ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الاثنين 08/09/2008


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


الطريق إلى السلام من منظور إسلامي

بقلم يسري عبد الغني عبد الله*

إن الطريق إلى السلام في المنظور الإسلامي ليس طريقاً مفروشاً بالرياحين والورود ، ولكنه طريق طويل وشاق ، فضلاً عن أنه يمر عبر الكثير من الامتحانات والابتلاءات ، فالإنسان في هذه الدنيا ، ووفقاً لسنة الحياة ، يبتلى بالخير ، كما يبتلى بالشر أيضاً .

وكما يقول القرآن المجيد : {كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة ، وإلينا ترجعون } .

و (نبلوكم) أي نختبركم ، و (فتنة) أي ابتلاء ، والمعنى : كل نفس ذائقة الموت أي كتب عليها الموت ، ونبلوكم بتسليط البلايا عليكم ، أو نغمركم بالنعم ، اختباراً لقواكم المعنوية ، وتربية لصفاتكم النفسية ، وفي نهاية الأمر يكون المرجع إلى الله تعالى .

فعلى المؤمن الحق أن يتحلى بالصبر ، والقيام ببذل الجهد الصادق حتى يستطيع أن يواجه هذه الابتلاءات ، وعندئذ يزداد قوة ، ويصبح أكثر صلابة ، وبالتالي يكون قادراً على تحمل تبعات السلام .

والله جل جلاله قد خلق الخلق على أفضل وجوه النظام والإبداع ، وفي داخل هذا الخلق يتمتع الإنسان بمكانة مرموقة ، ومنزلة عالية ، فالإنسان وحده بين المخلوقات كافة هو الذي يستطيع أن يقرر لنفسه وبمحض اختياره وحريته قبول أمر من الأمور أو رفضه ، وذلك على عكس بقية المخلوقات التي لا حرية لها ولا اختيار .

فإذا قبل الإنسان هذه المكانة العظيمة التي أرادها الله له ، فإنه بذلك يعلن استعداده لحمل الأمانة ، وممارسة الواجبات والحقوق المتصلة بذلك ، وعلى هذا النحو يحقق الإنسان إنسانيته ، وفي الوقت ذاته يحقق خلافته لله في الأرض ، أما الرافضون لقبول هذه المنزلة الرفيعة فإنهم يتنازلون عن إنسانيتهم ، وينحدرون إلى درجة أدنى من مرتبة الحيوانات التي لا تعقل ولا تعي ، والتي لا حرية لها ولا اختيار .

إن الحرية الإنسانية تنمو وتترعرع عن طريق تحمل المسئولية ، وممارسة العمل المسئول ، وتقل أو تضل عن طريق التخلي عن المسئولية ، وممارسة العمل أللا مسئول الخالي من الضمير والمصداقية .

الحرية لا تعني أن نحيا بطريقة عشوائية ، لأن مثل هذه الحرية العشوائية ليست إلا عبثاً لا معنى له وقيمة ، والإنسان بفضل حريته يستطيع أن يصل إلى أعلى المنازل والمدارك ، عن طريق قراراته التي يحتكم فيها إلى العقل والضمير الأخلاقي ومراقبة الله تعالى دائماً الذي يرانا ، أما إذا سلك الطريق الخاطئ فإنه ينحدر إلى هوة سحيقة لا مكان فيها للسلام .

وحتى يتجه الإنسان إلى الطريق الصحيح السليم الذي يوصله إلى السلام بالمعنى الشامل ، يوجه القرآن الكريم نظره إلى الإقبال بكل ذاته على الدين الذي خلقه الله من أجل خيرية الإنسان ، انسجاماً مع طبيعته .

يقول الله تعالى : {فأقم وجهك للدين حنيفا ، فطرة الله الذي فطر الناس عليها ، لا تبديل لخلق الله ، ذلك الدين القيم ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون }. و (فأقم وجهك للدين) أي فقومه له غير ملتفت عنه ، و (حنيفا) أي مائلاً عن العقائد الزائفة ، فعله : حنف يحنف حنفاً ، و (فطره) أي خلقه ، يقال : فطره الله يفطره ، فطراً أي خلقاً .

والمعنى : فقوم وجهك للدين مائلاً عن العقائد الزائفة ، وهذه هي خلقة الله التي خلق الناس عليها ، بحيث لو تركوا وشأنهم لاهتدوا إليها بدون إشارة ، وهذه الفطرة هي دين الإسلام ، لا تبديل لخلق الله ، فهذا الدين الفطري (أي الإسلام) الذي تهتدي النفس إليه بلا تعلم ، وهو الدين القيم ، ولكن أكثر الناس لا يعرفون ذلك .

ومن الدين الحق أن يعتبر الإنسان نفسه جزءاً من الخلق الذي خلقه الله ، والعقيدة الصحيحة تتمثل في الإيمان بإله واحد لكل الخلق ، فالخلق كله من الله ، واستمرار وجوده مرهون بقدرة الله ومشيئته .

وقد جعل الله الناس مختلفين ليتعرف بعضهم على بعض من أجل واقع أفضل وأحسن لدنياهم ، وهذا التعرف إذا كان جاداً ومخلصاً ، فإنه يؤكد المساواة ، الأمر الذي يحفز الإنسان على أن يكون عادلاً ومنصفاً ومتسامحاً مع غيره من الناس ، محباً لهم مثلما يحب نفسه ، أي يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، وهنا يمتلئ قلبه بالحب والخير والسلام ، ويكون قادراً على أن ينشر السلام في كل من حوله ، وما حوله .

ومن فضل الله تعالى على عباده أنه غمرهم بفضله فأضاف إلى عدالته رحمته التي وسعت كل شيء ، لما يعلمه سبحانه من ضعفهم البشري ، فهو بعباده رءوف رحيم ، كما أنه لا يظلم أحداً .

جاء في الحديث القدسي : "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا ."

فالسلام لا يقوم إلا على أساس من العدل ، ومن هنا حرم الله الظلم على نفسه ، وعلى الناس جميعاً .

والمفهوم الإسلامي للعدالة لا يمكن حصره في دائرة الشكل القانوني الذي نعرفه ، فالعدالة في الإسلام تدع للآخرين في الوقت نفسه الطريق إلى السلام مفتوحاً عن طريق الرحمة ، وهذا يعني أن الإنسان تحت ظروف معينة ينبغي أن يعطي لعدوه فرصة السلام ، شريطة أن يكون هذا العدو على استعداد كامل وتام للسلام .

ومن هنا يقول الحق جل علاه : {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ، إنه هو السميع العليم } .

و (إن جنحوا) أي وإن مالوا إلى السلام ، يقال : جنح له وإليه ، يجنح جنوحاً أي مال إليه .

والمعنى : وإن مال العدو إلى السلام ، فمل له مثله ، وتوكل على الله تعالى الذي يسمع كل شيء ، ويعلم بكل شيء .

أما إذا لم يبد العدو رغبتة صادقة في السلام ، أصبح الجهاد ضرورة للدفاع عن الأرض والأنفس والأموال والأعراض ، فإن الإسلام يعطي للمسلمين الحق في قتال الأعداء بشرط ألا يتجاوز المسلمون الدفاع إلى العدوان ، والطريق إلى السلام لا يسمح إلا بالفعل الأخلاقي قال تعالى : {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } .

والمعنى : وقاتلوا من قاتلكم من الأعداء ، ولا تعتدوا عليهم إن الله لا يحب المعتدين .

ومن هنا فإن الرسول (صلى الله عليه وسلم ) كان يذكر المجاهدين وكذلك الخلفاء الراشدين (رضي الله عنهم) قبل كل معركة بتقوى الله ، ويحرم عليهم التمثيل بالقتلى ، كما يحرم عليهم إساءة معاملة الأسرى ، أو قتل غير المحاربين من الشيوخ والنساء والأطفال ، وعدم قطع الأشجار المثمرة ، أو تسميم أو تلويث آبار المياه .

وقد روى أنس بن مالك أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) قال : "انطلقوا باسم الله ، وبالله ، وعلى ملة رسول الله ، ولا تقتلوا شيخاً فانيا ، ولا طفلاً صغيراً ، ولا امرأة ، ولا تغلوا ، وضموا غنائمكم ، وأصلحوا ، وأحسنوا ، إن الله يحب المحسنين "

وهكذا حرم الإسلام على الجيوش الإسلامية ، كل شكل من أشكال الأمور غير الإنسانية ، ولكن الحرب الدفاعية ضد العدو ليست هي نهاية الحرب ، فالهدف الأسمى للمسلمين هو محاربة العداوة في قلوب الأعداء ، ومن هنا لا يجوز للمسلمين أن يفقدوا الأمل في ذلك لأن الأمل هو ملاذ السلام .

يقول تعالى : {لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة ، لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ، ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد . عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة ، والله قدير ، والله غفور رحيم } .

و (من يتول) أي ومن يعرض ، و (الحميد) المحمود ، و (عسى) فعل جامد معناه يتوقع ويرجى .

والمعنى : لقد كان لكم فيهم قدوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ، ومن يعرض عن الحق فإن الله هو الغني المحمود ، لعل الله يجعل بينكم وبين الذين عاديتم من الأعداء مودة ، والله قادر على كل شيء ، وهو الغفور الرحيم .

لقد أوصى الإسلام المسلمين بالتسامح إزاء كل الناس بغض النظر عن أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم طالما أن هؤلاء لم يعتدوا على المسلمين .

وهذا ما تعبر عنه الآية الكريمة : {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقتلوكم في الدين ، ولم يخرجوكم من دياركم ، أن تبروهم وتقسطوا إليهم ، إن الله يحب المقسطين . إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين ، و أخرجوكم من دياركم ، وظاهروا على إخراجكم ، أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون .}

و (أن تبروهم) أي أن تحسنوا إليهم ، والبر هو المبالغة في الإحسان ، يقال : بره يبره براً أي أحسن إليه وبالغ ـ و (تقسطوا) أي تعدلوا ، يقال : أقسط يقسط ، وقسط يقسط ، ويقسط قسطاً أي عدل و (ظاهروا) أي وعاونوا ، عاونوا أعداءكم ، و (أن تولوهم) أي أن تتولوهم ، أي تتخذوهم أولياء .

الآيات السابقة تجيب عن سؤالين هما : أي صنف من الأعداء تجب مقاطعته ؟ ، وأي صنف تباح معاملته ومعاشرته ، بل والبر به والإحسان إليه ؟ ، وقد راعى المسلمون هذه النصائح الذهبية فلم يتدنس تاريخهم بمثل المذابح أللا إنسانية التي حدثت في أوربا باسم الدين ، فالله لا ينهى المسلمون عن الأعداء الذين لم يقاتلوهم بسبب الدين ، أو حملوهم على الهجرة من أوطانهم ، إنه سبحانه وتعالى يطلب من المسلمين أن يحسنوا إلى هؤلاء ، وأن يعدلوا معهم ، إنما ينهى الله المسلمين عن مودة الأعداء الذين قاتلوهم وعادوهم وأخرجوهم من ديارهم وأوطانهم ، وأعانوا غيرهم على إخراجهم ، فيطلب منهم ألا يتخذوا من هؤلاء أولياء .

نقول : إذا توقف هؤلاء الأعداء عن ظلم المسلمين ، فينبغي أن نكون مستعدين للتجاوب مع إرادة السلام العادل ، ومن يرد السلام فإنه يتحتم عليه أن يبعد عن كل لون من ألوان التعصب ، لأن التعصب يدمر السلام ، ويؤدي إلى أعمال غير إنسانية .

الإسلام كدين سماوي يعلمنا أن الأرض قد خلقت لكل الناس على السواء بصرف النظر عن جنسياتهم أو أعراقهم أو ألوانهم أو أديانهم أو عقائدهم ، ونعمة الخلق أنعم الله بها على العالمين أي على كل الناس ، لكي يتمتعوا بها سوياً ويقدرونها حق قدرها ، ويهتموا ويعتنوا بها ، وبذلك يحققون ذواتهم بوصفهم أشخاصاً بشرية والناس جميعاً لهم الحق في ذلك دون أدنى استثناء .

أما من يرد أن يمنع فئة من الناس من ممارسة وتطوير حياتهم من أجل واقع أفضل لهم ولذويهم ، فإنه بذلك يمنع نفسه أيضاً من الارتقاء بذاته .

الإسلام يدعو في تعاليمه السمحاء إلى حقوق الإنسان ، كما يدعو في نفس الآن إلى ضرورة ممارسة الواجبات ، وهذا يعني ممارسة الحرية الإنسانية ، فالإنسان مطالب أن ينمو كإنسان ، وأن يمارس إنسانيته على أكمل وجه ، وبذلك يتخذ السلام طريقاً .

نؤكد على أن الدين وحده هو الذي يهيئ للإنسان الطريق إلى ذلك ، أما إذا أراد المرء ألا ينظر إلى ما هو أبعد من موطئ أقدامه ، وألا يرتقي ويتسامى بفكره وعمله ، فإنه يسد بنفسه الطريق إلى السلام إذ يصبح سجيناً لماديات هذا العالم .

ولكن الإسلام يعلم الإنسان كيف يكون حراً حرية حقيقية ، منطلقها (أنا حر ما لم أضر) ، كما يعلمه كيف يطور قدراته الإبداعية ، وهذا لن يتحقق إلا عندما يشعر الإنسان بالسلام الداخلي في أعماق نفسه .

الإسلام دين يدعو في صراحة ووضوح إلى السلام العادل في العالم أجمع ، كما يدعو إلى ضرورة أن نجند كل إمكانياتنا وطاقاتنا من أجل تحقيق هدف السلام .

بالإضافة إلى ذلك فإن الإسلام نفسه يعد الطريق المستقيم إلى السلام الحق ، والمسلمون جميعاً انطلاقاً من هدي دينهم ، يريدون السلام ، والعالم الإسلامي كله يرى جذور حضارته في الإسلام الداعي إلى السلام ، تلك الحضارة التي سادت في العالم قروناً عديدة ، و كانت من أطول الحضارات عمراً في التاريخ الإنساني ، وكانت حافزاً قوياً للغرب في بناء حضارته الحديثة .

حضارة الإسلام أساسها السلام والتسامح والإنسانية واحترام الآخر ، حضارة الإسلام لا تعرف التصادم أو الصراع مع الحضارات الأخرى ، بل تعترف بالتنوع و التعددية الثقافية والفكرية ، حضارة تأخذ وتعطي من أجل خيرية الإنسان في كل مكان وزمان .

لقد خبر عالمنا الكثير من الأيديولوجيات التي وعدت (ومازال بعضها يعد ) بالسلام العادل ، ولم تستطع أن تفي بوعودها البراقة ، بل انهارت وانهارت معها أحلامها الوردية التي طالما داعبت قلوب الناس وعقولهم .

السلام الذي يعطيه الإسلام للمؤمنين به يعد قوة حيوية فاعلة متدفقة ، قوة تستمد قوتها وحيويتها من الله تعالى مانح السلام ، ومن أجل ذلك لا يمكن ـ بأي حال من الأحوال رغم كل الظروف والضغوط والملابسات ـ أن يتسرب اليأس أو الإحباط إلى قلوب المؤمنين بسبب ما يلاحظونه من انتشار الظلم على نطاق واسع في عالمنا ، فلا ييأس من روح الله إلا ضعيف الإيمان ، أو من يجحد فضل الله وقدرته .

فالعالم الذي نعيش فيه لا يخضع لإرادة عشوائية (كما يذهب البعض ) ، فقد خلقه الله على أفضل وجوه النظام والإبداع ، وعليه فإننا إذا أردنا أن نسلك طريق السلام فإننا نسهم بذلك في استعادة النظام الأصلي للخلق ، وبهذا الاعتبار يكون نظام العالم وسلامته في أيدينا بوصفه أمانة كبرى في أيدينا ، ومسئولية جليلة في أعناقنا .

فالله جل علاه قد خلقنا في هذا الكون الرحيب من أجل أن ننميه ونعمره ، من أجل أن ننشر فيه مبادئ : السلام والمحبة والخير والحق والعدل والجمال ، حتى ينعم كل البشر فيه بالسلام العادل ، والله هو الذي أنشأنا من الأرض ، وهو الذي استعمرنا فيها من أجل أن ننميها ونبث فيها الخيرية والأمان .

لقد طلب الله منا عمارة الأرض ، لا تخريبها وتدميرها ، والتعمير أو حضارة العمران تتطلب السلام ، أما التخريب فإنه صنو الحرب والدمار .

والمطلوب الآن من الأسرة الإنسانية الكبيرة أن تبذل كل ما في وسعها في سبيل التغلب على كل الأخطار التي تتهددها ، وأن تعمل بصدق وإخلاص وإيجابية وشفافية وفاعلية من أجل سلام العالم أجمع .

أما الأديان فإن لها دوراً كبيراً في صنع السلام ، لأن السلام من وجهة النظر الدينية يعني أساساً صلة قوية وسليمة بالله سبحانه وتعالى ، هذه الصلة الوثيقة بالله تنبثق منها كل الصلات الأخرى .

وهكذا يتضح لنا جلياً أننا عندما نحاول أن نسهم بنصيب في صنع السلام في عالمنا ، فإننا بذلك نسهم في الواقع في إقامة نظام عالمي جديد سمته الرئيسية العدل والمساواة ، والعكس صحيح كما يقولون .

والمشكلة المحورية في المجتمع العالمي الراهن تتمثل في كيفية ممارسة القوة دون عنف ، نظراً لأن أي عنف سيرتد علينا جميعاً ، من حيث أننا كلنا نجلس في سفينة واحدة ، وبالتالي فإن أي عنف أو إرهاب مهما كان سوف ينعكس علينا بشكل أو بآخر ، إن أجلاً أو عاجلاً .

ولقد لفت الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) نظرنا إلى ضرورة أن تطور الإنسانية أسلوبها للتضامن والتعاون ، إذا أرادت ألا تكون عرضة للهلاك والدمار .

يقول الرسول الكريم : "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ، فقالوا : لو أن خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً " .

ولعل هذا الخرق في السفينة الذي ورد في هذا الحديث الشريف ، يذكرنا بثقب الأوزون الذي يهدد عالمنا الذي نحيا فيه ، فضلاً عن أن المقارنة بالسفينة في الحديث تذكرنا أيضاً بأننا بالفعل محمولون على الأرض ، كما لو كنا في سفينة عبر الفضاء الخارجي .

وهكذا يتبين لنا أنه من خلال العمل التضامني المشترك الصادق يمكن إنقاذ العالم ، فالفرقة والتنازع والتشتت أسباب أساسية للفشل ، وصدق الله تعالى إذ يقول : {ولا تنازعوا فتفشلوا ، وتذهب ريحكم }

والأمر يتعلق بالبشرية جمعاء ، وليس بفئة محددة من الناس ، فكل فرد من أفراد الإنسانية يعد عنصراً مهماً بالنسبة للإنسانية كلها ، ومن أجل ذلك يقول القرآن الكريم : {من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً } .

وهذا يعني أن مرتكب هذا الجرم قد محا الإنسانية تماماً من نفسه ، ودمرها في داخله ، وعلى العكس من ذلك فإن من يقدم الخير والمعروف لفرد واحد من أفراد الإنسانية فكأنه قدم الخير للإنسانية جميعها .

ومن هنا يقول القرآن الكريم مكملاً الآية السابقة : {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً } .

فإذا أدركنا على هذا النحو القيمة المتفردة لكل حياة إنسانية ، فإننا نكون قد اتخذنا الموقف الذي يدعم ويؤكد السلام بين البشر ، ذلك لأننا ندرك حينئذ أن الآخر مهم بالنسبة لنا تماماً مثل أنفسنا .

والله سبحانه بجعله لنا أحراراً , قد منحنا المسئولية بالنسبة لنا ، وبالتالي المسئولية عن الآخرين ، وعن عالمنا المعاش ، لأننا كلنا وبنفس القدر جزء من الخلق الواحد .

والله الكريم الرحيم لم يحملنا شيئاً فوق طاقتنا ، بل أنه يطلب من الإنسان أن يكون إنساناً فحسب ، لا يريده ملكاً متوجاً ، ولا يريده في نفس الوقت أن يكون في أسفل دركات البهيمية ، وتحقيق هذه الإنسانية يعني أن يعمل الإنسان ما يتفق مع الكرامة الإنسانية ، وفي رأينا : إن هذا يعني الكثير ، إنه يعني من بين ما يعني ، على سبيل المثال ، أن يكون هناك تطابق بين القول والفعل لدى الإنسان ، فإذا أعطى وعداً لزمه الوفاء به دون أدنى إهمال أو تسويف أو تراخ .

وهكذا يتحتم على المسلمين الوفاء بما قطعوه على أنفسهم من عهود ومواثيق في كل الأحوال ، حتى مع غير المسلمين ، فالعدالة لا تتجزأ فإذا طلبت فئة مسلمة منا أن نساعدها في حربها المشروعة ضد أعدائها فعلينا أن نستجيب لندائها ، ونهب لمساندتها ، قدر طاقتنا وإمكانياتنا وظروفنا ، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها .

لكن القرآن الكريم يستثني هنا حالة معينة تحول بيننا وبين الاستجابة لتلبية هذا النداء من هذه الفئة المسلمة ، وذلك في حالة ما إذا كان بيننا وبين هؤلاء الأعداء عهد أو ميثاق أو اتفاق ، إننا في هذه الحالة مطالبون بالوفاء والالتزام بما قطعناه على أنفسنا .

وفي ذلك يقول المولى عز وجل : { ... وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ، والله بما تعملون بصير } . وبصفة عامة تتمثل الإنسانية التي يطلبها الإسلام من بني الإنسان في احترام كل فرد للآخر ، احترام حريته وكرامته وحقوقه ، وفي هذا الصدد ورد أن رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم) مرت به جنازة ، فقام ، فقيل له إنها جنازة يهودي ، فقال : أليست نفساً ؟ ! .

والإسلام لا يقلل على الإطلاق من قيمة أي عمل سلمي ، حتى ولو كان أقل القليل ، إذ فيه امتداح للخلق الطيب واستجابة له ، ومن أجل ذلك يقول الهادي البشير (صلى الله عليه وسلم) : "لا تحقرن من المعروف شيئاً ، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق "

والوجه الطلق البشوش في إخلاص وحب يكون تعبيراً عن قلب متفتح للخير ، ومملوء بالتسامح والسلام ، والبعد عن الكبر والتعالي والإثم والبغي ، وفي هذا المعنى يقول الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) : "إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يبغي أحد على أحد " والله ولي التوفيق ،،،

ــــــــــــ

باحث ومحاضر في الدراسات العربية والإسلامية

ayusri_a@hotmail.com

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ