ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد  21/12/2008


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


تعليق : (الظلم لا دين الله .. إذا فسرنا الظلم الذي يقع على المسيحي بسبب دينه وعلى الكردي بسبب عرقه يكون الظالم قد نجح في مبتغاه)

مركز الشرق العربي

عُمّالُ التنوير

بقلم مرح البقاعي

في المدرسة الفرنسية بدمشق"مدرسة راهبات الفرنسيسكان" حيث تلقيت تعليمي الابتدائي والإعدادي، وتخرّجت منها متمّمة المرحلة الثانوية، كان لقائي الأول "المجازي" مع الله.

فمنذ سنيّ المبكرة، وفي المدرسة التي كان غالبيتها طالبات مسلمات من البرجوازية الدمشقية "التي انكفأت"، مع أقلية من الطالبات المسيحيات، كانت مادتا الديانة الإسلامية والمسيحية تدرّسان لنا في نفس الحصة الزمنية ولكن بعد أن يتم فصل الطالبات المسيحيات عن زميلاتهن المسلمات، حيث كنا ـ أعني المسلمات ـ لا نغادرغرفة الصف، بينما كانت مجموعة الطالبات المسيحيات تغادرنا إلى حيث يتربع الدير المسيحي في قبو المدرسة ذات البناء المعماري الفرنسي العريق.

كان الفصل بين الزميلات، القائم على الانتماء الديني، يثير في نفسي الكثير من إشارات الاستفهام عن ماهية الاختلاف بين تعاليم الديانات السماوية وطبائعها وأهوائها طالما أننا نتوجّه، أفرادا وجماعات، على اختلاف هوياتنا الدينية، إلى عبادة الرب الواحد الأحد، فاطر السموات والأرض.

وأشد ما كان يثير مخيلتي وفضولي المعرفي، هو ذلك المقصد الذي يكمن خلف الأبواب المغلقة للدير المهيب في القبو، حيث كانت الزميلات المسيحيات تتلقين دروس الديانة المسيحية، وقد كُتِب بالعربية على بابه الشاسع المغلق بتواصل مهيب عبارة: بيت الله.

إذاَ هذا هو بيته! الله يتربع جليلا في  صدر الدير المنيع! ما عليّ سوى اقتحام هذه الهالات الافتراضية الملزِمة، نتيجة للفصل الديني بين زميلات المقعد الدراسي الواحد،  والدخول للقائه ... لقاء الله!

فعلتها مرة، في صباح شتائي مشهود في ذاكرتي.. تسللت خلف الراهبة الأم ـ كما كنا ندعوها ـ وهي تفتح الباب الشاسع للدير، وبمهابةٍ تلج دارة من العتمة القدسية  التي لا يشوب سكونها سوى حزمات من الضوء النافذ من زجاج الشبابيك المعشق بالألوان والأيقونات. تقدّمني حفيف ثوبها الناصع البياض على الأرض الرخامية الباردة للممر الطويل الذي يودي بك إلى المذبح، وأخذ البخور يتناهى يسيرا إلى حواسي المتنبّهة بحذروترقّب بليغين، بينما كانت أضواء الشموع تكتمل في مشهد الثالوث الحسّي ( بياض ـ بخور ـ نور)؛ الثالوث الذي شكّل، ومنذ انتباهات وعيي الأول، ذلك الخط الوهمي الذي يصل "الموجود" الأرضي بـ "المرموز" السماويّ.

أقول هذا مسترجعة تلك الوشائج التي كانت تربطنا بمواطنينا المسيحيين العرب في فترات ليس بالبعيدة، حيث كان واجب التواصل مع الله، وكل حسب طقسه الديني، حرية في التعبير والاعتقاد يضمنها ويصونها المجتمع قبل القانون؛ حيث لم يكن الفصل الديني يتعدى ذلك الإجراء الروتيني من الانتقال من غرفة الصف  في الطابق الثالث من المبنى الفرنسي إلى مقام الدير في القبو العتيد!

تلك استعادات من فصول النوستالجيا التي لا تأبى إلا أن تنطّ إلى ذاكرتي في زمن متردٍّ وأهوج أخذ منه الفصل الديني، بين مسيحيّ ومسلم، منحا تصفويا دمويا نذيرا، تمظهر في أشكال متصاعدة  من حملات التهجير القسري التي يتعرض لها المسيحيون العرب في غير بلد عربي.، والتي كان آخرها ما شهدناه من ترويع وتهجير لمئات العائلات المسيحية في الموصل من العراق، بأسلوب تطهيري لا يقل بشاعة عن المحارق النازية، إثر تعرّص أسقف المدينة "فرج رحو" إلى الاختطاف على أيدي مسلحين مجهولين في شهر مارس/آذار من العام 2008،  وعثر على جثته بعد أسبوعين مرمية على اطراف المدينة.

ومما لا ريب فيه أن التمييز والاضطهاد الدينيين، ليسا استثناء عراقياً، ففي مصر حيث أكبر تجمّع للمسيحيين في المنطقة، والذين يشكلون ما لا يقل عن 10% من جموع المصريين، بلغت نسبة تمتثيلهم في المجلس النيابي الحالي، المنتخب في العام 2005، ثلاثة نواب فقط من مجموع 444 نائبا؛ ناهيك عن أنه من غير المستهجن مهاجمة كنائسهم ومحالهم التجارية من قبل جماعات إسلاموية مسلحة دون أن تلتفت الدولة إلى حمايتهم بجدّية حازمة؛ وفي قرى نائية كثيرا ما أجبروا على دفع "الجزية" للمتطرّفين الإسلامويين عينهم! وفي ليبيا، وإثر الانقلاب العسكريّ القذافيّ تمت مصادرة الكنائس كافة، ماعدا واحدة في طرابلس وأخرى في بنغازي؛ كما تمّ تحويل كاتدرائية ليبيا العظمى إلى جامع، على غرار ما آل إليه مصير جامع قرطبة إثر سقوط الأندلس. أما في السعودية فلا يوجد أية كنيسة على الإطلاق رغم أنّ عدد المسيحيين فيها تجاوز المليون نسمة، وهم مضطرون لإقامة صلواتهم سرّاً في بيوتهم، وإذا عثر على نسخة من الإنجيل مع أحدهم حوّل للمحاكمة بتهمة "التبشير"؛ وحتى وقت قريب كان النصارى واليهود يلعنون في خطب الجمعة ويوصفون بأحفاد القردة والخنازير. أما حركة حماس التليدة في معقلها غزة،  فقد أعلنت مؤخرا أنّ فلسطين هي "وقف إسلاميّ"، أي أنها أسلمتها بفرمان رسميّ لا رجعة فيه، وجعلت من المسيحيين فيها، كما اليهود، شعوبا "طارئة"!

أقول: من حقّ الأخلاق والتاريخ علينا أن نذكر المسيحيين العرب بصفتهم "عمّال التنوير" الحقيقيين في حركة النهضة العربية التي شهد فصولها القرن التاسع عشر على أيدي أعلام مستنيرين، أذكر منهم المسيحي العربي بطرس البستاني، الذي كان سبّاقا في محاولاته لإيجاد مخارج ناجعة لأمراض الفصل الديني والمعضلة الطائفية المسحوبة على فصول تاريخنا، والتي عصفت بالمنطقة آنذاك مثلما تعصف بها اليوم، وذلك عن طريق إطلاقه لمبدأ: الدين لله والوطن للجميع، والذي اتّخذ منه شعارا لجريدة "نفير سوريا" التي أسسها عام 1860، ثم تبنى الشعار عينه الزعيم الوطني سعد زغلول لتوحيد شقي مصر الإسلامي والمسيحي. ولا نغفل في هذا المقام دور بطرس البستاني في تدوين الموسوعات والقواميس العربية، وإدخال المجتمعات العربية في مرحلة من التحديث التربوي من خلال دعوته الحثيثة إلى تعليم الإناث.

وكيف ننسى يعقوب صرّوف، مؤسس مجلة "المقتطف" في العام 1899 مع فارس نمر؛ المجلة التي لعبت دورا أساسا في نقل النظريات العلمية والفلسفية الغربية إلى الفكرالعربي، ما لقّح اللغة العربية بالمصطلحات الجديدة، وجعل من صفحاتها منبرا للحراك النهضوي والتحديث الفكري، حيث كان صرّوف يروّج إلى ضرورة الأخذ بأسباب المنهج العلمي التجريبي الذي أسّس لنهضة أوروبا ودفع تفوقها، وكذا إلى أهمية البحث عن الحقيقة من خلال العلوم التجريبية لا من خلال المسلّمات القدرية والعقائد المبتورة عن الواقع المعاش.

أما فرح أنطون فقد كان من أبرز التنويريين العرب في ظل الهيمنة العثمانية التي كانت قد بلغت ذروة الاستبداد والزجر والتنقية العرقية والمذهبية. وقد كان ناقلا فاعلا لأفكار ونظريات أقطاب التنوير الأوروبي من أمثال جان جاك روسو وفولتير ومونتسكيو،من الرادة الذين دشّنوا الحداثة الفلسفية والسياسية وأخرجوا أوروبا من عصر الظلمات والأصولية المسيحية المعزولة إلى زمن الأنوار وقبول الآخر والتعددية. هذا وقد كان فرح أنطون منفتحا على الإسلام وتراثه العقلاني والأدبي من خلال متابعته للأعلام من أمثال ابن رشد والغزالي وابن الطفيل وعمر الخيام... وآخرين كثر.

أقول: إن عملية التطهير المذهبي التي يتعرّض إليها المسيحيون العرب إنما  هي جولة من جولات الاستبداد السياسي التي ما فتئت تنخر في عظم الأمة العربية برمتها، والتي سبقتها جولات من التفريغ الثقافي الذي دفع بالأدمغة العربية، على اختلاف مذاهبها الدينية وأصولها القومية وانتماءاتها السياسية، إلى الهجرة القسرية شطر المغتربات؛ الاستبداد الذي أفرز تلك الحركات الأصولية الإسلاموية المتطرفة التي ظهرت، أول ما ظهرت، كرد فعل طبيعي على الإقصاء السياسي والاحتكار السلطوي والاضطهاد الفئوي، ثم سرعان ما تحوّلت إلى معاداة الغرب الحليف لهذه الأنظمة المستبدة، معاداة تتنقّل حَوماتٍ من القتل والتنكيل والإرهاب المنظّم  من نيويورك إلى مدريد إلى مومبيي... هكذا لتكرّ مسبحة الدم والموت على العالمين، دونما استثناء!

فصل المقال أستعيره قولا سديدا للمفكر الفرنسي ريجيس دوبريه في كتابه الجديد "طيبو الأرض المقدسة"، إذ يسجّل: "المسيحيون العرب هم جسر بين الشرق والغرب، بين العالم العربي وأوروبا. إنهم وسطاء الحداثة وفتاحو النوافذ على الخارج وتياراته الفكرية. هم بناة الأحزاب الشيوعية والقومية والحركات التقدمية العلمانية في المنطقة، وهم الذين أسّسوا الصحف والمطابع والفرق الموسيقية، وهم من كان في طليعة التمرد ضد الاستبداد العثماني آنفا، والاستعمار الغربي لاحقا. إن درجة حضارة المسلمين العرب تقاس بمدى انفتاحهم على المسيحيين العرب و بمدى تقبلهم لهم أو عدمه. وأخشى ما أخشاه أن تؤدي التيارات الأصولية الإسلاموية المتعصبة السائدة حاليا إلى هجرتهم بشكل جماعي، كما يحصل لمسيحيي العراق الجديد"!

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ