ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء 10/09/2008


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


أوراق من دفاتر المخابرات ..

ولرمضان في السجن طعم آخر!!.

الطاهر إبراهيم*

كان ذلك في عصر يوم، قبل تسعة وعشرين عاما. كنت أقود سيارتي في طريقي لزيارة أبي وأمي في القرية، وكان الشهر هو رمضان. وصلت فجلست في طرف الساحة أتجاذب الحديث مع أهل القرية، ريثما يحين وقت الإفطار وقد أوقفت سيارتي على بعد خطوات مني.

فجأة ظهرت أمامنا سيارة مخابرات وقد انحشر أخي بين السائق وبين الرقيب. ولم أشك لحظة واحدة في مجيئهم لاعتقالي. توقفت السيارة، ليهبط أحدهم وبيده بندقية، فوقف بجوار سيارتي. وقد ألقى الله عليّ الستر، فلم يرني أخي، وإلا كان دلهم علي، لأن الرعب كان قد أخذ منه كل مأخذ. تابعت السيارة سيرها نحو بيت والدي. قال لي رجل بجانبي: قم واهرب. قلت له: ألا ترى هذا "المخابراتي" المسلح، ويده على الزناد.

بعد دقائق جاءت والدتي تسعى من الجهة التي جاءت منها السيارة كأنها طير اختطفت فراخه. أرادت أن تخبرني بأن هؤلاء جاؤوا للقبض علي، فأشرت إليها أن لا تتكلم. نهضت واقفا وأنا أتلو الآية القرآنية: "وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا، فأغشيناهم فهم لا يبصرون"، تيمنا بفعل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، يوم ترك "علي بن أبي طالب" رضي الله عنه في فراشه، وخرج من بين المشركين الذين يحيطون في داره، ورشّ التراب على رؤوسهم واحداً، واحدا، وهم لا يرونه. انعطفت على يساري غربا، وأنا أقول: يا من سترت لا تفضح. صعدت حقل زيتون مجاور، واختفيت بين الزيتون والصخور، وجلست أنتظر غروب الشمس.

في تفاصيل ما حدث بعد أن غادرت الساحة، أن دورية المخابرات توقفت قرب دار أبي. سأله الرقيب عني رافعا صوته من دون أن يتأدب مع الوالد الذي لم يكن رآني بعد. عادوا إلى حيث كنت جالسا، سألوا: أين طاهر؟ تصدى لهم الموجودون يقولون لهم ألا ترون؟ أنه ليس موجوداً بيننا. قال رئيس الدورية: لكنه كان هنا معكم. قيل لهم ولمَ لم تقبضوا عليه إذن؟

يئسوا من اعتقالي، فاعتقلوا السيارة، وأخلوا سبيل أخي بعد أن طالبوه بأن يأتي بي، وإلا فعلوا فيه وفعلوا. فجاءني إلى بيت أختي، وهي تطحن "الكبة النية" لأني لمّا أفطرْ بعد. قال: طلبوا مني إحضارك وإلا فسوف يكسرون عصيَّهم على رأسي، ألا تأتي معي؟ قلت له: "دبّر راسك"، لن أسلمهم نفسي ولو شنقوك وضحكت. لكن ضحكي لم يجد صداه عنده، فقد ركبه الهم، حتى كأنه ذاهب إلى السجن بدلا مني. وقد كانت عادة أجهزة المخابرات أن يعتقلوا قريباً للمطلوب، –أخاه أو أباه أو ابنه- رهينةً لديهم، فلا يتركون الوكيل حتى يلقوا القبض على الأصيل.

في اليوم التالي ذهبت أستشير أخي الكبير –مات من عدة أشهر يرحمه الله تعالى- وكان يعمل في إدارة التجنيد إن كان علي تسليم نفسي كي لا يؤذوا أخي الآخر، فرآني الرائد رئيس أخي، فأخبر ضابطَ المخابرات "عدنان" بوجودي. وهكذا تم اعتقالي في فرع المخابرات العسكرية.

في نفس الليلة نقلتني الدورية –إياها- إلى المخابرات العسكرية في حي السريان في حلب.  أُدخِلْتُ إلى غرفة استقبال الوافدين الجدد، فتسلمني المساعد "أبو ديبو" من قائد الدورية الذي قال له: هذا ال(...) هرب أمس من بين أيدينا فاستوصِ به. أمسك "أبو ديبو" بياقة قميصي وجرني إليه كما يجر الخروف إلى الذبح في المسلخ.

سحبني "أبو ديبو" في دهليز طويل بين أبواب حديدية سوداء متقابلة. فتح أحدها ودفعني داخله بعنف، وأغلق الباب وراءه. قبل أن استوعب المشهد داخل الزنزانة، وجدت نفسي بين ذراعي شاب لم يجاوز العشرين من عمره، فعانقني مرحبا بي بصوت هامس. قدم لي كأسا فيه بعض الماء الفاتر، وكأنه يقدم لي ضيافة وعيناه تقولان: "لا جود إلا من الموجود". كانت الساعة قد جاوزت الثانية بعد منتصف الليل بقليل، حيث كانوا يوزعون على المعتقلين طعام السحور.

كان اسم الشاب "عادل حشيشو"، وهو طالب في كلية الهندسة السنة الثالثة، اعتقلوه من معسكر التدريب الجامعي، وكان يحضر دورة إلزامية على الجامعيين. وهو لا يعرف لمَ اعتقلوه سوى أن سلوكه يوحي بأنه إسلامي: فله لحية خفيفة، ويؤدي صلاته في مسجد الكلية أثناء  الدوام. لا يشرب المسكرات ولا يدخن، ولا يتحدث مع زميلاته في الجامعة إلا إذا طلبت إحداهن منه شيئا، ما يعني أنه من الإسلاميين الملتزمين، أي مشبوه يستحق الاعتقال!!!

في صباح اليوم التالي، فتح الباب وأخرج منه "عادل" وقد كان هذا آخر العهد به. وقد تأكد لي فيما بعد أنه لم يفرج عنه أبدا، رغم مرور ثلاثة عقود. وكم تمنيت أني رأيته مرة ثانية. أغلب الظن أنه أعدم كما أعدم غيره من ضمن المجموعات التي كانت تحاكم محاكمات صورية ويتم إعدامهم أسبوعيا في سجن تدمر حسبما أفادت لجان حقوق الإنسان الدولية. بعد ساعة فتح باب الزنزانة وأدخل معتقل آخر اسمه "حسين تركماني".

في الحادية عشرة من تلك الليلة عصبوا عينيّ، واقتادني شخص إلى "غرفة التحقيق"، سمّها إن شئت "وكر التعذيب". ومن دون مقدمات أو محاولة للتفاهم، حُشِرت داخل إطار دولاب سيارة، فكانت يداي ورجلاي باتجاه واحد. هذا الوضع منعني من الحركة. استطرادا فإن قياس "جنط" هذا الإطار هو "14"، (قيل أن هذا النوع من أدوات التعذيب لم يكن معروفا عندنا، وقد قدمته المخابرات اليوغسلافية هدية للمخابرات المصرية في عهد عبد الناصر). كانوا يتناوبون على ضربي. ويراوحون بين الضرب والصعق بالكهرباء. لا أطيل، ففي نهاية الحفلة "سُحبْت" من "الوكر" سحبا، -لأني لم أستطع الوقوف على قدميّ- بعد أن تكلمت بما أعرف وما لا أعرف.  

استطرادا: كان ألم الصعق بالكهرباء -على فظاعته- أهون من الضرب على الرجلين. وليس صحيحا أن القدمين تتلبد بعد ثلاثين سوطا فلا يعود المعتقل يحس بألم الضرب، كما كان يقال. وقد كان ذلك صحيحا أيام العصا وكرباج الخيزران. أما الآن فالضرب بكابل كهرباء 25مم .

وقدعجبت من قدرة زبانية التعذيب على احتمال منظر المعتقل وهو يصرخ ويتلوى بين أيديهم . لأن الإنسان السوي لا يحتمل رؤية بهيمة تجلد أمام ناظريه، فكيف إذا كان المعتقل مواطنا من أبناء بلده، وقد يكون جاره أو ابن حارته؟

عندها تذكرت حواراً بين الممثل "دريد لحام" وبين ممثل آخر في مسرحية "ضيعة تشرين"،وقد رآه يبكي بعد حفلة تعذيب. قال: أتبكي يا "غوار"؟ كان المستعمر يضربك خمسين كرباجا فلا تبكي! قال: عند ما يضربك المستعمر شيء، وعندما يضربك ابن بلدك شيء آخر!

لقد استصرخت في هؤلاء رجولتَهم وشهامتَهم، ولكن على ما يظهر: "لقد أسمعتَ لو ناديْت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي". لقد أدركت أن كل القيم الخيرة قد نزعت من صدورهم. وعندها لُذْت بالصمت، واعتصمت بالدعاء إلى الله أسأله الفرج.

في ما بعد كنت أتساءل عن القضية التي كان هؤلاء يستسهلون تعذيب أبناء وطنهم من أجلها؟ إن كان لهم حقا قضية يؤمنون بها. ولا ينسى القارئ أن كل هذا كان يحدث في شهر رمضان شهر الرحمة والغفران، حيث يتقرب الصائم إلى الله بمساعدة الآخرين. أم لعل هؤلاء يجعلون تعذيبَ ضحاياهم قربة لهم (.. لمن؟).

يبقى أن أقول، إنهم عندما أعادوني إلى الزنزانة، كانوا يوزعون طعام السحور، أي أن الساعة كانت بحدود الثالثة صباحا مع أني ظننت أني لبثت في الوكر ساعة أو بعض ساعة. فقد خفف الله عني ورحمني بعد أن انعدمت الرحمة عند ابن بلدي.

الحديث طويل وذو شجون، ولا تستطيع هذه العجالة أن تستوعب أحاديث رمضان في السجن، ولعلي أجد فرصة أخرى أتذكر معكم فيها أحاديث أخرى، وعافاكم الله من كل مكروه.

*كاتب سوري

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ