفها من الانضمام للحظيرة الأوربية؟ وذلك له عوامله التي أهمها فشل الاتحاد الأوروبي في تحقيق الهدف منه للبلدان الأوربية التي أنشأته، والذي تمثل في تقوية اقتصاد هذه البلدان. فتركيا التي بدأت تتعافى اقتصاديًا على يد حكومة حزب العدالة والتنمية بعد مرور الـ(15) عامًا التي حددها الاتحاد الأوربي لقبولها عضوًا فيه، ربما بعد مرور هذه السنوات تمتنع عن الدخول؛  لأن مزاياه الاقتصادية ستكون قليلة، ولا يحمل لتركيا أكثر من "برستيج" لا أكثر أو أقل. وهناك نقطة جوهرية أخرى يمكن إضافتها، وهي أن الواقع التركي يقول: إن وزن تركيا النسبي في تركيا "الأوربية" يعطيها وزنًا متوسطًا، وربما غير فاعل أو في الواجهة، بعكس تركيا "الشرق أوسطية" التي هي دولة محورية وكبيرة ومؤثرة وفاعلة، وبالتالي بقاء تركيا في هذا المحيط فيه منافع كبيرة لها عن الخيار الأوربي. في حين يشير الدكتور محمد نور الدين إلى أن نتائج الانتخابات الأخيرة التي منحت حزب العدالة أغلبية مطلقة وما تلاه من فوز عبد الله غول دافع لحكومة حزب العدالة لأن تمضي في مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي بعزم أقوى من أي وقت مضى؛ لأنها ستكون متكئة على قاعدة جماهيرية عريضة، فضلاً عن أن حزب العدالة يعمل على تعزيز الديمقراطية في تركيا، ويحارب لأجل ترسيخ قيمها، وهو ما يكسبها ثقة الاتحاد الأوروبي..إنه يواجه ما وصفها بـ"القوىً المتطرفة" التي تريد فرض آرائها (الجيش والعلمانيين) وكان شعاره في الاستحقاق الانتخابي "تعزيز الديمقراطية"، وأن تكون الكلمة بيد الشعب والمؤسسات الدستورية لا في يد العسكر.

2. العلاقات مع الولايات المتحدة:

  من غير المتوقع أن يطرأ أي جديد على علاقات تركيا مع الولايات المتحدة في ظل الحكومة الثانية للعدالة والتنمية وكذلك بعد فوز عبد الله غول؛ فحزب العدالة يصنف على أنه مقرّب من الولايات المتحدة، لكنه في الوقت ذاته يختلف معها إذا كان الأمر متعلقًا بالمصالح الوطنية التركية، كما حدث في حرب العراق بممانعة الهجوم على الأراضي العراقية من الأراضي التركية، لكن بالمجمل ستستمر العلاقة على الوتيرة السابقة نفسها، لأنه ليس من مصلحة تركيا اتخاذ موقف عدائي من الولايات المتحدة، والأخيرة لا تسعى للعداء مع تركيا أو مع أي شخص يمثل تركيا. ويتفق مع هذا الرأي الخبير سفر توران، الذي أكد على أن العلاقات التركية-الأمريكية في ظل الحكومة الثانية للعدالة والتنمية وما تلاها من فوز عبد الله غول لن يكون فيها جديد، وستستمر سياسة حزب العدالة في التعامل مع أمريكا، من حيث البعد عن مواجهة الولايات المتحدة واستعدائها، وإن كانت تقف في وجهها إذا ما تعرض الأمر لمسألة الأمن القومي التركي، وحكومة حزب العدالة تدرك جيدًا قوة الولايات المتحدة كقوة دولية كبيرة، وبالتالي لا فائدة من عدائها، والتعاون بما لا يخل بالمصالح الوطنية معها أمر جيد ومفيد.

 ولكن الدكتور (محمد نور الدين) يختلف مع هذا الرأي في علاقة تركيا بأمريكا حيث يتوقع مواجهة بين حزب العدالة والتنمية والرئيس عبد الله غول المنتخب والولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بشمال العراق المتاخم للحدود التركية، الذي تقول القوى العلمانية المناهضة لحزب العدالة بأن عناصر حزب العمال الكردستاني المعارض متواجد فيه، ومن ثَمّ يتعين على الجيش التركي القيام بعملية عسكرية ضده وهو ما تعارضه أمريكا. فالفترة المقبلة ربما تسمح فيها الحكومة الجديدة للجيش بالقيام بعملية نوعية شمال العراق حتى يبعد حزب العمال الصورة التي يحاول معارضوه تثبيتها عليه، والمتمثلة في التفريط في الحقوق القومية والوطنية لتركيا. سياسة الصبر التي كثيرًا ما اتبعتها حكومة أردوغان الأولى فيما يتعلق بشمال العراق والتواجد الكردي فيه، لن تستمر في الحكومة الثانية.

3. سياسة تركيا الإقليمية:

  فيما يتعلق بسياسة تركيا الخارجية على المستوى الإقليمي ومواقفها من عدد من القضايا المهمة خلال المرحلة القادمة فيمكن القول بأن تلك السياسة والمواقف من عدد من الملفات الساخنة كالقضية العراقية والقضية الفلسطينية وتطورات الملف النووي الإيراني والأزمة اللبنانية سوف تبقى على حالها لان تلك السياسة والمواقف جنبتها التورط في تعقيدات تلك القضايا من جهة، وأبقت دورها وعلاقاتها مع جميع الأطراف في المنطقة فاعلة ومتوازنة وجيدة من جهة أخرى. لذلك يمكن القول بأن الدور الإقليمي التركي الذي يستند على سياسة تعدد الأبعاد، يمتلك القدرة على التواصل مع كل الأطراف في الشرق الأوسط، وتركيا هي الدولة الوحيدة التي لها علاقات جيدة مع الجميع دون استثناء، وهو ما يعطيها ميزة تكاد تنفرد بها. لكن الضوابط الداخلية والمحددات الخارجية سوف تحول دون توغل تركي في أن يكون مفتوحاً تجاه قضايا المنطقة المعقدة، وهو يرتسم حتى الآن في إطار أن يكون لوجستياً من جهة، ومسهلاً وناصحاً ومرشداً من جهةٍ أخرى، ويبدو أنه في ظروف التوترات والتعقيدات التي تشهدها المنطقة تكون الحاجة ماسة إلى مثل هذا الدور.

*مدرس / مركز الدراسات الإقليمية / جامعة الموصل.

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ