ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء 22/08/2007


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


ــ

في بستانِ إقبال

كتبها: أنس إبراهيم الدّغيم

سوريا / معرّة النّعمان / جرجناز

eqbal1979@hotmail.com

هذا البستانُ الذي وصلتُ إليه بعد سيرةٍ طويلةٍ من الأمل و الحذر ، و مشيتُ إليه على طريقٍ طويلٍ جانباهُ الرّغبةُ و الرّهبة .

كنت أستروحُ شذاه العَطِر عن بعد ، و أملأُ عيني من جمال ألوانه و لكن عن كثَبْ .

كان لاسمه وقعٌ خاصٌّ لم أعهده لأيّ اسمٍ عابر ، فيمرّ بي كما يمرّ الأمل المعترضُ سنحتْ به فرصة ، على حدّ تعبير مصطفى صادق الرافعي رحمه الله .

و كانت كلماته تترك في نفسي أثرها البالغ ، تماماً كما تنقدحُ الفكرةُ بعد طولِ تفكّر .

و أنا المغرم بالأفكار المضيئة و الأقوال الساطعة ، أحفظها من صفحات الكتب ، أو ألملمها من أوراق التقويم الملقاة هنا وهناك ، و من أقوال الخطباء على منابرهم و الأدباء في محافلهم .

و كانت كلمةٌ من كلمات هذا الإنسان الفريد تصل بي إلى حدّ الإشباع الرّوحي ، في عالم يقيم علاقاته مع كلّ شيءٍ إلا الرّوح .

فكما يقول إقبال :

تمدُّنُ عصركم جمعَ المزايا      و ليس بغائبٍ إلا الضّميرُ

كان إقبال _ رحمه الله _ كالفكرة المهاجرة ، ترى كلّ أرضٍ هي مدينتها المنوّرة .

أو كالغيث المبارك ، أينما وقع أشبع .

و كان قلبهُ المسافر لا يملّ من الترحال ، فتراه حيثما ارتفعت مئذنةٌ أو كبّر مسلمٌ أو دُعي إلى صلاة .

فمرّةً تراه طائفاً بأشعاره و قلبه حول البيت العتيق ، لينبّهنا إلى حقيقة إسلامنا حينما تعمل عملها في النفوس ، و بأننا نحن أصحاب الرسالة الخالدة و أهل الحرم ، فلماذا يصنع لنا أهل الصين ثيـابَ الإحــرام ؟

و مرّةً تراه باكياً تحت قباب مسجد قرطبة و في فنائه ، ليقول لنا بأنّه لافردوس لمن ترك فردوسَ دينه و رضي عنه بالقليل الزّائل .

كان محمد إقبال رحمه الله من القلّة الذين أقاموا علاقتهم مع الله على أنّهم خلفاؤهُ في أرضه ، و مع الإنسان على أنّهم حملةُ رسالةٍ و أصحابُ حق .

فكان عاملاً في سبيل الله حيثما كان ، و كانت تحرّكه طاقةٌ هائلة من الإيمان و الثقة بمولاه .

و كنت فيما أذكر أنه وقع بين يديّ كتاب بعنوان ( كن كابن آدم ) للمفكّر الإسلامي جودت سعيد ، فكان ممّا لفت انتباهي أنّه أورد بيتاً من الشّعر و هو لمحمّد إقبال حيث يقول فيه :

ما فشا ذا السّرَّ قبلي في البشرْ        لم يثقّب ناظمٌ مثلي الدّررْ

فقلت في نفسي : ومن هو حتّى يعلنَ لنفسهِ هذا التّفرّد ؟

و لكن عندما قرأتُ محمد إقبال قراءة من ينزل الناس منازلهم و يعرف لأهل الحقّ قدرهم ، رأيته _ و بما تحمل الكلمةُ من معنى _ إنساناً فريداً .

كان قويّا بالله غنيّاً به ، مهاجراً إليه بزادٍ من التوحيد و الإيمان و فخوراً بـ ( لا إله إلا الله ) ، هذه الكلمة الخالدة التي كان يحملها بين جنبيه حقيقةً عاملةً ، استوت على عرش قلبه و ملكت عليه جوارحَه .

فلم يكن في لذّّة الدنيا لا في قليلٍ و لا في كثير ، و لكن حملهُ لهموم أمّته و دينه نأى به عن مساحة الفراغ القاتل و التفكير الرّخيص ، وإنّ همة قلبه و حريّة فكره و نظرته الفاحصة و وقوفه على كُنهِ حقيقته ، كل ذلك جعله ينضمُّ بأقطار حسّه و نفسه لدائرة الإيمان الرّفيع ، منجذباً بجوارحه المؤمنة إلى قبلةِ الرّوح العابدة القائمة بأمر الله .

فلم يقبل بعد ذلك إلا بنفسه و هي ترتقي في ملكوت ربّ العالمين ، و بروحه إلا و هي صاعدة في معارج هذا النّسب العظيم ، فلم ينخدع بوثنيّةٍ قاتلة و لا قوميّةٍ زائفة ولكن:

أنا أعجميّ الدّنِّ  لكنْ خمرتي   صنعُ الحجازِ و كرمِها الفينانِ

إنْ كان لي نغمُ الهنود ولحنُهم   لكنّ هذا الصّوتَ من عدـنان

و الله أسأل أن يوفّقني لأن أَشرَحَ هذا القلب الكبير للعالمين ، و أن أعيدَ صدى هذا الصّوت علّه يبعثُ الهمّةَ في النفوس .

و لتكن هذه الكلماتُ مقدّمةً لسياحةٍ طويلةٍ في بستان هذا الإنسان الفريد ، في بستان " محمّد إقبال "  رحمه الله .

--------------------------

في بستانِ إقبال 2

دونَ عصري كلُّ سرٍّ قد خَفِي    ما بهذا السّوقِ يُشرى يوسُفي

و ككلّ الذين يحبون الجمال ذهبت للقاء يوسفه .

و من أمام قلعة دمشق و من قرب النّصب التذكاري للقائد الفاتح صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه ، مشيت في الطريق الذي يوازي القلعة من الشّمال و ينتهي بالمدينة القديمة ، ثمّ يقتربُ من جامع بني أميّة و ما عليك إلا أن تنـزوي إلى اليسار قليلاً لتكون أمام دار الكتب الظاهريّة التي بناها الملك الظاهر رحمه الله .

هنا وتحت شجرة الصنوبر العالية و على مقربةٍ من بركة الماء التي تتوسّط الدّار و بتعبير أهل دمشق ( البحرة )  كان يجلسُ أمين المكتبة ، أتيت إليه و طلبت منه كتاباً _ أيّ كتابٍ _ لمحمد إقبال رحمه الله .

( الأسرارُ و الرّموز ) كان أوّل كتابٍ لمحمد إقبال تكتحلُ به عيني .

و كان الكتاب يضمّ منظومتين و هما : أسرارُ الذّات  و نفيُ الذّات .

و لقد نظمهما محمد إقبال رحمه الله باللّغة الفارسيّة و ترجمهما إلى العربيّة الدكتور عبدالوهّاب عزّام رحمه الله و الذي كان سفيراً لجمهورية مصر العربيّة في باكستان .

و في الطابق العلوي للمكتبة حيث قاعة المطالعة بدأت الصّلةُ بين معلّمٍ عظيمٍ و تلميذٍ هو أنا .

و من العسير عليّ أن أشرح لهفتي حينها لأن أقرأ لهذا الإنسان الفريد و كأنّني أنا المعنيُّ بقولِ إقبال في كتابهِ هذا :

إنّ في قلبكَ معشوقاً ثوى    أقبِلنْ أُنبئكَ عن هذا الجوى

و قد أقبلت و القلب ينبضُ حبّاً و الروح تفيضُ شوقاً ثمّ استهلّت العين بالدموع عند أوّل بسم الله الرحمن الرحيم .

تماماً ومن أمام النافذة الكبيرة المطلّة على فناء هذه الدّار ، و الذي تغسله حبّاتُ المطرِ المتساقطةُ حينها ، و لكن بعد أن تمرّ بأوراق الصنوبر الخضراء و كأنها تستأذن بالدّخول ، و ماءُ البحرة الصّافي يعلنُ فرحه بالضّيف فيحرّكه الطّرب .

في هذه الأثناء ارتفع أذانُ العصر من الجامع الأموي و قد صدحتْ به رابطة المنشدين بدمشق و شدتْ به مئذنةُ العروس و التي تكاد من قربها و كأنّها تطلُّ على دار الكتب مسلّمةً على كتّابها و قرّائها .

ياالله ...... ما أبدعَ ريشة المولى و هي ترسم تلك اللّحظات .

قلتُ في نفسي : لو أنّ الجمالَ اختُصرَ في زمانٍ لما عدا تلك اللّحظة .

و لو أنّه اختُصرَ في مكانٍ لما عدا دار الكتب الظاهريّة .

حينها كنتُ أقرأ :

ليسَ في أعوادِ غابي سَقَطٌ    هي للمنبر أو أعوادُ صلب

وهذا البيت للشّاعر الفارسي نظيري النيسابوري وقد افتتح به محمد إقبال ديوانه ( الأسرارُ و الرّموز ) .

محمّد إقبال ليس كأيّ شاعر تنتهي نشوته ببيت القصيد ، أو يعلنُ تعليقَ مهمّته عند اكتمال القصيدة ، و لكنّ فلسفته كانت أبعد مدى من كلّ هذا .

كان يثبت ذاته المؤمنة في كلَ نادٍ للفكر ، و كانت ثقافته تنطلق من نفسه القائمة بأمر الله لتختارَ مكانها في كلّ محفل .

و كان يرى أنّ على المسلم أن يعرّفَ العالمَ بهويّته و أن يبصّر الناس بما لديهِ من إرثٍ عظيم و بما يحمله بين جنبيه من سموٍّ روحيٍ و حقيقةٍ خالدةٍ ألا و هي حقيقةُ الإسلام .

فكان يقول : ( إنّ مقصد حياة الإنسان ، أنْ يُفني نفسه في الحياة المطلقة كما تفنى القطرةُ في البحر .

و لكنّ هدف الإنسان الدينيّ و الأخلاقيّ : إثباتُ ذاته لا نفيها ، و على قدرِ تحقيق انفرادهِ أو وحدته ، يقربُ من هذا الهدف ) .

و لن تكتب الحياةُ الكريمةُ للمسلم في هذه الحياة _ كما يرى إقبال _  إلا إذا صدرَ إلى العالم من مشكاة الحق و اليقين ، و لن يصلَ إلى ما يرجوه من غايةٍ إلا إذا بلغت ثقتُه بالله منتهاها .

( إن فرديّة الإنسان تنقصُ على قدر بعده من الخالق ، و الإنسانُ الكامل هو الأقربُ إلى الله ) .

فعلى المسلم أن يكون صاحب حقيقةٍ في هذه الحياة ، حقيقةٍ تبدأ ُ بالأنا المؤمنة في نفسه لتصله بعد ذلك بالله ربّ العالمين .

و يرى إقبال أن الأنا المسلمة هي الفكرة العاملة في هذا الوجود و إنّها تأتي و تأتي معها أمّة الإسلام عن يمينها و شمالها و أمامها و خلفها .

و لن تبلغ نفس المسلم منـزلة الاختيار إلا و هي تملك هذه الحقيقة السّامية ، حينها و حسب تجسرُ على مواجهة قوى الصّبيعة و تسخيرها في خدمة هذا الدّين الحنيف .

( فإذا قهرت الذّاتُ كلّ الصّعاب التي في طريقها بلغتْ منزلةَ الاختيار ، و مقصدُ الذّات أن تبلغَ الاختيارَ بجهادها ) .

إنّ محمد إقبال و هو صاحب الفكر الثّاقب و القلب المؤمن و النظرة الصّائبه لا يريد أن يبقى  متفرّداً بهذه الصفات الطيبة في أمةٍ نام أهلها عن الحقيقة الكبرى ، بلْ يريدُ من كلّ مسلمٍ أن تكون في فؤاده الحرقةُ ذاتُها ، وأن يأتي من جديد ليبدأ سيرة التبليغ في هذا الوجود .

و هاهو يهيب بكل من تشرّف بحملِ الشّهادة الأولى أن يسلك معه طريقه الإيماني لبلوغ المرام ، فقد آن الأوان لأن تتفتّق الأكمام عن أزهارها ، و أن تنكشفَ الأصدافُ عن جواهرها .

فتأمّله و هو يقول :

ما فشا ذا السّرّ قبلي في البشرْ      لم يثقّبْ نــاظمٌ مثلي الدّررْ

أشعلَ الذّرّةَ لحني الثّائـــرُ      رفرفتْ فهْي جنـاحي الطّائرُ

إنْ تكنْ صحراءَ فاطلبْ لجّتي       أو تكنْ سيناءَ فاقبسْ شعلتي

في بستان محمد إقبال تتنوّعُ أثمارُ الحبّ  فتنعمُ اليدُ الطالبة و تسرُّ العين الرّائية ، و مادمنا نزلاء هذا الرّوض الجميل فلن نبخل على أنفسنا بالمزيد علّنا نعود من هذه السّياحة الطيّبة بزادٍ من الحقيقة و المعرفة و الإيمان .

ــــــــــــــــ

*) ما كتب بلونٍ أحمر فهو من كلام محمد إقبال رحمه الله .

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ