ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد 23/12/2007


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

رجال الشرق

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


الشيخ علي الطنطاوي كما عرفته

الرياض / د.عائض القرني

إذا قلت: علي الطنطاوي، حضرت دائرة المعارف، وموسوعة الأدب، وجامعة الفنون، فصرت معه في عالم من المنقول والمعقول، والقديم والحديث، والعلم والأدب، والنثر والشعر، تقرؤه، فإذا الآية والحديث، والقصة والمثل، والبيت والحكاية، والنكتة والخاطرة، يضحكك ويبكيك، يطربك ويشجيك، يفرحك ويحزنك، فأنت معه بين بسمة ودمعة، ووصل وهجر، وسلم وحرب، يحدثك عن الأنبياء والعلماء، والحكماء والشعراء، والملوك والسوقة، والأغنياء والفقراء، والرجال والنساء، والملائكة والشياطين، يقص عليك أخبار مالك والشافعي، وابن تيمية وابن حزم، وابن سيناء وابن رشد، والفارابي وابن خلدون، والمتنبي وأبي تمام، وفولتير وسارتر، وديكارت وكانت، وشكسبير تولستوي، وإقبال وطاغور، يرتحل بك من برج إيفل إلى تاج محل، ومن هضبة التبت إلى مقاصير الحمراء، ومن ضفاف دجلة إلى روافد الراين، يتحفك بتاريخ العرب ودهاء العجم، وصبر الأتراك، وصمود الأكراد، وسخرية الفرنسيين، وبرود الإنجليز، يجمع لك في مجلس واحد عدل نور الدين، وشجاعة صلاح الدين، وهمة نابليون، وأبهة الناصر في الزهراء، وحنكة معاوية في دمشق، وملك هارون ببغداد، يهدأ فإذا هو رخاء حيث أصاب ويزبد ويرعد، فإذا هو قاصف من الريح، وعات من الموج، تعيش معه وعظ الحسن البصري، وزهد الثوري، وبديهة إياس، وموسوعية الشعبي، وسخرية برناردشو، وجاذبية غوته، وتصوير هيجو، ينقلك بقوة براعته، وأسر إبداعه من عالمك الصغير إلى عالمه الكبير، ومن أفقك الضيق إلى أفقه الواسع، ومهما حاولت أن تتماسك أمام أسره وسحره فهيهات، سوف تستسلم لسلطان بيانه، وتعلن الطاعة لنور برهانه؛ لأن حديثه يكاد يضيء من بريق نوره - ولو لم تمسسه نار - ذاكرته، وسوف تعترف بتميزه وعمقه وموسوعيته وأصالته.

لم أقرأ لأديب ولا لكاتب معاصر أعذب عبارة، وألطف إشارة، وأحسن لفظًا، وأعظم أسرًا، وأبرع كتابة، وأجمل أسلوبًا من علي الطنطاوي، لكأنّ مقالته صبح تنفس، أو روض أخضر باكرته صبا باردة، أو جنة بربوة أصابها وابل.

 

قرأت كل كتبه وأعدت الكثير منها، وحفظت قطعًا جميلة، وتحفًا غالية منها، وخطبت ببعض إشراقاته، فسالت من سماعها الدموع، ووجلت من بلاغتها القلوب، استفدت من كتبه جلال الحق، وإشراق النفس، وسمو الروح، وحلاوة الجملة، وطلاوة الحرف، قطفت من روضه أينع الثمار، وألذ الطلع، فحديقة علمه صنوان وغير صنوان تسقى بماء واحد، وبستان أدبه فيه من كل زوج بهيج؛ تفسيرًا وحديثًا وأدبًا وثقافة، وفي رحاب فنونه حدائق ذات بهجة مما يهيج ويبهر؛ لأنه يغرب ويطرب ويعجب والمعاصرون من الأدباء طرائق جدد، ومذاهب شتى، منهم عميق الفكر، راسخ المعلومة، لكنه قلق العبارة، شاق الطريق، فاتر الأداء، ومنهم البارع في عرضه، الجميل في لفظه، لكن بضاعته مزجاة، وجعبته فارغة، وكفه صفر، ومنهم خالي الوفاض من المعنى، على جرف هار في المبنى، (حشفًا وسوء كيلة)، أما الشيخ علي الطنطاوي فهو ثر المعرفة، واسع العلم، راسخ الفهم، عميق الفكر، وهو مع ذلك صاحب أبرع مقالة تتصدر الكتاب العربي، والمجلة السائرة، والصحيفة اليومية، سهولة في أصالة، ويسرًا في رصانة، وعذوبة في عمق:

خُلّلْ من السحر الجميل     من روعة الإيحاء والإغراء

إذا أصّل لنا نسينا ابن سينا، وإذا نظر سقطت أسهم سقراط، له تفنن الجوزي، وعبقرية ابن حزم، وتبيان الجاحظ، وسلاسة ابن حيان؛ لأنه جرد الأسفار، وطاف الديار، وطوى منشور الزمان، ونشر مطوي المكان، فهو جامع لأحداث العصر، وأنباء كل مصر، إن أحبَّ أطنب وأسهب، وإن شاء أوجز وألغز، مع جودة خاطر ماطر، وصحة نفَس عاطر، ولا غرابة فهو خليفة مجدد الأدب، وإمام الكتاب، مصطفى صادق الرافعي.

 

والشيخ علي الطنطاوي لا يتركك تقرأ له بقلب خامد، وطرف جامد، وحس هامد، بل يبعث في نفسك شعورًا حيًا، فيهز عاطفتك، ويلهب حماسك، ويوقظ روحك هذا إذا كان القارئ له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أما إذا كان ميت الشعور، يابس الإحساس، مقفر المعرفة، فهذا لا كلام معه: {أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (21)سورة النحل.

ما في الخيام أخو وجْدٍ نطارحه      حديثَ نجْدٍ ولا خِلٌّ نجاريه

لقد عرفت الطنطاوي قبل ثلاثين سنة، تأبطت كتبه في جبال الجنوب، وتصفحت مقالاته في روابي نجد، وطالعت ذكرياته في مغاني الحجاز، استقبلتني كتبه في دمشق، وهزتني مقالاته في القاهرة، ولقيت قصصه في باريس، وسمعت أخباره في قرطبة، وهو مصري المَحْتِد، دمشقي المولِد، حجازي الهوى، نجدي الجوى، صوته في المذياع، وصورته في الشاشة، وأدبه في الصحيفة، وإشراقه في الكتاب، سافرت وكتبه معي، ونمت ورسائله على مخدتي، وكنت مرة في الطائرة إلى جاكرتا، وبين يدي كتابه: (رجال من التاريخ) فأبكاني وأشجاني، وأتيت أرتجل خطبة في جمع بعدما حفظت مقطوعة: (نحن المسلمون) من أول (قصص من التاريخ)، فسمعت نشيج الحضور بيني وبين الطنطاوي غير نسب الدين العظيم، والمعتقد الحق، صفات متقاربة متجاذبة مع اعترافي بفضله وتقدمه وسابقيته، فقد حببني في الأدب شعرًا ونثرًا، على نزعة فطرية سابقة، وولع قديم وحنين دائم، (فالتقى الماء على أمر قد قدر).

وما شرقي بالماء إلا تذكرًا      لماء به أهل الحبيب نزولُ

وشجعني على الموسوعية وتعدد الفنون والضرب في كل غنيمة بسهم وهبوط وديان المعرفة، وشحذ ما عندي من طبع دعوب، ومزاح متأصل، ونكتة منكوتة في الدم جعلتني أعجب بطرائفه ولطائفه، وأضحك معه وأحفظ كما يحفظ، مما تخف له الروح، ويهش له الخاطر، ولله هو مواهب متعددة، وروح متجددة، نهج حنيفي، ومذهبي حنفي، وخلق أحنفي، يكاد سنا برق لموعه يذهب بأبصار حُسّاده.

 

وحرصت على لقاء الشيخ الطنطاوي وتمنيت ذلك، وقبل أن ألقاه بأشهر كنت ألقي درس السبت بـ"أبها" في جمع من الناس، فوصلتني إشاعة موته، وصدق ذلك بعض الأصدقاء وقووها عندي، فأخبرت الناس بموته وهو حي يرزق، وترحمت عليه وغسلته وكفنته وصليت عليه ودفنته وبكيت.. فلما انتهى الدرس ثبت أن الشيخ "علي" لم يمت، وأنه لا يزال مصرًا على الحياة على رغم أنوفنا!! ولو كانت تنطلي عليه الحيلة لصدقنا ومات، فصار بكاؤنا عليه هباءً منثورًا، وزرته بمكة في بيته بالعزيزية وعرّفه صاحبه بي، وقد سمع ببعض أشرطتي واستشهادي بكلامه، فهش وبش، وحيّا ورحب، وقال لي: أنت الذي أماتني قبل أن أموت؟! ثم استشهد ببيت المتنبي:

يا كم دُفنت ويا كم مت      ثم انتفضت فزال القبر

ومازحني وداعبني ثم حدثنا بشيء من ذكرياته المشجية، فبكى مرتين وهو يقص علينا أحسن قصصه، بكى حينما تذكر زميله وصديقه الكاتب اللامع والداعية الصادق سيد قطب - رحمه الله- وقال والدمع يغسل خده: كان خيرًا مني وأفضل مني وأنفع مني ثم تنهّد وترحم عليه.

 

ثم بكى لما ذكر ابنته بنان - رحمها الله- التي قتلت بألمانيا، فجادت عيناه بأحر وأصدق الدموع على فلذة كبده، وصنو روحه، فكان دمعه أصدق خطبةٍ قرأتها، وأعظم موعظة سمعتها، حرم الله تلك العيون على النار، وآنس الله تلك الجفون بصحبة الأبرار.

 

وكل ما ذكرته عن الشيخ علي الطنطاوي عظيم ويستحق عليه التكريم، لكن أعظم من سعة علمه وكثرة فنونه ودائرة معارفه أنه قد رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا، وهنا عظمة الإنسان، وغاية نبله، وذروة كماله البشري، حيث يبارَك في علمه، ويصلُح عمله، ويرتفع ذكره، ويستقيم منهجه، وتطيب كلماته، وتعذب عبارته، ويحلو أدبه، وهذا بعينه الذي حببنا في شيخ الجيل، وأستاذ الأدب، وكاتب العصر علي الطنطاوي.

 

ألا، فتبًا وسحقًا لمن عق دينه، ونسي ربه، وكتم شهادة عنده من الله، وألغى الدليل، ورفض المحجة البيضاء، وتدثر بلباس الزور، وتزمل برداء الغرور، فهو إنسان في فهم ثور، (إنه ظن أن لن يحور).

 

فلا يلوم لائم تعلق الجيل المؤمن، والشباب الصادق بهذا الأستاذ الجهبذ، وهذا العلم الأعجوبة؛ لأنهم وجدوا فيه الأمانة والإيمان مع ورع النفس، وطهر الضمير، وعفة القلم، وصفاء الفكر، أما المرتزقة الآثمون المفلسون في عالم القيم (فتعسًا لهم وأضل أعمالهم)، نتاجهم سراب بقيعة، وحصيلتهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، صار ذمهم شهادة على كمال من جرحوه، وأصبحت تزكيتهم وصمة عار لمن مدحوه، ومن خير وأفضل ما كُتب عن الشيخ علي الطنطاوي كتاب (علي الطنطاوي كان يوم كنت) للدكتور أحمد آل مريع وفقه الله تعالى.

جريدة الجزيرة السعودية 15/12/2007

 

 السابق

أعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ