ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الثلاثاء  21/10/2008


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


بسم الله الرحمن الرحيم

الأزمة المالية الحالية

محاولة للفهم

مقدمة بقلم د. حازم الببلاوي

يقف العالم مشدوهاً أمام ما يطلق عليه “الأزمة المالية” العالمية، فأكبر اقتصاد في العالم (الولايات المتحدة الأمريكية) مهدد بالانزلاق إلي هاوية الكساد والإفلاس، ومن من؟
من أكبر وأعرق المؤسسات المالية الدولية في أمريكا وأوروبا، فكيف حدث ذلك؟ ولماذا هي “أزمة مالية” أكثر منها “أزمة اقتصادية”؟ فهي أزمة في القطاع المالي ولكنها تهدد بإغراق الاقتصاد بأكمله. فكيف ولماذا؟
كل هذه أسئلة تقلق القارئ العادي الذي يريد أن يفهم. وقد طلب مني الكثيرون أن أحاول أن أقدم تفسيراً مبسطاً يساعد القارئ غير المتخصص علي فهم ما يجري أمامه من أحداث تبدو غير واضحة.
ونظراً لأنني أعتقد أن أهم أسباب عدم الفهم ترجع عادة إلي غموض “البدهيات” والمبادئ الأولية لعلم الاقتصاد، فلذلك فلا أجد غضاضة في أن أبدأ بشرح هذه المبادئ الأولية.
تتطلب البداية أن نفهم أن هناك تفرقة أساسية بين ما يمكن أن نطلق عليه “الاقتصاد العيني أو الحقيقي” وبين “ الاقتصاد المالي”. فأما الاقتصاد العيني “وهو ما يتعلق بالأصول العينية Real Assets فهو يتناول كل الموارد الحقيقية التي تشبع الحاجات بطريق مباشر (السلع الاستهلاكية) أو بطريق غير مباشر (السلع الاستثمارية).
“فالأصول العينية” هي الأراضي وهي المصانع، وهي الطرق، ومحطات الكهرباء، وهي أيضاً القوي البشرية. وبعبارة أخري هي مجموع السلع الاستهلاكية التي تشبع حاجات الإنسان مباشرة من مأكل وملبس وترفيه ومواصلات وتعليم وخدمات صحية.
ولكنها أيضاً تتضمن الأصول التي تنتج هذه السلع (الاستثمارية) من مصانع وأراض زراعية ومراكز للبحوث والتطوير.. إلخ. وهكذا فالاقتصاد العيني أو الأصول العينية هو الثروة الحقيقية التي يتوقف عليها بقاء البشرية وتقدمها.
وإذا كان الاقتصاد العيني هو الأساس في حياة البشر وسبيل تقدمهم، فقد اكتشفت البشرية منذ وقت مبكر أن هذا الاقتصاد العيني وحده لا يكفي بل لابد أن يزود بأدوات مالية تسهل عمليات التبادل من ناحية، والعمل المشترك من أجل المستقبل من ناحية أخري.
ومن هنا ظهرت الحاجة إلي “أدوات” أو “وسائل” تسهل التعامل في الثروة العينية. لعل أولي صور هذه الأدوات المالية هي ظهور فكرة “الحقوق” علي الثروة العينية. فالأرض الزراعية هي جزء من الثروة العينية وهي التي تنتج المحاصيل الزراعية التي تشبع حاجة الإنسان من المأكل وربما السكن وأحياناً الملبس.
ولكنك إذا أردت أن تتصرف في هذه الأرض فإنك لا تحمل الأرض علي رأسك لكي تبيعها أو تؤجرها للغير، وإنما كان لابد للبشرية أن تكتشف مفهوماً جديداً اسمه “حق الملكية” علي هذه الأرض. فهذا “الحق القانوني” يعني أن يعترف الجميع بأنك (المالك) الوحيد صاحب الحق في استغلال هذه الأرض والتصرف فيها.
وهكذا بدأ ظهور مفهوم جديد اسمه “الأصول المالية” Financial assets، باعتبارها حقاً علي الثروة العينية.
وأصبح التعامل يتم علي “الأصول المالية” باعتبارها ممثلاً للأصول العينية. 
فالبائع ينقل إلي المشتري حق الملكية، والمشتري تنقل إليه الملكية العينية من المالك القديم بمجرد التعامل في سند الملكية. وأصبح التعامل الذي يتم علي هذه الأصول المالية (سندات الملكية) كافيا لكي تنتقل ملكية الأصول العينية ( الأرض) من مالك قديم إلي مالك جديد.
ولم يتوقف الأمر علي ظهور أصول مالية بالملكية، بل اكتشفت البشرية أن التبادل عن طريق “المقايضة” ومبادلة سلعة عينية بسلعة عينية أخري أمر معقد ومكلف، ومن ثم ظهرت فكرة “النقود” التي هي أصل مالي، بمعني أنها بمثابة “حق” ليس علي أصل بعينه (أرض معينة أو سلعة معينة) وإنما هي حق علي الاقتصاد العيني كله. فمن يملك نقوداً يستطع أن يبادلها بأي سلعة معروضة في الاقتصاد.
أي أن “النقود” أصبحت أصلا ماليا يعطي صاحبه الحق في الحصول علي ما يشاء من الاقتصاد، أي من السلع والخدمات المعروضة في الاقتصاد. والنقود في ذاتها ليست سلعة، فهي لا تشبع الحاجات، فهي لا تؤكل، ولا تشبع حاجة الملبس أو المسكن أو غير ذلك من متاع الحياة، فقط الاقتصاد العيني من سلع وخدمات يسمح بذلك.
ولكن النقود باعتبارها حقاً علي الاقتصاد العيني تسمح بإشباع الحاجات الحقيقية بمبادلتها مع الأصول العينية (السلع)، أي أن “النقود” هي أصل مالي أو حق علي الأصول العينية، فهي ممثل عن الاقتصاد العيني، ولكن وجودها والتعامل بها يساعد علي سهولة التبادل والمعاملات في السلع العينية.
ولم يتوقف تطور “الأصول المالية” علي ظهور حق الملكية أو ظهور النقود كحقوق مالية علي موارد عينية محددة أو علي الاقتصاد في مجموعه، بل اكتشفت البشرية أيضاً أن الكفاءة الاقتصادية تزداد كلما اتسع حجم المبادلات ولم يعد مقصوراً علي عدد محدود من الأفراد أو القطاعات، فالقابلية للتداول Negotiability ترفع القيمة الاقتصادية للموارد. ومن هنا ظهرت أهمية أن تكون هذه الأصول قابلة للتداول.
وبشكل عام تأخذ هذه الأصول المالية عادة أحد شكلين، فهي إما تمثل حق الملكية علي بعض الموارد (أرض زراعية أو مصانع أو غير ذلك) أو تأخذ شكل دائنية علي مدين معين (فرد أو شركة). وقد تطورت أشكال الأصول المالية الممثلة للملكية (الأسهم) مع ظهور الشركات المساهمة، كما تطورت أشكال الأصول المالية الدائنة (أو المديونية) مع تطور الأوراق التجارية والسندات.
وهكذا جاء ظهور الأوراق المالية من أسهم وأوراق تجارية وسندات مما زاد من حجم الأصول المالية المتداولة والتي تمثل الثروة العينية للاقتصاد. وساعد وجود هذه الأصول المالية المتنوعة علي انتشار وتوسع الشركات وتداول ملكيتها وقدرتها علي الاستدامة.
ولكن الأمر لم يقتصر علي ظهور هذه الأصول المالية الجديدة (أسهم وسندات وأوراق تجارية) بل ساعد علي انتشار تداولها ظهور مؤسسات مالية قوية تصدر هذه الأصول باسمها وحيث تتمتع بثقة الجمهور مما أدي إلي زيادة تداول هذه الأسهم والسندات بين الجمهور.
فمن ناحية ظهرت البورصات التي تتداول فيها هذه الأصول المالية مما أعطي المتعاملين درجة من “الثقة” في سلامة هذه الأصول المالية، ومن ناحية أخري فإن المؤسسات المالية الوسيطة (البنوك بوجه خاص) حين تمول الأفراد فإنها تحل، في الواقع، مديونية هذه البنوك التي تتمتع بثقة كبيرة لدي الجمهور محل مديونية عملائها. فالعميل يتقدم للبنك للحصول علي تسهيل أو قرض، ومديونية هذا العميل للبنك تستند إلي ملاءة هذا العميل والثقة فيه،
ولكن ما إن يحصل العميل علي تسهيل البنك فإنه يتصرف في هذا التسهيل كما لو كان نقوداً لأن البنوك تتمتع بثقة عامة في الاقتصاد. وهكذا فإن البنوك تحول المديونيات الخاصة للعملاء إلي مديونيات عامة تتمتع بثقة كبيرة لدي الجمهور فيقبل عليها المتعاملون لأنهم يثقون في هذه البنوك.
وهكذا لعب القطاع المصرفي - والقطاع المالي بصفة عامة - دوراً هائلاً في زيادة حجم الأصول المالية المتداولة وزيادة الثقة فيها. ومن هنا بدأت بوادر أو بذور الأزمات المالية وهي بدء انقطاع الصلة بين الاقتصاد المالي والاقتصاد العيني. فالتوسع المالي بإصدار أنواع متعددة من الأصول المالية المتنوعة بشكل مستقل عن الاقتصاد العيني وأصبحت للأسواق المالية حياتها الخاصة بعيداً عما يحدث في الاقتصاد العيني..
ومن هنا تظهر حقيقة الأزمة المعاصرة باعتبارها أزمة “مالية” بالدرجة الأولي نجمت عن التوسع الكبير في الأصول المالية علي نحو مستقل ـ إلي حد كبير ـ عما يحدث في “الاقتصاد العيني”، 
كيف؟ 
يرجع ذلك إلي المؤسسات المالية التي أسرفت في إصدار الأصول المالية بأكثر من حاجة الاقتصاد العيني، ومع هذا التوسع الكبير في إصدار الأصول المالية، زاد عدد المدينين، وزاد بالتالي حجم المخاطر إذا عجز أحدهم عن السداد، وهناك ثلاثة عناصر متكاملة يمكن الإشارة إليها وتفسر هذا التوسع المجنون في إصدار الأصول المالية.
أما العنصر الأول فهو زيادة أحجام المديونية أو ما يطلق عليه اسم الرافعة المالية Leverage، فما هو المقصود بذلك؟ 
أشرنا إلي أن هناك نوعين من الأصول المالية، أصول تمثل الملكية وأصول تمثل مديونية، أما الأصول التي تمثل الملكية فهي أساساً ملكية الموارد العينية من أراض ومصانع وشركات، وهي تأخذ عادة شكل أسهم،
وبالنسبة لهذا الشكل من الأصول المالية فهناك ـ عادة ـ حدود لما يمكن إصداره من أصول للملكية، حقاً أنه يمكن المبالغة بإصدار أسهم بقيم مالية مبالغ فيها عن القيمة الحقيقية للأصول التي تمثلها، ولكن يظل الأمر محدوداً، لأنه يرتبط بوجود هذه الأصول العينية، أما بالنسبة للشكل الآخر للأصول المالية وهو المديونية، فيكاد لا توجد حدود علي التوسع فيها، وقد بالغت المؤسسات المالية في التوسع في هذه الأصول للمديونية، وكانت التجارب السابقة قد فرضت ضرورة وضع حدود علي التوسع في الاقتراض،
ومن هنا فقد استقرت المبادئ السليمة للمحاسبة المالية علي ربط حدود التوسع في الاقتراض بتوافر حد أدني من الأصول المملوكة، فالمدين يجب أن يتملك حداً أدني من الثروة حتي يستدين، وأن يتوقف حجم استدانته علي حجم ملكيته للأصول العينية،
ولذلك حددت اتفاقية بازل للرقابة علي البنوك حدود التوسع في الإقراض للبنوك بألا تتجاوز نسبة من رأس المال المملوك لهذه البنوك، فالبنك لا يستطيع أن يقرض أكثر من نسبة محددة لما يملكه من رأسمال واحتياطي وهو ما يعرف بالرافعة المالية.
ورغم أن البنوك المركزية تراقب البنوك التجارية في ضرورة احترام هذه النسب، فإن ما يعرف باسم بنوك الاستثمار في الولايات المتحدة لا يخضع لرقابة البنك المركزي،
ومن هنا توسعت بعض هذه البنوك في الإقراض لأكثر من ستين ضعف حجم رؤوس أموالها كما في حالة UBS، ويقال إن الوضع بالنسبة لبنك Lyman كان أكبر، وهذه الزيادة الكبيرة في الاقتراض تعني مزيداً من المخاطر إذا تعرض بعض المدينين لمشكلة في السداد كما حدث بالنسبة للأزمة العقارية، كما سنشير.
ولكن لماذا تتوسع المؤسسات المالية في الإقراض والاقتراض؟ 
لسبب بسيط، الجشع greed، فمزيد من الإقراض والاقتراض يعني مزيداً من الأرباح، أما المخاطر الناجمة عن هذا التوسع في الإقراض فهي لا تهم مجالس الإدارة في معظم هذه البنوك، والتي تهتم فقط بالأرباح قصيرة الأجل، حيث يتوقف عليها حجم مكافآت الإدارة، ومن هنا ظهرت أرباح مبالغ فيها ومكافآت مالية سخية لرؤساء البنوك، وهكذا أدي الاهتمام بالربح في المدة القصيرة إلي تعريض النظام المالي للمخاطر في المدة الطويلة.
ولكن التوسع في الإقراض لا يرجع فقط إلي تجاهل اعتبارات الحدود للرافعة المالية لكل مؤسسة، بل إن النظام المالي في الدول الصناعية قد اكتشف وسيلة جديدة لزيادة حجم الإقراض عن طريق اختراع جديد اسمه المشتقات المالية financial derivatives،
وهو اختراع يمكن عن طريقه توليد موجات متتالية من الأصول المالية بناء علي أصل واحد كما سيتضح من المثال الذي سوف نعرضه عن تركيز الإقراض علي قطاع أو قطاعات محدودة، فماذا حدث في هذا المجال، وهو المرتبط بما يعرف بأزمة الديون العقارية؟
ولدت الأزمة الأخيرة نتيجة ما أطلق عليه أزمة الرهون العقارية، فالعقارات في أمريكا هي أكبر مصدر للإقراض والاقتراض، فالحلم الأمريكي لكل مواطن هو أن يملك بيته، ولذلك فهو يشتري عقاره بالدين من البنك مقابل رهن هذا العقار، والأزمة بدأت فيما عرف بالرهون العقارية الأقل جودة subprime، فماذا حدث؟
يشتري المواطن بيته بالدين مقابل رهن هذا العقار، ثم ترتفع قيمة العقار، فيحاول صاحب العقار الحصول علي قرض جديد نتيجة ارتفاع سعر العقار، وذلك مقابل رهن جديد من الدرجة الثانية، ومن هنا التسمية بأنها الرهون الأقل جودة، لأنها رهونات من الدرجة الثانية،
وبالتالي فإنها معرضة أكثر للمخاطر إذا انخفضت قيمة العقارات، ولكن البنوك لم تكتف بالتوسع في هذه القروض الأقل جودة، بل استخدمت “المشتقات المالية” لتوليد مصادر جديدة للتمويل، وبالتالي للتوسع في الإقراض.. كيف؟
عندما يتجمع لدي البنك محفظة كبيرة من الرهونات العقارية، فإنه يلجأ إلي استخدام هذه “المحفظة من الرهونات العقارية” لإصدار أوراق مالية جديدة يقترض بها من المؤسسات المالية الأخري بضمان هذه المحفظة، وهو ما يطلق عليه التوريق securitization، فكأن البنك لم يكتف بالإقراض الأولي بضمان هذه العقارات،
بل أصدر موجة ثانية من الأصول المالية بضمان هذه الرهون العقارية فالبنك يقدم محفظته من الرهونات العقارية كضمان للاقتراض الجديد من السوق عن طريق إصدار سندات أو أوراق مالية مضمونة بالمحفظة العقارية، وهكذا فإن العقار الواحد يعطي مالكه الحق في الاقتراض من البنك، ولكن البنك يعيد استخدام نفس العقار ضمن محفظة أكبر، للاقتراض بموجبها من جديد من المؤسسات المالية الأخري،
وهذه هي المشتقات المالية، وتستمر العملية في موجة بعد موجة، بحيث يولد العقار طبقات متتابعة من الإقراض بأسماء المؤسسات المالية واحدة بعد الأخري، هكذا أدي تركز الإقراض في قطاع واحد “العقارات” علي زيادة المخاطر، وساعدت الأدوات المالية الجديدة “المشتقات” علي تفاقم هذا الخطر بزيادة أحجام الإقراض موجة تلو الموجة.
ويأتي العنصر الثالث والأخير وهو نقص أو انعدام الرقابة أو الإشراف الكافي علي المؤسسات المالية الوسيطة. حقاً تخضع البنوك التجارية في معظم الدول لرقابة دقيقة من البنوك المركزية،
ولكن هذه الرقابة تضعف أو حتي تنعدم بالنسبة لمؤسسات مالية أخري مثل بنوك الاستثمار وسماسرة الرهون العقارية أو الرقابة علي المنتجات المالية الجديدة مثل المشتقات المالية أو الرقابة علي الهيئات المالية التي تصدر شهادات الجدارة الائتمانية، وبالتالي تشجع المستثمرين علي الإقبال علي الأوراق المالية.
وقد تكاتفت هذه العناصر علي خلق هذه الأزمة المالية، ولم يقتصر أثرها علي التأثير علي القطاع المالي بزيادة حجم المخاطر نتيجة للتوسع المحموم في الأصول المالية، بل إنه هدد أحد أهم عناصر هذا القطاع وهو “الثقة”، فرغم أن العناصر الثلاثة المشار إليها ـ زيادة الاقتراض، وتركيز المخاطر، ونقص الرقابة والإشراف ـ كافية لإحداث أزمة عميقة،
فإن الأمور تصبح أكثر خطورة إذا فقدت الثقة أو ضعفت في النظام المالي الذي يقوم علي ثقة الأفراد، ويزداد الأمر تعقيداً نتيجة للتداخل بين المؤسسات المالية في مختلف الدول، فجميع المؤسسات المالية ـ وبلا استثناء ـ تتعامل مع بعضها البعض، وأي مشكلة عويصة تصيب إحدي هذه المؤسسات، لابد أن تنعكس بشكل مضاعف علي بقية النظام المالي العالمي “العولمة”.
وهكذا نجد أن الأزمة المالية الحالية هي نتيجة للتوسع غير المنضبط في القطاع المالي في الولايات المتحدة ومن ورائه في بقية دول العالم المتقدم، والسؤال: هل يمكن التجاوز عن هذا الاقتصاد المالي بأدواته المتعددة ومؤسساته الكثيرة؟ للأسف لا يمكن.
الأصول المالية أصبحت مثل الدورة الدموية في الجسم، فلا يكفي أن يكون في جسم الإنسان أعضاء رئيسية مثل القلب والمعدة والرئتين، بل لابد من دورة ددموية تنقل الغذاء وتطلق الحركة في جسم الإنسان، وهكذا أصبح الاقتصاد لا يكتفي بالمصانع والأراضي الزراعية، بل إن ما يحركها هو أصول مالية مثل الأسهم والسندات والنقود، وهناك الادخار والاستثمار الذي يتحقق من خلال أدوات مالية، ولذلك فإن علاج الأزمة المالية ضروري ولا يمكن تجاهله. 

الأزمة الحالية
بداية الأزمة الجديدة انطلقت مع إعلان مؤسسة مالية عملاقة، هي "ليمان براذرز" عن إفلاسها الوقائي، وهذه كانت بداية رمزية خطرة، لأن هذه المؤسسة العريقة كانت من الشركات القليلة التي نجت من مذبحة الكساد الكبير في عام 1929، وتعتبر من أقدم المؤسسات المالية الأمريكية، التي تأسست في القرن التاسع عشر، وهذا ما أكّـد تنبُّـؤات ألن غرسيبان، رئيس الاحتياطي الفدرالي الأمريكي السابق، بأن مؤسسات مالية كُـبرى جديدة ستسير على درب "ليمان براذرز".

جذور الأزمة
لكن، ما أسباب هذه الأزمة؟ 
وهل هي عابرة سببها اضطراب سوق العقار أو انفصال الاقتصاد المالي عن الاقتصاد الحقيقي أو انخفاض، ثم ارتفاع أسعار الفائدة أو "مجرّد حركة تصحيحية في الأسواق المالية" 
أم أنها معضلة بنيوية (كما ترى "فاينانشال تايمز" الرأسمالية) سببها الأعمق العولمة النيو - ليبرالية المُنفلتة من عقالها والفجوة التي لا تني تتوسّع في داخل الدول بين الفقراء والأغنياء، والتضخم الكبير في أسعار المواد الغذائية والطاقة؟

الأزمة الرّاهنة متفردة. كيف؟ 
خلال حقبة العولمة النيو - ليبرالية التي بدأت في سبعينات القرن العشرين، مرّت المراكز الرأسمالية الكبرى، خاصة الولايات المتحدة، بعملية "لا تصنيع" أو نزع التصنيع (deindustrialization)، انتقلت بموجبها الرأسمالية الغربية من الاعتماد على الأسواق المحلية - القومية إلى الشكل المُـتعولم الحالي من العولمة عبر نقل الصناعات الثقيلة الملوّثة إلى الصين والهند وغيرهما.
وترافق ذلك مع "تحرير" أسواق المال ونزع كل القيود المنظَمة لها، مما أدّى إلى هجرة جماعية للرساميل إلى " الجنّات الآسيوية" وأيضاً إلى تقسيم عمل دولي جديد: 
التكنولوجيا المتطورة والبحث والتطوير والسلع "الخاصة" (الخدمات المالية) في المراكز الرأسمالية والعمليات الصناعية التقليدية في الأطراف.
هذا التطور لم يؤدِّ فقط إلى خلق بطالة واسعة النِّطاق في الغرب، بل أيضاً إلى توسّـع هائل للأسواق المالية التي تعولمت بسرعة، فبات القطاع المالي في بريطانيا، على سبيل المثال، مسؤولاً عن نصف النمو الاقتصادي، وكذا الأمر بالنسبة للقطاع المالي – العقاري في أمريكا حتى عام 2006، وكِـلا القطاعين اعتمدا بشكل كامل على المضاربة وليس على الاقتصاد الحقيقي.
بدأت الأزمة بعد تزايد حدة قلق المتعاملين في أسواق المال بشأن الظروف التي تمر بها أسواق الائتمان في العالم والتي أرجع المحللون معظمها إلى المشاكل التي تعرضت لها سوق الإقراض العقاري الأمريكي المعروفة باسم " ساب برايم" والتي تمنح للراغبين في السكنى من دون الاشتراط بأن يكون للمقترض سجل مالي قوي، والتي ساهمت في تدهور أسعار الأسهم بشكل ملحوظ خلال الفترة الماضية، وقد كانت أسهم القطاع المصرفي وعلى وجه التحديد بنوك يو بي إس، وإتش إس بي سي، وباركليز قاطرة الانهيار في أسعار الأسهم، حيث كانت هي الأكثر تضررا خلال الأزمة، وهو أمر لفت أنظار المحللين الماليين الذين فسروا ذلك بأن المستثمرين في البورصة لا يعرفون أي البنوك معرضة لمشكلات الائتمان العقاري ومدى خسائرها المحتملة، فبدأ الجميع في البيع بشكل هستيري.
وعلى هذا الصعيد علقت قرابة 70 شركة رهن عقاري أمريكية عملياتها وأعلنت إفلاسها أو عرضت للبيع منذ بداية العام الماضي 2006 وحتى الآن، وذكرت شركة "كونتري فاينانشيال" أن مصاعب سوق الرهن العقاري أصبحت تهدد أرباحها ووضعها المالي جديا، وأخيرا أعلنت شركة "هوم مورتجيج إنڤستمنت" إفلاسها، وانخفضت الإيرادات ربع السنوية لشركة "تول بروذرز" العقارية، وأعلنت شركة هوم ديبو العاملة في المجال العقاري توقع تراجع أرباحها أيضا بسبب تراجع سوق العقارات السكنية.
وعلى الرغم من كل الإجراءات إلا أن هذا لم يؤد إلى منع انتشار الظاهرة عالميا، والتي عبرت عن نفسها في تراجع أسواق المال في كل من تايلاند وماليزيا وهونج كونج وإندونيسيا وكوريا وسنغافورة وتايوان كان تراجع سوق الصين أقل من نظيراتها الآسيوية حيث أعلنت البنوك في الصين أنها لا تمتلك استثمارات مرتبطة بمشكلات الرهن العقاري الأمريكي، وفي أوروبا وصف المحللون الماليون الأزمة هناك بأنها أزمة خطيرة تهدد النظام المالي الأوروبي ولكنها ليست كارثية، وقد تراجعت أسواق السويد وهولندا والنرويج وبلجيكا والنمسا والدنمارك وفنلندا وانخفض مؤشر فاينانشيال تايمز البريطاني وداكس الألماني وكاك 40 الفرنسي وڤوستي البريطاني وميبتل الإيطالي وتوبكس الأوسع نطاقا والذي سجل أدنى نقطة منذ نوفمبر من العام الماضي 2006 ومؤشر نيكاي الياباني الذي أقفل عند أقل معدل له منذ ثمانية أشهر، وذلك بعد أن انعكست مشاعر المستثمرين المضطربة بشكل واضح على مؤشر داو جونز الصناعي الذي اهتز بعنف لينخفض إلى مستويات أدنى من حاجز الـ 13000 نقطة، بينما فقد مؤشر ناسداك نحو 1.7 من قيمته.

مكمن الخلل
لكن أين مكمن الخلل: 
فقد شهدت القروض الموجهة لضعيفي الملاءة طفرة في أمريكا خلال الأعوام الأخيرة ولم يكن هناك ما هو أسهل من الحصول على قرض سكني. 
فإذا كانت الجدارة الائتمانية لطالب القرض متدنية أو كان لديه تاريخ بالإفلاس، فهذا لا يهم. وإذا كان دخله متدنياً إلى حد لا يكفي للتأهل للحصول على قرض، فكل ما عليه أن يفعله هو محاولة الحصول على القرض من خلال تعبئة طلب خاص "يصرح فيه عن دخله" ( ويكتفي البنك بذلك وإن كان يتعين عليه التحقق من بيان الدخل ). 
وإذا كان طالب القرض يشعر بالتوتر من أن الجهة المقرضة يمكن أن تستعلم عن "الدخل المصرح" فكل ما عليه هو زيارة موقع شركة معينة على الإنترنت ومقابل رسوم مقدارها 55 دولارا سيساعدك المأمورون العاملون في هذه الشركة الصغيرة ( مقرها ولاية كاليفورنيا ) في الحصول على قرض بتوظيفك على أنك "مقاول مستقل". وسيعطونك إشعارات بالرواتب لتكون "دليلاً" على الدخل، وإذا دفعت رسماً إضافياً مقداره 25 دولاراً فإنهم يضعون مأموري الهاتف الذين يردون على المكالمات ويجيبون أجوبة تعطي عنك صورة براقة إذا احتاج البنك إلى الاستفسار عن وضعك. 
لعل أكثر جانب سقيم بالنسبة لسوق القروض لضعيفي الملاءة في السنوات الأخيرة هو أن الجهات المقرضة بلغت من السخاء في تزويد القروض للمقترضين الفقراء حداً جعل القلة القليلة منها فقط هي التي تقوم بالاستفسارات إن فعلت ذلك أصلاً. 

3 أسباب رئيسة وراء تراجع البورصات العالمية
زادت الأمور توترا بعد فشل بنكي الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والبنك المركزي الأوروبي في التخفيف من حدة تراجع المؤشرات على الرغم من ضخ نحو 121.6 مليار دولار لطمأنة المستثمرين ووقف نزيف التراجع، حيث إنه خلال يوم واحد من التعامل فقد مؤشر داو جونز قرابة 400 نقطة في حين تراجع مؤشر ستاندرد آند بورز بواقع 150 نقطة. 
- العامل الأول.. توسع المؤسسات المالية في منح الائتمانات عالية المخاطر للشركات والمؤسسات العاملة في مجال الرهن العقاري، والتي لا تتوافر لديها الضمانات المالية الكافية لسداد التزاماتها تجاه الجهات المقرضة ووصل الأمر إلى حد معاناة هذه الجهات من عدم توافر السيولة اللازمة لتمويل أنشطتها.
• العامل الثاني يكمن في عدم قدرة مؤسسات التمويل العقاري على القيام بعمليات الاستحواذ التي أعلنت عنها الحكومة الأمريكية أخيرا، وذلك بسبب عدم توافر التمويل اللازم للقيام بهذه العمليات، وهو ما أعطى مؤشرا سلبيا لأداء الاقتصاد الأمريكي.
• العامل الثالث الذي كان له بالغ الأثر في تراجع البورصات الأمريكية هو عجز الحكومة عن توفير فرص العمل التي كانت قد أعلنت عنها في وقت سابق، مما ولد شعورا لدى المستثمرين بأن أكبر اقتصاد على مستوى العالم يمر بأزمة حقيقية، ومن المعروف أن أسواق المال بالغة الحساسية لمثل هذه المؤشرات فكان التراجع الحاد في كافة مؤشرات البورصات الأمريكية.
ومن المعروف أن السوق الأمريكية ترتبط ارتباطا عضويا بالاقتصاد الأوروبي والآسيوي، بمعنى أن الشركات الصناعية في هذه الدول تعتمد بنسبة تتعدى %70 على ترويج منتجاتها داخل السوق الأمريكية، وفي حالة تراجع نشاط الاقتصاد الأمريكي تعاني هذه الشركات من انخفاض حجم مبيعاتها وتراجع ربحيتها، وعندما تظهر مؤشرات على هذا التراجع مثلما حدث خلال الأسابيع الماضية تبدأ البورصات العالمية في الانحدار والتقهقر، نظرا لأن صناديق الاستثمار ومؤسسات رأس المال تبدأ في التخلص عما بحوذتها من أسهم، وتزداد عمليات البيع في كافة أسواق المال مما يؤدي إلى تراجع القيمة السوقية للأسهم وانخفاض أسعارها على المستوى العالمي، أخذا في الاعتبار أن مؤسسات المال العالمية سواء كانت أمريكية أو أوروبية تحرص على تنويع محافظها المالية عن طريق الاستثمار في كافة بورصات الأوراق المالية بما فيها البورصات الناشئة، وذلك لتقليل درجة المخاطر المترتبة على تراجع الأسهم في أي من البورصات العالمية.
والعاصفة لم تهدأ بعد تواصل اقتلاع مؤسسات أخرى في مقدمتها “المجموعة الأمريكية العالمية” التي تعد واحدة من أكبر شركات التأمين في العالم التي بدأت تترنح مع خسارة أسهمها لنحو 61 في المائة من قيمتها.
كما أن أعراض العدوى بدأت تصيب عددا من المؤسسات الأخرى حيث خسر بنك “واشنطن ميوتوال” 27 في المائة من قيمة أسهمه ونزلت قيمة أسهم جنرال إليكتريك بنسبة 8 في المائة وتملك الخوف باقي البنوك التي بدأت تضيق الخناق على عمليات الإقراض مما يهدد المحرك الرئيسي للاقتصاد الأمريكي المتمثل في الائتمان فيما بلغ الدولار أضعف حالاته أمام الين الياباني منذ نحو 10 سنوات.
وتراجعت أسهم سيتي جروب، أكبر بنوك أمريكا، بنسبة 15 في المائة ليصل سعر السهم إلى 24. 15 دولار في أقل مستوى له منذ عام 2002، وتلاه بنك أوف أمريكا بنسبة 21 في المائة ليصل إلى 55. 26 دولار، وهو أقل سعر له منذ يوليو/تموز 1982 بعد أن قبل شراء ميريل لينش مقابل 50 مليار دولار، وخسرت أسهم أمريكان إكسبريس، أكبر شركات بطاقات الائتمان الأمريكية، 9. 8 في المائة من قيمتها ليصل سعر الواحد منها إلى 48. 35 دولار.
كما هبطت أسهم غولدمان ساكس بنسبة 12 في المائة وتراجعت أسهم جي بي مورغان تشيس آند كومباني بنسبة 10 في المائة. أما مورغان ستانلي، أكبر شركات التعامل في الأوراق المالية للخزانة الأمريكية، فقد هبطت أسهمها بنسبة 14 في المائة.

اختفاء 11 بنكا
وقد أدت الأزمة حتى الآن إلى اختفاء 11 بنكا من الساحة، من بينها بنك إندي ماك الذي يستحوذ على أصول بقيمة 32 مليار دولار وودائع تصل إلى 19 مليار دولار.
وتوقع كريستوفر والين، العضو المنتدب لشركة أبحاث “تحليلات المخاطر المؤسسية” أن يتم إغلاق ما يقرب من 110 بنوك تصل قيمة أصولها إلى حوالي 850 مليار دولار وذلك بحلول منتصف العام القادم.
ويصل العدد الإجمالي لمؤسسات المال الواقعة تحت مظلة التأمين الفيدرالي إلى 1800 مؤسسة تستحوذ كلها على ما يقرب من 13 تريليون دولار من الأصول والممتلكات .
يذكر أن إجمالي الدين الحكومي الداخلي والخارجي في الولايات المتحدة قد بلغ حتى الآن أكثر من 11 تريليون دولار. وتأتي الصين في مقدمة الدول الدائنة للولايات المتحدة حيث قدمت ما يقرب من 450 مليار دولار وتليها بريطانيا ثم اليابان ثم السعودية.
كما أن العجز في الموازنة الأمريكية بلغ 450 مليار دولار بينما زاد العجز التجاري عن 65 مليار دولار.
يذكر أيضا أن القيمة السوقية لـ8 مؤسسات مالية عالمية تراجعت بنحو 574 مليار دولار خلال فترة عام واحد فقط كانعكاس للتدهور الذي تشهده الأسواق العالمية والذي تأثر به القطاع المصرفي والمالي بشكل أكبر.
على أية حال فان الأزمة الراهنة هي في الواقع جزء من أزمات أكبر ضربت النظام المالي الأمريكي في السنوات الأخيرة وكانت فد بدأت بانفجار فقاعة “الدوت كوم” إلى ذوبان قطاع العقارات، وانتهاء، الآن، بإفلاس مصارف كبرى كانت معتمدة على هذين القطاعين.

علاقة أزمة الائتمان العالمي بصناديق التحوط
لقد كشفت هذه الأزمة شيئا جديدا عن طبيعة الاقتصاد الرأسمالي، الأمريكي تحديدا، وهو السعي لجني الأرباح الهائلة والسريعة من خلال المجازفة، ليس على أساس إنتاج حقيقي. 
بعد الأزمة المالية الكبيرة التي تجلت في انهيار مؤشر التكنولوجيا المتطورة "ناسداك" عام 2000، على خلفية التلاعب في سجل حسابات الشركات وتوقعات وهمية بالنسبة لقدرة الانترنت على إحداث نمو اقتصادي غير محدود، فقد وجد رأس المال مجالا آخر لزيادة أرباحه، هو مجال الائتمان والقروض. 
غير أن الفارق بين المجالين نوعي وخطير. 
ففي حين اعتمد مجال الانترنت على منتجات حقيقية ووعد بثورة اقتصادية، يعتمد مجال الائتمان على المقامرة في أسواق المال تماما كما يحدث في الكازينو.
هذا الكازينو عبارة عن مؤسسات مالية نخبوية تُعرف باسم "صناديق التحوط" (Hedge Funds)، وهي ليست مفتوحة لعامة الشعب، بل للأثرياء فقط. كل صندوق يمكن أن يستوعب 500 مستثمر كأقصى حد، يدفع كل منهم رسوم اشتراك بقيمة مليون دولار كأدنى حد. ويصل اجر مدير الصندوق إلى 1-2% من قيمة الأصول (assets) و20% من الأرباح. والاهم أن صندوق التحوط غير مسجل، ولا يخضع للرقابة مثل صناديق الاستثمار العادية.
السيولة النقدية الهائلة والمكسب السريع، قادا لانتشار ظاهرة صناديق التحوط في أنحاء العالم، حتى باتت توصف بأنها مالكة الكون، إذ تسيطر على ثلث مداولات الأسهم، وبحوزتها أصول بقيمة 2 تريليون دولار (تريليون يساوي ألف مليار). في عام 2006 وصلت أجور بعض مدراء صناديق التحوط الرئيسية إلى مليار دولار.
تعمل هذه الصناديق على أساس الاقتراض من مؤسسات مالية كالبنوك بأسعار فائدة منخفضة، ثم تستثمر هذه الأموال مقابل فوائد مرتفعة وتربح من الفرقية بين القيمتين، وهو ما يسمى "الرفع المالي". 
حول هذه الطريقة وتأثيرها على عولمة الأزمة، يكتب الخبير الاقتصادي كينيث روجوف في موقع "الاقتصادية" الالكتروني (13/9): 
"إن صناديق التحوط اقترضت مئات مليارات الدولارات بأسعار فائدة منخفضة للغاية من اليابان، ثم استثمرت أرباحها في بلدان مثل البرازيل وتركيا، حيث أسعار الفائدة مرتفعة. وطالما ظل الين ضعيفا فان هذه الاستراتيجية الاستثمارية ستظل تعمل وكأنها ماكينة نقود. ولكن إذا ما ارتفع سعر الين بصورة حادة، كما قد يحدث بسهولة نظرا للفائض الهائل لدى اليابان في حسابها الجاري، فلسوف تتحمل بعض صناديق التحوط خسائر مالية فادحة وتنهار التجارة المحملة على الين بصورة عنيفة". 
استثمرت صناديق التحوط بما صار يعرف ب"الأدوات المالية" التي تدرّ أرباحا خيالية. 
فما هي هذه الأدوات وما علاقتها بأزمة الائتمان العقاري التي تهدد العالم؟
يُقصد بالأدوات المالية ما يسمى ب"مشتقات الائتمان"، وهي عملية تحويل القروض المختلفة، مثل قرض الرهن العقاري وغيره، إلى سندات يمكن تداولها في الأسواق المالية.
إحدى هذه "الأدوات المالية" كان التداول بسندات معتمدة على القروض الممنوحة في سوق القروض العقارية الثانوية (subprime). خلافا لسوق القروض الرئيسية، تقوم شركات القروض في السوق الثانوية بمنح قروض إسكان ( ماشكانتا) مسهَّلة لزبائن لا يتمتعون بتاريخ ائتماني جيد، بمعنى أنهم يحصلون على قروض دون دفع أي سلفة ودون إثباتات موثّقة حول أحجام وقيم أجورهم وممتلكاتهم. 
المهم تشجيعهم على الاقتراض لجباية أرباح من الفوائد. 
ووصلت قيمة سندات هذه السوق منذ عام 2000 إلى 1,8 تريليون دولار.
وقد قام صندوقا التحوط التابعان لشركة "بير-ستيرنز"، البنك الاستثماري النيويوركي، بجمع مئات ملايين الدولارات من مستثمرين أثرياء، واقترضا أضعاف المبلغ من البنوك الكبيرة في وول ستريت، وبدآ التداول بسندات سوق القروض العقارية الثانوية، حتى أعلنا إفلاسهما. 
ولم تتوقف المجازفة عند حد الاستثمار في سندات قروض أُعطيت بلا ضمانات، بل حدث ما هو اخطر. 
احد "المشتقات الائتمانية" الأخرى، التي من شأنها أن تفسر حجم خطورة المقامرة التي دخلت فيها صناديق التحوط، هو الرهان حتى على انقباض سوق الائتمان، وعلى تراجع قيمة الأوراق المالية المدعومة بأصول والمعروفة باسم "التزامات الدين المضمونة"، ومن ضمنها القروض السكنية في السوق الثانوية.
وقد نشرت "الاقتصادية" أن احد مدراء صناديق التحوط راهن على خسارة مؤشر أي. بي. اكس. للسندات القائمة على قروض الرهن العقاري في السوق الثانوية، واستطاع تحقيق الربح حين انهارت أسعار السندات المذكورة. 
كيف حقق ذلك؟ 
يشير المصدر إلى أن هذا المدير اشترى عقود تأمين لحماية 30 سندا ضد احتمال العجز عن سداد القروض، ودفع فعليا 0.6% من قيمة السندات في السنة. 
يزيد المصدر انه "في حال تم استرجاع القروض يكون قد خسر مبلغ التأمين الذي دفعه فقط، وقيمته 0.6% في السنة، أما العائد المحتمل إذا عجزت المؤسسات عن تسديد قيمة جميع السندات فسيكون 100%. 
وهو يتوقع الآن على خلفية أزمة الائتمان أن يربح بنسبة 100% على نحو 20 سندا". وتشير قصة هذا المدير إلى أن هناك من يربح 100% على استثماراته، بينما لا توفر البنوك العادية للمستثمر العادي فائدة أكثر من 4%.
في حين قاد انهيار بورصة الأسهم في مجال التكنولوجيا المتطورة عام 2000، إلى موجة استياء وعدم ثقة الجمهور بهذه الشركات، فان الأزمة الراهنة في سوق الائتمان تؤدي إلى انعدام الثقة بين البنوك نفسها. 
لا احد من البنوك يستعجل لإقراض البنك الآخر، لأنه لا يعرف ما وضعه المالي الحقيقي، علما أن بنوكا مهمة عديدة شاركت بدرجات مختلفة في الاستثمار في سوق الرهن العقاري الثانوي من خلال صناديق التحوط الخاصة بها، والتي كما أسلفنا لا تخضع لأية رقابة ولا يمكن معرفة القيمة الحقيقية لاستثماراتها، خاصة على ضوء الأزمة. 
المنطق وراء رفض الإدارة الأمريكية فرض الرقابة على صناديق التحوط التي احتلت البورصة وباتت تهدد السوق العالمية، هو أن المبالغ التي ضخّتها هذه الصناديق للبورصة سمحت بانتعاشها. 
ولكن الحقيقة أن هذه الصناديق بدأت تلعب وتقامر بالائتمان نفسه الذي يشكّل ركنا أساسيا في الاقتصاد الأمريكي، وحولت الرهان على الديون بكل أشكالها إلى مصدر أساسي للربح.
ولم يأت هذا الرهان من فراغ، بل من الواقع الأمريكي الغريب الذي يرى في الائتمان محرّكا أساسيا للنمو الاقتصادي. 
العائلة الأمريكية مضطرة للاقتراض باستمرار لرفع مستوى معيشتها، ويتم تشجيعها طول الوقت على الاستهلاك. 
خلال الأزمة الأخيرة مثلا، رهنت عائلات بيوتها بعد أن ارتفعت قيمتها بسبب الفقاعة، لدى شركات الرهن العقاري، وحصلت بالمقابل على مبالغ تسمح لها بدفع رسوم تعليم أبنائها في الجامعة، شراء سيارة جديدة، شراء أدوات منزلية مثل الشاشات التلفزيونية الحديثة. 
الطبقة الوسطى الأمريكية مديونة لشركات الائتمان المختلفة التي تفرعت في شتى المجالات من العلاج الصحي، التعليم العالي، السيارات، المشاريع الاقتصادية الصغيرة وحتى حاجات الاستهلاك اليومي. 
من وراء هذه السياسة يقف أصحاب رؤوس الأموال، كالكواسر تحوم في الجو وتراهن تارة لصالح شركات الائتمان، وتارة أخرى تراهن على عجزها عن جباية استحقاقاتها. 
مرة تغري المواطن الأمريكي باستثمار توفيراته في البورصة، كما كان الحال في التسعينات، وعندما فقد كل ما يمتلكه، تدفعه لأخذ قرض دون ضمانات على أن يدفع مقابله فوائد عالية. 
في المرة الأولى سرق رأس المال من المواطن كل ماله، وفي المرة الثانية يُقرضه من ماله المسروق، ويجبي منه فائدة عالية، حتى يعجز عن السداد فيصادر منه بيته. 
في كلتا الحالتين يستفيد رأس المال الذي يعيش من المقامرة على حساب الإنسان البسيط.
الأزمة الراهنة ليست سوى امتداد طبيعي للازمة التي سبقتها، فالنظام الرأسمالي لم يخرج من محنته بل لا يزال يغرق فيها. أنها أزمة أخلاقية، اجتماعية وسياسية في آن واحد. 
أن من يسيطر على العالم اقتصاديا لا يرى فائدة في الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي الذي يخلق ثروة حقيقية ويمنح العامل أساسا ماديا للحياة. أن الاستثمار الحقيقي يستوجب احترام حقوق العامل وتوفير اجر محترم له، وهذا لا يضمن للأثرياء أرباح 100 في المائة كما يريدون. أن هذا النظام يمتص دماء البشرية، يسلب من العامل توفيراته الضئيلة التي يمكن أن تضمن له مستقبله، ثم يأخذ منه بيته، مكان عمله وكرامته. 

خطة الإنقاذ الأمريكية
وزارة الخزانة الأمريكية كشفت تفاصيل الخطة الحكومية لإنقاذ القطاع المصرفي في الولايات المتحدة وذلك بعد الإعلان عن رصد 700 مليار دولار لتنفيذها.
وجاء في بيان لوزارة الخزانة إن الخطة تتيح لوزير الخزانة هنري بولسون بالتنسيق مع رئيس الاحتياط الفيدرالي ( البنك المركزي الأمريكي) الحصول على الصلاحية التي تخوله شراء أصول بنوك وشركات ومؤسسات مالية أخرى طالما كان ذلك ضروريا لتثبيت الأسواق المالية.
لكن الخطة التي وصفها بوش بأنها “ضخمة لأن المشكلة هائلة” سترفع سقف الدين الأمريكي العام من مستوى 10.6 إلى 11.3 تريليون دولار وهو ما من شأنه أن يزيد الضغوط بشكل كبير على مجمل الاقتصاد الأمريكي الذي يعاني بشدة من نزيف السيولة بسبب الحرب في العراق وأفغانستان. 
وفي محاولة لاحتواء الاضطرابات في أسواق المال، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية أيضا أنها ستدعم بـ 50 مليار دولار صناديق الاستثمار التي تتعامل في سوق النقد وانخفضت قيمة أسهمها عن دولار واحد. 
وقال وزير الخزانة الأمريكية هنري بولسون أن التدخل غير المسبوق والشامل للحكومة، يعتبر الوسيلة الوحيدة للحيلولة دون انهيار الاقتصاد الأمريكي بشكل أكبر، موضحا أن خطة وزارته تركز على إنشاء وكالة حكومية جديدة من شأنها ابتلاع كافة الأصول التي تهوي بالمؤسسات المالية الأمريكية. وتعليقا على التدخلات الحكومية الأمريكية، قال رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي بن برنانكي إنها ضرورية لضمان ألا تؤدي الديون المعدومة إلى انهيار النظام المالي والاقتصاد.
ولم تكن الخسائر التي تكبدتها الأسهم في بورصات نيويورك يوم “الاثنين الأسود” بتاريخ 15/9/2008 سوى غيض من فيض كما يقال حيث يحوم شبح الإفلاس حول عدد من المؤسسات التي تشكل ركنا مهما من أركان النظام المالي الأمريكي. وقدرت خسائر وول ستريت في ذلك اليوم بحوالي 600 مليار دولار، وهي الأسوأ منذ الخسائر التي تكبدتها غداة هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001.

تأثير أزمة الائتمان العالمي على العالم العربي
بقيت أسواق الأسهم العربية بمنأى عما يحدث في الأسواق العالمية، وشهدت خلال الأسابيع القليلة الماضية من شهر 9/ 2007 تقلبات شبه طبيعية والسبب في ذلك يعود إلى أن غالبية اللاعبين في هذه الأسواق هم من المستثمرين الأفراد الذين ليس لهم تواجد يذكر على الساحة العالمية، إضافة إلى قلة الترابط بين أسواقنا والأسواق الدولية.
أما المستثمرين من بنوك ومؤسسات وشركات عالمية والذين استثمروا في السندات المغطاة بأصول عقارية أو في صناديق التحوط التي تأثرت بشكل مباشر بالأزمة المالية الراهنة فهؤلاء سيتعرضون لخسائر يصعب الآن تقديرها.
إن إنكشاف المصارف العربية على أزمة الرهن العقاري الأمريكي وأدواته المالية يعتبر محدوداً. فمعظم البنوك العربية لا تستثمر سوى القليل في مثل هذه الأدوات، أما البنوك التي لها حيازة في صناديق تحوط تستثمر في سندات مغطاة بأصول عقارية فخسارتها ستكون بقدر حيازتها لمثل تلك الأصول. وحسب استطلاع أجرته شركة التصنيف الائتماني “ستاندرد آند بورز” أخيراً فإن مجموع استثمارات بنوك المنطقة في سندات الرهن العقاري ذات التصنيف الائتماني المنخفض لا يزيد على %1 من مجموع أصول هذه البنوك.
إن التقلبات الحاصلة في أسواق المال العالمية سيكون لها بعض الأثر على البورصات العربية، خصوصاً أسواق الأسهم التي تسمح للمحافظ العالمية الاستثمار فيها. ففي فترات الأزمات يتجه المستثمر إلى تخفيض نسبة المخاطرة لديه ويتحول من الأسواق الناشئة إلى استثمارات أكثر سيولةً وأماناً مثل السندات الحكومية. وعلى الرغم من صغر حجم تدفقات محافظ الاستثمار العالمية إلى أسواقنا المحلية إلا أنها ساهمت أخيراً في تحديد التوجه العام للبورصات العربية. ويشار إلى أن أكبر أسواق الأسهم الإقليمية من حيث القيمة السوقية، ألا وهو سوق الأسهم السعودية، لا يسمح للأجانب بامتلاك الأسهم إلا بشكل غير مباشر عن طريق صناديق الاستثمار التي تديرها البنوك المحلية، في حين أن أسواق كل من الإمارات والكويت ومصر وقطر والأردن تشهد وبشكل متصاعد زيادة في حجم الاستثمارات الأجنبية في بورصاتها.
إن أكبر المخاطر التي قد تنجم عن الأزمة المالية الحالية هو احتمال حصول تباطؤ اقتصادي عالمي. فالهبوط الذي سُجل أخيراً في أسعار العقارات السكنية في أمريكا وغيرها من الأصول والذي صاحبه ضغوط إضافية على عملية التسليف سيكون له أثر سلبي على المستهلك الأمريكي المثقل أصلاً بأعباء الديون، مما قد يؤدي لاحقاً إلى ظهور أزمة في قطاع التسليف عن طريق بطاقات الائتمان وارتفاع في معدلات تخلف الشركات عن سداد ديونها. وهذه كلها بوادر لعملية تباطؤ اقتصادي قد تطول أو تقصر بحسب السياسة المالية والنقدية للولايات المتحدة. وسيشعر القائمون على السياسة النقدية في دول المنطقة أنهم مضطرون لمجاراة السياسة النقدية التوسعية التي أخذت الولايات المتحدة باتباعها أخيراً، وهذا سيؤدي إلى انخفاض أسعار الفائدة المحلية وأسعار صرف العملات العربية المرتبطة بالدولار وسيزيد من الضغوط التضخمية التي ظهرت مؤخراً في عدد من دول المنطقة.

أزمة الائتمان العالمي والمصارف الإسلامية
الاقتصاد الإسلامي يعتمد في بنيانه على الإنسان في حاجاته وميوله، ويقوم على أن هذه الحاجات والميول يجب إشباعها في إطار يحافظ على إنسانيته وينميها. 
والفصل بين عملية التوزيع وشكل الإنتاج، في الاقتصاد الإسلامي، لا يمكن أن يكون فصلا ماديا، فالتداول في مفهوم الاقتصاد الإسلامي، جزء من عمليات الإنتاج، لان نقل الثروة من مكان إلى آخر، يقرب المنتج من المستهلك، مما يعني في كثير من الأحيان منفعة جديدة، ويعتبر بالتالي تطويرا للمادة إلى شكل أفضل بالنسبة إلى حاجة الإنسان. 
ولكن الاقتصاد العالمي مبني على وهم مستندات مالية لا مقابل لها، وقيمتها مرتبطة سياسيا بحجم الطلب، في سيل من المضاربات من دون تسلم فعلي للمواد. 
هذه الشكلية من التعامل يدحضها النظام المالي الإسلامي بمعناه المادي، حيث أن في رأي كثير من الفقهاء، أن التاجر إذا اشترى حنطة مثلا ولم يستلمها، لا يسمح له أن يربح فيها عن طريق بيعها بثمن اكبر، ويجوز له ذلك بعد استلامها، مع أن عملية النقل القانونية تتم في الفقه الإسلامي بنفس العقد، ولا تتوقف على عمل ايجابي بعده، فالتاجر يملك الحنطة بعد العقد، وان لم يستلمها، ولكنه بالرغم من ذلك لا يسمح له فقها بالاتجار بها، والحصول على ربح ما لم يستلم البضائع، حرصا على ربط الأرباح التجارية بعمل، وإخراج التجارة من كونها مجرد عمل قانوني يدر ربحا.
أساس المشاكل
فأساس المشاكل المالية والمخاطر الدولية التي تهدد النظام المالي الدولي هو تخطي هذه القاعدة، فمع هذا التخطي، تم زعزعة الملجأ المثالي للاستثمار الثابت للعائلات وهو القطاع العقاري.
وكنظرة أولية، لا بد من درس تداعيات الأزمة العقارية على ثقة المستثمرين، والعائلات، وعلى النتائج في المصارف، والاستهلاك، والانعكاسات على الاقتصاد الحقيقي لهذه الدوامة الاقتصادية، والتي أدت إلى المساس بصلب هدف الاقتصاد وهو إسعاد الإنسان. 
فقد تم إعادة النظر في توقعات النمو في الولايات المتحدة لتصل إلى 2%، بدل 2.2%، مع الإشارة إلى أن هذه الأزمة هي الثانية خلال العام 2007، ففي الفصل الأول، أدى تراجع أسعار العقارات، إلى انخفاض مستوى الثروة للعائلات، والذي انعكس على قدرة العائلات على الاستدانة، هذه الانخفاض في بداية العام تم التعويض عنه بعائدات كبيرة تم كسبها في مراهنات البورصة، لكن الأزمة الحالية زادت من خسائر الثروات، وستؤدي إلى لجم الاستهلاك بقوة.
ولمعرفة الأبعاد الحقيقية لهذه الأزمة الكامنة يكفي أن نعرف أن إحصاءات بنك التسويات الدولية تقدر حجم شهادات العرض الاستثمارية التي تم إصدارها في عام 2006 في أوروبا والولايات المتحدة بحوالي ألف مليار دولار، ثلثها تقريبا مرتبط بأصول وقروض عقارية متدنية الملاءة. وعلى المستوى العالمي، بلغ حجم هذه الوحدات نحو 350 مليار دولار في العام 2006. وفي العام نفسه كان حجم سوق القروض الأميركية ضعيفة الملاءة حوالي 400 مليار دولار أو 18% من إجمالي حجم السوق الأميركي. 
ورغم اختلاف المبادئ، فان المصارف الإسلامية، وان كانت الأزمة الحالية غير مؤثرة فيها ، فقد لا تكون مستقبلا بمعزل عن الأزمات الدولية، خاصة وان تقرير لوكالة الائتمان ستاندرد اند بورز، ذكر مؤخراً، أن المؤسسات المالية الإسلامية لا تسد سوى حوالي 15% من حاجة السوق المتاحة من الخدمات المالية للمسلمين حول العالم، وأن حجم الأصول المالية المتوافقة مع الشريعة الإسلامية يبلغ حاليا حوالي 400 مليار دولار، وهو أقل بكثير من حجم السوق الذي تقول عنه وكالة الائتمان انه يبلغ حوالي 4 تريليونات دولار. وان الدراسات الاقتصادية المتخصصة تتوقع أن يصل حجم الودائع والأصول المالية في نهاية العام 2010 إلى حوالي 500 مليار دولار (نصف تريليون دولار) وسيستثمر منه 25% في منطقة الشرق الأوسط، و75% في جميع أنحاء العالم، فنكون بالتالي عرضة للمخاطر الترددية المتأتية من الخارج. 
ولكن المناعة تأتي من النظام نفسه الذي يسقط المراهنة، ويخفض المخاطر عبر توزيعها بين الممول والمستثمر، لتصبح المشاركة في البنية الاقتصادية هي أساس تفاعل الاقتصاد الإنساني، التي يشعر عبرها كل مستثمر بانتمائه عبر هذه المساهمة. 
و من جهته أكد المحلل الاقتصادي لاحم الناصر أن كل الأزمات الاقتصادية التي عصفت بالعالم أدت إلى تحقيق الكثير من الخسائر التي نتج عنها فقدان الكثير من العاملين في هذه المؤسسات لوظائفهم واضطراب الأسواق المالية وكثر الحديث عن إمكانية حدوث كساد عالمي، وتساقطت المؤسسات المالية الكبرى الواحدة تلو الأخرى كأحجار الدومينو دون أدنى مقاومة فلم تسعفها خبرتها الطويلة في تفادي هذه الأزمة أو التنبؤ بها، ولعل ما ظهر حتى الآن لا يعدو عن كونه قمة جبل الجليد لهذه الأزمة".
وأشار الناصر إلى أنه مع ضخامة هذه الأزمة واتساعها إلا أنها لم تؤثر في المصارف الإسلامية كون الشريعة الإسلامية التي تحكم عمل هذه المؤسسات المالية تحرم التعامل في الأدوات المالية التي نتجت عنها أزمة الرهن العقاري، مبيناً أنه نظرا لكون الكثير من المجتمعات الغربية المنكوبة بهذه الأزمة يوجد بها مؤسسات مالية إسلامية فإن ذلك سيؤدي إلى سعي الكثير من الباحثين والدارسين في هذه المجتمعات إلى دراسة الأسس التي تقوم عليها هذه المؤسسات وآليات عملها، في الوقت الذي سيحتاج فيه الدارس لهذه المؤسسات دراسة القرآن والسنة.
من جانبه, قال الدكتور سالم باعجاجة الخبير الاقتصادي أن عدد من البنوك العالمية تقوم الآن بالتعامل بالصيرفة الإسلامية وافتتاح فروع خاصة بها، وذلك نظراً للإقبال الشديد من قبل المتعاملين بالصيرفة الإسلامية سواء في الغرب أو الدول الإسلامية، ونجاح الأدوات والمنتجات الإسلامية في تحقيق عوائد وأرباح أفضل مما تحققه البنوك التقليدية، سيؤدي إلى معرفة الإسلام بشكل أكبر وأعمق".
ونوه باعجاجة إلى أنه في ظل النظام العالمي الجديد وانفتاح الاقتصاد يتوقع افتتاح فروعاً جديدة للبنوك الغربية في السعودية قريباً وهو ما سيحدو البنوك المحلية إلى نقل المعرفة الإسلامية لهذه البنوك الأجنبية، مضيفا أن ذلك سيساعد على فهم الإسلام بشكل أفضل لدى الغرب".

توقعات بشأن أزمة الائتمان العالمي
• توقعات صندوق النقد الدولي
قال صندوق النقد الدولي إن الاضطرابات في أسواق الائتمان والمال العالمية من المرجح أن تستمر مع قلق المستثمرين من حدوث خسائر مالية واين ستظهر هذه الخسائر. 
وقال خيمي كروانا مدير دائرة النظم النقدية واسواق المال بالصندوق في مؤتمر صحفي "النظام المالي العالمي شهد اختبارا مهما والاختبار لم ينته بعد. تداعيات هذه الفترة من الاضطرابات ستكون كبيرة وممتدة الأثر." 
وأضاف "الأشهر المقبلة ستظل تشهد تحديات في أسواق المال والمؤسسات وليس من المتوقع أن تعود أوضاع الائتمان لطبيعتها قريبا وعملية التكيف قد تتعطل وقد يؤثر ذلك ليس فقط على الأسعار بل على مدى توافر الائتمان." 

• أزمة الائتمان يمكن أن تضع اليورو مكان الدولار
هل يمكن أن يحتل اليورو مكانة أكثر أهمية من الدولار، فهل يمكن أن تصبح العملة الأوروبية هي المسيطرة و الرئيسية في العالم؟؟؟؟ تساؤلات عديدة قد أجاب عنها التحليل المالي الذي قاما به أستاذان في جامعتين أمريكيتيتن.
هذا التحليل قاما به كل من البروفيسور منزي شين من جامعة وسكونسين والبروفيسور جيفري فرانكل من جامعة هارفارد، فقد قاما بإجراء عمليات حسابية تظهر أن اليورو سيحل محل الدولار خلال 10-15 سنة كعملة لأكبر الاحتياطات في العالم، ولكن تحليلهما لم يستند إلى هذه الأزمة، حيث أن هذه الأزمة يمكن أن تؤدي بسهولة إلى تسريع هذه التوجهات،.
و ذكر كل منهما سببين لتدهور الدور الدولي للدولار الأمريكي. 
الأول، العجز المستمر في الحساب الجاري الذي اقترن بتدهور في سعر صرف الدولار على المدى البعيد – وربما الطموحات الإمبريالية المبالغ فيها، أيضاً. 
الثاني، ظهور بدائل حقيقية للدولار. 
ولم يكن لدى الين ولا المارك الألماني فرصة حقيقية ليحل أي منهما محل الدولار، لكن اليورو بديل حقيقي. فاقتصاد منطقة اليورو أصبح ضخماً مثل اقتصاد الولايات المتحدة تقريباً، وربما يتخطاه من خلال استمراره في التوسع. أما لندن فهي المركز المالي لمنطقة اليورو بحكم الأمر الواقع، على الرغم من أن المملكة نفسها لم تتبن اليورو. كذلك، أسواق السندات في منطقة اليورو أصبحت الآن بالقدر نفسه من العمق وتوافر السيولة مثل نظيراتها في الولايات المتحدة.
ومن جهته أكد الباحث فولفجانج مونشو أنه نتيجة للتضخم المرتفع، فإن العديد من الدول النامية ستجد صعوبة في المحافظة على أسعار عملاتها مقابل الدولار. وربما تكون غير متحمسة لخفضها الآن، لكن سيأتي وقت يصل فيه التضخم إلى نقطة يصبح فيها من غير الممكن تحمل الضغوط الناتجة عنه. وإذا أقدمت على خفض أسعار عملاتها فعندها من المؤكد أن تعيد التوازن إلى مدخراتها الاحتياطية أيضاً.
وبين مونشو أن هناك عامل آخر يدفع إلى إضعاف القطاع المالي الأمريكي هو أزمة الرأسمالية الأنجلو - ساكسونية القائمة على المعاملات.
ويعتقد مونشو أنه خلال سنوات معدودة سيواصل الناس تقييم عناصر القوة النسبية للأنظمة المالية الأنجلو - ساكسونية والأنظمة المالية في أوروبا القارية بالطريقة نفسها. أيضاً أن يصمد اقتصاد منطقة اليورو أمام الصدمات الاقتصادية الناشئة عن أزمة الائتمان، على نحو أفضل نسبياً.
وأوضح مونشو أن اليورو يمثل فقط أكثر قليلاً من ربع احتياطيات العالم، مقابل نصيب الدولار البالغ الثلثين. لكن من أجل أن يظل الدولار في مرتبة سفلى إلى الأبد، يجب الاعتماد على بعض نظريات المؤامرة غير الملائمة. وإحدى هذه النظريات تقول إن البنوك المركزية الأجنبية تتواطأ على التمسك بالدولار لحماية قيمة ممتلكاتها. لكن الأمر لا يسير على هذا النحو. فالعوامل التي لم يتم أخذها في الاعتبار، الخاصة بالشبكات التي فضلت الدولار في الماضي، من السهل أن تفضل اليورو في المستقبل.
وأضاف مونشو أن التداعيات الجيوسياسية المرتقبة لهذا الانتقال هائلة جداً. وبدايةً، ستفقد الولايات المتحدة امتيازاتها الهائلة – المتمثلة في قدرتها على تحقيق عائدات عالية وثابتة على الدوام من الأصول الأجنبية أكبر من العائدات التي تدفع للأجانب الذين يستثمرون في الولايات المتحدة. وسيتوقف الدولار فجأة عن أن يصبح "عملتنا نحن، ومشكلتكم أنتم". وسيتضاءل النفوذ في المؤسسات المالية الدولية. وفقدان الدولار دور العملة الدولية الرائدة لن يؤدي إلى ضياع النفوذ السياسي فحسب، وإنما أيضا ضياع السلطة.
ويشير مونشو إلى أن السياسيين ليس بوسعهم فعل الكثير لمنع حدوث مثل هذا التحول الذي هو أشبه بالزلزال، متهما المؤسسة السياسية الأمريكية بأنها ليست مدركة حتى الآن لما سيحل بها. ومرة أخرى، الشيء نفسه يمكن أن يقال عن القادة السياسيين الأوروبيين، الذين لم يعطوا أية إشارة تفيد بأنهم على استعداد للتعامل مع المسؤوليات التي تأتي مع التعامل مع العملة الرئيسية في العالم.

التسلسل الزمني
فبراير 2007: الولايات المتحدة تشهد ارتفاعا كبيرا في عدم قُـدرة المقترضين على دفع مستحقات قروض الرهن العقاري، ما أدّى إلى أولى عمليات إفلاس مؤسسات مصرفية متخصصة.
يونيو 2007: مصرف الاستثمار الأمريكي Bear Stearns، هو أول بنك كبير يُـعاني من خسائر قروض الرهن العقاري.
أغسطس 2007: البنك المركزي الأوروبي يضخّ 94،8 مليار يورو من السيولة، والخزينة الفدرالية الأمريكية تضخّ من جانبها 24 مليار دولار، كما تدخّـلت العديد من البنوك الأخرى، مثل بنك اليابان والبنك الوطني السويسري.
سبتمبر 2007: بنك أنجلترا يمنح قرضا استعجاليا إلى مصرف Nothern Rock لتجنيه الإفلاس، وقد تم بعد ذلك تأميمه.
أكتوبر 2007: مصرف يو بي إس السويسري يُـعلن عن انخفاض قيمة موجوداته بـ 4 مليار فرنك.
يناير 2008: الخزينة الفدرالية الأمريكية تُـخفِّـض نسبة الفائدة الرئيسية بثلاثة أرباع النقطة، لتصل إلى 3،50%، وهو إجراء وصفه الخبراء بأنه ذو بُـعدٍ استثنائي.
مارس 2008: الخزينة الفدرالية الأمريكية تقول إنها مستعدّة لتقديم مبلغ يصل إلى 200 مليار دولار إلى مجموعة محدودة من البنوك الكُـبرى.
مارس 2008: العملاق المصرفي الأمريكي JP Morgan Chase يُـعلن شراءه لمصرف Bear Stearns، الذي يعاني من صعوبات، وهي العملية التي حظيت بدعم مالي من طرف الخزينة الفدرالية الأمريكية.
يوليو 2008: الضغط يشتدّ على مؤسستي Freddie Mac وFannie Mae الأمريكيتين المتخصصتين في إعادة تمويل القروض العقارية، والخزينة الأمريكية تُـعلن عن خطّـة لإنقاذ القطاع العقاري.
وما زالت الأزمة الرهن العقاري الأمريكية تلقي بتوابعها على الاقتصاد العالمي، حيث طالت مختلف القطاعات الاقتصادية في الولايات المتحدة وأوروبا وأدت إلى خسائر مالية يصعب حصرها . 
وأغلقت أيضا بنك فيرست هيريتج بنك بفروعه الثلاثة . وبيعت أصول البنكين المملوكين لشركة فيرست ناشيونال بنك القابضة إلى فروع بنك أوماها، وبلغت قيمة أصول المصرفين 6 .3 مليار دولار في نهاية يوليو/تموز منخفضة عما كانت عليه قبل ستة أشهر حيث كانت قيمتها 1 .4 مليار دولار . 
وأعلن بنك وتشوفيا كورب تكبده خسائر ربع سنوية قياسية في الربع الثاني من هذا العام بقيمة 86 .8 مليار دولار .
وفي بريطانيا عقر الخصخصة تم تأميم بنك نورثرن روك البريطاني للتمويل العقاري والاستغناء عن أكثر من 2000 موظف في إطار جهود الحكومة البريطانية لإخراج البنك من أزمته الطاحنة وخسائره الضخمة من جراء تلك الأزمة . وأعلن رويال بنك أوف أسكتلند (آر بي اس) البريطاني عن خسائر بلغت 691 مليون جنيه استرليني (35 .1 مليار دولار) في النصف الأول من العام الجاري .
وفي ألمانيا قرر مصرف كوميرتس بنك ثاني أكبر البنوك الألمانية الاستغناء عن تسعة آلاف وظيفة في إطار صفقة شراء منافسه دريسدنر بنك . وبلغت قيمة الصفقة 5 .14 مليار دولار فيما يوصف بأنه أكبر عملية إعادة هيكلة في القطاع المصرفي الألماني منذ أكثر من سبعة أعوام . ويبقى الباب مفتوحا أمام مزيد من التداعيات لأزمة الرهن العقاري على أسواق العالم من دون استثناء . وتوقع رئيس صندوق النقد الدولي دومينيك ستراوس حصول مزيد من المتاعب، ووصف وزير الخزانة الأمريكي السابق روبرت روبن تلك الأزمة بأنها أسوأ أزمة يمر بها الاقتصاد العالمي منذ الكساد العظيم في ثلاثينات القرن الماضي . 

تعليقات على الأزمة
"الجهاد في مواجهة ماكوورلد"
في كتابه الشهير "الجهاد في مواجهة ماكوورلد"، الذي أحدث ضجّـة كبرى في أمريكا، يرسم بنجامين باربر خطوط هذه الأزمة على النحو الآتي:
- الأصولية الرأسمالية (التي يسميها هو "ماكوورلد" تيمناً بإمبراطورية المأكولات السريعة)، التي انطلقت بعد نهاية الحرب الباردة.
الرأسمالية المتعولمة لم تعُـد في حاجة إلى الدولة - الأمة.
وينسج الباحث الاقتصادي الأمريكي راستون سول جون، في دراسة شيِّـقة بعنوان "الديمقراطية والعولمة" على منوال باربر فيقول، إن أخطر ما شهده العالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة، هو نجاح الإعلام الأمريكي الذي تُـسيطر عليه الشركات، بتصوير الاقتصاد على أنه قائد المجتمعات، كل المجتمعات، وهذا كان، برأيه، تمهيداً لانقلابات كُـبرى في بنية النظام الرأسمالي.
فبعدها سادت الاحتكارات وانعدم التنافس وسيطرت الاوليغارشيات المالية، بعد إن استغلت الشركات الكبرى شعار الاقتصاد كقائد للقيام بأضخم مركزة لرأس المال في التاريخ البشري عبر عمليات الدمج والضم والابتلاع.
وفي الوقت نفسه، كان أرباب النظام الرأسمالي يتوقَّـفون على أنهم "رأسماليين حقيقيين"، فهم يتشكلون الآن من التكنوقراطيين والبيروقراطيين والمدراء والموظفين، وهؤلاء جميعاً لا يملكون أية أسهم ولا يقدِمون على أية مخاطر. الأسهم الوحيدة التي يملكون، هي تلك التي يحصلون عليها مجّـاناً من الشركات أو عبر استعارة المال من هذه الشركات بدون فوائد.
كل هذه الفئات لا تُـعتبر رأسمالية حقيقية، بل هي بيروقراطية كسولة وكبيرة ومُكلفة، وهي أقرب ما تكون إلى دراكولا مصّـاص الدماء، إذ هي تشتري الشركات الرأسمالية الحقيقية التي لها مالِـكين حقيقيين، الذين لديهم أسهم ويقومون بمخاطر مالية، وبعدها تبدأ هذه الفئات بمصّ دماء هذه الشركات.
وفي خِـضم هذه العملية، تتوقّـف الاقتصادات عن التطور وتنهار الاقتصادات المختلطة، لأن الشركات العملاقة تشتري شركاتها في وقت مبكّـر، وهذه العملية، إضافة إلى فساد طبقة المدراء – البيروقراطيين، هما الآن سبب كل من الأزمة الرأسمالية والأزمة الديمقراطية راهناً.
الأرقام تدعم تماما مخاوف بنجامين باربر وشكاوى راستون سول جون:
- فهناك الآن خمس شركات عملاقة تُـسيطر على 50% من الأسواق العالمية في مجالات صناعات الفضاء والمكونات الإلكترونية والسيارات والطائرات المدنية والفولاذ والالكترونيات.
- وهناك خمس شركات أخرى، تسيطر على 70% من السلع الاستهلاكية ذات الديمومة.
- وثمة خمس شركات غيرها تهيمن على 40% من النفط والعقول الإلكترونية الخاصة والإعلام، و51% من أكبر الاقتصادات في العالم اليوم، هي شركات لا دُول.
- مبيعات 200 شركة، تمثّل 28،3% من الإنتاج الخام العالمي.
كل هذه الأرقام تعني ببساطة، أن السوق العالمي الموحّـد ومعه القرية العالمية وحتى مفهوم الحضارة العالمية الواحدة، سيكون عمّـا قريب "مِـلكية خاصة" لحفنة من البشر قد لا يتجاوز عددهم عدد مجالس الإدارة في واحدة من الشركات الخمس المذكورة أعلاه.

الأزمة تعصف بالإمبراطورية
يمكن للمؤرخين الذين يؤكدون أن الإمبراطوريات تنهار من الداخل بعد أن تتآكل وتفلس بسبب حروبها وغزواتها وسياستها الاقتصادية الأنانية والعمياء، أن يطمئنوا مع نهاية سنة 2008م لصدقية وجهة نظرهم، وهم يسجلون مسلسل الأزمات الاقتصادية الذي تواجهها الولايات المتحدة. 
في 22 يناير الماضي، كتبت وول ستريت جورنال: "إن ثمة أسبابا وجيهة للخوف من أن الكساد الذي يلوح في الأفق، يمكن أن يكون أسوأ من الكسادين الوحيدين اللذين أصيبت بهما الولايات المتحدة في الربع الأخير من القرن الماضي". 
وكتب كنيث روغوف، أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد، أن الأزمة الحالية تبدو على الطريق لـن تصبح على أقل تقدير على الدرجة ذاتها من السوء الذي كانت عليه أسوأ خمس أزمات مالية ضربت البلدان الصناعية منذ الحرب العالمية الثانية. 
وفي منتصف شهر فبراير 2008م أيضا، كتب باترك بيوكانان، المعلق اليميني المحافظ، يقول: "بينما نحن لا نوفر شيئا، يتعين علينا أن نقترض لكي ندفع ثمن النفط الذي نستورده والمصنوعات الأجنبية التي أصبحنا نعتمد عليها. وهكذا، فإننا في وضع يضطرنا لأن نقترض من أوروبا لندفع ثمن الدفاع عن أوروبا، وأن نقترض من الصين واليابان لندافع عن حق الصين واليابان في الحصول على نفط الخليج". 
وينتهي بيوكانان إلى أن "الجيل الأمريكي المنغمس في ذاته قد اقترض إلى حد أن ديونه أصبحت غير قابلة للسداد. والآن، فإن الناس الذين اقترضنا منهم لنشتري النفط وكل ما نملك من سيارات والكترونيات وملابس، آتون ليشتروا البلد الذي ورثناه. نحن أبناء عاقون ويوم الحساب يقترب". 
بيوكانان نسي في تحليله أن الحرب الأمريكية الاستعمارية في العراق وأفغانستان، كلفت واشنطن ما يزيد على 3000 مليار دولار حتى الآن. 
يوم الأحد 15 سبتمبر 2008م، اعتبر "آلان غرينسبن"، الرئيس السابق للاحتياطي الفدرالي الأمريكي وطوال 19 عاما، أن الأزمة المالية الراهنة هي الأخطر منذ 50 عاما، وعلى الأرجح منذ قرن، موضحا أن حل هذه المشكلة ما زال بعيدا. 
الأزمة أخطر مما يريد أن يعترف بها المسؤولون في الغرب، ولكنَ الخبراء المستقلين يرجحون أن الأزمة ستفرز وضعا جديدا، إن لم يكن هزة خطيرة للنظام الاقتصادي الدولي، فستكون الأفول الكامل للاقتصاد الأمريكي، كالقاطرة الدافعة والمتحكمة في الاقتصاد الدولي، وكذلك للدولار كعملة أساسية. 
محاولات وقف القاطرة الاقتصادية الأمريكية قبل أن تصل إلى الهاوية كثيرة، ولكنها كلها عمليات تسكين مؤقتة. 
وفي إطار التسكين، أعلنت عشرة مصارف دولية أمريكية وأوروبية كبيرة تأسيس صندوق يحتوي سبعين مليار دولار تستطيع الاستعانة به إذا ما واجهت خطر الحاجة إلى سيولة. ويفترض أن يزيد حجم هذا الصندوق مع انضمام أعضاء جدد إليه. 
ويشير الاقتصاديون إلى أن هذا الإجراء يشابه محاولة إطفاء حريق غابة بكوب من الماء، فالمؤسسات المفلسة أو التي في طريقها إلى الإفلاس تواجه كل على حدة ديونا بمئات ملايير الدولارات. 
إذا كان البيت الأبيض يدرك أن المؤسسات الأوروبية والغربية عامة، لا تستطيع أو لا تريد المخاطرة بضخ أموال أكثر لوقف ولو مؤقت لتدهور الوضع الاقتصادي الأمريكي، فإن إدارة بوش تراهن على قدرتها على إجبار دول الخليج العربي على المخاطرة بأموالها. وقد كشف مسؤول مصرفي بارز لصحيفة "الاقتصادية" عن احتمال استجابة مؤسسات مالية ومصرفية واستثمارية خليجية لشراء 1000 مليار دولار من أصول مخاطر القروض العقارية الأمريكية لمؤسستي "فاني ماي" و"فريدي ماك"، التي يتجاوز إجماليها خمسة الاف مليار دولار على شكل قروض سكنية. 
وأفاد إلياس القصير المدير التنفيذي لشؤون الخزانة ومسؤول أسواق المال في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في بنك كاليون "كريدي أغريكول" الفرنسي، أن الحكومة الأمريكية تبحث عن تمويل هذه الخسائر في دول الشرق الأوسط ومنطقة آسيا. ولفت إلى أن بنوك المنطقة المتورطة في هذه الأزمة لم تتمكن من بيع كل أصول الرهن العقاري " فليس هناك مشترون لنحو 20 في المائة من قيمة خسائر الرهن لدى تلك البنوك". 
في بداية القرن الحالي خسرت دول الخليج العربي أكثر من 620 مليار دولار من استثماراتها وتوظيفاتها المالية التي سعت بها لمساعدة الاقتصاد الأمريكي، ولكن دعوات الإنقاذ لم تتوقف وكل ما ضُيع من أموال العرب لم ينفع سوى في كسب أشهر للاقتصاد الأمريكي العليل. إن إلقاء مزيد من الأموال العربية في هوة الإفلاس الأمريكي، لن تنفع سوى في تأخير السقوط لفترة قصيرة، فقد حان موعد النهاية للإمبراطورية. 
كتب المؤرخ الأمريكي الشهير بول كنيدي: "إن القوة لدى إمبراطورية ما ليست مطلقة أو متفردة بذاتها، وإنما هي مسألة نسبية، فلا يمكن قياس قوة أو ضعف دولة ما إلا بالنسبة إلى الدول الأخرى من ناحية، وبالنسبة إلى قوتها هي ذاتها في فترات مختلفة من تاريخها من ناحية أخرى". ويضيف: "إن الانتشار الزائد لإمبراطورية خارج حدودها مع إنفاقها الزائد على قواها العسكرية للاحتفاظ بهذا الانتشار، بشكل يفوق معدل إنفاقها على الجوانب الداخلية الأخرى، من اقتصادية واجتماعية وعلمية وتعليمية، يؤدي مع الوقت إلى تفاقم الحالة الاقتصادية، ثم إلى انحسار القوة العظمى واضمحلالها وعودة الدولة إلى حجم الدولة الأصلي، أي نهاية وجودها الإمبراطوري".

الأمريكيون يخشون على مدخراتهم التقاعدية جراء الأزمة المالية
يأمل العديد من الأمريكيين ان يقر الكونغرس في نهاية المطاف خطة انقاذ القطاع المصرفي الذي بات على شفير الانهيار لتجنب تراجع جديد في البورصة قد يهدد الصناديق المسؤولة عن ادارة مدخراتهم التقاعدية .
ويتألف القسم الاكبر من المدخرات التقاعدية في الولايات المتحدة اما من استثمارات فردية او برامج ادخار خاصة بالشركات. وتوزعت المدخرات التقاعدية الاجمالية في نهاية 2007 ما بين 4750 مليار دولار من الاستثمارات الفردية و3490 مليار دولار من برامج الادخار الجماعية في الشركات .
وحوالي ثلثي اموال صناديق التقاعد التي تم توظيفها في برامج جماعية للشركات عام 2006 استثمرت في شراء أسهم .

كيف تستغل الرأسمالية المتوحشة
الأزمات لتفرض نفسها ؟
الأزمة التي تعيشها أسواق المال في أمريكا حاليا والتي سوف تطول بالضرورة الأسواق العالمية خطيرة لأنها أولا‏:‏ أصابت في مقتل الأسس التي تقوم عليها الرأسمالية الغربية وهي حرية السوق والعولمة‏.‏ 
وثانيا لأن المسئولين عن إيجاد حلول للأزمة سوف يستغلون الموقف لتطبيق سياسات موالية للشركات الكبري وهو ما سوف يساعد علي إثراء هؤلاء أنفسهم الذين كانوا السبب فيها‏.‏
تلك هي التوقعات التي قدمتها نعومي كلاين كاتبة صحفية كندية ومخرجة أفلام وثائقية في كتاب نشرته قبل أشهر قليلة بعنوان‏'‏ عقيدة الصدمة‏..‏ الرأسمالية الكارثة‏'‏ تصف فيه كيف يسيطر الليبراليون الجدد في واشنطن علي العالم وكيف يفرضون رغباتهم علي الدول من خلال استغلال التهديدات الإرهابية الموجهة ضد الأمن ومن خلال اختلاق الإضطرابات السياسية والاقتصادية أو مواكبة الكوارث الطبيعية وذلك بهدف نشر وتوسيع الخصخصة وتطبيق المزيد من السياسات التي تدعم حرية الأسواق تلك الأزمات من شأنها أن تترك المنطقة في حالة دمار كامل فتدخل الشركات في قلب المنطقة المنكوبة وتأخذ الأمور في يدها وتحولها الي أحد كبري المشاريع لحساب الأثرياء علي حساب الفقراء‏.‏
أو أن تختلق الرأسمالية الكبري الأزمات مثلما حدث في بعض دول أمريكا اللاتينية فتثير الإضطرابات أو التمرد أو تؤجج الحروب ووسط الفوضي وبينما الشعوب في حالة عدم توازن تبدأ الشركات والمؤسسات الكبري تتدخل لتسيطر وتحول الوضع لصالحها وصالح الرأسمالية بدون أية معارضة من الشعب‏.‏ تلك الرأسمالية تصفها كلاين بالكارثة لأنها تضحي بالشعوب من اجل الربح وتذكر كلاين مارجريت ثاتشر التي دعمت تلك السياسة في الثمانينات قولها بأنه‏:‏ ليس هناك بديل آخر‏.‏
إزالة وإعادة بناء العالم
من الأمثلة علي تلك السياسة التي تعمل علي إزالة وإعادة بناء العالم ما حدث في كل من جنوب شرق أسيا بسبب التسونامي أو في نيو أورليانز بسبب إعصار كاترينا والأزمتان تعكسان الأسلوب الامريكي من أجل فرض سيادة‏'‏ النظام العالمي الجديد‏'‏ الذي أطلقت براثن الرأسمالية في شكلها الأكثر توحشا‏.‏ 
وتذكر كلاين كيف أن ريتشارد بيكر عضو الكونجرس الامريكي عن الحزب الجمهوري قال لأعضاء اللوبي فيما يخص بنيو أورليانز‏:'‏ لقد قمنا أخيرا بتنظيف منطقة الإسكان الشعبي في نيو أورليانز‏'.‏
وقال المقاول الكبير في المدينة الأمريكية‏:'‏ اعتقد أن لدينا أرضية جديدة ونظيفة لنبدأ من جديد‏'.‏ هذه الخطة تكمن في ازالة مجتمعات بأكملها واستبدالها بمساكن غالية الثمن ومشاريع أخري تعود بالأرباح الكثيرة مثل بناء مدارس خاصة بدلا من إعادة بناء المدارس العامة المجانية وكل ذلك علي حساب الفقراء الذين اجبروا علي مغادرة المكان وترفض الحكومة عودتهم إليها‏.‏
تلك السياسة تقوم علي نظرية رجل الاقتصاد الامريكي ميلتون فريدمان الذي توفي عن عمر يناهز التسعينات وهي النظرية التي طرحها في كتابه‏'‏ الرأسمالية والحرية‏'‏ ونشره عام‏1962‏ ويؤكد فيه أن‏'‏ فقط الأزمات سواء حقيقية أو مصطنعة يمكنها أن تحقق تغييرا حقيقيا‏'.‏
المحافظين الجدد يقومون بهذا الدور اليوم وينفذون أجندة الشركات الكبري والتي تقوم علي ثلاث خطوات تعكس الجشع‏:‏ 
أولا إزالة كل ما يتعلق بالقطاع العام 
ثانيا تحرير كامل لعمل الشركات
وثالثا‏:‏ خفض الإنفاق العام الي أدني مستوي بل واستبعاده تماما أن كان ممكنا‏.‏ 
تلك السياسة تؤدي بالضرورة الي خلق طبقة قوية من رجال الأعمال الذين يشاركون طبقة من السياسيين الفاسدين بين الطبقتين يمر خطوط هلامية وغير واضحة ففي روسيا ظهرت طبقة المليارديرات وفي الصين الأمراء وفي تشيلي‏'‏ البيرانهاس‏'‏ وفي أمريكا هناك الموالون لبوش وتشيني‏.‏
وفي كل تلك الدول تتشابه الخريطة‏:‏ فيتم تحويل ثروات ضخمة من المال العام الي أياد خاصة ثم يتزايد الدين العام ليصل الي مستويات غير مسبوقة فتوسع الفجوة بين الأثرياء ثراء فاحشا والفقراء المهددين بالاستغناء عنهم ثم تبدأ حملة للمزايدة علي الشعور القومي مثل الدعوة الي الحرب ضد الإرهاب والعالم التي أطلقها الرئيس الأمريكي بوش من اجل تبرير الإنفاق بلا حدود علي الأمن‏.‏ 

الفوضي المالية
كيف تطبق تلك النظرية علي الوضع الحالي في الأسواق المالية الأمريكية والعالمية 
تقول كلاين في مقالة نشرتها مؤخرا في صحيفة‏'‏ هافينجتون بوست‏'‏ أن كتابها نشر من اجل أن نكون مستعدين للصدمة المقبلة‏.‏ 
ولقد جاءت تلك الصدمة وبدأت سياسات الشركات الكبري تعمل من اجل استغلالها لحسابها ومن اجل زيادة ثراء الأغنياء الذين خلقوا أزمة أسواق المال‏.‏ 
فان معظم المحللين يرون أن مبلغ الـ‏700‏ مليار دولار التي تطلبها إدارة بوش من الكونجرس هي في الحقيقة أموال دافعي الضرائب متوسطي الدخل سيحرمون منها من اجل إنقاذ كبري الشركات الرأسمالية والبنوك التي خلقت الأزمة‏.‏
وتقول كلاين أن الخطة المقترحة لصالح طبقة الأثرياء فهي الخطة التي قدمها نيوت جينجريتش رئيس مجلس النواب السابق عن الحزب الجمهوري وتضم‏18‏ نقطة تدعو الي العودة الي سياسات ريجان وثاتشر التي تهدف الي تحقيق نموا اقتصاديا عبر عدة إصلاحات جوهرية هي في حقيقة الأمر عودة الي خفض اكبر للقواعد والقوانين التي تحكم السوق المالي وصناعة المال والمزيد من الخصخصة خاصة خصخصة المساعدات الاجتماعية‏.‏

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ