-ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

السبت  28/02/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


تأملات في "الحضارة" و"التحضر"

الدكتور عبد القادر حسين ياسين*

في عالمنا المعاصر أزمة "حضارة"  وأزمة "تحضر"  يتخبط فيها العالم بشطريه، الشمال و الجنوب (أو ، إذ ا شئت، المتقدم و المتخلف) . وكلما ازدادت مظاهر التقدم "الحضاري"  تضخمت الأزمات واتسعت رقعتها ، وتنوعت أشكالها ، وربما كان من الحكمة أن نصل إلى لبّ المشكلة في كل ما يطفو على الساحة من شؤون وشجون.

 

إن الدول المتقدمة (أو التي اصطلح على تسميتها بهذا الاسم ) تعاني أزمة تخمة سببها ما وصلت إليه من تقدم يعتبر قمة في بعض جوانبه ، وإن كانت هذه التخمة لا تتصف بالشمول، أي أن ما وصل إليه العالم المتقدم من نمو ورفاهية لا يمتد مفعوله إلى كل شرائح المجتمعات المتقدمة، وإنما يقتصر في معظمه على أجزاء منها تارة تكون أغلبيته (السويد ) وتارة لا تتعدى الأقلية (بريطانيا).

 

وللتعمق في شرح أبعاد هذه الفكرة ، أود أن أشير إلى مقال نشرته صحيفة "لوموند دبلوماتيك" 

Le  Monde Diplomatique  الفرنسية تحت عنوان "الفقراء في أغنى بلد في العالم" . و يتناول كاتب المقال "الواجهة الخلفية" للولايات المتحدة الأمريكية بتجاعيدها وأسمالها البالية التي تمثلها طوابير العاطلين عن العمل الذين ينتظرون دورهم في مراكز توزيع "الحساء الشعبي" ... ويقع أحد أكبر هذه المراكز وراء البيت الابيض في العاصمة الأمريكية واشنطن ، و لا تفصله عنه سوى أمتار معدودات. ويستعرض كاتب المقال حالات البؤس والفقر المدقع التي تختفي في إطار "الواجهة الخلفية"، إنه الوجه الآخر ل "أغنى بلد في العالم" ، البلد الذي يعرفه العرب (وغيرهم من شعوب العالم الثالث) من خلال الأفلام والمسلسلات الأمريكية ، وناطحات السحاب العملاقة. فالحضارة ، مهما نمت وتطورات ووصلت إلى قمتها ، لا يمكن أن تسلم من خلل ومضاعفات أخذت مجتمعات الدول المتقدمة تئن تحت عبئها الثقيل،  بما في ذلك انحلال أو انفصام عرى الأسرة ، وانحراف في السلوك ، بالإضافة إلى انتشارظاهرة الإدمان على المخدرات والشذوذ الجنسي والأمراض النفسية (على اختلاف أنواعها) وما قد يترتب على ذلك من خلل عقلي.

 

أود أن أقول أن الواجهة البراقة في العالم المتقدم تخفي وراءها من ضروب المعاناة و الأزمات التي ما فتئت تتخبط فيها الحضارة و المتحضرون.

 

أما ظاهرة "التحضر" فهي هذه التي تحاول فيها الدول" السائرة في طريق النمو" أن "تتحضر" لتصل الى قمة الحضارة في الدول المتقدمة. ومهمة "التحضر" تتطلب شيئاً ، يقل أو يزيد، من عنصر المسايرة والتقليد حتى لو كان تقليداً أعمى. وقليلة هي تلك الدول السائرة في طريق "التحضر" التي توفق  (بفتح الفاء) في محاكاتها وتقليدها للدول المتقدمة. ولا غرابة في ذلك ، فالمقلدون (بكسر اللام ) الذين يكونون في مرحلة "التحضر" يفضلون أن يقلدوا في الامور السهلة و السطحية، معرضين عن الشؤون الصعبة و العميقة، لدى أولئك الذين وصلوا الى "قمة الحضارة" ، وأخذوا يعانون تخمتها ، وما تسببه لهم من حالة "إمساك"حضاري سرعان ما ينقلب الى خلل اجتماعي ، وإنحلال خلقي كما هو الحال في السويد وفرنسا و ألمانيا على سبيل المثال.

 

وقديماً تنبه المؤرخ والفيلسوف العلامة عبد الرحمن ابن خلدون ، مؤسس علم الاجتماع ، الى هذا الاسلوب في التقليد الاعمى للحضارة.  في كتابه الضخم (ثمانية مجلدات) "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر" يقول إلن خلدون أن "تقليد العرب للحضارة الفارسية وهم في مرحلة التحضر كانت له عواقب خطيرة على وضعهم الاجتماعي..." وتمشياً مع هذه القاعدة في التقليد فإن الدول التي تجتاز مرحلة "التحضر" وتختار الأسهل والسطحي يظل وصف "التحضر" فيها مجرد تخلف لا يمكن للمظاهر البراقة أن تخفي معالمه الهزيلة التي تحاول التستر على نفسها بكمية ضخمة من الكماليات من السكن الفسيح إلى السيجارالهافاني الفاخر.

 

وبما أن العطار لا يستطيع بكل عقاقيره أن يصلح ما أفسده الدهر في وجه الإنسان ، فكذلك المظاهر البرَّاقة في المجتمعات "السائرة في طريق التحضر" لا تملك القدرة  ، مهما بذلت من جهود خارقة ، على قلب الحقائق الثابتة و الراسخة.

 

وبناء على ما سبق ذكره ، فإن الدول ذات "الإشعاع" الحضاري التي تقضي الأعراف العصرية بوصولها إلى "قمة الحضارة " ما تزال تعاني، هي الأخرى ، من آفات اجتماعية تنخر كيانها، وان كان ذلك في شىء من البطء ، إلا أن الواجهة العريضة الزاخرة بفنون الالكترونيات والأنوار الملونة تستطيع أن تحجب كل تلك الآفات، في حين أن الدول التي ما تزال في طور "التحضر" والتقليد تظل تعاني فقرها وجهلها و مجاعتها و فساد أنظمتها السياسية ،  وتنازع كبريائها، أن ما يصعب إخفاءه وراء واجهة صغيرة تزينها زجاجات الويسكي و النبيذ المعتق وعلب السيجار الهافاني الفاخر يقابله أكواخ الصفيح و"مدن القبور" للأكثرية الساحقة من الطبقات المسحوقة.

 

هنالك،إذن ، "قاسم مشترك"  كما يقال   بين الذين وصلوا إلى "قمة الحضارة " وأولئك الذين ما زالوا يجتازون مراحل "التحضر" ، و يتمثل في الخلل الاجتماعي  وان كان ذلك بنسب متفاوتة   بين الفريقين ، وبالانحلال الخلقي و بكل ما يتفرع عنهما من مآسٍ. ويمكن تشبيه هذا القاسم المشترك بتلك العبارة التي سبق لمجمع اللغة العربية في مصر، منذ حوالي سبعين عاماً،  أن عرَّب بها كلمة "سندوتش" Sandwich عندما اخترع لها مقابلاً باللغة العربية الفصحى وهو : "شاطر و مشطور وبينهما كامخ". أما "الشاطر" فهو هذا العالم الذي اصطلح على وصوله إلى "قمة الحضارة"، وأما "المشطور" فهو هذا العالم الذي لا تكفي واجهته لستر فقره وجهله و جوعه وفساد حكامه ، وأما "الكامخ" فإنه يتمثل في العيوب المشتركة فيما بين الفريقين .

ــــــــــ

* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في السويد .

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ