-ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الثلاثاء  24/03/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


عندما سقطت بغداد كنت هناك

مشاهدات حية على جريمة احتلال العراق

(2)

رشيد شاهين

لقد ابتدأت الحرب إذن وهي ستكون قوية شديدة ومرعبة وبدون أدنى شفقة او رحمة، او هذه على الاقل هي الرسالة التي تم إرسالها عبر الغارات الأولى، لقد كنت اشعر بالغضب الشديد كلما انظر في عيون أطفالي أو الأطفال الآخرين الذين أتوا مع أهلهم إلينا من بيوت الجيران، فقد كان  هؤلاء يصابون بحالة من الرعب كلما بدأت غارة جديدة، كنت أحاول ان احتضن احد أطفالي- عمر- الذي يركض الي باكيا ومصابا بحالة من الرعب او مرتجفا بصمت قاتل، وكانت الزوجة تحتضن الأصغر وهي طفلة في الثانية من عمرها، أما ولاء ومحمد فكان يتكفل بهما الجيران.

ام محمد في الخمسينات من عمرها كانت إحدى السيدات من بين العديد من الجيران التي التجأت الى شقتنا مع زوجها وأولادها، لا تستطيع السيطرة على نفسها عندما يشتد القصف، كانت تبكي بصوت عال، وهذا ما كان يثير بداخلي شعور مضاعف بالحزن على هذه السيدة، خاصة انها وكما  يبدو كانت تسبب حرجا لزوجها وأولادها ببكائها الشديد، لقد كان شعوري بالغضب يزداد على هذا العدوان الذي يسبب كل هذا الهلع والألم.

كان جارنا وليد شاب ضخم الجثة وطيب المعشر ويميل الى النكتة، وبرغم كل ما كان يحدث من قصف ودمار وما نعيشه من وضع مؤلم، الا انه كان لا يتردد في إطلاق تعليق هنا او نكتة هناك، كان وليد الشاب يرتبط بطفلي عمر- أربع سنوات عندئذ- بعلاقة حميمة، وعندما كانت تشتد الغارات ويحوم الموت في أجواء بغداد يقوم وليد بوضع سماعات على أذني عمر ويرفع صوت الموسيقى إلى أعلى مستوى لها كي لا يسمع صوت الانفجارات او هدير القاذفات المرعب، لانها كانت تسبب له حالة من الخوف والهلع وكان هذا ما يزيد من شعوري بالألم والغضب.

برغم كل هذا القصف الذي لم يتوقف على العاصمة العراقية وبرغم حالة الوجوم التي كانت تسود أحيانا لشدة ما يتم إسقاطه على بغداد، إلا أننا- الرجال من سكان العمارة- كنا نجد الوقت الذي نلعب فيه النرد، "الطاولي" على رأي العراقيين، كما كنا نجد الوقت لنتبادل الحديث والنقاش الذي كان دائما متحفظا وضمن حدود المسموح، وإذا ما تجرأ احدنا على التفكير بصوت عال فان ذلك لم يكن ليتعدى التلميح وليس التصريح.

كنا نقيم في احد الأحياء السكنية الواقعة غرب العاصمة بغداد، يقع ما بين حي الجهاد وحي العامل، وهو عبارة عن مجمع سكني يتكون من مئات الشقق التي تم بنائها في الثمانينات من القرن الماضي، وقد كانت شققا مريحة برغم انها مبنية من الاسمنت- الباطون الجاهز- وقد كانت تتميز بالكثير من الخدمات وخاصة وصول الغاز السائل اليها عبر أنابيب، وهذا ما لم ينقطع في تلك الشقق حتى في ظل الحرب وما بعد الحرب، إضافة الى ان انقطاع التيار الكهربائي كان اقل من باقي المناطق والاحياء السكنية المحيطة.

كان الحي يسمى حي صدام السكني قبل سقوط بغداد، وقد تغير اسمه الى حي السلام بعد الاحتلال الأمريكي برغم أنني وكثيرين بقينا على استعمال التسمية القديمة، لقد كان ينقسم الى ساحات على شكل –U- وفي كل ساحة يوجد ثمانية عمارات متصلة لكن بمداخل مستقلة لكل عمارة وتحتوي هذه على ما مجموعه ثمان واربعون شقة.

وحيث ان تلك الشقق كانت مبنية بتلك الطريقة فان تأثير أصوات الانفجارات كان اشد قسوة من تاثيره على المساكن المبنية بالطريقة التقليدية، كنت اشعر في أحيان كثيرة ان القطع المكونة لتلك البنايات سوف تتساقط هكذا كل واحدة على حدة من شدة الارتجاج الذي تحدثه بعض أنواع القذائف، القنابل او ربما الصواريخ فنحن لا نعرف ما الذي يتم إسقاطه على بغداد او بماذا يتم استهدافها.

برغم أجواء الحرب البغيضة الا ان حالة من التوحد غير العادي عمت بين الجيران في الساحات، لقد تشكلت بيننا حالة من الحميمية لا يمكن وصفها، ومع  تجمع الجيران في شقتنا كنت اشعر ان هؤلاء صاروا جزءا مني كما صرت جزءا منهم، لقد تطورت علاقاتنا بحيث صار من غير الممكن ان تنفصم عراها، لقد كنا نتشارك الهم والوجع بحالة من التوحد لم أشهدها من قبل، وصار سكان البناية يشكلون وحدة واحدة، لقد صرنا وكأننا عائلة منسجمة الى ابعد الحدود، وقد استمرت تلك العلاقة الى ما بعد الحرب، لقد كنت المس آثارها خلال فترة ما بعد الحرب واحتلال العراق والطريقة التي كان هؤلاء الاخوة من العراقيين يتعاملون معي او مع أطفالي وذلك الحرص والمحبة الذي يولونها لهم، وتوطدت العلاقة بشكل جميل ولا اعتقد انها سوف تتأثر برغم هذا البعد الذي قد يطول الا انني اعتقد انه سيبقى مؤقت برغم طوله.

استمرت الغارات على العاصمة العراقية، ومع كل غارة كانت تقوم بها الطائرات والقاذفات الأمريكية كانت الحالة النفسية للجميع بما في ذلك نحن الرجال تزداد سوءا، الا ان هذا لم يمنعنا من ان نحاول الاستمرار بالعيش في محاولة منا لتنفيس حالة الخوف والاحتقان التي كانت سائدة وخاصة في ظل ازدياد القصف وما يسببه ذلك من هلع.

برغم ان الحرب كانت قد ابتدأت الا ان الحركة في العاصمة لم تتوقف، كان التنقل يتم بشكل شبه طبيعي في شوارع بغداد برغم القصف وبرغم وجود الطائرات في اجواء العاصمة على مدار الساعة تقريبا، الحركة كانت تتم خلال النهار في اغلبها، في اليوم الرابع من الحرب قررت ان اصطحب عائلتي في زيارة الى بيت اهل زوجتي العراقية العربية الاصل والنسب، عندما شاهدت شاحنات عسكرية تقل مئات من الشبان العراقيين الذين كانوا في مقتبل العمر، لقد كانوا في حالة من النشوة والحماس، وكانوا يرددون هتافات حماسية، لقد حاولت ان افهم جيدا ما يقولون وقد سمعتهم يهتفون بشعارات تشيد بالرئيس وتندد بالعدوان وبوش واميريكا.

لقد غمغمت بكلمات عبرت  فيها عن الاستياء لأنني اعتقد ان هؤلاء الشبان لا يعلمون إلى اي مجزرة يتجهون، هذه الغمغمة التي قصدت ان تكون نصف مفهومة وصلت الى مسامع زوجتي مفهومة بالكامل لانها تعرف ما الذي يدور في ذهني وما هو موقفي من كل ما حدث ويحدث،   وهذا ما لم يعجب زوجتي التي احتجّت على ما قلت، وعندما وصلنا الى بيت اهل زوجتي صار الكل يحتضن الكل مع دمعة تسقط على هذه الوجنة بصمت هنا، ونحيب بصوت عال ومسموع هناك، او دعوات يبدو انها لم تصل الى السماء بان يحفظ الله العراق وأهل العراق، بقينا معظم النهار عندهم، عندما اردنا المغادرة صار الكل يحاول إقناعنا بان نترك الشقة وان نلجأ إليهم،     وهذا ما لم اتقبله، وقد حاولت ان اشرح لهم أننا اذا ما بدأنا بالرحيل فهذا لن ينتهي، وسنستمر بالهرب من مكان الى آخر ولسوف نستسهل الهروب وفي النهاية سوف نشعر بالندم، لقد كنت ارى ان زوجتي كما الأطفال يرغبون ان نأتي الى هنا، لا بل شعرت بنظرات من التوسل في العيون، عندئذ لم أرغب بالرد بشكل أكيد ولم اعط جوابا شافيا ذلك انني كنت ارغب ان أرى اين تتجه الأمور.

 

نزوح قسري

عندما عدنا الى بيتنا او على الأصح شقتنا التي أبقينا على مفاتيحها مع إحدى صديقات العائلة، رأينا ان هنالك ما استجد في الحي، حيث تم وضع العديد من المدافع المضادة للطائرات والتي تعرف بالعراق بال-57 في احدى الساحات المفتوحة المقابلة للشقق وهي لا تبعد عن البنايات السكنية الا اقل من 30 مترا، وكل ما يفصلنا عنها هو الشارع العريض المؤدي الى حي الجهاد.

وجود تلك المضادات بالقرب من الشقق اثار استغرابا وغضبا لدي لكن بشكل صامت، فانا في وضع وبلد يمنع فيها الاحتجاج في ايام السلم فكيف سيكون عليه الحال والبلد في حالة من الحرب الضروس، هذا الشعور المكتوم الذي ادركته زوجتي جاء على خلفية ان لا داع لوضع هذه المضادات في هذا المكان القريب جدا من الشقق، فالجميع مع الدفاع عن بغداد والموت من اجل العراق، لقد كنا نقوم جميعا بتحضير كل الوجبات للرفاق الحزبيين والجيش الشعبي المتخندقين في المنطقة برغم اننا لم نر اي منهم عندما سقطت بغداد، لكن ان توضع هذه المضادات بهذا الشكل فهذا سوف يعرض المنطقة الى قصف محتوم، خاصة وان الحي في وضع ليس بعيدا عن الخطر اصلا، لانه يقع بين مخازن ضخمة من الشرق والغرب وهي مخازن من المعروف انها تابعة للقصر الجمهوري.

لم اكن قد خبرت ان أكون قريبا بهذا الشكل من مضادات الطائرات تلك او غيرها من المضادات، كنت اسمع اطلاقاتها عن بعد وكان صوتها في العادة عاليا جدا، الا انني فوجئت بقوة صوت اطلاقاتها عندما بدأت بإطلاق قذائفها في السماء البعيدة، لقد كانت كما كل المضادات الارضية المنتشرة في العاصمة وفي كل العراق، تطلق اطلاقاتها هكذا بعشوائية وبدون تركيز وعلى لا هدف، لقد اثارت اطلاقاتها حالة من الرعب في نفوس الاطفال والنساء لشدة صوتها، وهي ان لم تشكل خوفا او رعبا فعلى الاقل صار من المستحيل النوم في ظل اطلاقاتها، لقد كانت وكانها تطلق من داخل الشقق.

لم تتوقف المضادات عن العمل طيلة الليل، وما ان اصبح الصبح حتى كان معظم السكان قد اتخذ قراره بمغادرة شققهم، لان الوضع لا يمكن تحمله. قلة هم الذين قرروا البقاء في المكان، وهؤلاء كانوا من العائلات التي ليس لديها اطفال. وهكذا فقد كان علي ان اتخذ قراري كما الاخرين، وفعلا توجهنا في اليوم التالي الى بيت اهل زوجتي في منطقة البياع لتبدأ من هناك رحلة اخرى مع الحرب اللعينة التي ارادها بوش الصغير من اجل السيطرة على نفط العراق وليس من اجل اسلحة الدمار الشامل كما حاول الترويج بشكل ممجوج لم يقنع احدا.

قررنا الانتقال وقد حملنا معنا فقط وثائقنا وقليل من الملابس وقمنا بوداع الجيران الذين كانوا قد قرروا البقاء في المكان وكذلك الذين قرروا المغادرة، كان الجو مشحونا بمشاعر الحزن والاسى العميقين، لقد بكى الجميع واستطاع البعض منا ان يحبس دموعه لكنه لم يستطع ان يخفي المشاعر التي كانت مرسومة على الوجوه وفي النظرات التائهه، أعطينا مفتاح الشقة إلى إحدى الصديقات الكربلائيات والتي كانت مديرة للمدرسة التي يدرس فيها ولاء ومحمد من اجل البقاء في الشقة لأنها تشعر بها بالأمان أكثر مما تشعر به في شقتها الواقعة في الطابق الثاني.

وصلنا إلى بيت أهل زوجتي الذي لا يبعد إلا بضع دقائق بالسيارة، وقد احتفوا بقدومنا برغم ما كنت اشعر به من غصة لهذا الانتقال القسري، كان البيت لا يبعد سوى عشرات الأمتار عن جسر البياع الواقع على الطريق السريع المؤدي إلى مطار صدام الدولي.

كانت الغارات الغادرة لا تتوقف على العاصمة العراقية، لم يكن بالإمكان النوم بسهولة، فقد كانت المضادات الأرضية تطلق إطلاقاتها بشكل مستمر وهدير الطائرات لا يتوقف، لقد كانت القاذفات الأمريكية الضخمة تحوم حاملة الموت معها، وصار لدينا ما يشبه الخبرة في متى سنسمع الانفجارات ومتى سيتم القصف، كانت القاذفات خلال تحليقها تطلق هديرا مرعبا تهتز له جدران البيوت، كانت تحوم مرتين او ثلاثة حول بغداد قبل ان تفرغ ما تحمل من موت على العاصمة التي كانت تأن بالم تحت تلك الضربات القاتلة، كنا نصعد الى سطوح البيوت لمعرفة آثار الغارات، ونلاحظ سحب الدخان تتصاعد بعد كل غارة. هذا الصعود الى السطح كان لا يعجب زوجتي او أهلها لخوفهم من ان أتعرض لما قد يسقط من القذائف المرتدة من السماء خاصة وان العديد أصيبوا او قتلوا نتيجة تعرضهم لذلك.

لا شك انني لاحظت ان شعورا ربما بالاطمئنان سرى في عروق الأطفال كما الزوجة وأهلها  نتيجة لهذا الانتقال من الشقة الى هذا البيت، لقد كان البيت واسعا وكبيرا إلا ان العدد الموجود فيه كان أيضا كبيرا بحيث انه ضاق علينا برغم رحابته، وكانت الأيام تمر متشابهة ورتيبة خلال وجودنا في ملجأنا الجديد.

 

معركة البياع

يبدو ان هذه الرتابة في سير الايام كان لا بد لها من نهاية، ففي صبيحة احد الايام وعندما كانت الساعة تقترب من السادسة صباحا بدأنا نسمع اصوات قذائف من كل الانواع، لقد كانت قريبة جدا، ادركنا ان هنالك معركة تدور رحاها قريبا من البيت

يتبع

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ