ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

السبت 20/01/2007


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

إصدارات

 

 

    ـ القضية الكردية

 

 

   ـ دراسات  ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


لقاء لا أنساه .. في أقبية السجون

(9-10-11-12-13)

(9)

د. هشـام الشـامي

عدت إلى زنزانتي و أنا أكاد أن أطير من الفرح مما سمعته من المقدم عن قرب إخلاء سبيلي ؛ نسيت كل آلامي و أحزاني و جراحاتي و عذاباتي ؛ و بدأت أحلم باليوم الذي سألتقي فيه بأمي و أبي و أخواتي و أهلي و رفاقي في المدرسة و زملائي في الحي ؛ لم أنم تلك الليلة من شدة الفرح ؛ و بدأت أحلام اليقظة تدغدغ خاطري وتلاعب وجداني و تداعب أحاسيسي و لا تفارقني لحظة واحدة ، و أنا أتساءل : متى سيزورني أهلي و أرى أمي و أبي و أخواتي ؟ . متى سأعود إلى بيتي الذي اشتقت إلى كل ناحية من نواحيه و كل زاوية من زواياه ؟ . هل سيعرفني أهلي و أصدقائي و جيراني ؟! بعد أن فقدت أكثر من ربع وزني ، و شحب لوني و طالت لحيتي و غطى شعر رأسي أذنيّ . هل سأعود إلى حيّي و أجتمع مع رفاقي هناك ؟ .هل سأزور حي أجدادي في الميدان و أمر من شارع ( الجزماتية ) حيث كان محل جدي رحمه الله و الذي توفي بعد أخي أحمد بأقل من شهر ؟. هل سأرى و أقبّل و ألاعب ابن أختي أحمد ؟ الذي أحبه أكثر من روحي ، فهو أول حفيد في العائلة ، و يحمل اسم أخي الشهيد أحمد ، و كم كنت قبل ولادته اشتهي أن يكون لي أخ صغير ألاعبه و يلاعبني ؛ لكنني أصغر أخوتي ؛ و عندما رُزقت أختي بهذا الطفل الجميل ؛ شعرت أن الله قد عوضني به عن أخ لطالما أشتهيه ؛ فأفرغت فيه شحنات عاطفية و وجدانية عظيمة ؛ و أحببته حباً لا حدود له ؛ و عندما كان يمر يوم و لا أراه فيه أحزن حزناً شديداً ؛ و أشعر أن شيئاً مهماً ينقصني هذا اليوم ؛ و كنت لا أتوانى عن شد الرحال يومياً من بيتنا في حي ( المهاجرين ) إلى بيت أختي في حي ( مزة فيلات ) لأراه و ألاعبه ؛ أين أنت يا أحمد الصغير الآن ؟ ، هل نسيت خالك حبيبك و صديقك ؟ ، هل ستعرفه إذا ما رأيته ؟ ، و لكني سأعرف كيف أوقظ ذاكرتك و أستحث مشاعرك نحوي ؟ ، سأجلب لك كل الحلوى و الشوكولا و الألعاب التي تحبها ؛ فأنا أعرفها جيداً و أحببتها من أجلك ، سأشتري لك طائرة ورقية جميلة و كبيرة و ملونة بألوان الطيف و سنذهب معاً إلى أخر خط المهاجرين لنمارس معاً هوايتك المفضلة ، و نغني معاً لطائرتك الرائعة التي ترفرف في السماء :  طيري يا طياره طيري يا ورق و خيطان ؛ و أضحك من لفظك حين تغني معي : تيري يا تياره تيري  ياورق و خيتان  ...

كان سيل الأحلام ينهمر في فكري كطوفان هادر و من كل اتجاه ؛ كلمة واحدة من فم المقدم عن قرب الإفراج عني أيقظت كل الأشياء الجميلة في ذاكرتي المتعبة ؛ فراجعت تاريخ حياتي كلها ؛ بتفاصيلها الدقيقة ؛ بحلوّها و مرّها ؛ و بدأت أفكر في المستقبل من جديد ؛ أخطط و أحلم و آمل ؛ بعد أن دفنت الأيام القاسية الماضية كل أحلامي و طموحاتي ؛ و قتلت شبابي و نشاطي و حيويتي ؛  أشعر أنني سأولد من جديد ؛ و سأبدأ من جديد ، عجيب أمر هذا الإنسان ؟! كلمة واحدة فقط تنقله من قاع الأحزان إلى قمة السعادة ؛ و من دياجير اليأس إلى مصابيح  الأمل ؛ و من أعماق الهموم إلى شاطئ الفرج ؛ و من كوابيس الخوف إلى أحلام الأمان ؛ و من عذابات الضياع إلى سكون الخاطر.

          و بينما أنا أعد الأيام و أنتظر زيارة أهلي ؛ و أرسم في خاطري صورة جميلة لذلك اللقاء المنتظر ؛ كان ما يشوّه تلك الصورة الوردية و يعكر مزاجي المتفائل هم أولئك المعذبون الذين أسمع أنّاتهم و تأوّهاتهم حولي صباح مساء ؛ أولئك المساكين الذين عاينت و عانيت بنفسي ما يلاقونه و يعانونه في التحقيق و في سجن الظلم و الظلام ؛ أولئك المحرمون من كل شيء حتى من بصيص أمل في نهاية هذا النفق المظلم ؛ فالسجن في وطني الجريح أصبح قبراً يُدفن فيه كل من عارض أو نقد أو أبدى رأياً عاماً من أمور الحياة و العامة ؛ فلا زيارة و لا فرج و لا خروج من هذا القبر الصغير إلا إلى قبر تدمر الجماعي الكبير .

        كان المقدم نبيل ما زال يخرج إلى حفلات التعذيب يومياً ؛ فهم لم يشفوا غليلهم منه بعد و لن يشفوا ؛ و قد بشّرته بما قاله المقدم لي ؛ ففرح من أجلي كثيراً و دعا لي بقرب الفرج ؛ ثم ذكرني بوصيته لي ؛ أن أزور أهله و أسلم عليهم و أشرح لهم مأساته ، و أن أزور مع زوجته الضابط الطيار الوحيد الذي ما زال على رأس عمله حتى الآن و الذي كان معه و مع أخي أحمد في نفس الدفعة ( العشرون طياراً ) التي سافرت إلى موسكو للتدريب على طائرة السيخوي 21 ؛ و أعطاني اسمه و قال لي : زوجتي تعرف عنوانه جيداً ؛ فزوجته صديقتها المقربة ؛ اذهبا إليه ؛ و قص عليه قضيتي ؛ و أطلب منه مساعدتي .

        و بعد حوالي أسبوع من لقائي مع المقدم ؛ جاءني السجان سهيل عصراً ؛ و طلب مني أن أحضّر نفسي ؛ فأهلي سيزورونني هذا المساء حوالي الساعة الثامنة ؛ و ذكّرني بأن لا أنسى حقه من البشارة ؛ فقلت له : إن شاء الله . فقال لي : رح تجي الزيارة ؛ و تجي الشحوم و اللحوم و منشوف شو رح تعطينا .

       يا الله ؛ ما أصعب الانتظار ؛ و ما أطول الوقت من العصر و حتى العشاء !!؛ ما أصعب أن تنتظر أحباءك الذين اشتقت إليهم كثيراً بعد حوالي ثلاثة أشهر من الفراق التام ؛ و انقطاع أخبارهم و كأنني في عالم آخر !!؛ و خصوصاً أنني لم أذكر أنني فارقت أبي و أمي من قبل إلا لعشرين يوماً فقط ؛ عندما ذهبا قبل سبع سنين إلى الديار المقدسة لقضاء فريضة الحج ؛ و لكنهما كانا يتصلان بنا باستمرار ؛ و يرسلان لنا بطاقات من كل مكان يصلان إليه ؛ ما زلت أحتفظ بتلك البطاقات التي عليها صور الحرمين الشريفين ؛ و صور الحجر الأسود ؛ و الكعبة المشرفة ؛ و باب الملتزم ؛ و المشاعر المقدسة ؛ و قد أفرغ والدي بكلمات رقيقة و معبرة كتبت على ظهرها عواطفه و أشواقه و أحاسيسه وشعوره نحوي ؛ لا زلت أذكر تلك الكلمات الأبوية الصادقة التي ما زلت أحفظها عن ظهر قلب رغم ما مر علي في هذا السجن من آلام ؛ و رغم السنين السبع التي تلت تلك الرحلة الربانية ؛ لأنني عندما قرأتها أثرت في نفسي تأثيراً بليغاً ؛ جعلت دموعي الحارة تعبر أجفاني و تنهمر على خدي ؛ و لأنني لطالما فتحتها و قرأتها كل حين و بكيت و كأنني ما زلت أعيش تلك اللحظة البعيدة ؛ عندما كتب لي والدي مباركاً في العيد و قائلاً :

ابني الوحيد و الحبيب أحمد ؛ السلام عليكم و رحمة الله و بركاته ؛ و بعد ؛ أبارك لك بعيد الأضحى المبارك ؛ و أسأل الله أن يعود عليك بالصحة و العافية و اليمن و النجاح ؛ آه لو تعلم كم أنا مشتاق لك و لأخواتك ؛ و لكن عزائي أنني أقوم بفريضة عظيمة من فرائض الإسلام العظيم ؛ و أنني تركت ورائي رجلاً عاقلاً رشيداً اسمه أبو الوليد ( و كان عمري يومها عشر سنين فقط ) ؛ لن أوصيك بأخواتك فأنت أحنّ مني عليهنّ ، أمك تهديك السلام و تدعو الله أن تفرح بنجاحك و زواجك و رؤية أطفالك إن شاء الله و كل عام و أنتم بألف خير . سلامي للجميع . أبوك المحب و المشتاق جداً أبو أحمد.

و بينما أنا أراجع تلك الذكريات الجميلة ؛ و أحس أن الزمن قد توقف ؛ و أن الوقت لا يريد أن يمر ؛ إذ عاد سهيل من جديد ؛ وقال لي :

- هيا ؛ أهلك هون من ساعتين .

- ليش كم الساعة ؟ .

- عشرة و عشرة .غسّل وجهك ؛ و الحقني بسرعة .

سرت خلفه ؛ و قلبي يخفق شوقاً و فرحاً للقاء لطالما انتظرته ؛ و دخلت على غرفة كبيرة جلس في صدرها مقدم التحقيق وراء مكتبه يبتسم ( لأول مرّه أرى أسنانه الصفراء المتسخة ) ؛ و ينفخ دخاناً في جو الغرفة من لفافة التبغ التي في يده ، و على طول الغرفة انتشرت أسرتي : أمي ؛ أخواتي ؛ أحمد ابن أختي و أخته أسماء ؛ صهري ؛ وعمتي ؛ ركضت باتجاه أمي و أمسكت بيدها لأقبلها ؛ و هي تأخذ برأسي لتقبلي ؛ كان المشهد مؤثراً ؛ و كانت الدموع تنهمر من عيون الجميع باستثناء المقدم الذي كان يراقب الموقف باهتمام و يحصي علينا أنفاسنا و كلماتنا ؛ أردت أن أخفف عن والدتي و عني و أنشغل بالسلام على بقية الأهل ؛ لكن والدتي كانت تمسك بي بقوة و لا تريد أن تتركني و كأنها تخشى ألا أعود إليها ؛ مضت دقائق عديدة بلا كلمات و كانت الدموع هي لغة الحوار الوحيدة ؛ تدخل المقدم بصوته الأجش قائلاً :

- يالله يا حجّه ؛ خليه يسلم عالبقيه ؛ ما في وقت معه .

انسليت من بين يدي أمي بصعوبة ؛ و سلمت على أخواتي الثلاث و عمتي و صهري و قبلت الطفلة الصغيرة أسماء ؛ و أمسكت بخاصرتي أحمد - الذي كان ينظر نحوي باستغراب و اندهاش و حيرة و كأنه يتساءل أ هذا خالي ؟! – و رفعته بين يديّ و حضنته إلى صدري و قبلته بحرارة و شوق و أنا أقول له مازجاً دموعي بابتسامة ملطِفّة : كيفك يا خالو ؟ ما اشتقتلي ! أنا خالو هشام ! شو نسيتني ! نسيت الصحبة الي بينا .

و لاحظت غياب والدي و عدم حضوره معهم ؛ فسألت أختي بتوجس و ارتياب : وين أبوك ؟ ليش ما أجا معكن ؟!. فأجابوا جميعاً بتلكؤ و تردد و تخبط : هوّي مشغول شوي ؛ بسلم عليك كثير ؛ إن شاء الله بيجي بالمره الجاي . لم تشفِ تلك الكلمات لهفتي و غليلي ؛ فعدت إلى صهري و قلت له بحزم و إصرار : وين عمك أبو أحمد ؟ ؛ في شي مخبينو عني ؟!. فأجابني : صحتو شوي تعبانه و ما حسن يجي ؛ صدقني ما في شي . فتوجهت إلى أمي التي ما زالت تبكي قائلاً : معقوله أبي ما يجي معكن ؛ لا يكون ... قاطعتني أمي قائلة : لا يا ابني ؛ و الله هوّي بالبيت . و توجهت نحو المقدم تترجاه و تتوسل إليه أن تستعمل الهاتف للاتصال بالبيت قائلة له : الله يفرحك بشبابك ؛ خليني اتصل بالبيت مشان يحكي مع أبوه ؛ ما رح يطّمن حتى يسمع صوته . فأشار بيده نحو الهاتف بالموافقة و هو ينفث دخان السيجارة و دون أن ينبس ببنت شفة . أدارت أمي قرص الهاتف و طلبت البيت و سمعتها تقول : أبو أحمد ؛ كلّم هشام ؛ مشغول بالو عليك . و أعطتني سماعة الهاتف و المقدم يقول و هو ينظر نحوي شذراً : بسرعة ؛ ما في وقت . كلمت والدي على الهاتف ؛ و سمعت صوته البعيد الخافت و هو يجهش بالبكاء ؛ و سألته عن صحته ؛ فقال لي : الحمد لله ؛ الحمد لله ؛ المهم سلامتك يا ابني . فأخذ المقدم السماعة من يدي و أغلق الاتصال . بدأت أمي تعد لي و تعرض أمامي الأغراض و الحاجيات و المأكولات و الحلويات التي جلبوها لي معهم ؛ فهذه كبة ؛ و هذه محاشي ؛ و هذا يبرق ؛ و هذه ملوخية ؛ و هي تقول : الله يا ابني ما حطيتا بتمي من يوم انسجنت لأني بعرفك بتحبا كتير ؛ و هذه رقائق الأوزي شحّو ؛ و هذه البقلاوة اللذيذة ؛ و الله يا ابني جبتلك اياها من المرجة من عند حلويات المهنا لأنك بتحب بقلاوته ؛ و هذه كنافة نابلسية بالجبن جبتا من سوق ساروجة قبال جامع زيد ؛ و هذه الملابس مشان تغير هالتياب اللي دخلت فيون من تلات شهور ؛ ارميون حاجتون ... و بينما كانت أمي تعدد الأغراض و الحاجات الكثيرة التي أمامها ؛ قاطعها المقدم قائلاً : يالله يالله ؛ حاجه بقى ؛ انتهت الزيارة ؛ ما في حاجة لكل هالغراض ؛ عندن كلشي جوا ؛ بعدين هو مو متأخر طالع عن قريب . فصاحت أمي من الفرح : الله يسمع منك ؛ الله يحميلك اولادك . فأخرج صهري من جيبه بعضاً من النقود ليعطيني إياها ؛ فقلت له : ما في حاجة ؛ كلشي متوفر و الحمد لله . فنادى المقدم سهيلاً الواقف خارج الغرفة قائلاً : تعال ساعدوا و خود الغراض معه ؛ فحملنا الأغراض و سحبني سهيل من بين يدي أمي التي كانت تمسك بي بقوة و لا تريد أن تتركني .

-------------------------------

لقاء لا أنساه..في أقبية السجون-10

خرجت مع السجان سهيل من غرفة المقدم ؛ تاركاً قلبي هناك مع أهلي الذين لم أستطع أن أراهم بعد الأشهر الثلاثة التي قضيتها بعيداً عنهم في هذا السجن الموحش سوى لدقائق لا تروي شوقاً و لا تشفي لوعة ؛ و نزلنا درجات السلم المظلمة باتجاه السجن ؛ و عند باب غرفة الذاتية الموجودة مباشرة إلى يسار الداخل إلى باب السجن من الخارج ؛ وقف مساعد الذاتية و أربعة من العناصر و كأنهم ذئاب يلهثون و ينتظرون صيداً ثميناً ؛ و عندما وصلنا إليهم صاح المساعد بي قائلاً : حط غراضك هون للتفتيش لنشوف . و ما إن وضعت تلك الأشياء التي وصلتني من أهلي حتى بدأ مسلسل سرقتي أمام ناظري ؛ فهذا أخذوه لأنه ممنوع دخولوا للسجن !!؛ و هذا في كتير منو شو بدك تساوي فيه ؛ و هذا خلينا ندوقوا ؛ لا يكون في مخدرات بالأكل أو ممنوعات لازم ناخد عينة من كل شي ؛ و هذا .. و هذا .. حتى لم يبق من الأغراض إلا أقل من ربعها ؛ ثم قال لي المساعد ضاحكاً و مستهزئاً : شو ما جايبيلك دخان ؟! . فقلت له : أنا ما بدخن ؛ فقال : اي تاني مرة حسوب حساب الشباب هون ؛ يالله شيل هدول الي بقيوا و روح لزنزانتك ؛ دوبك تحسن تشيلن ؛ و الأكل بكفيك أكثر من أسبوع . حملت ما بقي من الأغراض المنهوبة و سار سهيل خلفي إلى زنزانتي ؛ و عند باب الزنزانة و رغم كل ما سرقه مني مع رفاقه الأشاوس في غرفة الذاتية !! ؛ ذكّرني بطلبه السابق قائلاً : شو بدك تعطيني بشارة بقى ؟! .فأجبته : خود البدك ياه تفضل . فمد يده الطويلة و ملأ صحناً من الحلويات قائلاً : يالله حاجة خود البقية أنا ما بحب الطمع.  أدخلت ما سلم من الأغراض داخل زنزانتي و أغلق سهيل الباب ورائي و هو يأكل من البقلاوة و يقول : و الله طيبه ؛ و بالسمن العربي كمان .

وضعت أغراضي في طرف الزنزانة ؛ ثم ارتميت على أرض الزنزانة و سندت ظهري إلى الحائط و بدأت أراجع ذكريات تلك الزيارة القصيرة ، يا الله ما أصعب الفراق بعد الزيارة !!؛ و الله أنه لأشد وقعاً على نفسي من عذابات فراق الأشهر الثلاثة الماضية ؛ لقد أججت تلك الدقائق القليلة التي رأيت بها أهلي نار الأشواق في داخلي بدلاً من أن تطفئها أو حتى تجعلها تخمد قليلاً ؛ و الله يا أماه إنني الآن أشد شوقاً إليك من قبل رؤياك ؛ صحيح أنك لم تتكلمي كثيراً لكنني فهمت كل ما تريدين قوله ؛ قرأت عينيك و فهمت معنى دموعك و شعرت بدفء  كفيك ؛ لقد ذبلتِ كثيراً يا أماه و هرمتِ بعد فراقي ؛ و كأن الأشهر الثلاثة التي تركتك فيها جعلتك تكبرين عشر سنين ؛ و الله أنني حزين عليك أكثر من حزني على نفسي ؛ صحيح أنني أعاني ما أعانيه في هذا السجن الظالم ؛ لكنني على يقين أنك تعانين من اجلي أكثر مني ؛ و كأن جرحك الذي ما زال ينزف منذ استشهاد أخي أحمد انفجر من جديد ؛ أما أنت يا أبي الحبيب فصوتك المريض الذي سمعت على الهاتف يوحي لي بالكثير الكثير ..؛ لا شك أنك مريض ؛ و لا ريب أنه مرض شديد ذلك الذي منعك من المجيء مع أهلي ؛ فأنا لا أصدق أن تتخلف عن زيارتي إلا لأمر عظيم ؛ فهل عاودك مرض ارتفاع الضغط الذي أصبت به بعد استشهاد أحمد ؟؛ لكن ارتفاع الضغط لا يمنعك من زيارتي ؛ لا بد أن الأمر أعظم و أخطر من ذلك بكثير !! ؛ اللهم فرج عني ؛ و أرح بالي و اقرّ عيني برؤية أهلي و سلامتهم ....

قطعت شريط أحلام اليقظة الذي كان يراودني ؛ و سلمت أمري لمالك الملك و الأمر ؛ و لبست بعض ملابسي الجديدة التي وصلتني للتو من الزيارة ؛ بعد أن غسلت جسدي بقليل من الماء البارد و الصابون المعطر ( لأول مرة أشم رائحة الطيب منذ شهور ) فوق المرحاض في زاوية الزنزانة ؛ و بدأت أصبّر نفسي و أسليها و أخفف عن روحي ؛ فلا شك أن وضعي الآن أفضل من وضع جميع المساجين في هذا القبو الرهيب ؛ فمن نظر إلى مصيبة غيره هانت عليه مصيبته ؛ و بدأت بتناول بعض من طعام أهلي ؛ لكنني لم أجد له نفس المذاق اللذيذ الذي اعتدت عليه ؛ فكل شيء قد تغير طعمه في هذا المكان الموحش.

       و في اليوم الثاني قمت بإيصال بعض رقائق الأوزي و الكبة و بعض الحلويات للمقدم نبيل و لبعض الزنازين الأخرى ؛ بعد أن خبأتها بين قصعتي الطعام ( صحنين ) و وضعت في القصعة العلويّة فطور السجن الهزيل ( قطعة الجبن الصغيرة ) و مأكولاتي الشهية في القصعة السفلية المخفية تحتها عن أعين السجان أبي كنان ؛ و أبلغت المقدم نبيل بزيارة أهلي ؛ و اعتذرت منه أنني لا أستطيع أن أملأ القصعة أكثر منذ ذلك خشية أن ينتبه أبو كنان إليها ؛ و وعدته أن أعطيه في كل مرة أستطيع فيها أن أغافل سجاني شيئاً من طعام و أغراض الزيارة ؛ فشكرني و سألني : إن كنت قد أوصلت سلامه إلى أهلي ؛ فأجبته : يستحيل ذلك لأن المقدم لم يفارقنا لحظة واحدة.

        و بعد حوالي عشرة أيام من زيارة أهلي سمعت صوت السجان يفتح باب زنزانة المقدم نبيل و يقول له : ضب غراضك و طلاع ولا . فأسرعت إلى شق الباب لأسترق النظر و أرى أين سيأخذه؟! ؛ فشاهدت ما كنت أخشاه ؛ فقد نقلوه إلى المهجع الجماعي ( الذي كنا نسميه مهجع الترحيل ؛ لأن الداخل إليه يعني أنه قد انتهى من التحقيق و أنه مرحّل إلى سجن تدمر حتماً ) .

و أصبح من الصعب عليّ التكلم مع المقدم نبيل بعد أن أصبح في مهجع الترحيل ؛ لكنني سمعت صوته المخنوق و كأنه يغص حسرة و يختنق حرقة و يكاد يجهش بالبكاء ؛ و ذلك عندما تجرأت و سلمت عليه في إحدى المرات ؛ و حاولت أن أخفف عنه و قلت له : اصبر أبا سمير ؛ وسلّم أمرك لله ؛ إن الله لن ينساك ؛ و لن ينسى أطفالك . فأجابني : أنا طيار و لا أخاف الموت ؛ و لكنني كنت آمل أن تكون نهايتي على أيدي اليهود ؛ لا على أيدي أحد من أبناء هذا الوطن العزيز على قلبي رغم ما حصل و يحصل و سيحصل .

و بعد زيارة أهلي بثلاثة أسابيع ؛ زارني أهلي مرة ثانية ؛ و كان اللقاء مؤثراً و مأساوياً كالمرة الأولى ؛ و لم يكن أبي موجوداً مع أهلي أيضاً ؛ و عندما سألتهم عن صحته ؛ أجابني صهري : إنه بخير ؛ و يسلم عليك كثيراً ؛ و ينتظر إخلاء سبيلك بعد يومين كما وعدنا سيادة المقدم ( الذي اكتفى بهز رأسه موافقاً على هذا الكلام و هو ينفث من فمه دخاناً كثيفاً استنشقه من سيجارته و هو يستدير و يهتز على كرسيه الدوار من وراء مكتبه الضخم دون أن ينبس ببنت شفة ) .

و بعدما تكرر مسلسل السرقة و النهب لأغراضي أمام عيني ثانية ؛ و فور دخولي باب السجن شعرت أن كل أفراد مهجع التجميع ( الترحيل ) الذي فيه المقدم نبيل ينظرون إلي من خلال شقوق باب المهجع الحديدي و يتهامسون عني ؛ فخطرت لي فكرة أعجبتُ بها و قمت بتنفيذها على مراحل ؛ فقد وضعت أكثر الملابس و الصابون و المناشف و المستهلكات التي وصلتني من الزيارة وسلمت من النهب ؛ وضعتها على دفعات بين القصعتين الضخمتين ( نسبياً و الخاصتين بالمهجع ) و اللتين أخفيتا تلك الأغراض عن أعين السجانين ؛ و طلبت من المقدم نبيل أن يأخذ منها حاجته و يوزع الباقي على زملائه في المهجع ؛ فهم أحوج الناس إليها ؛ خصوصاً بعدما تأكد لي ترحيلهم القريب إلى سجن تدمر المخيف ؛ و شعوري بقرب إخلاء سبيلي كما وعدني صهري أمام المقدم الذي هز رأسه الضخم بالموافقة .

---------------------------

لقاء لا أنساه..في أقبية السجون-11

ما أصعب انتظار الحرية !!؟ ؛ لكن اليومين الباقيين لإخلاء سبيلي – كما وعدني صهري و وافقه المقدم على ذلك - طالوا و استطالوا و تطاولوا حتى عاد اليأس يعشش في أعماقي من جديد ؛ و أنا أرى بأمّ عيني الدفعة تلو الدفعة تخرج من هذا السجن الصغير فقط إلى سجن تدمر الكبير؛ و كأن الطريق الوحيد السالك من هنا هو باتجاه تدمر الحمراء الملتهبة بالسمعة الدموية الإجرامية ؛ فبعد حوالي ثلاثة أسابيع من دخول المقدم نبيل مهجع الترحيل ؛ دخل مساعد الذاتية و معه بعض السجّانين باب السجن ؛ ثم قرأ أسماء أكثر الموجودين في مهجع الترحيل ؛ و كانوا حوالي عشرين شخصاً ؛ من بينهم نبيل شاهين ؛ و سأل كل واحد منهم عن اسم والده و والدته و مكان و تاريخ ولادته ؛ و بعد أن انتهى من قراءة الأسماء ؛ قال لهم : شوفو ولا ؛ يلي طلع اسمه يحضّر حالو و يضب غراضوا بسرعة .و بعد ذلك بدؤوا بقراءة الأسماء ثانية واحداً تلو الأخر ؛ و كانوا يُخرجون من قُرأ اسمه من المهجع و يذهبون به إلى غرفة الذاتية المجاورة للمهجع ؛ و التي لا يفصل بينهما إلا جدار و باب السجن الحديدي ؛ و لأن باب السجن الحديدي بقي مفتوحاً خلال قراءة الأسماء فكنت أرى كل ما يحصل خارج المهجع و خارج غرفة الذاتية من خلال الشق الموجود في باب زنزانتي ؛ ثم يخرجون السجين من الذاتية و يقومون بتوثيق يدي كل سجينين مع بعضهما بنفس الأغلال التي تتألف من حلقتين يصل بينهما سلاسل حديدية ( الكلبجة ) و يضعون عصابة ( طميشة ) على عيني كل سجين ؛ و كان السجين يحمل حاجياته القليلة في اليد الغير مقيدة ؛ ثم جمعوا السجناء في رتل جماعي في رواق صغير أمام الذاتية ؛ و بعد أن انتهوا من جمع المساجين في هذا الرواق ؛ جر كلَ سجينين من المجموعة عنصرٌ من المخابرات و صعد بهما سلم السجن إلى الخارج ؛ و رأيت المقدم نبيل و هو يصعد الدرج مغادراً إلى سجن تدمر كما كنا نعتقد جميعاً قياساً للمجموعات السابقة التي رُحّلت إلى هناك ؛ و إلى تلميحات بعض عناصر الفرع التي كانت تطلق بعض التعبيرات المتهكمة الحاقدة من مثل : رح بنبعتكن على جنة الرضوان لا تنسوا تسلمولي على أبو بكر و عمر . أو : سلمولي على زنوبيا . أو : رح تترحموا على أيامنا هون . أو : رح تشوفوا نجوم الظهر هناك . بينما كان أحدهم يغني بصوته القبيح قائلاً : يا مرسال يلي وجهتك صوب الشمال ...

و هكذا و أنا ما أزال انتظر الفرج الموعود ؛ ودعتُ ثلاث دفعات إلى سجن تدمر المخيف بمن فيهم دفعة المقدم نبيل ( الذي كان يحاول أن يتلفّت نحو زنزانتي كلما سنحت له الظروف و كأنه يعرف أنني أراقبه من خلف باب زنزانتي المغلقة ؛ و يريد أن يقول لي شيئاً و هو يودعني الوداع الأخير .).

       و بعد خمسة أشهر و عشرة أيام و ثماني ساعات من دخولي هذا القبو المظلم ؛ جاءني مساعد الذاتية و طرق بقبضة يده باب زنزانتي ؛ و هو يقول : ضب غراضك و جهز حالك عالافراج  بسرعة . لم أصدق ما سمعت ؛ و بدأ قلبي المتعب يخفق بسرعة ؛ و أنا أجمع ثيابي و أرتبها داخل كنزة صوفية عقدت أطرافها كصرة ؛ ثم فتح المساعد الباب و قال : طلاع لشوف . لحقت به إلى غرفة الذاتية و هناك سألني عن اسمي الكامل و تاريخ ميلادي و تأكد من هويتي ؛ و قال لي متسائلاً و هو يفتح دفتر الأمانات : إلك عنا أمانات ؟!. فقلت له : نعم ؛ جزدان فيه هويتي الشخصية و خمسمية و خمسين ليرة و ساعة يد و مجموعة مفاتيح .

فقال لي : هون مسجل عندي خمسين ليرة بس و هنت موقع عليهن ؛ ليش بتكذب و بتقول خمسميه و خمسين ؛ ما بتبطلوا كذب . وناولني خمسين ليرة و ساعة يد قديمة لا تعمل . فقلت له : هذه ليست ساعتي . فقال : و الله هدي يلي عندي ؛ ما بدك ياها بلا تاخدا. و رماها أمامه في درج المكتب . ثم قال لعنصرين : طالعوه عند المقدم . فخرجت معهما و أنا حزين على الساعة التي جلبها لي أبي من الحجاز قبل سبع سنوات أثناء أداءه فريضة الحج ؛ و التي كانت يومها كبيرة على يدي و لم أستعملها إلا منذ ثلاث أو أربع سنوات فقط ؛ و كنت أحبها كثيراً لجمالها و نوعيتها النادرة و رمزيتها الخاصة .

و دخلت على المقدم الذي ألقى بي محاضرة طويلة في الوطنية و حب القيادة الرشيدة و الصامدة و حب الوطن ؛ و قال لي : مو الله قال : " و أطيعوا الله و الرسول و أولي الأمر " ؛ فلازم نطيعن طاعة عمياء ؛ شوف كيف انتصرنا بحرب تشرين ؟! ؛ و كيف تطورت سوريا و صارت أحسن من الدول الأوربية بعهد الرئيس ؛ و إنت شب لسعك بأول الطريق ؛ و أمامك مستقبل ؛ لا تخلي حدا يضحك عليك و لّي بقلك غير هالكلام إلي عما قلك ياه لازم تجي و تبلغني عنو على طول ؛ لا تورط حالك و تستّر على حده ؛ بعدين ليش ما بتنتسب لحزب البعث شو ناقصك ؛ بصراحة كل واحد مو بعثي نحن من شك فيه ؛ بعّد عنك الشبهات أحسن لك ؛ بعدين إذا ما نجحت بالكلية الجوية اخدوم وطنك بمكان تاني ؛ روح دخول طب ولّا هندسة ؛ الوطن بحاجة لأطباء و مهندسين ... و هنا تدخلت قائلاً : فعلاً أنا رح حقق رغبة أبويّ و أدخل طب أو هندسة مدنية . فقال : برافوا عليك ؛ يا ابني طاعة الأبوين من طاعة الله ؛ و لا تنس أنا خدمتك خدمة العمر ؛ و طالعتك على مسؤوليتي ؛ ترى ما حدى دخل لعنا و طلع إلا نادر ؛ ترى أوعى أسمعك تكلمت لحده عن كل شي شفتو هون ؛ ترى المرة الجاية بتدخل و ما بعرف طريقك الدبان الأزرق ؛ ترى أنا عمحذرك ها ؛ مين ما سألك بتقول أنا غلطت ؛ و الجماعة كانوا كيسين ( كويسين ) معي و ما في لا قتل و لا تعذيب ؛ شو !!..  فقلت له : فعلاً هذا يلي رح قولوا . فقال : ترى نحن بنعرف عنك و عن غيرك كل شي ؛ ما شفت كيف عرفنا كل شي حصل بينك و بين الكلب نبيل شاهين ؛ هوّي رح ياخد جزاتوا ؛ نحن بنعرف الواحد شو عما يساوي بغرفة النوم ؛ و بنجيبوا ولو كان بطن أموا يالله لشوفك روح هلأ أهلك عما يستنّوك أنا اتصلت فيون و بلغتن أنك طالع اليوم . و صرخ بأحد العناصر قائلاً : خلي الدورية توصلوا على بيتو . فخرجت مع الدورية بسيارة بيجو ستيشن  و سألني السائق : وين بيتكن . فقلت له : بالمهاجرين . فركن السيارة في ساحة الأمويين و قال لي : نحن عنا مشاوير كتير و ما بدنا نأخرك ؛ ما معك مصاري تاخد تكسي ؟ . فقلت له : معي . فقال لي : طيب ؛ انزل خود تكسي . فنزلت من السيارة و انطلقت سيارة الدورية تشق الطريق مسرعة ؛ و تركتني على حافة الطريق أتأمل ما حولي مليّاً.

يا الله ؛ ما أحلى الحرية !! ؛ ما أجمل الشمس !! ؛ ما أروع السماء !! ؛ ما أنقى الهواء !! ؛ ما أحسن الشجر !! ؛ ما ألطف البشر !! ؛ ما أوسع المكان !! ؛ ما أطيب الحياة !! ؛ ما أروع الشام !! . لأول مرة أرى الشمس بهذا الحسن و هذا البهاء و كأنني لم أرها قط قبل الأشهر الخمسة الماضية ؛ و لأول مرة أستنشق الهواء بتلذذ و أملأ صدري منه و أحس أن له طعماً جديداً لم أشعر به من قبل ؛ كل شيء جميل ؛ لكل شيء معنى ؛ لكل شيء مغزى ؛ الآن بدأت أعرف معنى الحياة ؛ و مغزى الأشياء ؛ الآن بدأت أفهم حقيقة دعاء والدي كل صباح و كل مساء : اللهم عرفنا على نعمك بدوامها لا بحرمانها . فكم هي نعم الله علينا كثيرة ؟! ؛ و كم هو كرم الله علينا عظيم ؟! ؛ و كم هو فضل الله علينا كبير ؟! ؛  لكننا لتكرار هذه النعم و ديمومتها لا نشعر بقيمتها و أهميتها ؛ أما بعد أن فقدت كل شيء في القبو المخيف الذي سجنت فيه ؛ بدأت أعطي كل شيء في هذا الوجود قيمته الحقيقية و معناه الذي يستحق .

أشرت لسيارة تاكسي ؛ فوقفت بجانبي ؛ فصعدت و جلست بجانب السائق و هو ينظر لي و يتأملني مندهشاً و مستغرباً مما يرى ؛ فصورتي كما أراها لأول مرة بعد كل هذا الزمن في مرآة السيارة التي بجانبي مخيفة حقاً ؛ حتى أنني – أنا نفسي - أكاد لا أعرف نفسي ؛ فشعري أشعث أغبر ؛ و لحيتي طويلة ؛ و وجهي شاحب ؛ و عينايّ غائرتان ؛ و سحنتي حزينة حائرة خائفة مترددة ؛ أنظر إلى كل شيء حولي باستغراب و تعجب ؛ و كأنني من أهل الكهف أو قادم من عالم آخر ، سألني السائق : لوين ؟ . أجبته : مهاجرين ... نظر السائق إليّ نظرة حيرة و استغراب و أنا أشرح له عنوان بيتي بتفاصيله الدقيقة ؛ و كأنه يتساءل : من أين لهذا القادم من العالم الآخر أن يعرف كل هذه التفاصيل ، سألته : لماذا تنظر إليّ هكذا ؟ . أجابني : لا ؛ ما في شي . أردت أن أريحه فقلت له : أنا كنت سجين و هلأ طلعت . قرأت في وجهه أنه لم يصدقني و كأنه يريد أن يقول : شو ما شفنا مساجين قبلك . فتابعت : أنا ما كنت سجين بسجن مدني ؛ كنت عند المخابرات ؛ و صلّي خمس شهور ونص ما شفت الشمس . هنا بدأ السائق يتفهم وضعي و يتعاطف لحالتي و هو يقول لي : الحمد لله على سلامتك .. الحمد لله على سلامتك يا ابني.. 

تغير لون وجه السائق الطيب و زالت مخاوفه و بدأ يسايرني و يطيب خاطري و يهون عني و هو يبدو متأثراً لحالي و مشفقاً علي ؛ و كانت لهجته توحي لي بأنه من أهل حوران الطيبين الكرماء ؛ حاول أن يسألني عن فرع المخابرات الذي كنت فيه و عن معاناتي هناك ؛ و عندما شعر أنني لا أريد أن أجيبه على تساؤلاته ؛ تابع كلامه و أجاب عني قائلاً : معك حق ؛ الله يعينك ؛ الجواب مبين من عيونك ؛ الله ينتقم من الظالم . نظرت إليه نظرة حادة و كأني أقول له : اسكت لا ترفع صوتك ؛ يلي شاف ما متل يلي سمع . و عندما وصلت إلى باب الحي الذي يوجد فيه بيتنا ؛ أشرت له قائلاً : الله يعطيك العافية ؛ نزلّني عندك . و ناولته الخمسين ليرة التي خرجت بها من السجن . فأقسم ألا يأخذ شيئاً و هو يقول : عيب أخد شي ؛ روح يا ابني الله يسامحك ؛ و انشا الله ما تشوف بأس . و حاولت معه مراراً و تكراراً لكنه عاد و أقسم من جديد . فودّعته و أنا أقول له : الله يرزقك و يعوضك ....

-----------------------------------

لقاء لا أنساه..في أقبية السجون-12

ودعت سائق التاكسي ؛ و اتجهت نحو منزل أهلي ؛ فرأيت ابن عمي خارجاً للتو من هناك ؛ فناديته باسمه ؛ فنظر إليّ مستغرباً و كأنه لم يعرفني من النظرة الأولى ؛ ثم استدرك و ركض نحوي و حضنني مقّبلاً و مسلّماً عليّ ؛ و هو يقول : الحمد لله على السلامة ؛ الحمد لله على سلامتك ؛ بلّغنا المقدم أنك ستخرج اليوم ؛ و كنا ننتظر خروجك – أنا و أبناء عمك و أبناء خالك - منذ الصباح الباكر قريباً من باب الفرع ؛ و عندما يأسنا من إخلاء سبيلك هذا اليوم – كما كان يحصل معنا مراراً و تكراراً في أيام سابقة كثيرة ؛ كنا نبلغ فيها من أحد عناصر الفرع أنهم سيخلون سبيلك ؛ و كنا ننتظر فيها خروجك من السجن دون جدوى - عُدنا أدراجنا منذ وقت قريب ؛ و جئت لأطمئن على صحة عمي و قلت له – لكي أريحه - لقد أجّلوا إخلاء سبيلك إلى يوم قادم قريب ؛ فقد كان ينتظر خروجك على أحر من الجمر . فقلت لابن عمي : دعنا نذهب إليه إذاً . فاستوقفني و قال لي : انتظرني قليلاً خارج البيت ؛ والدك مريض و هو طريح الفراش ؛ فقد أصابه احتشاء بالقلب ( جلطة ) من شدة حزنه عليك بعد اعتقالك ؛ و دخل المستشفى و تنوّم فيها لمدة أسبوعين و هو منذ ما يقرب الخمسة أشهر لم يخرج خارج البيت أبداً ؛ و أخاف إن دخلت عليه فجأة أن لا يتحمّل الصدمة ؛ فدعني أدخل قبلك و أحضّر له الأمر ؛ ثم تدخل بعدي عليه . فوافقته على ذلك . ثم طرق الباب على أهلي . و بعد أن أذنوا له بالدخول دخل و أغلقوا الباب و بدأت أنتظر خروجه و أنا أراجع ما حصل معي بعد أن أزداد قلقي على والدي . لقد فهمت الآن معنى عدم زيارة والدي لي في السجن ؛ و عرفت سبب صوته الخافت الضعيف عندما كلمني في الهاتف ؛ لقد توقعت أن يكون مصاباً بمرض خطير ؛ و ها هي قد صدقت توقعاتي و أحاسيسي عن والدي المسكين . و بينما أنا أفكر بأبي وصحته العليلة ؛ و إذ بوالدي يفتح باب المنزل و يخرج حافياً و بثياب النوم و هو ينظر يمنة و يسرة و كأنه يفتش عني ؛ و عندما رآني ركض نحوي و ضمّني إلى صدره بقوة ؛ و هو يبكي و ينتحب و يقبلني قائلاً : الحمد لله على سلامتك يا ابني ، الحمد لله على سلامتك . قبلته و أمسكت بيده وقبلتها و أنا أنظر إليه فأرى رجلاً غير ذلك الأب الذي تركته قبل سجني ؛ فقد كان بديناً ؛ قوي البنية ؛ منتصب الجسم ؛ ممتلئ الوجه ؛ وسيماً ؛ مفتول العضلات ؛ عريض المنكبين ؛ أما الآن فأرى أمامي شيخاً عجوزاً خائر القوى ؛ ضعيفاً ؛ هزيلاً ؛ غائر العينين ؛ أصفر اللون ؛ محني الظهر ؛ متجعد الوجه ؛ نفسه ضعيف ؛ و صوته خافت ؛ لا شك أنه تغير أكثر مني بكثير ؛ و عانى أكثر مني ؛ و تألم أكثر مني ؛ و كانت محنتي أشد وقعاً عليه مني.

دخلنا المنزل ؛ و خلال أقل من نصف ساعة تجمع أفراد عائلتي جميعهم في بيتنا ؛ يسلمون علي ؛ و يهنئونني و يهنئون أهلي بسلامتي ؛ حتى ضاق البيت الفسيح عن استيعابهم ؛ لقد غمرت الفرحة العامرة قلوب أفراد عائلتي الذين جمعتهم المحبة الصادقة و صلة الرحم المقدسة عندنا . لم تجتمع عائلتي مثل هذا الاجتماع منذ زمن بعيد ؛ لقد ذكرني اجتماع العائلة السعيد اليوم باجتماعهم الحزين في بيتنا قبل أكثر من عشر سنوات يوم استشهاد أخي أحمد ؛ و عادت بي ذاكرتي إلى ذلك اليوم المأساوي ؛ يومها أيضاً كان الفصل شتاء ؛ و كنت قد صحوت باكراً لأحضّر نفسي للذهاب إلى المدرسة عندما قُرع جرس الباب ؛ ففتحت الباب فإذا بعم والدي و كبير العائلة أبو سعيد ( يرحمه الله ) على الباب ؛ فسألني عن والدي ؛ فقلت له : ما زال نائماً ؛ فقال لي : اذهب و أيقظه و قل له عمك أبو سعيد يطلبك . دخلت المنزل : فسألتني أمي باستغراب : من بالباب ؟! . فقلت لها : عمي أبو سعيد يريد أبي . فقالت بحيرة : لم يعتد القدوم في مثل هذا الوقت ؛ خيراً إن شاء الله ؛ ادعوه للدخول إلى غرفة الضيوف و سأوقظ أباك . فخرجت و طلبت من عمي أبي سعيد الدخول فاعتذر و سألني إن كنت قد أيقظت والدي ؛ فخرج له أبي بلباس النوم و سلم عليه و دعاه للدخول ؛ فرفض و قال له : أريدك في أمر هام ؛ أرجو أن تغير ملابسك و تتفضل معي ؛ فقال لي والدي : جهّز نفسك حتى أصطحبك إلى المدرسة ، و لبس والدي ثيابه و هو يقول : خيراً إن شاء الله ؛ قلبي غير مطمئن ؛ أخشى أن يكون قد أصاب أحمد مكروهاً . و في طريقنا إلى المدرسة ؛ بدأ أبو سعيد يحضّر والدي للخبر الكارثة و هو يعلم مدى حبنا لأحمد ؛ و قال له : سنوصل هشام إلى مدرسته ؛ ثم سنذهب معاً إلى المستشفى ؟ . فقاطعه والدي متلهفاً : خيراً إن شاء الله ؛ ماذا هناك في المستشفى ؟ . فقال له : هوّن عليك ؛ فكل ما يأتي من عند الله خير ؛ أنت إنسان مؤمن ؛ ربيت أولادك على الإيمان بقضاء الله و حب الوطن و الدفاع عنه . ..فقال والدي متأثراً : هل استشهد أحمد ؟... فأجابه أبو سعيد – و هو يحاول التدرج في إخباره بالمصيبة - : لا ؛ لا ؛ لقد أصاب سيارته حادثاً بسيطاً و هو عائد من القاعدة الجوية إلى دمشق ؛ و هو الآن يعاني من إصابة خفيفة و منوّم في المستشفى ؛ سنذهب معاً لرؤيته . فصاح والدي : لا ؛ لا ؛ بل استشهد أحمد ؛ أحمد مات ؛ أحمد راح .. و بدأ يبكي أمام الناس في الشارع بكاء مريراً ؛ و يصرخ صراخ المكلومين و يعض على لسانه و يطرق رأسه بالحائط ؛ و أبو سعيد و الناس من حوله يحاولون أن يهدئوه و يخففوا عنه ؛ أما أنا فلم أتمالك نفسي يومها من شدة ما سمعت و ما رأيت فسقطت على الأرض مغشياً علي ؛ و لم اصحُ إلى و أنا في المنزل و والدي و أخواتي و عماتي و خالاتي و الناس من حولي يصرخون و يبكون و ينتحبون ...

و بينما أنا شارد الذهن – مع ذكرى استشهاد أخي - رغم كثرة من حولي من الأقرباء المهنئين ؛ نبهني والدي قائلاً : لا تشرد يا بني ؛ انسَ ما أصابك ؛ و اذهب إلى الحمام و اغتسل من درن السجن و أوساخه ؛ بينما أمك و أخواتك سيحضّرون لنا طاولة الطعام ؛ فلا شك أنك جائع الآن .

دخلت الحمام ؛ و اغتسلت بالماء الساخن و الصابون السائل ؛ و استرخيت في جو الحمام الدافئ الذي حرمت منه أكثر من خمسة أشهر ؛ و من دون أن أخشى أن يفتح عليّ السجان باب الزنزانة – و أنا أغتسل بقليل من الماء البارد في جو الزنزانة القارص البرودة و الذي كنت أرتجف مع كل قطرة منه تلامس جسدي - فيقطع عليّ خلوتي ؛ أو يصرخ بي من خلف الباب : ليش صوت هالمي ولا ؛ ما بدي اسمع صوت  ...  

و خرجت من الحمام ؛ و صففت شعري و حلقت لحيتي و لبست ثيابي النظيفة ثم جلسنا إلى طاولة الطعام الممدودة على طول الغرفة و التي كانت تحمل كل ما لذ و طاب ؛ من المأكولات التي جهزتها والدتي مع أخواتي ؛ أو تلك التي حملها أقربائي معهم وهم قادمون لتهنئتي ؛ فنظرت في صف المأكولات أمامي ؛ و تذكرت الوجبة الهزيلة التي كان كرماء المخابرات الأشاوس !! يتفضلون بها علينا داخل السجن ؛ فقلت لأهلي : حرام عليكم ؛ ليش كل هالأكل ؛ معدتي ضمرت خلص ؛ و تعوّدت عالقليل.

و جلسنا نتناول أصناف الطعام الشهية ؛ و أنا أشرح لأهلي و أقربائي غيضاً من فيض ما رأيت و ما سمعت و ما عانيت خلال سجني ؛ بينما كان أبي و أعمامي يشرحون لي كيف كان عناصر المخابرات يبتزّونهم في غيابي ؛ و يأخذون منهم على كل خبر عني – و أكثر أخبارهم كانت ملفقة و كاذبة – الأموال الكثيرة ؛ بحجة إيصالها لي ؛ أو بحجة دفعها للمسؤولين لتأمين زيارة لي أو لإخلاء سبيلي ؛ أما المقدم فقد كان له نصيب الأسد ؛ فقد أخذ مئات الآلاف منهم مقابل تأمين الزيارتين لي داخل السجن ؛ و ضرب ضربته الكبيرة – و حصل منهم على مبلغ ضخم جداً - مقابل إخلاء سبيلي ؛ رغم قناعته ببراءتي التامة . 

و بقيت في المنزل استقبل المهنئين بسلامتي قرابة الشهر ؛ و كان والدي خلالها قد تحسنت صحته بشهادة كل المهنئين ؛ الذين كانوا يقولون له : لقد عادت روحك إلك يا أبو أحمد ؛ الحمد لله شايفنك بصحة كويسة هلأ . فيقول : لقد شفاني الله برؤية ولدي ، و وجدت صعوبة في إقناع والدي بضرورة مراجعة الطبيب لأطمئن على صحته ، لأنه كان يقول لي : ما في ضرورة للطبيب ؛ أنا مرضت بغيبتك و طبت برجعتك . و أمام إصراري وافق على مراجعة الطبيب ؛ وبعد أن أجرى الطبيب فحوصاته ؛ انفرد بي أثناء وجود أبي في غرفة تخطيط القلب و صارحني قائلاً : أبوك وضعه خطير ؛ و عايش على جزء صغير سليم من القلب ؛ كنا نحن الأطباء الذين أشرفوا على حالته أثناء الأزمة الأخيرة نتوقع وفاته في أية لحظة ؛ لكن الله مدّ بعمره لكي يراك ؛ و كأن الله قد استجاب لدعائه ؛ فقد كان يدعو دائماً : يا رب خليني شوف هشام و بعدين خود أمانتك .

و بعد هذه الزيارة بيومين ؛ و بعد أن ودّعنا بعض أصدقاء والدي المهنئين بسلامتي و القادمين من ريف حوران ؛ و بعد أن تناولنا طعام العشاء ؛ قبلت يد والدي و استأذنته بالذهاب إلى النوم ؛ فأذن لي ؛ و ما إن أويت إلى فراشي الوثير و سريري الدافئ ؛ حتى صرخت أمي : هشام تعا شوف أبوك شو صرلوا . ركضت نحو والدي فوجدته ما زال متكئاً على وسادته كما تركته ؛ لكن رأسه كان قد تدلى للأسفل و لون وجهه قد تلطخ بالزرقة . وضعت أطراف أصابعي على معصمه لأحاول جسّ نبضات قلبه ؛ فلم أحس إلا بنبضات قلبي الذي كان يخفق بشدة متسرعاً .....

---------------------------

لقاء لا أنساه..في أقبية السجون-13-

(الجزء الأخير )

و هكذا مات أبي بعد شهر من خروجي من السجن و تركني وحيداً ؛ مات من شدة ما عانى و قاسى بعد ما غيبوني عنه داخل المعتقل ؛ و هو يرى أن الداخل إلى السجون في سوريا يصبح خلف الشمس ؛ فلا زيارة و لا فرج و لا علم و لا خبر؛ و كأن الداخل إلى السجون السورية قد انتقل إلى عالم آخر مجهول ؛ لا يعرفه إلا من عايشه و عاينه . مات والدي و أضاف هماً جديداً إلى همومي الكثيرة ؛ و ترك لوعة و حرقة و ألماً و غصة في صدري ؛ و ربما حقداً أيضاً – لن تخمد ناره بعد – على مساعد الكلية الجوية الذي اتهمني ظلماً و جوراً ؛ و على كل السجّانين الصغار و الكبار ؛ بمن فيهم سجاني الأكبر القابع على رأس الهرم السلطوي ؛ و الذي نصّب نفسه إلهاً مقدساً ؛ و فرعوناً يحكم و يبطش و يظلم و يقتل و يسجن و يترك زبانيته و كلابه يعتدون على البشر بقوة سطوته و سلطته التي وصل إليها على ظهر الدبابة العسكرية ؛ فعوضاً أن يرعى حقوق مواطنيه و شؤونهم و يصون إنسانيتهم و حريتهم و كرامتهم ، سلط كلابه لينهشوا من أجسادهم ؛ و يرهبوهم و ينكلوا بهم ، لقد مات أبي بطعنتين مسمومتين ؛ كانت الأولى في صدره من خنجر يهود الذين قتلوا ابنه الكبير أحمد و هو في زهرة شبابه ؛ و الثانية في ظهره من سكاكين رجال الطاغوت الذين خطفوني من بين يديه و أنا في أول شبابي ؛ ليتركوه بلا ولد و لا سند ، فكيف أنسى قاتلا أبي ؟ .

و عاد الناس الذين كانوا قد توافدوا علينا بالأمس ليهنئونا بسلامتي ؛ عادوا من جديد ليعزّونا بوالدي ؛ و شعرت – و شعر الناس من حولي - أن الأشهر المأساوية الستة الأخيرة من عمري جعلتني أكبر أكثر من ست سنين ؛ فلم اعد ذلك الشاب المرح البشوش الوجه المتفائل المقبل على الحياة ؛ بل أصبحت انعزالياً كتوماً حزيناً متوجساً ، و فكرت بالهجرة من الوطن رغم صغر سني ؛ فأنا لم أكمل الثامنة عشر يومها ؛ لكن أمي و أخواتي البنات هن فقط من جعلوني أتراجع عن هذا القرار الخطير.

ثم فكرت بأن أعدل عن متابعة الدراسة ؛ و أنزل للعمل – مكان أبي - مع أعمامي و أبناء أعمامي ؛ لكن أمي و أخواتي و أعمامي و أبناءهم و صهري- و هو ابن عمي أيضاً – رفضوا ذلك قولاً واحداً ؛ و قالوا لي : لا بد من دخولك الجامعة ؛ و أن تحقق ما كان يصبو أبوك إليه . و لما كانت أمي و معها أخواتي يطالبنني أن أدرس الطب ؛ رفضت ذلك لطول طريق دراسة الطب ؛ و فضلت دراسة الهندسة المدنية ؛ لأن طريقها أقصر ؛ و لعلي خلال سنوات دراسة الهندسة الخمس أكون قد اطمأننت على أخواتي ؛ فأسافر و أغادر الوطن مع أمي ؛ و فعلاً سجلت بكلية الهندسة المدنية و انتظمت في الدراسة بعد أن أضاع أزلام المخابرات علي سنة دراسية كاملة .

و رغم انشغالي بزوّاري من المهنئين لمدة شهر ؛ و المعزين لشهر أخر ؛ لكنني لم أنسَ أبداً ذلك الوعد الذي قطعته على نفسي أن أزور عائلة المقدم نبيل شاهين و لو أنني أخرته مضطراً بعض الوقت ؛ و ما إن فرغت من مجالس التهنئة ثم العزاء ؛ حتى فاتحت أمي التي كانت ما تزال حبيسة عدتها على والدي فقلت لها بعد أن أخرجت صورة لأخي أحمد مع نبيل شاهين في روسيا :

- هل تعرفين من هذا الذي في الصورة مع أخي أحمد يا أماه ؟ .  

- أجل أنه نبيل شاهين ؛ ذلك الشاب الحلبي الشهم ؛ الذي كان يحبه أخوك أحمد كثيراً ؛ و الذي ما فتئ حتى فترة قريبة يزور المرحوم أباك في محله و يطمئن علينا و يسأل عن أحوالنا ؛ فهو قد حفظ المودة التي كانت بينه و بين أخيك المرحوم ؛ و لا أدري ما المانع الذي أخّره عن زيارتنا هو و زوجته السيدة العاقلة الفاضلة ؛ للتهنئة بسلامتك ؛ و لا للتعزية بوفاة والدك ؛ أرجو أن يكون المانع عن ذلك خيراً ؛ فهم أصحاب واجب ؛ و لم نرَ منهم إلا كل خير ؛ و أنا أحتفظ برقم هاتف بيتهم ؛ و أغلب الظن أنهما لم يسمعا باعتقالك و لا بوفاة أبيك ؛ و أجد لزاماً علي أن أتصل بهما و أطمئن عليها و أخبرهما بالأخبار السيئة التي حصلت معنا في الأشهر الماضية .

- لا يا أمي ؛ فالمقدم نبيل كان معي في السجن ؛ لكنه لم يخرج ؛ بل نقلوه إلى سجن تدمر الصحراوي ....

- مو معقول ...

- و الله يا أمي جلست معه في زنزانة واحدة ؛ ثم نقلوه من زنزانتي ؛ و قبل أن أخرج من السجن بفترة قصيرة رأيت السجانين يضعون الأصفاد في يديه ؛ و ينقلونه إلى سجن تدمر .

- الله يجازي الظالم ؛ شو ما بدن يتركوا حدا لأهلوا ؛ الله ينتقم منهم .

- أعطيني رقم هاتفهم لأتصل بهم و أطمئن عليهم ؛ فقد أمنني أبو سمير أمانة ؛ و أجد نفسي ملزماً بأدائها .

و بعد أن أعطتني أمي رقم الهاتف ؛ اتصلت بهم ؛ فردت عليّ زوجته ؛ فعرفّتها بنفسي ؛ فعرفتني ؛ و سألتني عن أمي و أبي و عن أحوالهم و صحتهم ؛ فقلت لها :

- أبي توفي من حوالي شهر و بعد شهر من خروجي من سجن المخابرات الجوية ؛ و أمي الآن في العدة .

- ليش كنت في سجن المخابرات الجوية ؟! ... عفواً يا ابني ؛ نسيت عزيك بأبوك ؛ يلّي خلف ما مات ؛ البقية بحياتك ؛ عطيني أمك عزيها ..

و بعد أن تكلمت مع أمي لبعض الوقت ؛ أخذتُ سماعة الهاتف من والدتي ؛ و قلت لأم سمير :

- أريد أن أزوركم منذ خروجي من السجن ؛ و لكن انشغالي بالمهنئين و المعزين منعني من ذلك ؛ فقد قابلت أبا سمير في السجن و حملني أمانة و لا أريد أن أتكلم على الهاتف .

- سآتي غداً لزيارتكم و تقديم واجب العزاء ؛ و أطمئن عليك ؛ و أسمع ما تحمل من أخبار عن أبي سمير .

- نحن في انتظارك غداً .

- إن شاء الله .

و في الغد زارتنا أم سمير مع ولديها سمر الكبيرة – طالبة الأول إعدادي – و سمير الصغير – طالب الخامس ابتدائي ؛ و بعد أن قدمت واجب العزاء ؛ شرحت لها وضع زوجها الحرج الآن ؛ و إنه بحاجة إلى معجزة حتى يخرج من قبر تدمر المخيف ؛ و بلّغتها بطلب أبي سمير أن نزور أخر ضابط طيار ما زال على رأس عمله من الدفعة التي سافرت إلى روسيا معه و مع أخي أحمد و نطلب مساعدته ؛ كما كلفتها بالاتصال بأخواله في طرطوس و عمل ما بوسعها في محاولة شبه ميؤوس منها لإخلاء سبيل زوجها ؛ و لم أنس أن أوصل لها وصيته بأن تركز اهتمامها على ولديها ؛ و تتابع دراستهما حتى النهاية ؛ كما أوصلت أشواقه و سلامه الحار لها و لولديه ؛ و وصيته لولديه بأن يهتموا بإمهما و دراستهما ؛ و أن لا ينسوا أباهما من الدعاء. فأجابتني أنها تنوي العودة إلى الجامعة لمتابعة دراستها ؛ و تقديم ما بقيَ عليها من مواد في السنة الأخيرة من كلية اللغة الإنكليزية ؛ و التي تركتها بسبب انشغالها ببيتها و ولديها ؛ و ذلك حسب رغبة زوجها و إلحاحه عليها ؛ لكي تتمكن من تأمين مصروف بيتها و طفليها بعد إنهائها لدراستها ؛ كما وعدتني أن تتصل بزوجة الضابط الطيار ؛ فهي صديقتها ؛ و ستحاول أن تأخذ موعداً منه و تبلغني به لنزوره معاً .

و بعد يومين عادت و اتصلت بي ثانية ؛ و بلغتني أنها حصلت على موعد مع الضابط الطيار في بيته في حي ( برزة ) مساء ؛ و طلبت مني أن نتقابل عنده ؛ بعد أن وصفت لي عنوان بيته .

و فعلاً تقابلنا عند الضابط مساء ذلك اليوم ؛ و بعد أن هنّأته أم سمير بترقيته لرتبة عقيد ؛ عرفته بي ؛ فقال لي :

- أنت أخ الشهيد أحمد ؟!؛ الله يرحمه .

- نعم .

- أخوك كان أنشطنا و أشجعنا و أكثرنا حماس و وطنية ؛ كان خفيف الظل و محبوب و روحه بإيدوا ؛ كيف صحة الوالد و الوالدة ؟! ؛ الدنيا بتشغل ؛ كان المفروض نزوركن على طول .

- الوالدة بتسلم عليك ؛ و صحتها لا بأس و الحمد لله ؛ بس الوالد عطاك عمروا من حوالي شهر تقريباً ؛ بعد خروجي من السجن بشهر فقط .

- ليش كنت مسجون كمان؟!.

- أي والله ؛ كنت مسجون .

- و شو السبب .

و تنهدت تنهيدة عميقة ؛ و زفرت نفساً طويلاً ؛ ثم بدأت بسرد مأساتي كاملة ؛ و كيف التقيت بالمقدم نبيل في أقبية فرع المخابرات الجوية ؛ كما قمت بسرد مأساة المقدم نبيل أيضاً ؛ و بينت له أنه هو من طلب مني مقابلتك من دون كل الناس ؛ لأنك من دفعته الدراسية ؛ و بينكما عشرة عمر و عشرة دراسة و عشرة سفر و غربة ؛ و أنك لن تتأخر عن مساعدته في محنته .

كان العقيد أبو حسان يصغي إلي باهتمام و تركيز ؛ و لم يقاطعني أثناء سردي للقصة المأساوية ؛ و بعد أن انتهيت ؛ هنأني بسلامتي ؛ و وعدني أن يجري اتصالاته و محاولاته ؛ و أن يضع ثقله و يبذل جهده في مساعدة أبي سمير ؛ و أنه سوف يتصل بي و بأم سمير ؛ و يخبرنا بالنتيجة في القريب العاجل .

و بعد حوالي عشرة أيام من تلك الزيارة ؛ اتصلتُ بأم سمير ؛ و سألتها إن كان العقيد أبو حسان قد اتصل بها أو أبلغها بنتيجة اتصالاته ؛ فقالت لي : - لم يتصل ؛ و كنت أود الاتصال بك لأسألك نفس السؤال ؛ و وعدتني أن تتصل هي به و ترد علي . و فعلاً اتصلت بي تلك الليلة و أبلغتني أنها اتصلت كثيراً بالعقيد أبي حسان ؛ لكن لا أحد يرد على هاتف بيته . و قالت لي : أنها ستتصل به في الغد و تعلمني بالنتيجة  ؛ و بعد حوالي أسبوع من تلك المحاولات ؛ ردت عليها زوجته أم حسان ؛ و اعتذرت لها أنه لا يستطيع مساعدتها في هذا الموضوع نهائياً ؛ و طلبت منها عدم الاتصال به ثانية .

و توالت الأيام و السنون ؛ و تخرجت من كلية الهندسة المدنية ؛ و بدأت بمراسلة الجامعات الأمريكية و الأوربية للحصول على قبول هناك في اختصاص جيد ؛ و بعد حوالي عام من دراسة اللغة الإنكليزية و الامتحانات و المراسلات و زيارة السفارات ؛ حصلت على قبول في إحدى الغربية المحترمة ؛ و غادرت إلى هناك للتخصص في الهندسة الصحية ؛ و حصلت على الدكتوراه ؛ ثم استقريت في بلاد الغرب .

و خلال دراستي في الغرب ؛ و أثناء إحدى زياراتي لأهلي في الوطن ؛ عرضت عليّ أمي أن تزوجني ؛ و قالت لي :

- لا تحرمني من الفرحة بك كما حرمني أخوك المرحوم ؛ فأنت ولدي الوحيد ؛ و قد اطمأننت على أخواتك و زوجتهن جميعاً ؛ و لم يبق عندي غيرك ؛ و أريد أن أطمئن عليك قبل موتي .

- أطال الله عمرك يا أمي ؛ فعلاً ؛ أنا أفكر في الزواج الآن .

- الله يرضى عليك يا ابني ؛ و هل تريد أن تتزوج من بلاد الغربة ؟!.

- لا ؛ لا أريد ذلك ؛ بل أريدك أن تخطبي لي من هنا ؛ و لن أحرمك من متعة البحث عن بنت الحلال .

- إذاً انظر حولك و اختر من شئت من بنات أخوالك أو خالاتك أو أعمامك ؛ و قل لي على اسمها لأذهب و أطلبها لك .

- لا ؛ يا أماه ؛ فأنت تعلمين رأيي في زواج الأقارب ؛ أنا لا أحب أن أتزوج من العائلة ؛ خصوصاً أنك ابنة عم المرحوم والدي ؛ و زواج الأقارب منتشر كثيراً في عائلتنا.

- إذاً ؛ هل هناك بنت معينة تحب أن أطلبها لك .

- هل تذكرين يا أماه سمر ابنة المقدم نبيل ؟؛ ما رأيك بها ؟!.

- ابنة أصول ؛ و أنا أحترم كثيراً أمها و أبوها ؛ فأبوها صديق المرحوم أحمد و أعرفه منذ كان شاباً و حتى قبل أن يتزوج ؛ و أمها امرأة عصامية و شريفة و مجاهدة و أخت رجال ؛ تعبت على ولديها و جاهدت فيهما و ربتهما أحسن تربية و علمتهما و لم تجعلهما يحتاجان أحداً .

- ما رأيك إذاً أن تزوريها و تطلبي يد ابنتها لي ؟!.

- أنا لم انقطع عن زيارتها أبداً ؛ كما أنها تزورني باستمرار مع ابنتها ؛ و سأزورها غداً مع أخواتك ؛ و أطلب يد ابنتها لك ؛ و لا أظن أنها سترفضك ؛ فهي تحترمك و تعزك كثيراً ؛ و تشعر أنك من روح زوجها المرحوم .

- هل لديها معلومات أن زوجها قد مات ؟!.

- نعم ؛ فقد أخبرها بعض الذين أخلي سبيلهم أخيراً ؛ بعد أن قضوا أكثر من عقد من الزمن في سجن تدمر ؛ أن زوجها كان هناك ؛ و أنه عانى و عذّب أكثر من زملائه المساجين – الذين عذبوا كثيراً أيضاً -  بسبب كونه مقدماً طياراً ؛ فعندما جاء تسريحه إلى السجن طلبه رقيب في الشرطة العسكرية ؛ و قال له : شو كانت رتبتك و لا ؟! . فأجابه : - مقدم طيار حضرة الرقيب . فقال الرقيب السجان : - هنت مسرح ولاك عرص ؛ و كمان معلّم أبدي ؛ و كل ما بقول وين المعلّمين بالمهجع بتطلع بتاكل نصيبك . و بذلك تعرض لتعذيب أضافي يومي شديد ؛ و فقأت عينه اليمنى برفسة من بصطار ( الحذاء العسكري ) أحد السجانين ؛ و بعد أكثر من أربعة سنوات من التعذيب الشديد  المستمر حكمت عليه المحكمة الميدانية بالإعدام في نهاية عام 1988 ؛ و بقي يتعرض للتعذيب عاماً آخر بعد المحكمة ؛ إلى أن تم تنفيذ حكم الإعدام به في نهاية عام 1989.

- و هل هذه المعلومات مؤكدة ؟.

- يبدو ذلك ؛ فأم سمير كانت تزور كل من أخلي سبيلهم من سجن تدمر ؛ حتى لو كانوا من المدن الأخرى خارج دمشق ؛ فقد زارت مساجين أخلي سبيلهم من تدمر في مدن و قرى محافظات حمص و حماة و إدلب و حلب و اللاذقية و الرقة و دير الزور و درعا ؛ و كانت تسألهم جميعاً عن أبي سمير ؛ حتى أسرّ لها بعض المسجونين عن هذه المعلومات التي تقاطعت من أكثر من مصدر .

- الله يرحمه ؛ كان يشعر أن نهايته ستكون على يد هؤلاء الظلمة ؛ رغم أنه كان يتمنى أن يستشهد على يد اليهود .

- الله يرحمه ؛ لكن الشهادة لله ؛ كانت أم سمير مثال الزوجة الصالحة ؛ التي تعبت كثيراً من أجل ولديها ؛ و ربتهما أحسن تربية ؛ و علمتهما أحسن تعليم ؛ فهذه سمر الآن في السنة الخامسة من كلية الصيدلة ؛ أما سمير فهو في السنة الثانية من كلية طب الأسنان .

- على بركة الله إذاً ؛ متى ستزورينها يا أماه ؟.

- غداً إن شاء الله ؛ فأنا مستعجلة أكثر منك ؛ و خير البر عاجله .

     و فعلاً تم النصيب ؛ و تزوجتُ من سمر نبيل شاهين ؛ و سافرت معي إلى بلاد الغربة  بعد أن أنهت دراستها ؛ و استقرينا هناك ؛ و رزقنا بأربعة أبناء ؛ كبيرهم أسميناه وليد ( كما كان يكنيني أخي الشهيد أحمد بأبي وليد ) ؛ و الثاني أسميناه لطفي ( و هو اسم المرحوم والدي ) و الثالث أسميناه نبيل ( و هو اسم المرحوم والد سمر ) أما ابنتي الوحيدة الغالية المدللة فاسمها شام .

 

هذه هي قصة اللقاء – بيني و بين حماي نبيل شاهين في أقبية المخابرات - الذي أصبح جزءاً من تاريخي و حاضري و مستقبلي ؛ و لا يمكن لي أن أنساه بأية حال ، فقد أعادني ذلك اللقاء إلى ذكريات أخي الشهيد أحمد ؛ و أصبح جزءاً لا يتجزأ من كياني و بيتي و أسرتي في حاضري و مستقبلي و سائر شؤون حياتي ؛ و الذي يختصر حياة وطن مهدد بالفناء و ما زال ينزف بغزارة من أبنائه و كنوزه و قدراته دون أن يفكر القائمون عليه و الذين بيدهم الأمر و الحل و الربط  في مداواة و تضميد و معالجة جراحه النازفة الكثيرة ، فإلى متى ؟؟؟؟!!!!...

و هل هناك نهاية !!

– أخوكم هشام الشامي

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ