ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأحد 19/07/2009


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

كتب

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


كتاب ـ أوروبا ومستقبل العالم

تأليف :ميشيل فوشيه*

الصفحات: 267 صفحة

عرض ومناقشة : د. محمد مخلوف

الناشر: أوديل جاكوب ـ باريس ـ 2009

الاتحاد الأوروبي ينطلق في غياب الوعي الحدودي

كانت أوروبا باستمرار جزءا من العالم، ولكن الأوروبيين تجاهلوا بقية العالم في عصر نهوضهم القائم على ثالوث «السلام والديمقراطية والازدهار الاقتصادي». لكنهم مدعوون اليوم، بعد انهيار جدار برلين وفقدان الثقة بالمركز الأميركي، إلى المساهمة بقيام عالم يقوم على التعاون والتوافق على غرار النموذج الذي يمثله الاتحاد الأوروبي نفسه.

وبعد أن يستعرض مؤلف الكتاب ما شهده عام 1989 من أحداث كبرى، جعلته منعطفا له تأثيره على المسيرة الأوروبية نفسها، يؤكد على أهمية ما حققته القارة على صعيد مسيرة توحيدها. هذا مع الإشارة إلى ما خلقه توسيع إطار الاتحاد الأوروبي من إحساس بالقلق السياسي، وحيث أن البحث عن إعادة التوازن بين فرنسا وألمانيا لا يزال جاريا. ومثل هذا التوازن يبدو حاسما من أجل إمكانية اتخاذ قرارات أوروبية مشتركة حيال قضايا العالم الكبرى. لكن يبقى الاتحاد الأوروبي وآليات عمله واتخاذ القرارات فيه نموذجا له أهميته على صعيد العالم كله. عرّفت أوروبا نفسها منذ القديم بأنها إحدى مناطق العالم المعروف. حيث لم تكن في أي يوم من الأيام سوى جزء من هذا الكوكب، وهكذا رسمها الجغرافيون وواضعو الخرائط باستمرار.

لكن مع النهوض الذي عرفته القارة، بعد عصر النهضة والثورة الصناعية، وعلى قاعدة ما يسميه مؤلف هذا الكتاب ب«الثالث المؤسس» المؤلف من ثلاث ركائز هي «السلام والديمقراطية والازدهار» تمركز اهتمام الأوروبيين على أنفسهم، وأهملوا لفترة طويلة العالم الذي يحيط فيهم وما يدور فيه من أحداث. وبعد عام 1989 وانهيار جدار برلين، أدرك الأوروبيون أن نجاحهم يمارس قوة جذب كبيرة لأولئك الذين يعيشون في البلدان المحيطة بهم، وأنهم يريدون الانضمام إليهم. بالتوازي مع هذا بدا المجال الجغرافي الأوروبي مشوشا وحدود أوروبا غير معرّفة بدقة. ويتنامى لدى الأوروبيين اليوم الإحساس بأنهم يعيشون في عالم يتبدّل بسرعة، بل ويشكل مصدرا للتهديد. بالتوازي مع هذا بدا المرجع الأميركي الكبير بفقدان الثقة فيه، إلى جانب فقدان الثقة بالاقتصاد المفتوح وفضائله.

 

اوضاع مستعصية

ويعود المؤلف بقارئه إلى عام 1989، أي عام انهيار جدر برلين، كي يذكّر بسلسلة من الأحداث التي جرت خارج القارّة الأوروبية وأدّت إلى أوضاع لم تزل مستعصية على الحل بعد مرور عقدين من الزمن. ففي منتصف شهر فبراير ـ شباط من تلك السنة ـ 1989 ـ أكملت القوات السوفييتية انسحابها من أفغانستان بأوامر من ميخائيل غورباتشوف، وبدأت القوى المناوئة للسوفييت، والمدعومة خاصة من الولايات المتحدة وباكستان، بهجمات على كابول خلال سنتين كاملتين. وبدت حركة طالبان كسلطة بديلة لدولة غائبة. بنفس الوقت كان لا بد من الشروع بمفاوضات معها. لقد كانت هناك قوات أوروبية في أفغانستان، لكنها لم تكن تمتلك أية رؤية واضحة عما ينبغي عليها أن تفعله.

وفي شهر يونيو من نفس السنة ؟ 1989- سحقت دبابات الجيش الشعبي الصيني المتظاهرين فيما عُرف ب«ربيع بكين»، عندما كانوا يتظاهرون احتجاجا في ساحة بوابة السلام السماوي بالعاصمة الصينية. وقرر الحزب الشيوعي الصيني آنذاك «تمييع» موجة الاحتجاج عبر تشجيع نموذج للنمو الاقتصادي المتسارع. ولا يشك أن هذا المزج بين النجاح الاقتصادي والنظام التسلطي يمارس قوة جذب كبيرة على العديد من الحاكمين في العالم الثالث، ولكن أيضا على المستثمرين الأوروبيين والأميركيين.

باختصار غدت الصين «طرفا» صعبا بالنسبة للجميع، وهي الوحيدة التي تتجرأ على طرح أسئلة علنا جول صلابة المنظومة الاقتصادية الأميركية. وينقل المؤلف عن «وين جياباو»، رئيس الوزراء الصيني تصريحه للنيويورك تايمز بتاريخ 14 مارس 2009 أنه «قلق» حيال الاستثمارات المالية الصينية في الولايات المتحدة. هذا دون التطرّق لدور المشتريات الصينية لسنوات الخزانة الأميركية حيث يقوم النمو الاقتصادي على الاستدانة وما لذلك من آثار سلبية على الصادرات الصينية.

وفي شهر سبتمبر من نفس السنة ـ 1989 ـ أعلن رئيس جمهورية جنوب إفريقيا آنذاك فريديريك دو كليرك الذي كان قد جرى انتخابه قبل فترة وجيزة، عن إلغاء نظام التمييز العنصري الذي كان سائدا في البلاد منذ عقود طويلة. وأصبح الإلغاء نافذا بعد عامين من ذلك الإعلان. لقد انتصر النهج الذي كان يجسده نيلسون مانديلا، ابن البلاد، على «الشرعية» التي كانت حكرا على البيض لفترة طويلة وحيث كانوا قد سيطروا تماما على البلاد. كان ذلك النجاح الديمقراطي سابقة ليس لها ما قبلها على صعيد القارة الإفريقية. وقد ساهم في تغيير صورة إفريقيا التي أصبح ورثة مانديلا يمثلونها في جميع المحافل الدولية.

ويشير المؤلف في هذا السياق إلى انطلاق مشروع «شبكة الانترنت» العالمية اعتبارا من شهر مارس 1989. وكان ذلك بمثابة نقطة تحوّل جذري بالنسبة للاقتصاد العالمي حيث أن تكنولوجية جديدة سمحت للشركات والمؤسسات «التحرّك» على صعيد العالم كله «فوريا» وسمحت للأفراد بالاعتقاد أنهم أحرار ومستقلّون. ولا يتردد المؤلف في القول أن التواصل الإلكتروني، عبر الانترنت، بشكل اختراعا ثوريا لا يقل أهمية عن اختراع الآلة التجارية.

تلك الأحداث والمستجدات كلها التي عرفها عام 1989، كان لها آثارها على مسار الأمور في أوروبا. وخلال عقدين من الزمن 1989-2009 «جعلت بالطبع من أوروبا غير تلك التي كنا نعرفها قبل نصف قرن من الزمن. لقد كانت تابعة في الأمس للقوتين العظميين ؟ الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي- وها هي ستدخل من جديد، مثل الذين يدخلون إلى بيوتهم، في تاريخها وفي جغرافيتها»، كما ينقل المؤلف عن الرئيس الفرنسي الأسبق الراحل فرانسوا ميتيران في رسالته المتلفزة للفرنسيين في 31 كانون الأول 1989 بمناسبة تمنياته لهم بالعام الجديد.

لقد أطلق ميتران يومها، كما ينقل المؤلف أيضا عن تعليقات المحللين، فكرة قيام كونفيدرالية ـ اتحاد ـ أوروبية تسمح بتجسيد المجال الأوروبي داخل مؤسسة تقوم على الحوار والتعاون وتضم جميع الأمم الديمقراطية في القارة. وكان يرى في ذلك الوسيلة الأفضل بالنسبة لأوروبا كي تحصّن نفسها من انبثاق النزعات القومية، التي كانت تبدو بعض ملامحها في منطقة البلقان شكل خاص، كما تحصّن نفسها من نزعة عدوانية تقوم في روسيا على أنقاض الإمبراطورية السوفييتية.

وعلى مدى عقدين تاليين، غيّرت المجموعة الأوروبية من طبيعتها، وحققت القسط الأكبر من بناء نفسها، ولا تزال تتابع توسيع إطارها. لكن هذا يتم على خلفية نوع من «عدم الوعي الحدودي» والذي يشكل، برأي مؤلف هذا الكتاب، عاملا أوّليا في عدم الثبات السياسي. وتجد أوروبا الموحّدة صعوبة في إعادة تعريف «تداخلاتها» مع روسيا الصاعدة وفي تحسين تعاونها مع الولايات المتحدة حول الملفات المشتركة.

 

هزة حقيقية

وتعاني أوروبا فيما بعد فترة الحرب الباردة من هزة حقيقية بسبب عملية إعادة التوازن الجارية بين الدولتين الأساسيتين في مسيرة التوحيد الأوروبي، أي فرنسا وألمانيا، ذلك أن إعادة توحيد شطري الأمة الألمانية اعتبارا من شهر نوفمبر 1990 كان لها آثارها على توازن أوروبي كان لصالح أوروبا حتى ذلك التاريخ.

وينقل المؤلف في هذا الإطار عن وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، جان فرانسوا بوشيه، قوله في عام 2008: «إن مشكلة التوازن الصعبة بين فرنسا وألمانيا تشكّل بنظري المسألة المركزية في البناء الأوروبي منذ البداية». كما يعرب الوزير الفرنسي السابق في نفس السياق عن قلقه من تزايد «هوة الحيوية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي والصحة المالية» بين فرنسا التي تجد صعوبات في القيام بإصلاحات وفي استعادة الثقة بنفسها وبين ألمانيا طليقة اليدين وخرجت من «ثقافة التحفظ» التي كانت مفروضة عليها.

 

ولا يتردد مؤلف هذا الكتاب في القول أن التوازن الصعب بين فرنسا وألمانيا يزيد من تعقيد إمكانية اتخاذ مواقف مشتركة تفرضها معالجة التحديات العالمية. وهذا يتطلب البحث عن أفق جديد للمسار الأوروبي وحيث أصبح مثل هذا الأفق ضرورة ملحّة أكثر فأكثر. ذلك أنه ليست هناك أية دولة أوروبية تمتلك إمكانية النجاح في التحرك وحدها فيما يخص التعامل مع القضايا الدولية.

 

ما يحاوله المؤلف هو إيجاد الرابطة بين الماضي الأوروبي وبين مستقبل الأوروبيين اليوم القلقين حيال هذا المستقبل. لكنه يؤكد بنفس الوقت أن أشياء وإنجازات هامة جرى تحقيقها على صعيد القارة خلال العقدين المنصرمين مما ينبغي أن يعزز الثقة بالنفس. الشرط الأول لهذا يحدده في إعادة الاعتبار للوعي التاريخي ولكن أيضا في رؤية الأوروبيين لمصيرهم كمجموعة من الأمم لها وزنها في توجيه مسيرة العالم.

ويفتح المؤلف هنا قوسين ليشير إلى أن الأوروبيين يواجهون عالما تحكمه خاصة موازين القوى فيما يبدو كسحلبة» تشهد المنافسات والمعارك، بينما أن الأوروبيين يتبنّوه مفهوم «المنتدى» بما يعرفه من نقاش مفتوح ومن التزامات تقوم على «القبول التعاقدي». كما يؤكد أن الأوروبيين قد نجحوا في أن يقيموا على قسم كبير من المجال الجغرافي الأوروبي علاقات جوار تقدم على التأمل المتعقل وعلى المواجهة الديمقراطية.

 

المستقبل والوعي

وبعد التأكيد على القيمة الكبيرة لما حققه الأوروبيون من مكتسبات، يشير المؤلف إلى أن تجربتهم الديمقراطية منعتهم غالبا من رؤية واقع أن العالم يسير حسب نمط آخر، وبالتالي «دون التخلّي عن المكتسبات، علينا مع ذلك القبول في النزول إلى الحلبة»، كما نقرأ، ولكن دون التخلّي عن مفهوم «المنتدى»، والسبيل الأفضل لتحقيق ذلك يتم تحديده في تشجيع المفاوضات المستمرة على الصعيد العالمي وبين القوى الفاعلة الكبرى في اتخاذ القرارات الدولية.

وما يتم تأكيده أيضا هو أنه لا يمكن لأوروبا «الجديدة» أن تقتصر على تأمين الحماية وتكوين مجموع مُغلق. وبالتالي ينبغي عليها أن تقدم إجابات على أسئلة جوهرية مثل: كيف يمكن لأوروبا أن تتحرك في عالم تحكمه مصالح جيوسياسية وطنية خاصة كبرى بينما أن الاتحاد الأوروبي ليس دولة ولا أمة؟ وكيف يمكن التأثير على قوى تميل إلى ممارسة علاقات القوة أكثر من ميلها للبحث عن مصالحات؟ باختصار كيف يمكن لأوروبا أن تؤثر دون أن تهيمن؟

ويركز المؤلف على القول أنه في مواجهة ما يشهده العالم اليوم من أخذ البعد الاقتصادي وحده في الاعتبار ونفي أهمية التاريخ والجغرافيا، يمكن للاتحاد الأوروبي بما يمتلكه من ثقافة التوفيق بين منظورات وطنية متباينة في الرؤية ومن ممارسة اتخاذ القرارات بالمشاركة أن يقدم نموذجا تعاونيا قد يجذب الآخرين ويكون له وزنه في التأثير على مسار التاريخ. وهذا بالتحديد، كما يؤكد المؤلف، ما ينتظره الأوروبيون من الاتحاد الأوروبي. هذا شريطة الاتفاق بطريقة واقعية ومستدامة على مجموعة من المصالح الأوروبية المشتركة والمحددة بوضوح. لكن لن يمكن تشجيع الآخرين للاقتراب من «نمط العيش الأوروبي» دون أن يمتلك الأوروبيون أنفسهم جرعة قوية من معرفة ما يجري في العالم ودون إرادة التأثير على مساره.

ويرى المؤلف في محصلة هذا النهج من التحليل أن المستقبل السياسي للاتحاد الأوروبي مرهون بتحركه كمجموعة جيوسياسية واعية وكمركز سلطة متقدم ومجدّد في عالم المراكز المتعددة الذي يتشكّل. إن العالم بحاجة إلى «حلم أميركي جديد»، كما يقال أحيانا، أفلم يحن الوقت الذي يقتنع فيه الأوروبيون بتفرّدهم وبصلاحية نموذجهم وأن يصيغوا أنفسهم صورة للعالم؟ كما يتساءل المؤلف.

*     *     *

الاتحاد الأوروبي تنقصه هوية جيوسياسية قوية

في الأول من مايو 2004، فتح الاتحاد الأوروبي ذراعيه لانضمام عدة دول جديدة إلى عضويته، أغلبيتها من أوروبا الشرقية والوسطى. كان ذلك تحولاً تاريخياً بالنسبة لبلدان النصف الشرقي من القارة.

ولفكرة أوروبا الموحّدة رؤيتان، إحداهما من داخل أوروبا والثانية من خارجها. من الداخل يرى الأوروبيون أن انهيار جدار برلين فتح الطريق أمام «إعادة توحيد أوروبا» وتعزيز السلام والديمقراطية والازدهار الاقتصادي فيها. فهذه القيم تبدو للجميع بمثابة «مكتسبات»، كما تدل مجموعة من استطلاعات الرأي التي أجريت في شهر ديسمبر 2008. ومن الخارج يجسد الاتحاد الأوروبي بنظر الصين والهند، البلدين العملاقين، نموذجاً للتكامل الاقتصادي الإقليمي والمجال الحضاري القديم والمتنوع، وأنه بكل الحالات يتمتع بقدر كبير من الاستقرار والازدهار ويمكن التعامل معه كشريك، ذي مصداقية، من أجل تطوير النظام الدولي نحو التعددية القطبية. لكن هل يجسد الاتحاد الأوروبي قيماً أوروبية أو أميركية أو غربية؟ البحث مطلوب في خصوصيات القيم الأوروبية.

يوم السبت الموافق الأول من مايو 2004، احتفلت ليتوانيا بانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. عانق رئيس جمهورية هذه البلاد بانفعال كبير سفير فرنسا في بلاده اعترافاً بالجهود التي بذلها أثناء المفاوضات للانضمام. لم يكن ذلك السفير سوى مؤلف هذا الكتاب الذي يروي ذلك. كان لانضمام ليتوانيا إلى الاتحاد الأوروبي بُعداً تاريخياً، لم يكن يخفى على أحد، بعد ما كانت قد عرفته من آلام في مسيرة تاريخها الذاتي.

كما شكّل انضمام ليتوانيا للاتحاد الأوروبي بوّابة مفتوحة نحو الجنوب. لكن رغم هذا كله لم يلق الحديث في فرنسا سوى القليل من الحماس، بل وتحدثت وسائل الإعلام بأغلبيتها وكأنه «ليس حدثاً على الإطلاق». كانت المسألة الحقيقية المطروحة في أفق استكمال البناء الأوروبي هي معرفة مّا إذا سيكون «اجتماعياً»، بمعنى المحافظة على المكتسبات الاجتماعية بل وتعزيزها، أو أنه سيكون «ليبرالياً» يخضع أولاً وأساساً لقوانين السوق. أما ذلك التحول الجيوستراتيجي الذي عرفه آنذاك النصف الشرقي من القارة الأوروبية فقد بدا وكأنه لا علاقة لبلدان أوروبا الغربية به. مع ذلك هل يمكن استعادة الثقة بالنفس في العالم «القاسي» القائم دون الإيمان بوحدة المصير الجماعي؟ يتساءل المؤلف. ثم يؤكد أن إحدى الرهانات الحقيقية للاتحاد الأوروبي ليست في أن يكون له رئيس «يمثله» على صعيد الخارج، ولكن بالأحرى أن يكون له رئيس «يمثّله» على صعيد الداخل. ثم إن مثل مجموعة هي بحاجة لمن «يمثّلها».

 

أوروبا من الداخل

إذا كانت أوروبا هي نتاج تاريخ يميّزها عن باقي أجزاء العالم الأخرى، فإن مشاعر الانتماء إلى مجموعة سياسية، إلى أوروبا الموحّدة التي أخذت في عام 1992 تسمية الاتحاد الأوروبي، هي نتاج عملية إدراك بطيئة وعمل على الذات.

ثم إن الفكرة الأوروبية المعاصرة تمثّل صدى لمسيرة طويلة الصيرورة. إنها ثمرة قرار جماعي إرادي للتشارك بين بلدان ذات نظام ديمقراطي وتشترك في بعض القواعد وتدير تنافس المصالح بينها أو تنافس الثقافات السياسية بـ «طريقة متحضّرة»، أي دون اللجوء إلى النزاعات.

بالطبع لا يتم إرغام أحد للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لكن هذا لا يمنع واقع أن قوة جذب هذا المجموع «الفريد» كبيرة، مما دفع أعضاء جدد للانضمام. وبدأ الأمر بالنسبة لهؤلاء الأعضاء وما ترتب عليه من تبدلات جيوستراتيجية وكأنه «عودة إلى أوروبا» وكـ «قطيعة» مع الاتحاد السوفييتي السابق ومعسكره الإيديولوجي، أي الماركسية ذات الأصل «الأوروبي» هي نفسها.

وعندما انهار جدار برلين انتهت عملية «العزل» بين شطري القارة وبدأ التقارب مع الغرب الأوروبي الذي بدأ مسيرة توحيده منذ اتفاقية روما عام 1957.

وتتمثل عوامل الدفع نحو التوحيد الأوروبي على صعيد الداخل بقيم السلام والديمقراطية والازدهار الاقتصادي، كما يحدد المؤلف، مشيراً إلى تعارضها «واقعياً» مع الوضع في الشرق الأوروبي. هكذا مثّل الانضمام للاتحاد الأوروبي مسعى لمتابعة المصالح الوطنية بوسائل المشاركة.

وكل عضو في «المنتدى» الأوروبي يتحدث باسم أمّته ايرلندا وجدت في بروكسل ـ مقر المفوضية الأوروبية ـ أفضل السبل والوسائل للخروج من المواجهة مع لندن والحصول على «رؤية» ما يجري في ايرلندا الشمالية.

واسبانيا والبرتغال واليونان استطاعت تعزيز تحوّلها الديمقراطي. أما المملكة المتحدة ـ بريطانيا ـ فإنه لها موقع فريد في أوروبا من حيث إنها المنتصر الوحيد في الحرب العالمية الثانية ولم تجد في المشروع الأوروبي ما يزيد من رفعتها الوطنية.

لكن هذا كله لم يمنعها من الالتحاق أخيراً بالحركة العامة منذ أن أثبتت فاعليتها. صحيح أن بريطانيا تتمتع ببعض «الاستثناءات» لكنها ذات نفوذ داخلي حقيقي على أصحاب القرار الأوروبيين وعلى الإشكاليات المطروحة. بالنسبة للدول «الحيادية» فإنه لم يكن أمامها خيار آخر سوى التأقلم مع نهاية الحرب الباردة.

بعد عام 1989 ظلت القيم المؤسسة مرجعيات مهمة بالنسبة للرأي العام الأوروبي الذي يعتبرها مكتسبات. ويشير المؤلف إلى استطلاعات للرأي، جرت في شهر ديسمبر من عام 2008، أظهرت أن 65 بالمئة من الأوروبيين يرون أن انهيار جدار برلين صبّ في فائدة الاتحاد الأوروبي وأن 52 بالمئة يرون أنه صبّ في مصلحة بلدانهم.

ودلّت نسبة 63 بالمئة من مواطني البلدان الأوروبية التي كانت في إطار الكتلة السوفييتية على قناعتهم بجني الفوائد بعد انهيار جدار برلين مقابل 49 بالمئة لدى مواطني بلدان الاتحاد الأوروبي الـ 15 الأولى.

وبالإجمال تدل الإحصائيات المقدّمة إلى أن 48 بالمئة من مجموع الأوروبيين يعتقدون أن توسيع الاتحاد الأوروبي بعد انهيار جدار برلين قد عزز مسيرة الاتحاد، هذه مع الإشارة إلى أن 59 بالمئة من هؤلاء هم من بلدان الدول الأعضاء الجديدة مقابل 44 بالمئة لدى «القدماء».  

 

أوروبا من الخارج

إن وجود «هوية» سياسية أوروبية يبدو واقعاً لا شك فيه، عندما تتم ملاحظته من بعيد. في آسيا عموماً يمثّل الاتحاد الأوروبي «مجالاً حضارياً» قديماً متغيّر المحيط، ومجموعاً ثقافياً ونموذجاً للتكامل الاقتصادي الإقليمي المتقدم الذي يسمح بتجاوز التباينات السياسية. لكن تنقصه هوية جيوسياسية قوية في مواجهة الولايات المتحدة وبنفس الوقت في مواجهة الهند والصين أيضاً. لكن بكل الحالات لا يتم النظر إلى تركيا وإلى روسيا أنهما تشكلان جزءاً من أوروبا.

ويطرح المؤلف في هذا السياق السؤال التالي: ماذا يتم تعليمه حول أوروبا في معهد الشؤون الخارجية للشعب الصيني في بكين؟ ويجيب أن كل حديث حول هذا الموضوع يبدأ بالتذكير بالانهيار الصيني ما بين 1840 ـ 1949 تحت ضربات التدخلات الإمبريالية ثم الحرب اليابانية والخروج من العزلة منذ عام 1978. إن المفهوم الصيني عن أوروبا يميّز بين الماضي والحاضر.

أوروبا الأمس يتم وصفها على أنها القارّة الأكثر تقدماً على صعيد الإنجازات العلمية والحداثة الثقافية واختراع الأفكار والمبادئ، ولكن أيضاً كقاعدة للسلطات الإمبريالية ذات الطموح العالمي.

أما المفهوم الصيني المعاصر لأوروبا فيرى فيها قوة كبرى في المنظومة الدولية وكمجموعة يسود فيها الأمن والازدهار وشريك تجاري من الصف الأول وقوة استراتيجية تدفع نحو التطور المؤدي لقيام نظام عالمي متعدد الأقطاب.

وبالإجمال يرى الصينيون أنه يمكن التعامل مع الاتحاد الأوروبي رغم بعض مواقفه الإيديولوجية «العدائية» مثل الموقف من التيبت وقضايا حقوق الإنسان. كما يرى الصينيون في أوروبا عاملاً في تطوير نظام مالي لا يزال تحت سيطرة الولايات المتحدة.

وتؤكّد الرؤية الهندية لأوروبا الموحدة على أنها مصدر يمكن الاستلهام منه في ميدان التكامل الاقتصادي الإقليمي في جنوب شرق آسيا وفي ميدان العكلة الموحّدة التي ينبغي على بريطانيا تبنّيها. ثم إن تشكّل سوق داخلية يمكن أن يخدم كمرجعية لاتحاد عندي «ممكن».

ثم إن انضمام أعضاء جدد يعطي لأوروبا صورة قريبة (27 دولة و24 لغة رسمية) من صورة اتحاد هندي شديد التنوع هو الآخر. ويتم وصف الاتحاد الأوروبي في الهند على أنه ثاني ديمقراطية في العالم، بعد الديمقراطية الهندية.

ويصل المؤلف إلى القول ان المفهومين السابقين لأوروبا «من الخارج» يستحقان الاهتمام والتمعن حيث إنهما يصدران من بلدين عملاقين كالصين والهند. وهما يؤكدان كليهما، على الاستمرارية التاريخية الطويلة وعلى البعد الثقافي. وبكل الحالات يبدو من الغريب لدى الصينيين والهنود أن يعاني الأوروبيون من نقص بالثقة بالنفس.

 

قيم مراوغة

يمكن توصيف فرادة قيم النموذج الأوروبي من حيث ما تحتوي عليه من عقلانية وعدالة وديمقراطية وحرية فردية وعلمانية وتسامح، كما ينقل المؤلف عن المفكر تزفتان تودورون. ثم يضيف لها مكانة الفكر النقدي ونزعة الشك التي تمثل فضيلة فلسفية تجعل الأوروبيين غير راضين باستمرار عن حالة الأمور القائمة، هذا على عكس الأميركيين.

ويتمتع الاتحاد الأوروبي بهوية «متحركة» ومتجددة كما أثبتت خلال العقدين الأخيرين المنصرمين، وذلك خاصة في التنوع أكثر عبر شعوب جديدة ولغات جديدة وذاكرات مختلفة. بكل الحالات يبقى الرهان الأساسي، كما يتم تقديمه، هو الانفتاح على الآخرين، إذ ليس هناك بناء أوروبي يستجيب لتطلعات المواطنين الأوروبيين دون بذل جهود لمعرفة تاريخ الآخرين وثقافتهم.

وتبيّن استطلاعات رأي حديثة العهد أن 61 بالمئة من الأوروبيين يقولون بوجود مجموعة من القيم الأوروبية المشتركة بالقياس إلى القارات الأخرى. لكن هذه النسبة تنخفض إلى الثلث بالقياس إلى القيم الغربية مقابل 44 بالمئة يؤكدون عدم وجود قيم أوروبية مشتركة ولكن قيم غربية شاملة. ومن الملاحظ أن الدول الأوروبية الشرقية والوسطى، الشيوعية سابقاً، هي الأكثر تمسّكاً بخصوصية القيم الأوروبية على عكس الفرنسيين والبلجيكيين والهولنديين والسويديين والألمان.

ومن وجهة نظر الأميركيين يسود الشك حول خصوصية القيم الأوروبية التي يتم وصفها أنها تشترك مع قيم مجتمع أميركا الشمالية، أي الولايات المتحدة وكندا، وأنها غربية صرفة خاصة على صعيد المجال السياسي.

ويتم النظر إلى الاتحاد الأوروبي بعد عام 1989 على أنه الوجه الآخر لميدالية وجهها الآخر هو الحلف الأطلسي. مع ذلك يصطدم تعريف أية هوية سياسية أوروبية حديثة منذ البداية وعند كل عملية توسيع لإطار الاتحاد الأوروبي أو عند نشوب أية أزمة كبرى، بصعوبة تحديد الموقع بالعلاقة مع الولايات المتحدة.

وتبدو مشكلة تحديد الموقع الأوروبي حيال أميركا أكثر وضوحاً منذ انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة، حيث ان الدعوة ملحّة للتقارب أكثر مع الحليف الأميركي.

ولا يتردد الرئيس الأميركي الجديد في تكرار القول ان مفهوم الآباء المؤسسين لمسيرة التوحيد الأوروبي مستلهم من تجربة قيام الولايات المتحدة. بالتالي هل محكوم على الحلم الأوروبي أن يبقى حلماً أميركياً؟ يتساءل مؤلف هذا الكتاب ويضيف سؤالاً آخر: هل ينبغي شطب الماضي الأوروبي نهائياً؟

*     *     *

رؤيتان أساسيتان تحكمان الحدود المستقبلية لأوروبا

هناك رؤيتان أساسيتان للحدود التي يمكن أن يصل إليها الاتحاد الأوروبي. رؤية تقول بالتوسع الكبير، بحيث يضم تركيا ومختلف بلدان المجال المشمول بمجلس أوروبا البالغ عددها 47 دولة، بل وأبعد من ذلك، وهذه الرؤية يدعمها بشكل خاص الأميركيون، كما بدأ من سياسة الإدارات المتعاقبة، وذلك في أفق إحكام الحصار على روسيا، المستثناة وحدها من «البناء الأوروبي الموحّد».

ورؤية ثانية تؤكد على ضرورة إيجاد حدود معرّفة مسبقا، وتضم بلدان القارة الديمقراطية، وهذه الرؤية تستثني بشكل أساسي كلا من تركيا وروسيا. ذلك على أساس أن الجغرافيا والتاريخ يشكلان العنصرين الحاسمين في عملية التوحيد. مثل هذا الموقف يبدو بوضوح في بلدان أوروبية أساسية مثل فرنسا وألمانيا ويدعمه عامة معسكر اليمين الأوروبي. وهناك رؤية وسط بين الرؤيتين تؤكد على إقامة «شراكات» مع دول المحيط الأوروبي على أساس مفاوضات وصيغ يتم القيام الاتفاق عليها. في 30 يونيو 2005، شهدت مدينة واشنطن الاجتماع الثالث لمجموعة من مراكز البحث حول الاستراتيجية الأطلسية. كان ذلك بعد عدة أسابيع فقط من رفض الفرنسيين وبعدهم من الهولنديين التصديق باستفتاء شعبي عام على مشروع الاتفاقية الدستورية الأوروبية (الدستور الأوروبي).

دعا مؤلف هذا الكتاب المجتمعين يومذاك إلى أن يأخذوا في الحسبان الضغوط السياسية الجديّة، التي يعاني منها الأوروبيون، حيال متابعة التوسيع المستمر لحدود الاتحاد الأوروبي. وقد ردّ عليه بعنف بيتكرن جاكسون، المحامي المتحمس لحصار روسيا عبر التوسيع المستمر للحلف الأطلسي باتجاه الشرق وضمّ تركيا واوكرانيا وبلدان القوقاز سريعا إلى الاتحاد الأوروبي. وجاكسون هو، كما يقدمه المؤلف، من مؤيدي الحرب الأميركية على العراق وأحد مصادر إلهام مفهوم «أوروبا الجديدة» وصاحب الصوت المسموع لدى البيت الأبيض حتى أكتوبر 2008. هذا كله فضلا عن أنه أحد استراتيجيي الحزب الجمهوري الأميركي ويحظى كذلك بالاهتمام في العديد من البلدان الأوروبية، بما في ذلك فرنسا.

قال المحامي جاكسون في ردّه: «إذا كنتم لا تعرفون أين مصالحكم، فالنقاش ليس مفيدا. وهذا ما يعلّق عليه المؤلف بالتساؤل: مصالح من؟ ويضيف أن ذلك المحامي يرى في التوسيع غير المحدود للاتحاد الأوروبي أحد سبل تحقيق هدف أميركي كبير بالتواجد من المحيط الأطلسي حتى بحر قزوين، ولم يكن يرى أن هناك أي إمكانية لمناقشة «مشروعية» مثل ذلك الهدف الأميركي. ويرى المؤلف أن إحساس المواطنين بأنهم أعضاء في مجموعة سياسية يستدعي إدراكهم لنتائج ملموسة من العمل المشترك، وأن يجدوا أنفسهم في رموز يلتقي حولها الجميع وفي قدرتهم على أن يناقشوا الخيارات المتعلقة بالمستقبل. ولا بد أيضاً من توفّر مرجعيات ومعالم في الزمان والمكان. فعلى صعيد الزمان لم يعد من السهل التعرّف على فكرة التوحيد الأوروبي مثلما تمّت صياغتها منذ بدايتها عام 1957 ذلك أن لمختلف الدول الأعضاء تاريخها الخاص. وعلى صعيد المكان، ينبغي أن يكون للمجموعة مجال حدودي واضح ومُعترف به، ويكون منطلقا للحديث والتحرك باسمه في ميدان السياسة الخارجية.

 

التوسع الحدودي

يشكّل الاتحاد الأوروبي، إلى جانب الحلف الأطلسي، المنظمة الوحيدة التي تشترك فيها مجموعة من الدول وهي بصدد التوسع الحدودي المستمر.

وهذا يتمّ إما بطريقة الدمج المباشر والشامل الكامل لدول جديدة وإما عبر الانخراط الجزئي والمتدرج لدول متاخمة في دائرة نفوذها السياسي ومصالحها الاقتصادية. ويمكن للاتحاد الأوروبي، على قاعدة الاندفاع الحالي، أن يتناظر في أفق 2020 ـ 2025 مع المجال الحالي لمجلس أوروبا، الذي أعلن في عام 1994 عبر قراره رقم 1247 الصادر عن مجلسه البرلماني أنه لا يمكن أن تصبح أعضاء في المجلس الأوروبي سوى الدول التي توجد حدودها الوطنية بشكل كامل أو جزئي داخل القارة الأوروبية والتي ترتبط ثقافتها بشكل عضوي مع الثقافة الأوروبية.

وهذا يعني أن مجلس أوروبا يضم 47 دولة من بينها تركيا، واوكرانيا منذ عام 1995، وبلدان جنوب القوقاز وبلدان البلقان، وباستثناء روسيا. وحسب سيناريو توسيع الاتحاد الأوروبي بلا كوابح سيجعله تجسيدا لأوروبا، بمعنى ما تمثله من مجال حضارة دنيوية وذات المحيط المتبدّل.

ويذهب المؤلف إلى أبعد من ذلك بقوله إنه إذا استمر الاتحاد الأوروبي في التوسع عبر شواطئه وتخومه بصيغ متنوعة كالمشاركة مع أوكرانيا ومولدافيا وغيرهما وكتبنّي أطر معدة لحالات محددة كالمغرب وإسرائيل فإنه تلوح في الأفق إمكانية قيام مجموع آخر يمتد من المحيط الأطلسي حتى بحر الشمال وبحر قزوين ويضم دولا تندمج في المنظومة الجيو ـ اقتصادية والجيوسياسية الأوروبية بطرق مختلقة وعلى صيغ يتم التفاوض عليها وقابلة لإعادة النظر فيها.

وفيما يتعلق بمسألة الحدود يبدو أن سياسة الاتحاد الأوروبي تخضع لـ «جغرافيته» التي تلعب دورا حاسما باستثناء الحالة الروسية. هذا مع الاستفادة من «فضيلة» الجوار، مع التأكيد على عناصر الحداثة التي تشمل دولة القانون واحترام العقود المبرمة وحرية التعبير والعمل.

كما أن عملية توسيع إطار الاتحاد الأوروبي تخضع أيضاً إلى هدف جيوستراتيجي صممته الإدارات الأميركية المتعاقبة. إن هذه الإدارات هي الوحيدة التي كان لها منذ فترة طويلة رؤية واضحة للحدود النهائية لأوروبا الموحّدة التي تجمع بعد أجل في إطار «بنية أوروبية ـ أطلسية» جميع بلدان مجلس أوروبا باستثناء روسيا.

ويرمي المشروع الأميركي إلى أن يعمّم السلام في القارة الأوروبية قيام مجال تسود فيه أنظمة ديمقراطية، بحيث يتولى الحلف الأطلسي، أي الولايات المتحدة، الدفاع عنها. وتعززت مثل تلك الرؤية لدى الأميركيين مع نشوب الأزمات التي للولايات المتحدة علاقة مباشرة فيها، خاصة في الشرقين، الأدنى والأوسط. وضمن نفس المنظور الإستراتيجي يتم دعم ترشيح تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ذلك على أساس أنها مجاورة للعراق المطلوب استقراره ولإيران المطلوب كبحها ولسوريا المطلوب التطبيع معها.

 

سيناريوهات وتحفظات

ويشير المؤلف، في هذا السياق، إلى الدعم الكبير الذي أبداه الرئيس الأميركي باراك اوباما أثناء القمة التي ضمّت بلدان الاتحاد الأوروبي الـ 27 والولايات المتحدة في براغ ـ العاصمة التشيكية، في الخامس من أبريل ـ نيسان 2009، عندما قال: «إن التطور نحو انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي يشكّل مؤشرا هاما لالتزامكم في هذا المنحى ويؤكد إصرارنا المستمر على أن تصبح تركيا في عداد الدول الأوروبية».

الاتحاد الأوروبي كما يعرّفه المؤلف، ليس دولة وليس أمة، ولكنه يتصرّف كمنظمة مفتوحة يمكنها أن تتأقلم نظريا، مع حدود غير ثابتة. وهذا يعني أن النقاش حول الحدود النهائية مُغلق منذ اللحظة التي يتم فيها تبنّي مفهوم الحدود المألوف في التاريخ الأميركي، كخط انطلاق للتقدم ومدّ النفوذ.

وذلك على غرار ما عرفته أوروبا في ضم شرق القارة بفضل الثورات الديمقراطية المتعاقبة. ثم إن الشعار الذي ترفعه المفوضية الأوروبية وأغلبية دولها، بما في ذلك الأكثر تشكيكا منها بالمسيرة التوحيدية، يتم الإعراب عنه بالجملة التالية: «سوف نعرف حدود الاتحاد الأوروبي عندما تبلغ هذه الحدود».

تبقى التحفّظات الأكبر حيال مثل هذا السيناريو الكبير هي حيال انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي وحتى من بين الدول الأكثر قدما فيه، ذلك باسم القيم الثقافية الأوروبية.

ومثل هذه المواقف تبدو بوضوح داخل «الحزب الشعبي الأوروبي»، الذي يمثّل الأكثرية داخل البرلمان الأوروبي. ولكن تبدو أيضاً في تصريحات القادة الأوروبيين القريبين من هذا الحزب في فرنسا وألمانيا وكذلك تبدو لدى الرأي العام في عدة بلدان أوروبية مثل فرنسا وألمانيا والنمسا وهولندا وايرلندا.

بالمقابل يؤيد الآخرون وعلى رأسهم بريطانيا وإيطاليا وبلدان شمال أوروبا والدول ـ الأعضاء الجديدة مثل بولندا وبلدان البلطيق، متابعة توسيع إطار الاتحاد الأوروبي. أما الحزب الاشتراكي الأوروبي، الذي يحتل المرتبة الثانية من حيث العدو في البرلمان الأوروبي، فإنه يستبعد المعايير الجغرافية والثقافية كي يؤكد على الديناميات السياسية والديمقراطية بينما يدعم النواب اللبراليون الأوروبيون استراتيجية وسيطة تدعو إلى علاقات «الشراكة» مع الدول وليس ضمّها.

أما موقف المفوضية الأوروبية كما صاغته أثناء انعقاد المجلس الأوروبي عام 1992 وأكّدته عام 2007 فهو تأخير إصدار أي حكم منذ اللحظة التي يتواكب فيها تعبير «أوروبي» مع أبعاد جغرافية وتاريخية وثقافية. هذا خاصة أن هذه العناصر كلها يُعاد تعريفها من جيل إلى آخر.

بالمقابل يجب التعريف الذي صاغه مجلس أوروبا في خانة أولئك الذين يؤيدون التوسع المستمر ويرون أن الاتحاد الأوروبي قد يرتكب خطأ استراتيجيا إذا أقام على الخرائط خطا فاصلا يمثّل شرخا بين «أوروبا الحقيقية وأوروبا المتخيّلة في ما هو أبعد منها». وهذه «المتخيّلة» يتم النظر إليها على أنها «غير متمدّنة».

ويرى المؤلف كذلك أن توسيع إطار الاتحاد الأوروبي ناتج عن الصورة التي يرى فيها هو نفسه صورته كقوة مدنية نموذجية لها مصلحة كبيرة في توسيع مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان ودولة القانون، وزيادة المكاسب من السوق الحر عبر تشجيع التحولات السياسية والوقاية من تفجر الأزمات ذات الطبيعة القومية.

وتبقى آفاق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بمثابة حافز لإجراء إصلاحات داخلية. كما أنه مصدر أمن بالنسبة لكل دولة من دوله، ذلك أن كلا منها تعزز من أمنها عير الاندماج في نفس المنظومة. وكان انضمام اليونان للاتحاد الأوروبي وأفق انضمام تركيا عاملا في تخفيف التوترات الأمنية بينهما منذ عام 1999.

وبمبادرة من السويد وبولندا، على خلفية السعي التاريخي لصدّ روسيا، اقترحت دول أوروبا الشرقية منذ بداية عام 2009 شراكة «شرقية» كبديل للاندماج السريع في إطار الحلف الأطلسي. وبعد نشوب الأزمة الجورجية في 2008، اكتسبت جورجيا في باريس، خلال شهر سبتمبر من نفس السنة، مكانة «بلد أوروبي يشترك مع بلدان الاتحاد بتاريخ وقيم مشتركة».

وفي المحصلة، يرى المؤلف، أن الرؤية الحدودية الأكثر طموحا لما يمكن أن يصل إليه الاتحاد الأوروبي قد قدّمها دافيد ميليدباند، وزير الخارجية البريطاني، الذي اعتبر أن سياسة الجوار بمثابة غرفة الانتظار قبل انضمام جميع الدول المحيطية.

 

الأحلام القديمة

ويفتح المؤلف في هذا السياق قوسين كي يشير إلى الأحلام التوحيدية الأوروبية القديمة منذ العصور الوسطى حيث رأى البعض إمكانية توحيد القارة في «جمهورية مسيحية» تضم آمة متجانسة وثابتة القيم والمعتقدات. لكن الصعود القوي للدول ذات السيادة والوطنية حطّم ذلك الحلم الطوباوي. وكان هناك حلم آخر، فدرالي، آراء أن يكرر في القارة الأوروبية التجربة الأميركية.

أما تجربة الاتحاد الأوروبي الذي يضم اليوم 27 دولة فإن شرط استمراريتها الأساسي يتمثل، كما يرى المؤلف، في توصل ألمانيا وفرنسا إلى مواقف مشتركة صلبة حول المواضيع الكبرى الخاصة بالتوسيع وسياسات الجوار وروسيا وأوكرانيا وتركيا والشرق الأوسط والطاقة والمناخ والسياسة الاقتصادية. وينتهي إلى القول أن المجموع الأوروبي الموسّع إلى هذه الدرجة هو من التنوع إلى درجة أنه لم يعد يمثّل اتحادا، ولكنه غدا من جديد «مجموعة دول ـ أمم».

*     *     *

5 عناصر وراء رفض انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي

  كان لتركيا وروسيا باستمرار علاقات متميزة وفريدة مع القارة الأوروبية، وهذه العلاقات المتميزة تجد انعكاساتها على سياسة الاتحاد الأوروبي حيال هذين البلدين.

ورغم أن روسيا عضو في مجلس أوروبا منذ عام 1996، إلا أن قادتها لا يطالبون أبدا بانضمام بلادهم إلى هذا الاتحاد. وما تبحث عنه روسيا مؤخرا هو الوصول إلى آليات «مشتركة» لاتخاذ القرارات مع الأوروبيين، وهذا ما جرى التعبير عنه بمشروع إنجاز «الميثاق الأوروبي للاستقرار». أما تركيا فإنها تريد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي على قاعدة الاعتراف بقوتها، أو على الأقل تريد الحصول على مكانة «دولة شريكة». ولكنها تواجه مواقف أوروبية متباينة. ففرنسا لا تريد الذهاب أبعد من «الشراكة المتميزة» وبريطانيا تؤيد انضمام تركيا بحماس. بكل الحالات يتم وضع عقبات كبيرة أمام هذا الانضمام من بينها الجغرافيا وعدد السكان والاختلاف الثقافي.

وتبقى من المسائل الجوهرية كيفية الوصول إلى علاقات تفاهم «ثابت» ويجلب الأمن بين الاتحاد الأوروبي والفدرالية الروسية. كانت لتركيا وروسيا باستمرار مكانة خاصة وفريدة في القارة الأوروبية، وفي القرن التاسع عشر، كانت الإمبراطوريتان الروسية والعثمانية جزءا لا يتجزأ من جوقة الأمم الأولى، الروسية، كقوة توازن، والثانية، العثمانية، كعامل خلل للاستقرار. واليوم يتم التفكير بالاتحاد الأوروبي كقطب منظّم أوروبا ـ القارة. مثل هذا الطموح ترفضه موسكو. وإذا كانت الإستراتيجية الأوروبية حيال تركيا هي الاندماج التدريجي، فإن «التداخل» مع روسيا يأخذ صيغة شراكة مدروسة،عبر أربع مجالات للتعاون جرى تحديدها في عام 2003.

جرى قبول روسيا في مجلس أوروبا عام 1996، رغم نشوب الحرب الشيشانية الأولى، على قاعدة معيارين، هما الجغرافيا والسياسة. كان المقصود هو تشجيع الإصلاحات السياسية ودفع روسيا بزعامة بوريس يلتسين للالتزام الكامل بالغرب، وذلك كاستمرار لما كان قد بدأه ميخائيل غورباتشوف عام 1989 عندما تحدّث عن «البيت الأوروبي المشترك» وعن انتماء روسيا للقارة الأوروبية.مع ذلك لا يطالب قادة الفيدرالية الروسية بانضمام بلادهم إلى الاتحاد الأوروبي. وكان فلاديمير بوتين صريحا عندما قال بتاريخ 30 أكتوبر في باريس: «إننا لا نطرح اليوم مسألة انضمام روسيا إلى الاتحاد الأوروبي. وهناك ظروف عديدة تجعل هذا الانضمام ليس ناضجا اليوم. لقد أحسّت روسيا باستمرار أنها جزء عضوي من أوروبا، وروسيا تعتبر نفسها حاليا، من زاوية سياسية واقتصادية وثقافية أنها جزء عضوي من أوروبا».

ويشير المؤلف إلى أن القادة الروس يدركون أن الأوروبيين سوف يواجهونهم بالرفض إذا أعلنوا رغبتهم في انضمام بلادهم إلى الاتحاد الأوروبي، ذلك أنها لا تستوفي معايير الانضمام، ثم أن دخول روسيا سيؤدي إلى خلل كبير بالتوازن داخل الاتحاد، ثم إن الروس أنفسهم لن يقبلوا اقتسام صلاحياتهم السيادية كما يقتضي التكامل الأوروبي.

وهناك نقطة مشتركة تجمع بين تركيا وروسيا، وهي أن كلا منهما تعتبر نفسها «مركزا» وريثا لإمبراطورية قوية. هكذا رفضت روسيا عرض سياسة الجوار. ثم إن تقارب روسيا مع الاتحاد الأوروبي المؤلف من 27 بلدا لا تحبّذه دول أوروبا الوسطى والبلطيق والبلقان الباحثة عن ضمان أمنها. كما أن أنقرة وموسكو تريدان أن تكونا على دراية كاملة بشؤون الاتحاد الأوروبي فلتطوره آثاره المباشرة عليهما.

إن تركيا ترى في الانضمام للاتحاد مرادفا للاعتراف بالقوة التركية، أو أنها تريد على الأقل الحصول على مكانة «دولة شريكة». أما روسيا فإنها تريد التوصل إلى إقامة آلية لاتخاذ القرارات المشتركة، وهذا ما تم التعبير عنه قبل فترة وجيزة بمشروع «الميثاق الأوروبي للاستقرار» الذي يرمي إلى ممارسة حق النقض «الفيتو» بخصوص المسائل الإستراتيجية في المنطقة الممتدة من فانكوفر إلى فلاديفوستك.

من جهة أخرى، تفاوض تركيا مع المفوضية الأوروبية ببروكسل على قاعدة موازين القوى، هكذا لوّحت أنقرة بحق النقض ـ الفيتو ـ الذي تتمتع به حيال إعادة اندماج فرنسا في البنى العسكرية للحلف الأطلسي، وذلك في منظور تلطيف فرنسا لموقفها حيال انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. كما أشارت تركيا في نفس السياق إلى قدرتها على تعطيل القرارات الأوروبية في مجال البحث عن تنويع مصادر تزويدها بموارد الطاقة.

وينقل المؤلف في هذا السياق تصريح علي بابا جان، وزير خارجية تركيا السابق للصحافة ومفاده: «إننا مصممون تماما على الدخول إلى الاتحاد الأوروبي. ومن الآن حتى أفق عام 2013 ستكون تركيا جاهزة، ولكننا لا نعرف إذا كان الاتحاد الأوروبي سيكون جاهزا من جهته».

هنا يتساءل المؤلف: من ينضم إلى ماذا؟ ثم يشير إلى أن السلطات الروسية تذهب أبعد من القادة الأتراك، إذ أنها تضع علاقاتها مع أوروبا الموحّدة على مستوى المواجهة والحديث عن التزويد بمصادر الطاقة وتستخدم بلاغة دوائر النفوذ والأعمال العسكرية. بكل الحالات ينتهي المؤلف إلى القول، حيال الحالتين، الروسية والتركية، إن القيمة الوحيدة لمثل هذه السلوكيات هي إرغام الأوروبيين على أن يوضّحوا مصالحهم بشكل أفضل ويهتموا بأمنهم.

 

تركيا.. حضور دائم

تدل مؤشرات كثيرة على أن الأتراك يرغبون بعمق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. إنهم يبحثون بذلك عن الاعتراف بهم، كما يرون به سبيلا نحو التحديث، وهم يطمحون إلى تحديد تاريخ زمني معيّن لانضمامهم. وينقل المؤلف في هذا السياق عن «اورهان باموق» الكاتب التركي الحائز على جائزة نوبل للأدب قوله له بخصوص خيار «الاتحاد من أجل المتوسط» المطروح على تركيا، إن هذا الخيار هو بمثابة: «بطاقة سفر من الدرجة الثانية للغرب».

وفي ظل الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي، خلال النصف الثاني من عام 2008، جرى «فتح» ملفّين جديدين للمفاوضات تنفيذا لقرارات جرى اتخاذها عام 2004، رغم الموقف الرسمي للقادة الفرنسيين. ويتمثل هذا الموقف الرسمي الحالي بفتح ملفين يمكن أن يؤديا إلى الانضمام أو إلى الشراكة المتميّزة، ورفض فتح الملفات الخمسة التي لا تؤدي إلا إلى الانضمام. ومثل هذا الموقف غير مفهوم من قبل بلد خدم كنموذج للتحديث وهو يبدو اليوم بثياب «الخصم» صراحة.

ويرى كثير من الأوروبيين أن دمج تركيا داخل إطار الاتحاد الأوروبي يعني التخلّي نهائيا عن فكرة الاتحادية للولايات المتحدة الأوروبية، حسبما جرى تصورها في المشروع الأولي. ويعني أيضا أن المشروع الأوروبي قد غيّر من طبيعته كي يصبح مجموعة مفتوحة من الأمم مدعوّة إلى التفاهم فيما بينها.

وهذا يتجاوز حالة تركيا كما يقول هوبير فدرين، وزير خارجية فرنسا الأسبق، الذي ينقل عنه المؤلف ما مفاده: «يخشى البعض في فرنسا أن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي سيطرح للتساؤل أوروبا السياسية.

لكن بماذا يعقد الانضمام التركي ذلك مما هو موجود أصلا في اتحاد يضم 27 بلدا»؟ ويتم ذكر العديد من العقبات أمام انضمام تركيا منها أولا «الجغرافيا» حيث أغلبية الأراضي التركية موجودة في القارة الآسيوية.وهناك حجة أخرى تتمثل في القول إن انضمام تركيا يعني وصول الاتحاد إلى تخوم سوريا والعراق وإيران، ومما يعني «تورّط» أوروبا المتعاظم في قضايا الشرقين، الأدنى والأوسط وفي إستراتيجية شراكة دول جوار البحر المتوسط.

وحجة ثالثة هي أن عدد سكان تركيا سيبلغ حوالي 87 مليونا عام 2025، أي أكثر من ألمانيا (80 مليونا) وفرنسا (67 مليونا)، مما يترتب عليه نتائج هامة على صعيد وزن تركيا داخل الاتحاد. وهناك حجج الميزانية وكلفة انضمام تركيا، وبالطبع يقدّم كُثر حجج الخلاف الثقافي. بالمقابل يثير انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي نقاشات أكثر في تركيا نفسها. ذلك أن الكماليين العلمانيين وقسم من الرأي العام التركي يرفضون ما يرون به خسارة للاستقلال وللسيادة.

 

روسيا وتحدي الجغرافيا

عندما يتم طرح مسألة حدود الاتحاد الأوروبي، فإنه يتم في الوقت نفسه طرح مسألة الحدود الغربية لروسيا. وينقل المؤلف عن فاكلاف هافل، رئيس الجمهورية التشيكية السابق قوله: «لقد اتسعت حدود روسيا وانكمشت خلال المسيرة التاريخية.

وأغلبية النزاعات تجد جذورها في الخلافات علة الحدود في ضم أراض أو خسارتها. وفي اليوم الذي سنتوصل فيه بهدوء إلى تحديد أين ينتهي الاتحاد الأوروبي وأين تبدأ الفدرالية الروسية سيخوّل نصف التوتر بين الطرفين».

ومن وجهة نظر موسكو تبدو عملية توسيع حدود الاتحاد الأوروبي، خاصة عندما تترافق مع توسيع حدود الحلف الأطلسي، هي بمثابة المساس بالمصالح الوطنية الروسية إذ تطال مناطق تعتبرها في دائرة نفوذها الحيوي مثل أوكرانيا أولا وفي جورجيا.

ثم إن النخب الروسية بمختلف مشاربها ترى في علاقاتها الحميمة مع أوكرانيا جزءاً من رؤيتها للعالم. وهذه هي ثمرة تاريخ طويل.ثم من الواضح أن دول أوروبا الشرقية التي انضمت حديثا إلى الاتحاد الأوروبي تريد استخدام ذلك كأداة لتعزيز هامش مناورتها حيال موسكو.

ومنذ عام 1991 فشل الأوروبيون والأميركيون والروس في إقامة علاقات «شراكة دائمة» بينهم. الأوروبيون بسبب تنوّعهم العميق، والأميركيون بسبب إستراتيجية محاصرة موسكو وإغفال المصالح الشرعية الروسية، والروس بسبب تزمّتهم القومي ورفضهم قبول واقع وجود بناء أوروبي ثبّت ركائزه.

تتم الإشارة هنا إلى أن الاتحاد الأوروبي دمج في إطاره خلال سنوات 2004 ـ 2007 تسع دول خرجت حديثا من دائرة النفوذ الروسي ـ السوفييتي، رغم أن روسيا تحاول أن تفرض على بعضها حالة من «ضعف السيادة».

ثم إن الاتحاد الأوروبي المؤلف من 27 دولة لا يمكنه أن يحس بالأمان المستمر إذا اعتبرت روسيا نفسها، صوابا أو خطأ، أنها ليست آمنة. هذا يعني أن بناء شراكة دائمة يتطلب معرفة متبادلة واضحة لواقع كل طرف وإيجاد برنامج إستراتيجي لتسيير الميادين ذات المصلحة المشتركة.

 

مفتاح للاندماج

ويرى المؤلف أن أشكال القطيعة والتبدلات التي يمكن للمجتمع وللدولة الروسية القيام فيها ليست معروفة لدى الأوروبيين ، هذا إلى جانب التقليل من قيمة الصعوبات العملية والنفسية لعملية التحوّل الجيوسياسي. ثم إن العلاقات مع روسيا أصبحت أحد عوامل الخلاف الرئيسية بين الدول ال27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

وبما أن الفدرالية الروسية ليست مرشّحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فإن تبنّي سياسة أوروبية ترمي إلى فرض تحوّل ديمقراطي في روسيا من الخارج إنما هي سياسة لا أمل بأن تثمر على المدى القصير.

ويؤكد مؤلف هذا الكتاب أن أوروبا تشكّل المفتاح أمام اندماج روسيا في النظام الدولي، ولكن ليس كقوة عظمى وإنما كدولة حديثة عادية. بالمقابل لا يكفي للاتحاد الأوروبي أن يوسع حدوده كي يصبح قوة عظمى. المهم بالنسبة للجميع هو تحديد أشكال «التمفصل» مع العالم المتبدّل.

*     *     *

هكذا يتحرك الأوروبيون على الساحة الدولية

هناك عالم متعدد الأقطاب يرسم في أفق العالم اليوم. الاتحاد الأوروبي يريد أن يكون قوة فاعلة فيه، والصين تطمح إلى أن تكون قوة مقابلة للولايات المتحدة الأميركية، لكنها تطرح الكثير من التساؤلات حول ما يجري حولها. هذا مع النظر إلى تجربة «البناء الأوروبي» على أنها قد تكون مفيدة جدا بالنسبة للصين. كما يتم التأكيد على ضرورة أن تكون لها مساهماتها في صياغة إستراتيجية سياسية عالمية وليس بعدا تجاريا عالميا فقط.

والعالم يتسم اليوم، قبل كل شيء، بالتبدل حيث ترفع بلدان الجنوب رأسها من جديد، كما برزت دول أربع خلال العقدين المنصرمين ،هي الصين والهند وروسيا والبرازيل. وإذا كانت هذه الدول تشكل قوى هائلة على صعيد الاقتصاد وعدد السكان، فإن المؤلف لا يرى أنها تمتلك مقومات أن تشكّل مجموعا منسجما وفاعلا على المستوى الإستراتيجي العالمي. لا شك أن الاتحاد الأوروبي ليس أمة ولا دولة، ولكنه يتمتع بالعديد من عوامل التوحيد، على رأسها العملة الموحّدة اليورو، والانتماء الثقافي والسياسي، وما يجعله مدعوا لصياغة رؤيته الخاصة للعالم.

يشير مؤلف هذا الكتاب، في بداية حديثه، عن علاقة الأوروبيين في عالم اليوم إلى محاضرة كان قد ألقاها في مطلع شهر أبريل-نيسان من عام 2001 في العاصمة الصينية بكين بدعوة من رئيس المدرسة المركزية للحزب الشيوعي، والذي لم يكن سوى رئيس جمهورية الصين بنفس الوقت. كان موضوع المحاضرة هو «البناء الأوروبي». ودارت الأسئلة حول قدرة الاتحاد الأوروبي في أن يصبح قوة فاعلة في العالم الجديد متعدد الأقطاب. الإستراتيجيون الصينيون يثمّنون كثيرا مفهوم التعددية القطبية بدافع طموح إيجاد ثقل مقابل للولايات المتحدة. لكنهم يطرحون الكثير من الأسئلة حول مرامي التوسع الجغرافي للحلف الأطلسي شرقا وحول الاتفاقيات التي جرى إبرامها مع دول آسيا الوسطى بالقرب من الصين، وكذلك حول التسهيلات التي قدّمتها عدة دول للأميركيين وللأوروبيين من أجل التدخل في أفغانستان.

ويؤكد مؤلف هذا الكتاب أن دراسة «البناء الأوروبي» تتم في الصين على أساس أنها مختبر للتنسيق بين مجموعة من الدول. ويرى الكثير من الإستراتيجيين الصينيين أنه يمكن الاستفادة من دروس التجربة الأوروبية في الصين التي لا تزال تعاني، برأيهم، من وجود نزعة قومية اقتصادية. في مختلف المقاطعات الصينية، التي لا تزال تعزل بينها حواجز متنوعة. بهذا المعنى تمتلك النخب الصينية رؤية للاتحاد الأوروبي ليست بعيدة عن تلك الرؤية التي قال بها الجنرال شارل ديغول عندما رأى في التوحيد الأوروبي سبيلا لتحديث فرنسا.

أما الدرس الأساسي الذي استخرجه مؤلف هذا الكتاب من معايشته وتفحّصه الدقيق للتجربة الصينية «الصاعدة» فهو أن ربط النخب فيها بين الاقتصاد والعملة والجيوستراتيجيا ينبغي أن يكون دافعا للأوروبيين كي يعيدوا النظر والتفكير في «الموديل» الأوروبي ونقل مستوى تصوره من مشروع للتكامل الإقليمي إلى المستوى العالمي. ذلك أن هذا «الموديل» يثير الاهتمام في جنوب شرق آسيا ولدى بلدان الجنوب. ثم إن الاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة يشكّل سوقا إقليمية ذات أهمية تجارية عالية، والحالة الجديدة للعالم قد تستدعي أن يغدو أيضا مجموعة جيوستراتيجية عالمية لا تقتصر نشاطاتها على التجارة والبيئة بل تكون قادرة على المساهمة في صياغة إستراتيجية سياسية عالمية.

 

العولمة من جديد

لم تعد الحداثة احتكارا غربيا ولا أوروبيا. ويشير المؤلف هنا إلى «راتان ن. تاتا» رئيس المجموعة العائلية التي تأسست عام 1868 من أجل النهوض بصناعة هندية وطنية. إنه خريج جامعتي كورنيل وهارفارد، وكان قد اشترى مجموعتي «جاكوار» و«لاند روفر»، لكنه حرص على أن يصرّح بسرعة على أنه سيتم الاحتفاظ باسم المؤسستين، ذلك أنه حصل على «ماركات» شهيرة وليس فقط على موجودات صناعية.

إن العالم يتبدّل والثقة التي استعادها، أو وجدها الجنوب بنفسه تذكّر كثيرا بعقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي «العشرين» حيث شهد العالم الثالث نهاية الحقبة الاستعمارية. وكان في مقدمة رموز تلك الحركة المناهضة للسيطرة الغربية مجموعة من طلبة أكسفورد والسوربون الذين استلهموا مواقفهم من أفكار عصر التنوير، الأوروبية. وفي مثل هذا السياق لا بد للأوروبيين وللآخرين أن يعيدوا النظر برؤيتهم للعالم.

وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ساد قاموس استخدم تعبيرات شاعت وترسخت مثل «الشرق والغرب» و«الشمال والجنوب». وكانت تعبيرات ذات مضمون إستراتيجي وإيديولوجي. وشاع في ذلك السياق أيضا مفهوم «العالم الثالث» الذي «اخترعه» باحث الديمغرافيا الفرنسي الفريد سوفي وجرى استبداله بعد ذلك ب«الجنوب». ويتم اليوم توصيف العالم على أساس الأبعاد الاقتصادية والمالية، كانعكاس منطقي لانتصار السوق وتراجع دور الدول، على الأقل حتى اندلاع الأزمة المالية العالمية الكبرى 2008-2009.

واستجدّ في هذا السياق مفهوم «الأسواق الصاعدة» من اختراع أرباب بنوك في نيويورك خلال مطلع عقد الثمانينات المنصرمة وبغية جذب المستثمرين. وبقي تعبير «العالم الثالث» عندما يتم استخدامه مرادفا ل«الفقر». وبرزت في نفس السياق دول أربع هي روسيا والصين والهند والبرازيل والتي جرت الدلالة عليها بتعبير «بريك» المؤلف من الحرف الأولى من اسم كل منها.

هذه المجموعة «الرباعية» تتمتع بأسواق هائلة وبعدد سكان كبير وبوزن إقليمي راجح ومعدل نمو اقتصادي مرتفع حتى عام 2008. لكن مؤلف هذا الكتاب يرى أن كل الخصائص المذكورة لا تكفي لإقامة مجموع متناسق وله دلالته على الصعيد الجيوستراتيجي. ثم إن أزمة 2008-2009 زادت من حدة الخلافات بين هذه الدول.

 

ملاحظات عن الواقع

ويقدّم المؤلف الملاحظات التالية على واقع هذه الدول اليوم. إن روسيا تعاني من تناقص عدد سكانها، وهي لم تعد تمتلك الإمكانيات المادية والبشرية لتكون قوة كبرى، هذا بعيدا عن قاموس البلاغة المستخدم في قدرتها على فرض «قانونها» على بلدان الجوار في آسيا الوسطى.

باختصار فقدت روسيا الكبرى كما يتم وصفها، من قوة جذبها. لذلك تبحث عن ضمانة أميركية على دائرة نفوذ تتطابق مع إمبراطوريتها القديمة، باستثناء بلدان البلطيق. لكن من المحتمل قليلا أن تتوصل إلى قبول واشنطن بتقديم تلك الضمانة.

أما الصين والهند فهما في تنافس ثقافي حول جميع الموضوعات تقريبا. والنظامان السياسيان متعارضان. فالصين تعطّل دخول الهند إلى مجلس الأمن الدولي، كما أنها أبرمت عددا من التحالفات مع الدول المجاورة لحيازة بقصد امتلاك سلسلة من القواعد البحرية في محيط ليس فيه ما هو هندي سوى اسمه في السياق الراهن.

والصين تدعم الخصم الباكستاني والسباق مع الهند على أشدّه من أجل الحصول على موارد الطاقة من آسيا الوسطى حتى القارة الإفريقية، وهناك سباق آخر بين البلدين على صعيد الميزانيات المكرّسة للدفاع. لكن هذا كله لا يمنع إدراك الدولتين على أن التبادل التجاري يشكل عاملا لتلطيف الأجواء وعدم الدخول في مواجهات صريحة.

بالنسبة للبرازيل، فإنها عززت من وجودها في إفريقيا، لكن يبقى اهتمامها الأساسي متركّزا على أوضاعها الداخلية أولا وعلى جنوب أميركا ثانيا حيث يتعاظم نفوذها. وهذا ما تلخصه الجملة التالية التي نقلها المؤلف وجاء فيها: «الأغلبية الساحقة من البرازيليين لا يولون سوى أهمية قليلة لبقية العالم. ومعظمهم لم يسافروا أبدا إلى الخارج، فسكان مناطق التجمع السكاني الكبرى يعيشون على بعد 2000 كيلومترا أو ما يزيد عن أقرب الحدود.

والصحافة لا تساعدهم كثيرا في التعرّف على العالم الخارجي فهي تتحدث عنه قليلا ولا تقران إلا نادرا البرازيل مع البلدان الأخرى». ثم إن الأرجنتين والمكسيك تعطلات دخولها إلى مجلس الأمن. هكذا الصين وحدها هي التي تنظر إلى نفسها كقوة فاعلة على الصعيد العالمي، لكنها دون حليف ولا صديق.

 

الأوروبيون والعولمة

يبدو أن البناء الأوروبي محكوما منذ الأصل بمجموعة من الظواهر التي تتجاوزه وتحدد مساره. ففي الأمس القريب كان يشكل جزءً من الغرب على الحلبة الدولية التي كانت تتصارع على الفور فيها كل من واشنطن وموسكو، وذلك على مسرح القارّة الأوروبية نفسها على في العالم الثالث.

ومنذ انهيار جدار برلين عام 1989 أصبحت المهمة الأولى للمجموعة الأوروبية هي إعادة تنظيم القارّة، وهذا ما نجحت فيه إلى حد كبير في سياق متبدّل واقتصاد معولم. ذلك بالمعنى الذي تدل فيه العولمة على قدرة الشركات والمؤسسات في التحرك مباشرة «بالزمن الحقيقي» على الصعيد العالمي، ذلك بواسطة تكنولوجيات المعلوماتية وما ترتّب عليها بالنسبة لاقتصادات الخدمات.

الدول الأوروبية أعطت، في مثل هذا السياق، الأولوية لتحقيق مطلب الأمن على الصعيد الإقليمي. بنفس الوقت قدّم التوسيع السياسي للاتحاد الأوروبي فرصة للشركات، عبر الاستفادة من فروق الأجور، كي تتأقلم بشكل أفضل مع المنافسة الدولية وأن تنشّط صادراتها في السوق الأوروبية كما إلى الدول الصاعدة ذات الطلب المتزايد على التجهيزات. هذا إلى جانب الشركات الأميركية واليابانية. ولا يتردد المؤلف في القول أن أسواق البلدان الصاعدة تشكّل فرصا حقيقية بالنسبة للاقتصادات الأوروبية.

إن العولمة، كما يقدّمها المؤلف، لم تعد تقتصر على السوق، ذلك أن العالم غدا مثل حلبة تعمل على أساس موازين القوى بين المصالح المشروعة، وأحيانا على أساس «المواجهات» غير المعلنة. ويبدو هذا العالم متنافرا جدا بالقياس إلى مجموعة أوروبية يتم تسيير الأمور فيها على قاعدة القانون والمفهوم التعاقدي مع وجود نوع من «المصالحة» بين المصالح الوطنية لمختلف البلدان.

والاتحاد الأوروبي ليس، ولن يكون، أمة ولا دولة، لكنه يتمتع بمجموعة من عوامل التوحيد في مقدّمتها العملة «اليورو»، هذا إلى جانب ما يثيره من مشاعر الهوية السياسية والانتماء الثقافي. ومما يدفع المؤلف إلى تشبيهه بـ «جوقة الأمم» في نهاية القرن التاسع عشر.

لكن هذا ما رأى فيه كُثر نوعا من الضعف. وهذا ما عبر عنه هنري كسنجر، وزير خارجية أميركا الأسبق بالقول أن الأوروبيين لم يعودوا قادرين على التضحية التي يفرضها عليهم طموح القوة، القوة القادرة على التحرك في حالة الأزمات.

لكن بالمقابل يؤكد المؤلف أن معطيات الواقع الدولي الراهن وتجربة التوحيد الأوروبي تدعو إلى القول إنه حان الوقت الذي يتحمّل فيه الأوروبيون مسؤولية تاريخهم القريب ويصيغوا رؤيتهم الخاصة للعالم الذي نعيش فيه.

*      *      *

فعالية الصوت الأوروبي عالمياً رهن بثلاثة شروط

يبدو للكثيرين أن خيارات الاتحاد الأوروبي السياسية والإستراتيجية مرهونة بالنهج الذي يسلكه «الحليف الأكبر»، الأميركي، لكن مقابل ذلك هناك أصوات عديدة، ومؤلف هذا الكتاب من بينها، تطالب بضرورة أن تساهم أوروبا في صياغة مسيرة العالم.

وذلك على قاعدة ما اكتسبته في تاريخها الحديث والمعاصر من تجارب في إدارة الأمور التي تتشارك فيها أطراف متعددة. ثم إن أوروبا تمثل القوة الاقتصادية والتجارية الأولى في العالم.وتتم المطالبة أيضا بأن يأخذ الاتحاد الأوروبي دوره في تكريس الاستقرار والسلام في عالم يتعاظم العنف تحت آفاقه، ويتحوّل في حالات كثيرة إلى حروب مفتوحة، يمثل ما يجري في العراق أحد الأمثلة البارزة عليها.لكن أوروبا تواجه تحدي التبدّل الجاري في العالم وما يرافقه من تباين آراء الدول ـ الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، حيال مسائل مثل الموقف من روسيا وكثير من الملفات الدولية. بكل الحالات يبقى بيد أوروبا العديد من الأوراق الرابحة.

يشير مؤلف هذا الكتاب إلى أن تعبير «المصالح الأوروبية» لم يتم ذكره في وثيقة «الإستراتيجية الأوروبية للأمن»، التي تم تبنّيها من قبل المجلس الأوروبي في بروكسل بتاريخ 12 ديسمبر 2003، إلا مرتين، وبالصيغتين التاليتين: «إن الجغرافيا تحتفظ بكل أهميتها، حتى في عصر العولمة. ومن مصلحة أوروبا أن تكون البلدان المتاخمة لها ذات حكومات جيدة». ثم: «ليس في صالحنا أن يخلق التوسيع ؟ توسيع الاتحاد الأوروبي- خطوطا جديدة للتقسيم في أوروبا».

كانت بداية تلك السنة ـ 2003 ـ قد شهدت التدخل العسكري الأميركي في العراق. ويرى المؤلف أن ذلك ساهم في دفع واضعي تلك الوثيقة المهمة إلى الحد من استخدام تعبير «المصالح الأوروبية» وإعطاء الأولوية إلى أهداف ورهانات وتحديات غير بعيدة عن الهموم الإستراتيجية ل«الحليف الكبير»، أي للولايات المتحدة. لكن هل يمكن أن يقيم اتحادا «أوروبيا» له طموحه السياسي والجيوستراتيجي على أحداث تجري خارجه، مختزلا بذلك العمل المشترك إلى ردود أفعال حيال ظروف أثارتها قوى أخرى؟ يتساءل المؤلف.

 

مساهمة ضرورية

مع ذلك يرى المؤلف أنه يمكن للاتحاد الأوروبي أن يساهم في صياغة القواعد الدولية الضرورية، وذلك في عالم يتسم بوجود «قوة نسبية» و«تاريخ مشوش». ثم إن مثل هذه المساهمة ممكنة، ولو كان ذلك فقط لكون أن الاتحاد الأوروبي يمثّل السوق الأولى في العالم وكذلك التجربة الأكثر اكتمالا للاندماج السياسي الإقليمي على قاعدة ديمقراطية.

ويلفت المؤلف الانتباه إلى أن الميدان الوحيد الذي يتم فيه التعبير صراحة عن المصلحة الأوروبية هو ميدان المفاوضات التجارية الدولية، حيث يتمتع المفوض الأوروبي «المكلّف بالملف التجاري» بمهمة واضحة، وهذا يبدو بمثابة استمرار منطقي لاتحاد تأسس تاريخيا على إنشاء سوق إقليمية كبرى إقليمية وحيدة.

أما المصلحة الأوروبية الأولى فيتم تحديدها في عدم التخلي عن الورقة الرابحة الأولى للاتحاد والمتمثلة في النجاح بتكامله الإقليمي القائم على بعض عناصر السيادة مع تبنّي معايير جماعته تمثلها هيئات توافقية. وفي هذه الصيغة التعاقدية يتقيّد الجميع بكل قاعدة جرى إقرارها.

ثم على أساس مثل هذه الأسس تمكن إشادة قطب أوروبا بكل ما يمتلكه من تجارب ومن مستودع للأفكار ويكون أكثر انفتاحا من القطب الذي تمثله تجربة الولايات المتحدة الأميركية. بالطبع لا يمكن نقل التجربة الجارية في أوروبا كما هي، ذلك أن الظروف التي أنتجتها لم تتكرر في مجالات جغرافية أخرى.

والدول الداخلية في اللعبة العالمية الشاملة لها مصلحة في الاستقرار، هذا إذا لم يكن في تحقيق قدر مهم من الانسجام فيما بينها. ولا شك أن الأوروبيين أصبحت لديهم خبرة عميقة في إدارة الشراكات المتداخلة. ثم إن الاتحاد الأوروبي، باعتباره القوة الاقتصادية والتجارية الأولى في العالم، له مصلحة في أن يتحمل مسؤولياته في تحديث قواعد اللعبة العالمية كلها، وفيما هو أبعد من مجرّد المفاوضات التجارية.

ولا يمكن للاتحاد الأوروبي كنتاج ومجال للسلام أن يبقى لا مباليا حيال استمرار العنف في العالم. إنه في المقام الأول فيما يتعلق بمبالغ المساعدة المكرّسة للتنمية وبحصة المساهمات في ميزانية الأمم المتحدة، لكن هذا لا يكفي، كما يؤكد المؤلف. ذلك أن تحديات السلام، كما يعبر ساركوزي، حاسمة في سياق من الانهيارات، مثلما يبدو من تزايد النزاعات والأزمات.

ففي عام 1989 شهد العالم 210 نزاعات ووصل العدد إلى 278 نزاعا عام 2006 من بينها 35 تتسم بالخطورة. ويشهد عام 2009 ستة حروب مفتوحة في الصومال والسودان وشمال غرب باكستان وسريلانكا وأفغانستان والعراق، هذا بالإضافة إلى عشرات الأزمات تمتد من النيجر حتى تايلاند.

 

أوروبا وتغيّر العالم

هناك فرضية تقول أن العالم الذي هو بطور التبدل قد يؤدي إلى تهديم تلاحم مجموعة الدول-الأمم الأوروبية المنضوية في إطار الاتحاد الأوروبي.

وما تم تحقيقه عبر تحويل «الحلبة» الأوروبي التي شهدت حربين عالميتين خلال القرن العشرين وحده إلى منتدى يتوسّع أكثر فأكثر قد لا يمكن إنقاذه بسهولة في عالم تحكمه «المدافع» في العلاقات بين الأمم. وكان قد بدا أنه في مواجهة الأزمة المالية العالمية الراهنة كان رد الفعل الأول ذا طابع وطني قبل أن يتم التنسيق بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لاتخاذ مواقف مشتركة في ربيع عام 2009. لكن ليس من السهل دائما الوصول إلى مثل هذا التنسيق.

وهناك بالمقابل عدة مواضيع سياسية خارجية تميل نحو شتى الصفوف الأوروبية مثل العلاقات مع روسيا ودرجة دمج بلدان منطقة البلقان وإمكانية التأثير أو توجيه الانتقاد حيال القوى السياسية في إسرائيل والإستراتيجية المناسبة حيال بحث إيران عن الاعتراف بها كقوة إقليمية.

وينقل المؤلف عن أنغيلا ميركل اعتقادها بأن العديد من هذه الملفات قد يمكن التوصل إلى إدارتها، رغم تباين المواقف حيالها. على الصعيد الاقتصادي، وعلى مدى أطول، ستنتج الهند في أفق سنوات 2025-2030 ما يعادل 10 بالمئة من إجمالي الإنتاج العالمي، لكن الفارق في مستوى المعيشة مع الولايات المتحدة سيكون واحدا إلى عشرة.

وسيكون واحدا إلى خمسين بالنسبة للصين وواحد إلى ستة بالنسبة للبرازيل. هذا يعني أن هذه الدول الأربع سوف تحافظ على هدف تأمين تنميتها الداخلية وسوف تتمثل دائما وسائل بلوغها ذلك في البحث عن منافذ إلى الأسواق وعن رؤوس الأموال الخارجية.

ومن السمات التي يؤكد عليها المؤلف في سلوكيات هذه الدول الصاعدة هو أنها تبقى «متحفظة» حيال العديد من الملفات الحساسة مثل حماية البيئة والتغيرات المناخية بينما تتابع الولايات المتحدة لعب دور القوة الراجحة على صعيد العلاقات الدولية وعلى المسرح الدولي عامة.

وتبقى إحدى نقاط قوة الأوروبيين هي في قدرتهم على تقديم اقتراحات واتخاذ مبادرات. ومن هنا بالتحديد تأتي أعمية الوصول إلى القيام بحوار أوروبي- أميركي نوعي حول مختلف القضايا العالمية.

ويؤكد المؤلف، في هذا السياق، أن الصين هي الدولة الوحيدة الخارجية التي يمكنها أن تحوّل نموها الاقتصادي إلى قوة على الصعيد العالمي. وكي تستكمل بذلك ما تستكمله أصلا من أوراق رابحة ليس أقلها المساحة والسكان والشتات الصيني في العالم والميزانية العسكرية والقوة الإقليمية الكبرى والعلاقات المتميزة، المتداخلة والمتناقضة بنفس الوقت، مع الولايات المتحدة الأميركية.

ويبدي المؤلف هنا دهشته من مدى الأهمية التي يؤكد عليها الخبراء الأميركيون في نظرتهم إلى الصين بسبب «السمة المركزية» للعلاقات الصينية-الأميركية المتداخلة.

هذه الأهمية الكبيرة للعلاقات الصينية-الأميركية دفعت شخصية سياسية أميركية من وزن زبيغنيو برزنسكي إلى استخدام تعبير «صناميركا» ـ كدمج بين الصيني والأميركي ـ للدعوة إلى قمة الاثنين الكبار بين البلدين على قاعدة تداخلهما الاقتصادي والمالي الذي دفعته أزمة 2008-2009 إلى الواجهة.

 

أوراق أوروبا الرابحة

تمتلك أوروبا إرثا غنيا وتاريخها وتقاليدها القانونية والسياسية. وتمتلك أيضا جغرافيتها وما تفرضه من حدود مشتركة، هذا فضلا عن مبادلاتها التجارية والثقافية والبشرية وسهولة حركة انتقال رؤوس الأموال بين بلدانها. ويضيف المؤلف لهذه الأوراق الرابحة كلها، الإنجازات التي حققها الاتحاد الأوروبي على صعيد القارة وكذلك في جميع المحافل الدولية.

هذه العوامل كلها يترتب عليها بروز عدة مجالات. المجال الأوضح يخص بلدان الجوار الأوروبي بما يفرضه من قرب جغرافي وتداخل اقتصادي. وهذا المجال هو في سبيل الاندماج تحت تأثير الجذب الذي يمارسه الاتحاد الأوروبي. لكن تحوّل مثل هذا الجذب إلى نفوذ مستدام يصطدم بعدة عوامل منها ما هو سياسي وجيوسياسي مع روسيا وما هو تاريخي واقتصادي وسيكولوجي مع بلدان المغرب، وإستراتيجي ودبلوماسي مع بلدان الشرق الأوسط.

والقارة الإفريقية جنوب الصحراء وحتى جنوب إفريقيا لها علاقات وثيقة مع أوروبا التي تعاني في الظرف الحالي من منافسة متزايدة من قبل الصين والهند والولايات المتحدة واليابان. وهذا يسمح لقادة البلدان الإفريقية بالتحرر من الضغوط السياسية للاتحاد الأوروبي الذي من الصعب عليه أن يتخذ موقفا محايدا حيال إفريقيا بسبب «وزن التاريخ».

ومع المجال الذي يضم أميركا الشمالية، أي الولايات المتحدة وكندا، والهند واستراليا، فإن للدول الأوروبية تاريخ طويل مشترك معها، وخاصة وجود الأنظمة الديمقراطية ودولة القانون. هذا التقارب يجد ترجمته غالبا في اتخاذ مواقف مشتركة في إطار منظمة الأمم المتحدة (باستثناء الهند) وفي تبادل موجات من الهجرة.

 

فعالية مرهونة

أما حيال مجموع «متنافر»، يمتد من منطقة الخليج العربي وحتى شرق آسيا، فإن الحضور والنفوذ الأوروبيين كانا هما الأضعف تاريخيا، مع وجود تباينات لغوية وثقافية كبيرة.

لكن يبقى المعطى الجديد المهم الذي يؤكد عليه المؤلف هو في بروز آسيا المسالمة والحديثة. هذا مع التأكيد أيضا على أن النجاح الذي حققته بلدان آسيوية عديدة على الصعيد الاقتصادي وتمكّنها من تعزيز البناء السياسي لدولها، إنما هما تعبير عن كونية «الموديلات» التنموية والسياسية التي أنتجتها أوروبا. وفي المحصلة يتم التأكيد أنه «ليس ممنوعا على الأوروبيين أن يرفعوا صوتهم. بل العكس هو الصحيح».

وفي خاتمة هذا الكتاب، يرى مؤلفه أن فعالية الصوت الأوروبي على صعيد العالم الذي نعيش فيه مرهونة بثلاثة شروط أساسية، هي «التصرّف كمركز للسلطة» و«المحافظة على التضامن» وأخيرا «وعي الذات، تاريخيا وجيوسياسيا وثقافيا».

*المؤلف في سطور

ميشيل فوشيه جغرافي فرنسي معروف ومستشار، لمدة سنوات، لدى وزير خارجية فرنسا الأسبق هوبير فدرين للمسائل السياسية والإستراتيجية. شغل منصب مدير مركز التحليل واستشراف آفاق المستقبل في وزارة الخارجية الفرنسية، ثم عمل سفيرا لفرنسا لدى جمهورية ليتوانيا.ويعمل في الوقت الحالي أستاذا في مدرسة المعلّمين العليا في باريس.

والمؤلف هو كذلك أحد الاختصاصيين الفرنسيين الفرنسيين البارزين المهتمين بالشأن الأوروبي. وقدم للمكتبة العالمية عدة مؤلّفات، منها: «وسواس الحدود» و«الجمهورية الأوروبية بين التاريخ والجغرافيا» و«جبهات وحدود».

ـــــــــــــ

الصفحات: 267 صفحة

تأليف :ميشيل فوشيه 

عرض ومناقشة : د. محمد مخلوف

الناشر: أوديل جاكوب ـ باريس ـ 2009

ــــــــــــــ

المصدر : الراصد  للتوثيق والإعلام

نشرة شاملة ترصد الحدث الفلسطيني بأمانة وحيادية

0599401277

hskalla@hotmail.com

----------------

هذه الكتاب يعبر عن رأي كاتبه

 

 

السابقأعلى الصفحة

 

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ