ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الثلاثاء 17/04/2007


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


ــ

في بيتنا مصحف (1-2)

سلمى السهروردي

في قريتنا النائمة في حضن الجبل، والمطلة على البحر، تأخذ من ذاك ثقة و صلابة، أو كما يطلق عليها البعض قسوة وجفاء، وتأخذ من هذا صفاء ورحابة، ورهبة حانية، تدعوك لتقترب منها بنفس الدرجة التي تحذرك أن توغل وتشتط لتبقى بعيداً عنها؛ في قريتنا هذه تتناثر عدة بيوت أغلبها طينية أو مبنية بأنواع من الحجر الذي يحكم تناسقه ويسد خلله واعوجاجه ملاط البناء أكثر من (قدومه). كانت قريتنا بالنسبة إلينا ونحن أطفال صغار هي العالم أو محوره الذي يدور كل شيء حوله ،بهدوء ورتابة. وكنا في تلك البقعة الصغيرة من الأرض الواسعة التي لا ندرك من أقطارها شيئاً، غير ما نسمع من الكبار عن المدن الآهلة مثل اللاذقية أو الشام حيث كنا نعتقد أنها نهاية العالم، نمتلك السماء الزرقاء بكل رحابتها وسعتها، ما سقف منها الجبل حتى انقطع خلف القمم العالية التي كانت تصدم أبصارنا، أو ما امتد فوق البحر عميقاً بحيث يمتص نظراتنا كلما أوغلت، دون أن يردها علينا بغير المزيد من الرهبة والشعور بالضآلة. كان النظر إلى خط اللقاء بين السماء والبحر يجسد اللانهائي حسيا لأطفال ولأناس فطريين  أدركوا مفهوم اللانهاية ولم يسمعوا بها !!

الناس في قريتنا تلك، بل كل فرد في قريتنا تلك، كان يؤمن إيمانا يقينيا يستعصي على أي جدل عقلاني، أنه على صلة وثيقة بالله ، وأن الله يرقبه ويرعاه، ويقدم له  العون والرزق والعكاكيز يتوكأ عليها كلما صعب عليه المسير، أو ألم به ألم، أو ضاقت عليه أسباب العيش، فانقطع المطر، أو شح الرزق؛ ياالله يهتف بها كل واحد من أفراد الجمع الصغير، الذي يظن نفسه العالم ، فتنفتح له أبواب الفرج أوالأمل، فيتجاوز القلق أو ينسل من غمامات الحزن أو ظلمة اليأس في رحلته القصيرة التي اسمها الحياة، والتي كثيراً ما يخطأ أول العدد في إحصائها عدد سنين.

في نظرة أهل قريتنا إلى السماء، ومن فيها، يظن  كل واحد من الصغار والكبار أن له خصوصية مع الله ، يتكلم بثقة، الله معي، وتتحول الكلمة إلى نوع من الدعاء أو التحية يتبادلها الناس دون الالتفاف كثيراً إلى معناها (الله معك) تقال عند الفراق والوداع، كما تقال عند الرواح طليعة كل صباح.

لم يكن (الدين) ملحوظا في قريتنا بمعناه الطقسي الظاهر. وهو مع تغلغله في الأعماق، لم يكن غير هذا الإحساس الملازم للكبار والصغار. تطلع حنون إلى السماء أو إلى من فيها كان يحتضن قريتنا؛ فيؤثرها، حسب أبناء القرية، بميزات كثيرة يتحدثون عنها باعتزاز و ثقة واطمئنان، فيعددون مناقبهم الذاتية، أو يتحدثون عن شخصيات غائبة في ضباب الماضي القريب أوالسحيق, تكثر الأمهات من الحديث عن الأخوال وخصوصية مكان الولادة، الذي يتلقاه الآباء أو الأعمام والعمات بتقطيب الجبين أوبزم الشفاه. ويكبر الإنسان وتكبر معه هذه العقيدة، وما يتولد عنها من تصورات غارقة في الذاتية متناهية  في الاختلاف.تصورات تشترك جميعا في تبديد وحشة الخوف من ظل المقبرة القابعة على كتف القرية الشرقي في عمق الجبل، والتي تدور حولها حكايات تليدة تحاول هي الأخرى تبديد كثافة المجهول أو أن تنير شموعا في ظلمة الموت الرهيب.

سأدرك فيما بعد، بعد أن أكبر وأرحل، وأنقب ، و أبحث، أن حالة قريتنا تلك هي حالة نمطية، تمتد على أرجاء هذه المسكونة، وأن الإحساس الأولي، المجرد من زركشة النسيج، بحنو ورحابة السماء ومن فيها يولد مع الإنسان ويكبر معه ويتفنن هذا الإنسان في التعبير عنه بطرائق شتى مما ندعوه، الملل والنحل والمذاهب والأديان. وسأبحر أعمق وأعمق لأدرك أنه بغير هذا الحبل الوهمي الوثيق!! الذي يشد كل نسمة على ظهر هذه الأرض، أوربما كل دابة وطير، إلى الزرقة الصافية أو الصاخبة؛ ستبقى حياة الإنسان عبثاً بلا معنى، تتجسد في نزوة عابرة تنقضي مخلفة وراءها الكثير من الاعياء في الجسد، والإحباط في النفس، والكآبة في الروح، والعجز في العقل أو الإدراك.  

ولقد قرأت للكثير من الفلاسفة والمتكلمين أحاديث محيرة في التمييز بين الروح والنفس والعقل فلم أحظ بالكثير مما أستطيع أن أقوله، لأنني لا أريد أن أقول كلاماً بلا معنى كما قالوا، ولكنني أؤكد أن إحساسي بالفروق الشاسعة بين أمداء العوالم الأربع عوالم (الجسد والعقل والروح والنفس) لا يقل عن إحساسي بالفروق بين عوالم قريتنا الصغيرة، إنسانها و بحرها وجبلها وسقفها المحفوظ التي نسميها السماء.

ومع تأكيد الكتاب العزيز أن الله قد علم آدم الأسماء كلها، أشعر أن هناك عوالم مثل هذه التي أتحدث عنها لا يزال الإنسان يستشعر العجز في اختراق عبابها، أو تحديد تخومها. في بحث فيزيولوجي مزمن مازال الأطباء أو علماء التشريح يحاولون التماس علاقة بين عالمي القلب الصنوبري والدماغ الرجراج، فيثبت بعض وينفي آخرون. مازالت بعض الشرارات القوية أو الواهنة تتقدح في عقلي فتغمر نفسي بأمل مشرق أو بيأس مظلم، لتسعد يومي أو لتشقيه، وتجعلني أستسلم لنومة هانئة أو تقلق ليلي فأشقى بهم ناصب، وليل، كليل النابغة، بطئ الكواكب. كيف ولماذا بل هل إلى رجوع من سبيل ؟! أما أمر روحي فذاك عالم آخر أعيشه، أهيم فيه، أضطرب في بحره الأثيري، اقرأ من خلاله الأحداث، وصفحات الأيام كما أقرأ صفحات الوجوه. عالم إشراقه لحظي، وعتمته اختناق، ظل يتجسد بين يديك فإذا حاولت أن تمسك ولى، يقترب كلما لاحظ يأسك ليستجرك إليه، ولكنه لا يمكنك أبداً منه، ويشعرك بالعجز عن الحديث عنه فتأنس وتردد: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.

لا أعلم إلى أين قادني القلم في هذا الصبح الرطب، كنت أتحدث عن قريتنا النائمة في حضن الجبل والمطلة على البحر، ولكنني اكتشفت بعد طول ترحال أن العالم كله هو قريتنا، أو أن قريتنا هي العالم كله، وأن الناس كلهم هم أنا أو أنني كل الناس. حيث يربط الحبل الوهمي الوثيق السماء بالأرض، والقلوب بالعقول بالنفوس بالأجساد بمصدر الخلق الأولي، طوعاً أو كرهاً، مهماتمرد الجاحدون. من رقراق الشاطئ إلى لجة البحر أو إلى قمة الجبل يتقدم الجميع راكعين، تختلف الطرق والعكاكيز والقوارب والمجاديف،و في حضرة (السيمرغ)، كما روى فريد الدين العطار، سوف يطوي الجميع الركب، وعلى الطريق الصعب الطويل سيتهاوى الهالكون. ولو أبصرت الوجود بعيني ابن سبعين، لرددت دائما: ترى موجا وليس ثم إلا البحر!!

كان الدين في قريتنا حاضراً، بل بمعنى أكثر خصوصية كان (الله) حاضراً. كان يفتح أمام أهل القرية نوافذ الأمل والرجاء والأمن والرغبة  في التوقي (التقوى) والحب و(العمل الصالح) ازرع واحصد، اطعم أطفالك، وأحسن إلى جارك . بحب وتقديس عظيمين كان أبناء قريتنا ،وكذا جميع أبناء العالم كما اكتشفت، يستشعرون أن( الله ) أقرب إلى كل واحد من نفسه، وأطوع له من يمينه.

كان الدين بالنسبة إلى أهل قريتنا يمين يجري على لسان لتأكيد حديث، أو إخبار عن عزم، أو لتمني سلامة، لم يكن في قريتنا قبة ولا مزار، ولكننا لم نكن نحرم متعة الفرح في الأعياد المتعددة المزركشة  كألوان ثيابنا القروية التي مازلت أتعشقها رغم إعلان الذوق المتمدن نفوره منها. كانت صباحات الأعياد أكثر من زيارة الأعمام والعمات، وقطعة نقدية تدس في اليد بحب، ومذاق حلوى ما يزال وله النفس حتى الآن.

وكان الدين حجباً وتمائم تعلق بعناية على الثياب، يكتبها شيوخ أجلاء، تشد إليهم الرحال بين قرى الجبل المتفاوتة في نصيبها من هذه النعم.

وكان الدين بالنسبة لأسرتنا بشكل خاص مصحف معلق في صدر غرفة الرجال. مصحف موضوع في كيس قماشي أخضر ومزركش إلى جانبه سيف قديم صدئ طالما حكى لنا عنه أبي الحكايات.

مصحف لم يبرح مكانه، إلا عندما اضطر أهل القرية أن يفرضوا على أحدهم في واقعة نسيتها أن يحلف على القرآن، وأخذوا المصحف من بيتنا بإجلال. وظل الرجال والنساء لسنوات يتحدثون ويتحدثن كيف (طب يده) على المصحف كاذباً، وعن العواقب التي أصابت أسرته أبناءه وبناته، بمن فيهم ا بنته الكبرى التي أجهضت بعد الحاثة مباشرة ثم لم تحمل بعد ذلك أبداً على الرغم من النذور والحجب وأدوية القابلات والأطباء.

مصحف كان في بيتنا، كان بالنسبة لعالمي الصغير يأخذ مكانة البحر والجبل والسماء رغبة ورهبة حباً وتقديساً، لم يكن أبي ممن يجيد القراءة، ولم أره يوماً يخرج المصحف من بيته القماشي، ولكنه كان دائم الإشارة إليه عندما يريد أن يؤكد على يمين، كان يحفظ، أو هكذا أظن، المعوذتين وسورة الصمد، أقول هكذا أظن لأنني لم أسمعه مرة يكمل تلاوتها، كان يكتفي بمطلع كل سورة عندما يقتضيه المقام، كان يتلو ذلك بإيمان عميق ينبع من قلبه، ويشع من عينيه، كانت أمي تردد ذلك أيضاً بصورة أكثر، إذا مرضنا، وإذا تأخر أحدنا عن العودة عند المساء ، وإذا أضجعتنا لننام، وإذا أطعمتنا، وإذا قصت علينا، أو قص علينا بعض الزائرات حكايات الجان.

كان المصحف المطوي، المحفوظ في بيته القماشي الأخضر معلقاً في صدر غرفة الرجال، بل كان مع أننا لا ندرك شيئاً مما فيه معلقاً في صدورنا نحن، في قلوبنا محبة ورهبة.وكل ما أتيح لي منه لثمات أطبعها على قماشه، دون أن تناله يداي.

  بعد المدرسة الابتدائية وقد بدأت أحفظ بعض سورمن القرآن، كانت أمي تتباهى بذلك أمام الزائرات من الجيران، يا بنت يا سلمى أسمعي خالتك أم فلان سورة (عم) كما كانت والدتي تطلق على سورة النبأ، وتظنها إحدى السبع الطوال .

لفترة طويلة ظل الكتاب المدرسي مصحفي العملي، لم أحظ بمصحف أكثر مما حفظت؛ ليظل مصحف بيت الطفولة  معلقا في صدري بقدسية ضبابية واحترام. لم يخطر ببالي  في سنواتي الجامعية فيما بعد أن أشتري نسخة من الكتاب العزيز، أو أن أفتحه، أو أن أتصفحه، كان لريحنا وجهة أخرى، أشعر بعد عشرين عاما من الضرب في آفاق المعارف والثقافات، برمزية العيس في البيداء يقتلها الظما!! باعدت المصحف طويلا ولكنه ظل معي مشدوداً إلى صدري أنى حللت وارتحلت ببنده الأخضر الذي كان معلقاً في غرفة الرجال.

 انقطع ما بيني وبين المصحف، لم يبق هناك كتاب مدرسي في حياتي، انزوى الذي حفظته منه في أعماق الذاكرة حيث لا يستدعيه طلب، لم أعد أسمع صوت أمي ينادي : يابنت يا سلمى أسمعي خالتك...و قرأت ثم قرأت، ودرست، وبحثت ،ومع أن تخصصي الأساسي علوم الإنسان في إحدى مكتبات باريس وجدت نسخاً جميلة مزخرفة للكتاب العزيز، لأول مرة تناولت نسخة، أمسكتها بأدب وبخشوع كأن أمي وأبي وغرفة الرجال وصدر المجلس كلها فوق رأسي. قلبت النسخة، فتحتها، مددت يدي إلى صاحب المكتبة اشتريتها. أخذتها إلى بيتي، هي رفيقتي منذ عشر سنوات. علمت أن المصحف المطوي المعلق في بيتنا كان خزانة أسرار، وكان وقدة من الإشعاع. قرأت وحفظت أيقنت أن الحبل الذي يربط الأفراد والجماعات، والقرى والمدن والأرض والعوالم بمصدر الخلق القائم على كل نفس، الظاهر في كل شيء، والباطن فيه، ليس وهمياً، إنه هنا وثيق وشيج في هذا الكتاب.

فأي شأن كان لي مع هذا الكتاب؟

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ