ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الخميس 19/06/2008


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

مشاركات

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


جولة أخيرة للأصولية العلمانية في تركيا

بقلم: نبيل شبيب

redaktion@midadulqalam.info

أصبحت قضية الحجاب في تركيا أوسع نطاقاً وأعمق حصيلة وأبعد تأثيراً من اختزالها في نطاق خلاف دستوري أو قانوني أو سياسي، أو حتى في إطار "مقدمة تمهيدية" للتخلص من حزب "العدالة والتنمية". إنها قضية جولة ختامية لمعركة الأصولية العلمانية، ولن تكون النتيجة في صالحها قطعاً، فليس السؤال الجوهري المطروح بمنظور تاريخي، مقتصراً على ما إذا كانت الشابة المسلمة التركية ستدخل بحجابها إلى الجامعة أم تُمنع من حقها الثابت لتحصيل العلم والتخصص والمشاركة في البناء والنهوض والتقدم، بل وليس السؤال الجوهري المطروح هل يبقى حزب "العدالة والتنمية" نفسه أم لا، وهل يخلفه مثيله أم يستمر على طريق إنجازاته رغم خصومه، بل السؤال الجوهري الحاسم، هو كيف يتحدّد مصير العلمانية الأصولية وقد بات محتماً، دون أن تتمكن من خوض جولة خاسرة بالنسبة إليها، ولكن يمكن أن تُسبب من خلالها أذى كبيراً في تركيا ومسيرتها على طريق التقدم وإقرار الحقوق والحريات، بعد الأشواط الكبيرة التي قطعتها بزعامة حزب "العدالة والتنمية".

 

ـ أثقال تاريخية وراء معركة الحجاب

كان التنوير فالحداثة فالعلمانية هو المسلسل الذي نقل أوروبا تاريخياً على التتالي زمنياً، بتداخل زمني تاريخي محدود بين حقبة وأخرى، من ظلمات التخلف الفكري والإنساني إلى أطروحات التنوير، ورافقته آنذاك ـ قبل ولادة الاتجاهات الإلحادية ـ ثورة الاكتشافات والاختراعات والصناعات التقنية الأولى، ثم من تلك الحقبة التنويرية عبر الحداثة إلى حقبة "تسويد العلم على الفكر" ـ وكانت الفلسفة الدينية الكنسية تحتكر الفكر والعلم في أوروبا ـ واعتباره وحده مصدر المعرفة، فبدأ مع حقبة الحداثة تلك نشر السلاسل على حدّ تعبير فيلسوف ما بعد الحداثة (فوكو) فطغت على الحريات الفكرية والإنسانية، ثم كانت النقلة من تلك الحقبة إلى حقبة نشر أفكار الإلحاد المادي تُرافقها العلمانية بتطوراتها المتتالية والتصوّرات الكبرى للرأسمالية والشيوعية والوجودية وأخواتها، فبقيت مسيرة العلم والتقنية والإنتاج المادي مستمرة، ولكن بدأ الانهيار على مستوى الإنسان، من قبل إبادة الهنود الحمر حتى بلغ ما نُعاصره مما ترمز إليه عناوين (جوانتانامو) و"أبو غريب" والحروب الإرهابية الاستباقية.

إنّ العلمانية في بعض بلادنا، وفي مقدمتها تركيا وتونس، بدأت المسيرة من نهايتها الغربية المظلمة، فانتحلت لنفسها عناوين التنوير ولكن دون مضمون، وزعمت لنفسها الحداثة ولكن بعد انقضاء دورها تاريخياً، أما "السلاسل" والإلحاد المادي المعادي للدين، فقد أصبح دينها وديدنها منبهرة بما تحقق من تقدم تقني ومادي وعلمي لم يصنعه الإلحاد بل أفسد توظيفَ حصيلته بما حوّل الواقع الإنساني البشري إلى صور رهيبة من العصور القديمة لا الوسطى الأوروبية فقط.

لهذا لم تعبر علمانية العلمانيين في بلادنا ـ أو بعضها على الأقل ـ المراحل التاريخية التي عبرتها أوروبا، بل انتشرت من البداية بمضمون أصولي متشدّد، محوره الإكراه، وحصيلته الاستبداد، وهدفه صناعة إنسان آخر، يتخلّى عن اقتناعاته الدينية والإنسانية وقيمه وأخلاقه، ولا غرابة أن يكون رأس الحربة الأولى موجّها للمرأة، فالمرأة الكريمة الحرة المتعلمة الواعية المنتجة هي المدخل الأول لصناعة الإنسان، فإن أمكن للعلمانية تجريدها من هذه المواصفات ـ وإن بقيت مشوّهة مزيفة مرفوعة فوق مضامين منحرفة ومزوّرة ـ لا يمكن أن تصنع إنساناً كريماً حراً متعلماً واعياً منتجاً.

معركة تركيا مع الإنسان، تتجلّى في التركيز على حجاب المرأة كما لم يقع في بلد آخر، بما في ذلك تونس وفرنسا، فقد كانت من البداية مقترنة بالقوة العسكرية، تحت عنوان حماية المؤسسة العسكرية للعلمانية. وكانت معركة أجيال، وما يجري في تركيا هذه الأيام يؤكّد أنّ القوى الأصولية العلمانية بعد أن خسرت كلّ شيء بدأت تخسر الآن معركة الحجاب أيضاً، والتي كانت هي معركتها الأولى في تركيا.

 

ـ عجز علماني عن مواكبة المتغيرات

رغم أن القوانين التي أصدرتها العلمانية في مرحلتها الأولى كانت واضحة في حربها على الإنسان في تركيا، لغة وتاريخاً ومعتقداً ومظهراً بما شمل الحجاب وحتى "الطربوش"، فقد أمكن لدُعاتها زمناً طويلاً أن يُلبسوا مسيرتهم الاستبدادية رداء "الديموقراطية والتقدم" زوراً، وأن يثبّتوا على ما بقي من توجّهات إسلامية بعد الحرب العالمية الأولى ما روّجوه من نعوت "الظلامية والتخلّف والرجعية"، ولم يُدرك الأصوليون منهم على الأقل حتى اليوم أنّ الأوضاع في تركيا نفسها وعالمياً قد تبدّلت تبدلاً جذرياً.

لم يعد الاتجاه الإسلامي في تركيا اتجاهاً موروثاً يحمل من التقاليد الأصيلة والدخيلة ما يحمل، بل أصبح قادراً على التعامل مع معطيات الواقع لصناعة المستقبل على أُسس شاملة لمختلف ميادين الحياة، وقادراً على تحويل جبهات المعركة بشكل قد لا يمكن تطبيقه في بلدان إسلامية أخرى ولكنه الأصلح لتركيا بالذات؛ فعنوان الديموقراطية الذي فرّغته العلمانية الأصولية من مضمونه أعطاه الاتجاه الإسلامي المقيد بقوانين العلمانية المفروضة بالقوة مضموناً حقيقياً شاملاً لمختلف الفئات والاتجاهات والأحزاب وأصحاب المعتقدات الأخرى، وعنوان التقدّم الذي عجزت العلمانية الأصولية عن إعطائه مضموناً أصلاً، أصبح واقعاً اقتصادياً وتقنياً ومالياً وعلمياً مشهوداً في واقع العلاقات التركية بالعالم وفي واقع المعيشة اليومية للإنسان الفرد في تركيا على اختلاف توجهاته ومستويات معيشته.

كذلك جيل الشـبيبـة في تركيا، نشـأ في محاضن العلمانيـة الأصوليـة، ورغم ذلك لم يعد يُمكن للعبـة العسـكريـة والسـياسـيـة والحزبيـة أن تقوده حيث تشـاء، فقد أصبح ببسـاطـة جيلاً واعياً بأكثريتـه، وهو ما يتجلّى في الشـابات الجامعيات بأقوى صورة؛ فمطالبتهنَ بحق العلم والعمل مع الدين والاسـتقامـة، لم تعد مشـكلـة قانونيـة ولا دسـتوريـة، بل طرحت نفسـها بأبعادها الحضاريـة والإنسـانيـة وكشـفت كشـفا مخزياً عن خواء الأصوليـة العلمانيـة من الأُسـس الأولى التي يقوم عليها بناء حضاري إنسـاني.

 

ـ اهتراء وسائل الاستبداد العلماني الأصولي

لقد سلكت الأصولية العلمانية في تركيا سبيل الاستبداد العسكري؛ انقلابات مباشرة كما كان عند إسقاط (عدنان مندريس)، وغير مباشرة كما كان عند إسقاط (نجم الدين أربكان)، وسلكت سبيل الاستبداد المغلف بأحكام الدستور، التي وضعها واصطنع أجهزتها الاستبدادُ العلماني الأصولي العسكري، فكان إلغاء الأحزاب، وكانت عمليات "تطهير" المؤسسة العسكرية تباعاً من "روح التديّن ومظهره"، وكان إملاء أوامر تلك المؤسسة على الحكومة والمجلس النيابي، وكان حرمان القادة السياسيين من ممارسة حقوقهم في الأنشطة السياسية، وكانت الحصيلة مع كل خطوة على هذا الطريق خسارة العلمانية الأصولية لمكانتها ومعاقلها، قطعة بعد أخرى، داخل تركيا، وحتى على المستوى العالمي، فقد انكشف أمر استبدادها انكشافاً بات من العسير معه أن يجد "تأييداً" ما على ما يُتخذ من خطوات، وليس أمراً بسيطاً أن نرصد كيف صدر عن محكمة "حقوق الإنسان الأوروبية" قبل سنوات قرار يؤيد حظر حزب "الرفاه" التركي، وآخر يؤيد حظر الحجاب في الجامعات، بينما تصدر الآن عن جهات أوروبية وغربية عموماً، على المستويات الرسمية وغير الرسمية، مواقف التنصل ممّا تصنع مؤسسات الأصولية العلمانية في تركيا، متمثلة في القيادة العسكرية ومن سبق تعيينهم عن طريقها في الدرجة الأولى، على رأس المؤسسات العلمية الجامعية، وفي أجهزة القضاء، لا سيما المحكمة الدستورية والنيابة العامة.

ولئن نجحت "الأحزاب" التي تزعمها (أربكان) من قبل، في الكشف عن الوجه الاستبدادي للعلمانية الأصولية في تركيا، فيما يُشبه "العمليات الفدائية" أو ما سُمّي في تركيا "سياسة الثعلب"، فقد كان من أبرز ما نجح حزب "التنمية والعدالة" به في تركيا أمران اثنان:

الأول: تحقيق منجزات كبرى على كل صعيد سياسي ومعيشي، فأوجد الارتباط الغائب منذ زمن طويل ما بين صناعة القرار السياسي وواقع المعيشة الشعبي، وهو ما جعل "إرادة الشعب" حصناً له ولسياساته ولمنجزاته، وبالتالي تحوّلت معركـة الأصوليـة العلمانيـة من معركـة ضدّ حزب وسـياسـتـه إلى معركـة ضد شـعب وإرادتـه.

الثاني: الكشف عن وسائل الاستبداد العلماني الأصولي، بدءاً بالمؤسسة العسكرية التي أظهرت ـ جزئياً على الأقل ـ تراجعاً ملحوظاً، سيان هل هو طوعي أم بالإكراه، مروراً بالأفراد المفروضين على رأس المؤسسة العلمية الجامعية، وقد كشـفت قضيـة الحجاب بالذات أنهم لا ينطلقون من حق العلم لكل فرد، بل من تقييده بالتصوّر العلماني الأصولي الذي يُعطونـه الأولويـة تجاه الإنسـان وحقوقـه وحرياتـه، انتهاءً ـ الآن ـ بالمؤسسة القضائية، التي يُفترض أن تكون حارسة لإرادة الشعب، ولعدم خرق تمثيلها عبر أجهزة تشريعية أو تنفيذية أو عسكرية، فإذا بقضية الحجاب تكشف أن طريقة تشكيلها استهدفت من البداية أن تكون حارسة لإرادة الأصوليين العلمانيين، رغم أنّهم لم يعودوا يمثلون إرادة الشعب، لا في استفتاءات وانتخابات نزيهة، ولا حتى بأسلوب التزييف في استفتاءات وانتخابات صورية.

 

ـ إجراءات انتحارية أخيرة

لم يعد يُخشى على مستقبل جيل الشبيبة ولا سيما الشابات المسلمات في تركيا، ولم يعد يُخشى ـ كثيراً ـ على مستقبل المسيرة التي شقّ طريقها حزب "العدالة والتنمية" للنهوض بتركيا، فما تحقق خلال الجيلين الماضيين يُمثل تحوّلاً تاريخياً سيأخذ مداه، وكلّ ما سبق من عراقيل وعقبات وإجراءات معادية، لم تمنع من تحقيق النقلة الكبيرة التي يبدو حجمها الحقيقي من وراء أثقال باقية في الحاضر الراهن، عند المقارنة بين ما كان في الخمسينات من القرن الميلادي العشرين أيام (عدنان مندريس)، وما هو قائم الآن أيام (إردوغان) و(غول).

وليس أمراً بسيطاً أن نرصد كيف أن مواقف التأييد لموقف حزب "العدالة والتنمية" ومواقف التنديد بموقف المحكمة الدستورية، وقد فقدت دورها في ضمان سيادة الشعب، أصبحت تصدر عن كثير من مؤسسات المجتمع المدني في تركيا وخارجها، من أصحاب الاتجاه العلماني، وهم يرون أن فئة من الأصوليين العلمانيين بدأت تقوّض البقية الباقية من "سمعة العلمانية" التي يتمسك كثير من دعاتها بمحور "حرية الإنسان" بما في ذلك حرية معتقده، وإن اختلفوا مع الاتجاه الإسلامي في تثبيت مصدر السيادة على الأُطر التشريعية لصناعة القرار.

العلمانيون من غير الأصوليين أقدر من سـواهم على رؤيـة الخطر الكبير الكامن في السـلوك الأصولي المتطرّف، لا سـيما وهو يواجه منجزات قائمـة على الأرض، مرئيـة عالمياً، ومؤثرة على الواقع المعيشـي شـعبياً.

لم يعد بالإمكان الإنفراد بحزب والاعتماد على أحزاب أخرى، كما كان عند حلّ حزب "الرفاه"، ولم يعد بالإمكان الاعتماد على سـيطرة القيادات العسـكريـة كما كان قبل مسـلسـل الإصلاحات الدسـتوريـة والتشـريعيـة، ولم يعد بالإمكان الاعتماد على تعليلات مصطنعـة ومظاهرات محدودة لادّعاء تمثيل إرادة الشـعب.

ويبدو أنّ حزب "العدالة والتنمية" الذي نجح حتى الآن في تحقيق الأهداف المشروعة التي أعلنها وحاز على ثقة الناخبين من خلالها ومن خلال إنجازاته على طريقها، سيسلك السبيل نفسها في الجولة الحالية التي تُفرض عليه فرضاً، والتي أصبح الطرف الخصم فيها لا يُخيّر تركيا وأهلها ما بين حزب وحزب، واتجاه واتجاه، بل يضعهم أمام خيار متابعـة طريق التحرر الداخلي والإنجازات، وبين طريق الاسـتبداد والتخلف، مع ما يُمكن أن ينبني على ذلك من مخاطر فوضى هدامـة، لا يوجد في تركيا من يقبل بالمخاطرة بها خارج نطاق قلة الأصوليين العلمانيين.

وهذا ما يظهر للعيان الآن من ردّ حزب "العدالة والتنمية"، برفض قرار المحكمة الدستورية لبطلانه دستورياً كما يقول الأصدقاء والخصوم، مع الامتناع عن اتخاذ إجراءات مضادّة، فهذا يعني الحرص على مصلحة تركيا وشعبها بتجنّب إدخالها في دوامة "معركة" لا يتورع بقايا الأصوليين العلمانيين عن العمل لإثارتها.

وسيُضاف ذلك إلى رصيد الحزب، شعبياً وسياسياً، وسيُضاف أيضاً إلى رصد مسيرة تركيا للخروج من وهدة التخلّف والفوضى التي صنعتها العلمانية الاصولية على امتداد عقود عديدة.

لقد انفرد الميدان بهذه الفئة التي تريد التمسّك بالعتيق الباقي من سلطتها المتوارثة لتفرض إرادتها هي فوق إرادة الشعب وفوق منجزاته مع قادته السياسيين المنتخبين.

إذا أصبح إقدام المحكمـة الدسـتوريـة في تركيا على خطوتها الأخيرة ضد التشـريع القانوني الصادر عن مجلـس النواب، بشـأن إلغاء القيود غير الدسـتوريـة وغير الإنسـانيـة على المُسـلمات المُحجبات وحرمانهنَ من حق العلم وكل ما ينبثق عنه من حقوق.. أصبح إجراءً انتحارياً بامتياز، ولئن كان تمهيداً لخطوة أكبر بحظر الحزب الفائز قبل فترة وجيزة بغالبيـة أصوات الشـعب في تركيا، فسـيكون ذلك خطوة انتحاريـة أخرى أخطر وأبعد تأثيراً على البقيـة الباقيـة من سـيطرة الأصوليـة العلمانيـة في البلاد.

-------------------------

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

الصفحة الرئيسةأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ