-ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الخميس  22/01/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


حليم

بقلم : محمد مسعد ياقوت*

كثيرًا ما حدثته أمه عن جمال الشمس التي لم يراها يومًا من الأيام، كثيرًا ما حدثته عن بهاء الصباح ونضرة البساتين، وتاريخ فلسطين العريق، وقرأت على مسامعه أمهات الأدب. .

" حليم " ذلك الشاب الغزاوي الكفيف.. الذي لم ير النور بعينيه، إنما خالطه بقلبه المكلوم، وأحس بأشعة الشمس، بجسمه النحيف.

لم تنعم أحداقه بنور، لكن يكفيه فخرًا نور العلم والأدب، حسبه رضى الرب، وحب الناس، وقضية إنسانية يعيش من أجلها، وقدرات عقلية خارقة لم يَنعم بها إلا قلة من البَشر، وبشاشة، وسرور، وبسمة بريئة تعلوه.

لا يأسف كثيرًا كأمه على حادث الطفولة الأليم، والذي يصور يوم أن ضَرب " الاحتلالُ " " مركز الحضّانات  " الذي مكث فيه طفلها الرضيع نحو أسبوع، أدى ما أحدثه المحتلون من تخريب إلى نقص الأكسجين عن عدد من الأطفال، أصيب " حليم " والذي كان من بينهم بعاهة العمى مدى الحياة.

لقد قرر الأطباء أن حليم مصاب بضمور كلي في عصب العين، سيحرمه من نعمة البصر مدى الحياة.

" حليم " يعلم جيدًا أن الصهاينة هم الذين أصابوا عينيه، ويشكر الله أن كتب له نعمة الحياة بينما، مات أطفال آخرون في نفس حادثة " الحضان " الأليمة .

 

" حليم " لا يحمل في مخيلته أحلام الأطفال الساذجة، ولا تصوراتهم البسيطة، إنما يحمل في قلبه أحلام أُمة، وتصورات فلاسفة .. يفكر بعقل العلماء، ويحس بقلب الأدباء.

لا يحزن بقليل فائت، إنما يتحمس لكثير قادم، يتقدم إلى مستقبله، يحدوه الأمل، يقوده قلب قد خالطته بشاشة الإيمان، ورغم الجارحة العليلة، إلا أنه يمتلك جوارح أخرى متقدة متحمسة نشيطة .

في الصباح : تأخذ أخته بيده، يمشي، يستنشق رحيق الخضرة والأمل، يسمع زقزقة العصافير، يستمتع بلمس مياه البحر على شواطىء غزة، يتحسس رمال الشاطىء الدافئة، يسير حافيًا على سيف الشاطىء، تهب مع هواء البحر ذكريات جميلة مضت .

لا يعرف أبدًا ألوان الزهور ولا تصاوير الأشجار، ولا رسم النخيل، إنما يستمتع برائحة عبير الحدائق الفواحة أكثر من المبصرين، إنه ذواقه للطبيعة .

يتلذذ بشدو الطيور بيد أنه لا يهمه شكلها، فقد أشبعه جمال الصوت، والترانيم...

يحدثونه عن لون الرمال، ولون البحر، ولون الصدف .. لا يهمه ! إنه يستمتع بالطبيعة ويتلذذ بها أكثر، وهي في وجدانه الرحيب أكبر !

يرفض لفظة " معاق "، يعشق لقب " فارس إرادة "، فهو لا يعترف بالعجز، ولا يقبل الدعة، شاعر ومتذوق وناقد، يتحدى بذاكرته الفولاذية أمهر الحفاظ، إنه موسوعة دواوين وروايات تمشي على الأرض، يشدو بصوته الأجش شعر " أحمد دحبور"، و" توفيق زياد"،  و" حسن البحيري" وغيرهم ، فيطرب النفوس العطشى، ويواسي القلوب الصديعة، فينتعش الوجدان، وتنطق الألسن في طلب المزيد :

" اسمعنا يا حليم " !

 

وفي صالونه الثقافي المتواضع، يجتمع خلانه في الأدب، وندمائه في الفكر، وفي ذروة النشوة الأدبية، تعتريه لحظة تأمل خالطتها مسحة حزن، جمدت بسمة كانت في طريقها إلى قسمات وجهه السمح .. يتسائل الحضور :

 " هيه ! ما لك ياشيخ حليم  ! ؟ "

" إلى أين شرد ذهنك ؟ !"  

" اتحفنا بقصيدة لشوقي . هيا ! ".

بيد أن حليم لا زال مغرقًا في تفكيره، شاردًا  .

فإذا بظريف يحاول كسر حدة الموقف بنكتة شامية طريفة ، ولكن دون جدوى، فحليم صامت، والجلسة ملبدة بالغيوم المبهمة .

وإذا بشاعر يهديه بيت شعر فيه مواساة وتخفيف، فيجدي مع فارس الإرادة، فيخرج من شردته  - بتنهيدة حارة - سائلاً :

" أليس اليوم 14 يوليو 2008"

قالوا : " بلا  !!  أهذا الذي أخذك منا ؟ !  " ..

" أف !!! " .

فاستسمح الندماء أن يصطحبوه إلى " ميدان فلسطين "..

فسألوا : " إلى أين ؟ ! "

 فأجاب : " سوف أخبركم هناك " .

وفي الميدان .. يرشدهم كأنه أبصرهم، ويوجهم كأنه أعقلهم :

" ادخل يمين .. منا هنا .. شمال .."

حتى وضعهم أمام خربة .. مبنى متهالك، دمرته صواريخ العدو ، فيه قليل من القمامة، كثير من الأسى، أشبه بكهف مهجور،  فبين حليم لخاصته سبب شروده ، وأن اليوم ذكرى قصف هذا المكان منذ أكثر من عقد ونصف من الزمان. إنه مكان " الحضّان "، الذي أُخذ فيه بصره.

ثم قال مفتخرًا :

" تفجرت موهبتي إثر تفجير هذا المكان بالصواريخ ! " .

____________

* كاتب مصري

yakoote@gmail.com

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ