ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

السبت 05/06/2004


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

 

إصدارات

 

 

    ـ أبحاث

 

 

    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


(تابع)

سورية في ظل بشار الأسد

التحديات السياسـية الداخليـة

المجموعة الدولية لمقاربة الأزمات ICG

تقرير رقم /24/ الشرق الأوسط

خلاصـة تنفيذية وتوصيات

فشلت رئاسة بشار الأسد في الارتفاع إلى مستوى ما عقد عليها عام 2000 من آمال إنجاز إصلاح واسع. فبعد فترة قصيرة من الانفتاح ضيَّقت سورية على الرأي المخالف، وظل الإصلاح الاقتصادي بطيئاً بشكل مؤلم. وكثيرون ممن اعتبروا بشار شريكاً محتملاً، منفتح الذهن غربي التوجه، صاروا يرونه الآن أكثر إيديولوجية من أبيه ومعادلا له من حيث الالتصاق بالنظام البعثي.

ولكن هاتين الرؤيتين مغرقتان في التبسيطية ولا فائدة منهما في التعامل مع سورية التي تقف على مفترق طرق. يلمح مسئولون سوريون إلى اتخاذ خطوات هامة في أواسط 2004 بما في ذلك إمكانية تغيير في هرمية وعقيدة حزب البعث، وخطوات أخرى باتجاه نظام سياسي أكثر انفتاحاً ودمجية. والتشكك وارد هنا لكثرة ترداد وتجاهل مثل هذه الوعود في الماضي. إلا أن الإصلاح أصبح ضرورة استراتيجية، وعلى سورية أن تحول تلميحاتها إلى واقع، كذلك على المجتمع الدولي أن يجد سبيلاً لمساعدتها وتشجيعها.

هناك أدلة جيدة على أن بشار جاء إلى السلطة وهو مدرك للحاجة إلى إجراءات اقتصادية شجاعة من أجل عقلنة الإدارة العامة والحد من الفساد ومن ثم تحديث البلاد. لكن مشروعيته وقاعدة سلطته مرتبطتان بشدة بالنظام البعثي، فإذا كان يفهم إلى حد ما أن خططه لا يمكن أن تنجح مع النظام الحالي، إلا أنه يخشى ألا يبقى في السلطة طويلاً من دونه. فالمسألة لا ترتد إلى مجرد تخليص النظام من مخلفات حكم والده. إذ يتشكل هذا النظام من مكونات قوية: نخبة اقتصادية سياسية متمترسة بالقطاع العام والجيش والمخابرات، وبيروقراطية هائلة بليدة تعتاش على الوضع القائم. وعلى بشار ـ أكثر من والده ـ أن يتشارك في السلطة مع مراكز القوى المتعددة عندما يصبح " الاستبداد التعددي" السوري أقل استبداداً وأكثر تعددية، لقد أدرك الرئيس السوري أن طول مدة بقاءه في الحكم تعتمد على استقرار النظام الذي يسعى إلى إصلاحه.

استطاعت عوائد السياسة الخارجية في الماضي أن تعوض عن الخلل الداخلي. تمثلت تلك العوائد في الدخل الناجم عن المساعدات الإيرانية في الثمانينيات، والخليجية في أوائل التسعينيات، ثم التجارة غير المشروعة مع العراق بعد ذلك.

وها قد ولَّت هاتيك الأيام، وسورية بحاجة ماسة إلى إصلاح داخلي، فقد أنهك اقتصادها الفساد وقِدم التجهيزات الصناعية التابعة للدولة، وأداء متدن ومتقلب للقطاع الزراعي، وموارد نفطية سريعة النضوب، ونظام تعليمي مفوت لا يمت إلى عصرنا، بالإضافة إلى هجرة الرساميل وافتقاد الاستثمار الأجنبي.

إن تصوير النظام على أنه نظام يستند بقاءه فقط إلى القمع وقاعدة طائفية ضيقة ليس صحيحاً، إذ يحظى البعثيون بدعم من جماعات دينية واقتصادية – اجتماعية متعددة، ولكن النظام غير عصي على التغير الداخلي إذا تابع الاقتصاد تدهوره. فعلى الأقل سيؤدي الاقتصاد المتهالك، تدريجياً، إلى النيل من مشروعيته، وتقويض الدعم الذي يحظى به حالياً، وذلك حين يقلص انكماش الموارد الاقتصادية من العوائد والإمتيازات التي استخدمت لنيل تأييد الجماعات الفاعلة.

ينبغي ألا تُستخدم احتياطيات النقد الأجنبي في سورية ذريعة لتأجيل الإصلاح بل في إنشاء شبكة ضمان ضرورية لحماية السكان من الصعاب التي سترافق إعادة الهيكلة حتماً. وحتى يكون الإصلاح الاقتصادي فعالاً يجب أن يترافق مع لبرلة سياسية. فدون محاسبة أوسع نطاقا وشفافية وإعلام حر،سيكون من الصعب جداً كسر حلقة الفساد وانعدام الكفاءة. كما أن قلة الموارد الاقتصادية المعدة للتوزيع تعلي من أهمية بناء إجماع داخلي أقوى عبر رفع مستوى المشاركة العامة .

ستكون الإصلاحات، ولاشك، تدريجية ومضبوطة بعناية. ومع ذلك يجادل البعض في أنها ستفضي إلى قلاقل وتفتح الباب لإسلاموية متطرفة. إن تاريخ النشاطات العنفية للإخوان المسلمين في سورية مدعاة للقلق، ولكن الدلائل المتوفرة تفيد بأن تطرف الإسلاموية يتغذى من القمع والنظام السياسي المغلق الذي يمنع حرية التعبير والتجمع، مما يهدم الثقة بين المواطنين والدولة. إن تقييد المشاركة السياسية وإفلاس الإيديولوجية الرسمية يؤديان إلى فراغٍ، والخطاب الإسلامي المتطرف مهيأ جيداً لملء هذا الفراغ  .

يتزامن هذا التقرير مع تقرير آخر حول التحديات الخارجية[1]. وهذان موضوعان متضافران، فتدعيم الإجماع الداخلي، بما في ذلك المصالحة الوطنية وتجديد الثقة السياسية بالقيادة السورية سيمكن سورية من لعب دور واثق وفاعل في المحيط الإقليمي. والعكس بالعكس: فما يجري على الصعيد الدولي يؤثر على الموقف الداخلي لبشار وعلى قدرته على التقدم في الإصلاح.

تـوصـيـــات

للحكومة السورية  

1- تعزيز الحوار والمصالحة الوطنية عبر:

        أ- إصدار عفو عام عن الناشطين السياسيين، بمن فيهم أعضاء الإخوان المسلمين في سورية والمنفى ممن لم يشتركوا في أعمال العنف، والسماح بعودة أفراد المعارضة المنفيين الذين لم يشتركوا في أعمال العنف.

       ب- عقد مؤتمر وطني للأحزاب السياسية والشخصيات المعارضة والناشطين السياسيين لمناقشة المصالحة الوطنية والالتزام بالعمل اللاعنفي. 

       ج- رفع الحظر عن اللغة الكردية والسماح للأكراد بتنظيم نشاطاتهم الثقافية وإبطال نتائج الإحصاء حتى يتمتع المكتومون الأكراد وذريتهم بحقوق الكاملة.

2- البدء باللبرلة السياسية عبر:

       أ- رفع حالة الطوارىْ وفتح المجال أمام التنظيمات السياسية والمجتمع المدني.

      ب- فتح مجال التنظيم أمام المجتمع المدني والتنظيمات السياسية وإنشاء إطار قانوني أكثر شفافية يعترف بالمنظمات غير الحكومية ويمكنها العمل بحرية.

      ج- تشجيع التغطية الإعلامية الحرة لقضايا السياسة العامة.

3- تسريع الإصلاح الاقتصادي عبر:

     أ- رسم وتنفيذ إصلاح إداري وجعل الإدارة الاقتصادية أكثر شفافية بما في ذلك شن حملة قوية ضد الفساد واتخاذ خطوات لتخفيف التعارض بين الدولة وقطاع الأعمال.

    ب- تأسيس آلية مرنة وشفافة لتدبير المصالح العامة وتيسير إجراءات الترخيص بحصرها في كوة واحدة.

    ج- سحب ما يلزم من احتياطيات النقد الأجنبي لتمويل برامج توفير فرص عمل وتخفيف الفقر.

 

لأعضاء المعارضة السورية.

4- نشر التغيير السياسي فقط عبر الوسائل السلمية وبشكل خاص:

     أ- التبرؤ من اللجوء للعنف في الماضي، والتعهد بعدم الاقتصاص من إساءات النظام السابقة خارج نطاق القضاء العادي المختص.

     ب- مباشرة حوار مفتوح مع حزب البعث مع تجنب الخطابات النارية. 

للإتحاد الأوربي ودوله الأعضاء واليابان

 5- دعم الإصلاحيين ضمن القيادة السورية عبر الحث على الإصلاح الإداري والصناعي مع التركيز على مؤسسة الرئاسة والوزارات التي يقودها الإصلاحيين.

6- عرض مساعدة لتخفيف المصاعب التي تسببها اللبرلة الاقتصادية وعلى سبيل المثال تقديم التمويل والخبرات لمؤسسة مكافحة البطالة.

7- تقديم مساعدة لتطوير المجتمع المدني وبناء قدراته والإلحاح على سورية فيما يخص قضايا حقوق الإنسان، بما في ذلك الحالات الفردية والإجراءات مثل رفع حالة الطوارىء. وفيما يخص الإتحاد الأوربي بالذات: تحديد والتزام آلية عمل فيما يخص مضمون الفقرة المتعلقة بالمبادىء الديمقراطية وحقوق الإنسان في اتفاقية الشراكة. 

 

 للحكومة الأمريكية

8- رفع معارضة دخول سورية في المفاوضات الرامية إلى الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية.

9- زيادة الاتصالات بين الشعبين، وخصوصاً في مجال التعليم.                                  

 

عمّان / بروكسل ، 11 شباط 2004

 

I. خلفية عامة: النظام البعثي الآخر

أ- أصول سورية الأسد

يتطابق تاريخ سورية الحديث إلى حد كبير مع تاريخ كل من حزب البعث (وهو تنظيم يطمح إلى الوحدة العربية على قاعدة الاشتراكية والقومية)[2] والجيش الذي يلعب دوراً مفتاحياً في الشؤون السياسية.

توجه البعث الذي نشط في سورية والعراق والأجزاء الأخرى من الهلال الخصيب إلى مثقفي الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى وإلى الأقليات الأثنية الدينية التي كانت تشعر بأنها مُهمَّشة، أي الدروز والمسيحيين، وبصورة أخص، العلويين[3] في سورية. وقد روّج الفرنسيون خلال فترة الانتداب للهويات الطائفية وشجعوا "النزعة الانفصالية و... توسيع الفجوة بين الأغلبية المسلمة السنية والأقليات المختلفة"[4]. وبعد الاستقلال عام 1946واجه العلويون والدروز جهود النظام الذي يسيطر عليه السنيون لتقليص استقلاليتهم ونفوذهم، وقد انجذبت الأقلية والمجموعات المهمشة إلى رسالة البعث القومية العلمانية والاشتراكية، وكذلك إلى الجيش كأداة للارتقاء الاجتماعي وحماية من السيطرة السنية.

"جَنَّد البعث جميع من كانوا خارج نظام العلاقات المباشرة والرعاية الأبوية(5) والقرابة الذي بُنَّى عليه النظام السياسي القديم" من الخطأ رد البعث أو الجيش إلى مجموعة طائفية واحدة ومع ذلك فإن نظام تجنيد الأعضاء الجدد في الحزب والجيش والمتميز بظاهرة التعاضد المتبادل أدى إلى تمثيل البعثيين العلويين في سلك كبار الضباط بنسبة أكبر. 

جاء حزب البعث إلى السلطة في 8 آذار 1963 بعد فترة مضطربة من الصراع الداخلي وتزاحم التنظيمات السياسية بالإضافة إلى المؤامرات العسكرية، ومع أن الضباط الذين تزعموا انقلاب 8 آذار كانوا ينتمون إلى عدة أحزاب قومية عربية فقد آل الزِمام إلى البعثيين، إذ تألف مجلس قيادة الثورة من اثني عشر بعثيا وثمانية من الناصريين المستقلين[5]. ومع مرور الوقت وبفضل سيطرتهم على المواقع العسكرية والأمنية المفتاحية دَعَّم البعثيون سلطتهم وأزاحوا منافسيهم، وبذلك نالوا نفوذاً يتجاوز إلى حد بعيد وزنهم السياسي في البلاد عموماً. وقد ظل حزب البعث فاعلاً سياسياً هاماً خلال عقد الستينيات، بوصفه صانعاً رئيسياً للقرار من جهة وأداة لترقية قيادة جديدة من السكان الريفيين من جهة أخرى. لقد انتهى نظام التعددية الحزبية القائم منذ 1946، واحتكر البعث السياسة بوصفه "الحزب القائد[6]. "عانى البعث منذ أوائل أيامه من نقص شرعيته السياسية، وكذلك من الانقسامات الداخلية العميقة النابعة من الطموح الشخصي ومن الانقسامات الإيديولوجية والدينية والعشائرية والمناطقية. في 1966 قامت عصبة من الضباط يقودها صلاح جديد وحافظ الأسد بتنحية للقيادة التاريخية للحزب ميشيل عفلق وصلاح البيطار, مما فاقم التوترات الحزبية الداخلية وأضحت الزُمَر الحزبية أدوات تنافس بين الضباط, و أخذت التحالفات داخل الجيش تأخذ أكثر فأكثر شكلاً طائفياً ومناطقياً, لقد انتقل مركز السلطة من المجال السياسي إلى الجيش أي إلى الضباط البعثيين وابتداءً من 1966 انتقل هذا المركز إلى الضباط العلويين الذين تسلموا مراكز قيادية في الجيش والحزب. لاحظَ أحد المراقبين أن من يمسكون بزمام السلطة "هم جزء ضئيل من أقلية سكانية, زمرة عسكرية صغيرة من حزب شبه مَيْت و بلا قاعدة شعبية"[7] . بحلول 1970 سيطرت الزمرة التي يقودها وزير الدفاع حافظ الأسد على جميع المواقع الهامة في الجيش و الفروع الأمنية. وفي تشرين الثاني قام الأسد بانقلاب عسكري ناجح أطلق عليه اسم "الحركة التصحيحية" في محاولة منه لوضع نفسه تحت عباءة الشرعية البعثية, كان هذا الانقلاب مَعَْلَماً بارزاً في مسيرة سيادة الجيش على الحزب، لكنه أيضاً دَشَّن مرحلة جديدة في تاريخ سورية الحديثة. فالأسد الناهض من صدمة حرب الأيام الستة 1967 اختط لنفسه طريقاً أكثر براغماتية يجعل من استعادة مرتفععات الجولان أولوية السياسة الخارجية, أما داخلياً فقد كانت فاتحة مرحلة استقرار لا سابق لها, عمادها جهد منهجي لبناء دولة ومؤسسات تتمحور حول سلطة الأسد الاستبدادية والشخصانية على عكس القيادة الجماعية السابقة. وهكذا بعد سنوات من الصراع داخل الجيش والبعث وبين الأحزاب السياسية أصبح الأسد ممثلاً "لحكم ممركز وطيد و مستقر"[8].

ب- بنية النظام السياسي

رُغم أن النظام السياسي قائم، من بعض الوجوه، على قاعدة طائفية ضيقة، إلا أنه يمثل قطاعات أوسع من ذلك بكثير، كما أنه مضبوط بمنظومة مؤسسات مُحْكمة, لقد بنى الأسد معتنياً بأدق التفاصيل تركيبة هجينة حقاً تعايش فيها الحكم المشخصن مع المؤسسات الحزبية ودولة شديدة التبنين من جهة؛ وقاعدة سلطة علوية عائلية شخصية ضيقة مع تحالف عريض وعقد اجتماعي متعدد الأديان من جهة ثانية؛ ثم أجهزة أمنية عسكرية معقدة وكلية الحضور مع حزب سياسي قوي وأدوات تَحَكُّم اجتماعي قديرة[9]. ولكن هذا النظام لم يتردد في اللجوء إلى العنف الوحشي للقضاء على المعارضة عندما رأى ذلك ضرورياً, لقد كان حكم الأسد "حكماً خارجاً من سبع سنوات من الصراع الدامي, ودعائمه كانت وسوف تظل الجيش والأجهزة الأمنية والحزب وآلات الحكومة"[10]. إلا أنه, وبالأهمية نفسها, جمّع حوله حشداً من المكونات الاجتماعية المؤيدة عبر تقديم فُرص اقتصادية واستمالة بعض القطاعات السكانية برعايتها وتعزيزها اجتماعياً عن طريق منظومة نقابية تضم المنظمات الشعبية والنقابات المهنية والنقابات, باختصار "كان تمثيل النظام للسوريين ككل ولقطاعاتهم الاجتماعية ولتوازن القوى الاجتماعي أكثر مما يُعْتَقَد بوجه عام"[11]. غير أن عناصر النظام المركزية، وخصوصاً المواقع الحساسة في الجيش والأمن ظلت بين أيدي العلويين، وبالتحديد بين أفراد "الكلبية" عشيرة الأسد. وأمسك العلويون بأبرز مفاتيح السلطة بشكل علني للمرة الأولى, بعد أن كان القادة العلويون في السابق يفضلون أن يظلوا في خلفية المشهد. واعتمد الأسد بشدة على "جماعة من الموالين لشخصه، أقرباءه في الغالب، فعيَّنهم في القيادات الحساسة للجيش و الأمن"[12]. غير أن هيمنة العلويين لم تكن شاملة فقد حرص الأسد على وضع أفراد من السُنَّة في مواقع عليا مثل وزيري الدفاع و الخارجية و نائب رئيس الجمهورية[13].

لم تقتصر الجهود المبذولة لاستمالة غير العلويين على مجرد إدماجهم في النظام, بل امتد إلى دعم الجماعات والقوى الاجتماعية غير العلوية، بما في ذلك الأقليات الأخرى (دروز, مسيحيين, إسماعيليين) ممن تمثل السيطرة العلوية لهم درءاً للهيمنة السنية، أضف إلى الأقليات سُنَّيو الريف الذين كانوا مستثنون تقليدياً من السلطة السياسية و الاقتصادية. وخلافاً للتقاليد الاشتراكية البعثية أعطى الأسد مجالاً أرحب للقطاع الخاص الذي تسيطر عليه النخبة التجارية الاقتصادية من سُنَّة المدن، وخصوصاً مدينة دمشق, ثم ازدادت اللبرلة مع إصدار قانون الاستثمار رقم 10 في أيار 1991, الذي منح حوافز مالية سخية للمستثمر الخاص المحلي والأجنبي[14].

ونتيجة لهذا الانفتاح الاقتصادي المحدود ومع نمو علاقات التواطؤ بين الدولة و قطاع الأعمال الخاص انحاز بعض كبار المقاولين إلى النظام, كما حاز كبار مسؤولي الدولة على موطئ قدم في القطاع الخاص, تمَّ ذلك غالباً عبر أبنائهم (أبناء المسؤولين)[15]. كان النظام واثقاً من تأييد هذه البرجوازية الجديد إلى حد أنه سمح لها بالتنافس على "مقاعد المستقلين" المخصصة لغير البعثيين في مجلس الشعب[16] . لكل ما ذكرناه نقول أن النظام كان على المستوى السياسي متمحوراً حول عقد علوي سني، وعلى المستوى الاقتصادي الاجتماعي حول ميثاق يشمل "الفلاحين المسلمين السُنَّة, الطبقة الوسطى الجديدة, العمال اليدويين, سكان المحافظات البعيدة. وعلى المرء أن يضيف إلى هؤلاء مليون بعثي مع عائلاتهم، فهؤلاء أيضاً موالون للنظام وسياسته"[17].

ساعدت المعونات المالية من دول الخليج والسعودية بشكل خاص النظام البعثي على توسيع قاعدة دعمه[18]. وقد تدفقت هذه المعونات خصوصاً بعد أن اصطفت سوريا إلى جانب الكويت والسعودية ضد العراق في حرب الخليج عام 1991، وقدمت جنوداً لقوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة[19]، كما أن عائدات النفط المرتفعة منذ أوائل التسعينيات أمنّت العملة الأجنبية التي تحتاجها سورية بشدة[20].

لقد طورت سوريا نظاماً شبه تشاركي (كوربوراتي)، مؤسسا على مثال علاقة راعي- تابع، مع شبكة واسعة من الفساد والولاءات الاقتصادية. فقد عزز النظام تشكيل عدد كبير من النقابات والاتحادات المهنية - فلاحين, عمال, معلمون, طلبة, فنانون,مهندسون الخ - والتي سرعان ما أصبحت أدوات للاغتناء الشخصي وللمراقبة السياسية في آن واحد.

سياسياً جمع النظام القمع القاسي والقبضة الأمنية الشديدة لأجهزة الأمن من جهة، مع هوس الالتزام بالإجراءات المؤسساتية والإيحاءات السياسية الرمزية. فإلى جانب البنية الشكلية للسلطة وبعد أن عزز حكمه أصرّ الأسد على مظاهر الشرعية عبر الالتزام بالقواعد الرسمية المتضمنة في الدستور مع رسم حدود واضحة بين سلطات الرئاسة والبرلمان والحكومة, وأنشأ الجبهة الوطنية التقدمية التي تضم حزب البعث والأحزاب الأخرى التي يُسمح لها بخوض الانتخابات[21]، إلا أن البعث كان يتمتع بميزات تفضيلية كبيرة، فمثلاً كان له وحده حق تنسيب الأعضاء في الجيش والجامعات.

منذ البداية كانت المعارضة الإسلامية التي يقودها الأخوان المسلمون أقوى خصوم الأسد, وكان للإسلاميين نفوذهم خاصة في المراكز الدينية السُنّية مثل حمص وحماه وحلب حيث كانت المقاومة لفكرة وجود زعيم علوي عسكري على أشُدِّها. وفي نهاية السبعينيات تحول الصراع إلى العنف، إذ قام الإخوان المسلمون وجماعات منشقة عنهم، مثل الطليعة الإسلامية، باغتيال أعضاء في حزب البعث وضباط علويين وشنوا عدة هجمات في دمشق وغيرها. وقد بلغت الأمور ذروتها عام 1982 مع الأحداث المأساوية في حماه[22] حيث واجه النظام بالقوة الوحشية الانتفاضة المسلّحة التي قادها الإسلاميون، وكان ثمن انتصار النظام باهظاً إذ يقُدر عدد القتلى بحدود 10-30 ألف، وهنا لم تعد الحركة الإسلامية تشكل تهديداً للنظام بعد أن فتك بها القتل والانقسام والمنافي (في أوربا والعراق والسعودية)[23]. إن أحد أهم أسباب هزيمة الحركة أنها اقتصرت على المدن السنية في الشمال. بينما ظل "سكان الريف السُنّة والأقليات وحتى سُنّة دمشق المدينة مؤيدين للنظام، أو على الأقل أحجموا حقاً عن العمل ضده"[24].

إثر فظائع حماه واجه الأسد تحدياً جدياً من أخيه رفعت الأسد الذي بدأ بالتآمر عندما سقط الرئيس مريضاً، وبعد صِدام مسلح بين سرايا الدفاع (55ألف جندي) من جهة والقوات الخاصة وبعض وحدات الجيش النظامي في شباط /آذار ،1984 رُقِّي رفعت الأسد إلى منصب رسمي رفيع هو نائب رئيس الجمهورية ثم طرد من سورية فيما بعد[25].

في أوائل الثمانينيات انتظمت معارضة لا دينية حول النقابات والأحزاب اليسارية تدعو إلى الإصلاح الديمقراطي كطريق ثالث بين الاستبدادية البعثية والإسلامية[26]، وفي النتيجة لم يتميز عقد الثمانينيات فقط بانتصار النظام على المعارضة (دينية أو علمانية) بل أيضاً بالاستخدام الفعال للقمع من أجل الحيلولة دون بروز خصوم محتملين آخرين، وفي هذه الساحة السياسية والأيديولوجية "الفارغة والممزقة ومنهارة المعنويات" استطاع الأسد أن يطرح نفسه "حَكَماً ومُنقِذاً" وحيداً للمجتمع[27]، وفي أواسط التسعينيات أصبح النظام قادراً على إزالة بعض الملامح الأكثر قمعية عن حكمه، فأطلق مجموعات من الموقوفين بمن فيهم أعضاء في الإخوان المسلمين.   

عند وفاته في 10 حزيران 2000 كان الأسد قد حكم سورية مدة ثلاثين عاماً، وتلك أطول من مدة حكم أي سَلَف له، وقد نجا النظام من تمرد إسلامي قوي وعصيان داخلي وتحمل انهيار حليفه السوفيتي والاتفاقات المنفردة التي عقدتها مع إسرائيل كل من مصر والأردن والفلسطينيين والأزمة الاقتصادية، هذا إذا لم نذكر التحديات الإقليمية الكثير من جهة إسرائيل والعراق وإيران ولبنان.

يتبــــع


[1] تقريرالمجموعة رقم 23: سورية في ظل بشارالأسد: التحديات السياسية الخارجية. 11 شباط 2004.

[2] راجع تقرير ICG  رقم 6  حول الشرق الأوسط Iraq backgrounder : What Lies Beneath  1تشرين الأول 2002 ص4-5

[3]  يشكل العلويون 12% تقريباً من عدد سكان سورية ويعيشون غالباً في السلسلة الجبلية الشمالية الغربية على امتداد ساحل المتوسط، وهناك روايات عدة حول أصولهم الدينية، أرجحها أنهم فرع من الشيعة الإثني عشرية راجع

H. Laust, Les Schism dans L’Islam (Paris,1977)       ص 147.

ظل العلويون لوقت طويل أقلية ريفية فقيرة معرضة لتمييز ونبذ بقية المجتمع السوري، وعندما أصبح حافظ الأسد رئيساً طلب مساعدة الإمام موسى الصدر وهو رجل دين شيعي بارز في لبنان ليشهد بأن العلويين مسلمون شيعة، وقد أفتى الصدر بذلك راجع Patrick Seale, Assad: The Struggle for the Middle East (1988)  ص 173

[4] Ma’OZ , Ginat and Winckler, “Introduction: The Emergence of Modern Syria” 

         في(1988) Modern Syria

[5] Raymond Hinnebusch”Party and Peasant in Syria” مقتطف في المرجع السابق، راجع أيضاً Middle East Review of International Affairs Eyal Zisser “Appearance and Reality”  أيار 1988

[6] Seale,Assad ص 78

[7]  (7)- بين عامي 1945-1963 شهدت سورية تنافساً سياسياً حاداً و نظمت عدة انتخابات تعددية باستثناء فترة الوحدة مع مصر 1958- 1961.

[8] ) Zisser, “Appearance and Reality” -  مرجع سابق.

[9] تضم الأجهزة الأمنية: "الأمن السياسي", "المخابرات العسكرية", و تنقسم إلى "فرع فلسطين" "فرع التحقيق" "فرع    المنطقة" "فرع القوى الجوية" و المخابرات العامة و تنقسم إلى "فرع التحقيق" "الفرع الداخلي" "الفرع الخارجي" و لكل من هذه الفروع مراكز تحقيق و سجون خاصة و تعمل باستقلالية شبه تامة عن النظام القضائي و الجزائي, قابلت مجموعة الأزمة الدولية محامين و نشطاء حقوق إنسان سوريين في دمشق, تموز 2003, و قد قدّر أحدهم عدد العاملين في قوى الأمن بما يعادل واحد لكل 153 من السوريين البالغين    راجع 

Alan George, Syria, Neither Bread nor freedom (London,2003),   ص2.

[10] Seale, Assad ص178.

[11] . Zisser, “ppearance and Reality”, op.cit

[12] Raymond Hinnebusch,Syria: Revolution From Above (New york,2001)  ص67.

[13] حسب  Zisser "60% تقريباً من الوزراء و أعضاء مجلس الشعب و أعضاء مؤتمر الحزب هم من السُنَّة و على العكس فإن الكادر غير الرسمي الحاكم يشهد على أن السلطة و الهيمنة الحقيقية بيد العلويين, فنسبة 90% من الضباط قادة التشكيلات العسكرية الرئيسة من العلويين و كذلك معظم ضباط النسق الأعلى في الأجهزة الأمنية"

. Zisser, “ppearance and Reality”

[14] Volker Perthes, The Political Economy of Syria under Assad (London,1995)  ص58.

[15] راجع Bassam Haddad: “The Formation and Development of Economic Networks and Their and Economic Reverberations in Syria”                                                                             Institional  وارد في تحريرSteven heydeman   الذي سيصدر قريباًNetworks of Privilege: The Politics of Economic Reform in The Middle East Palgrave_ St, Martin’s Press,                                                                   

[16] في عام1996 تم زيادة عدد مقاعد المجلس من 165 إلى250 للسماح بدخول غير الحزبيين, و كان معظمهم من رجال الأعمال الناجحين الجدد, و ظل ثلثي المقاعد محجوزاً للبعث و الأحزاب المعترف بها رسمياً.     

[17] راجع مقالة أصلان عبد الكريم: "النظام الشمولي"، في كتاب أصدرته اللجنة العربية لحقوق الإنسان بعنوان "حقوق الإنسان و الديمقراطية في سورية" (باريس، 2002).

[18] - مصدر مذكور: Hinnebusch: Syria، حيث يصف المؤلف سوريا بأنها "دولة شبه ريعية".

[19] تُقدر المعونات التي تلقتها سورية من بلدان الخليج مباشرة في أعقاب الحرب بين 2 إلى 3  بليون دولار أمريكي. راجع

      Eyal Zisscr,Assad’s Legacy : Syria in the Transition (London, 2001)؛ ص190-191.

[20] مع ارتفاع سعر النفط الخام إلى أعلى مستويات وصلت صادرات سورية النفطية عام 1996 إلى 353 ألف برميل يومياً. انظر OAPEC,http://oapecorg/images/DATA/.

 

[21] تأسست الجبهة الوطنية التقدمية عام 1972، وضمت خمسة أحزاب، وكانت جميعها باستثناء الحزب الشيوعي تنتمي إلى التيار القومي العربي في صورته البعثية والناصرية. ومع أن دستور 1973 منح هذه الأحزاب دوراً قيادياً رسمياً في البلاد فقد ظلت عموماً تابعة لحكم الأسد، وأدت التبعية للبعث إلى خلافات وانقسامات، فانضم جناح جمال الأتاسي من الإتحاد الاشتراكي العربي الناصري إلى صفوف المعارضة فوراً، ثم انضم إلى المعارضة جناح من الحزب الشيوعي (أُطلق عليه اسم المكتب السياسي) بقيادة رياض الترك، وفي عام 1980 تم اعتقال معظم قيادة الحزب الأخير، بمن فيهم رياض الترك نفسه.

[22] يمكن الاطلاع على تحليل مفصل لأحداث حماه وما أدى إليها في:

HansG, Lobmeyer, Opposition und Widerstand in Syrien, ( Hamburg 1995).       

[23] حول دور الإسلاميين في هذه الأيام انظر أدناه الفقرة III .ب.1

[24] مصدر سابقZisser, Assad’s Legacy,  

[25] عام 1992 عاد رفعت الأسد إلى سورية ليقوم بنشاطات تجارية، ثم حدثت صدامات مسلحة عام 1999 بين الموالين له وقوات الأمن في ميناء اللاذقية فعاد إلى لندن عقب ذلك راجع مصدر سابق ص115 Alan George, Syria 

[26] عام 1980 دخلت النقابات المهنية بقيادة نقابة المحامين إلى الساحة السياسية بدعوتها إلى إنهاء الأحكام العرفية المفروضة منذ 1963 وإلى تأسيس نظام يقوم على حكم القانون والتعددية الحزبية، ورداً على ذلك عمد النظام إلى حل المجالس التنفيذية المنتخبة واعتقال قادتها ثم استبدلها بمجالس من البعثيين. وتزامن مع ذلك تحالف الحزب الشيوعي، المكتب السياسي بقيادة رياض الترك مع حزب جمال الأتاسي في التجمع الديمقراطي وقدموا مطالب شبيهة لمطالب النقابات، وأيضاً رد النظام باعتقالات طالت معظمها قيادات وكوادر الحزب الشيوعي، المكتب السياسي.  

[27] B . Ghalioun,  “La  fin  de la   `revolution’  baasiste”,Confluences M éditerranée

N°44. Winter  2002-2003-        ص 13. 

 

  السابقأعلى الصفحة

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ