ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء 10/11/2010


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

كتب

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة

ثقافة تحدت القيد

من أدب السجون

أربع  روايات للكاتب والروائي الأسير المحرر رأفت حمدونة

بقلم الأستاذ الدكتور صادق عبد الله أبو سليمان

أما قبل،

فأحمدك اللهمَّ ربي حمداً يليقُ بكمالكَ وعَلْيائك، وصلاةً دائمةً على السراجِ المنيرِ المبعوثِ هادياً للعالَمينَ محمدِ بنِ عبدِاللهِ وآلِهِ وَصَحْبِهِ والتابعينَ إلى يومِ الدين، وبعد،

فيجيءُ أدبُ السُّجونِ مُفْعَماً بحيويةِ الانفعالِ، وصِدْقِ التجاربِ؛ وذلك لأنه ينْهَلُ من مصدرِ المعاناةِ النّابعِ منْ ثُوّارٍ هانت عليهم أنفسُهُمْ فَهَبّوا يحملونها على أَكُفِّهِم ليقدِّموها أضاحيَ في سبيلِ تحذير كرامةِ الوطنِ وأهله.

وينبغي أنْ يكونَ واضحاً أنَّ المقصودَ بـ" أدبِ السجون"- في هذا المقام- هو ما يَصوغُهُ الكاتبُ وهو يحيا في مكانٍ بئيسٍ لا يُوفِّرُ لساكِنِهِ إلا أبسطَ المتطلَّباتِ التي تحفظُ له حياته، فكيف إذا ما كانَ هذا الساكنُ أديباً موهوباً لا يجدُ الوسيلةَ الماديةَ المناسبةَ التي تُعينُهُ على إخراجِ ما يَجيشُ في صدره؛ فلا أريكةَ يَتَّكِئُ عليها، ولا طاولةَ يضعُ عليها ورقاً أبيضَ مصقولاً، ولا مروحةَ أو مدفَأَةَ، ولا ماءَ ثلاجةٍ يبللُ عروقاً تكابدُ حرارةَ الصحراء، ولا خُضْرَةَ، ولا ذاتَ وجهٍ حَسَنٍ يسكنُ إليها فتؤنِسُهُ وتُخفِّفُ عنه.

 ولا... ولا... ولا...، وما إلى ذلكَ من لاءاتٍ متعاطفةٍ يمكنك- عزيزي القارئ- أنْ تَذْكرَها من جوانبِ حياةِ الآدميينَ الذينَ خلقهم الله I لِيتنعموا بنعمِهِ التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى.

وهَبْ- عزيزي الإنسان- توفرَ النِّعَمِ المادِّيةِ فهل يُمكِنِ لأيِّ بَشَرٍ أَنْ يَنعمَ بها في ظلِّ انحباسِ الأنفاسِ، وانغلاقِ الأبوابِ، وعُلُوِّ ارتفاعِ الأسوارِ التي يعلوها سياجٌ يعلوهُ سياجٌ متلُوٌّ بِأَسْيِجَةٍ متنوعةٍ غيرهِ. وتَسَلُّطِ جَلادٍ يَأْسِرُ امتدادَ الخيال؟!

وإذا كان للخيالِ أنْ يدفعَ بصاحبهِ المبدِعِ إلى تقييدِهِ سطوراً بليغةً فإنَّ للجلادِ الرَّقيبِ إِنْ َتَمَكَّنَ في غَفلةٍ من اللحاقِ بهِ انقضَّ عليهِ ممزِّقاً ومُعَذِّباً لِمصدرهِ!.

وإذا كانَ الحالُ على هذا النحوِ من المخالَفاتِ التي تعاندُ من يبغونَ حياةَ الحياةِ، بل حريةَ الحياةِ كما أرادها خالقها الواحدُ الأحدُ فإنَّ هناكَ رجالاً أَشِدّاءَ استطاعوا بصدقِ عقيدتهم وقوةِ إيمانهم بنصرِ اللهِ لعبادهِ المخلصين قهرَ عذابِ السَّجّان، وجَعْلِ ظلمةِ ليلِ السجنِ البهيمِ نوراً انطلقوا به لينيروا طريق الفجرِ إلى حياةِ الحياة.

ولك- عزيزي القارئ- أن تغمضَ جفونك لتبصرَ أنَّ من هؤلاءِ الأفذاذِ مَن امتشقَ قلماً ليس كقلمِ مَنْ هم يَحْيَونَ الحياةَ طلقاءَ أحرارا، وتصيَّدَ بصيصاً من ضياءٍ نهارٍ أو مصباحٍ يمتدُّ شعاعُهُ المُقّيَّدُ خَجِلاً لِيلتمسَ منهُ نوراً يحتاجُهُ ليصلَ بِهِِ إليه؛ لِيَنقُشَ بهِ إبداعاً يهزمُ القيدَ وأهلَه!.

ولكَ أيضاً- عزيزي القارئ- أنْ تنظرَ إلى هذا الإبداعِ وهو يخرج من بين خَلجاتِ صدرٍ أَنَّ منْ تكيُّفهِ وحالاتِ جلوسِ صاحبِه، واحتضانهِ لأوراقٍ عثرَ عليها بشقِّ الأنفُس: فهو متربِّعٌ، أو َمُقَرْفِصٌ، أو جالسٌ عليهما بل على ركبتيهِ- كما نقول-، أو مادٌّ رجليهِ، أو هو يضعُ الورقةَ على أرضٍ غيرِ مستويةٍ لينحنيَ عليها حانياً حُنُوَّ الأمِّ على ولدها، ونافخاً فيها من ذاتِهِ قصةَ صناعةِ الحياةِ بإرادةِ المنتصِرِ على أعداءِ الحياةِ!.

وإذا كان هذا هو حالُ إبداعِ السّجون يخرجُ من مَحْبسين: محبس السجن، ومحبس معاناة الأديب وهو يَنْسِجُ التَّجْربةَ الأدبيةَ كلماتٍ وجُمَلاً وصوراً بديعةً، فهلْ يَجوزُ لنا أنْ نعْدِلَ عن تسميتهِ بـ" أدبِ السُّجون"، ونَسِمَهُ بمصطلحِ" أدبِ الحرية": إنه أدبُ" فكِّ القيود"، و" أدبُ العشقِ" بكلِّ معانيهِ السّامِيَة، و" أدبُ المقاومة"، و" أدب الوطن"، وما إلى ذلكَ منْ تسمياتٍ نريدُ لها أنْ تُعبِّرَ عن انتصارِ" الضَّحِيَّةِ" على" الجَلاد"، بل انتصارِ" عاشقِ الحريةِ" و" قاهرِ الظَّلامِ" على" خفافيشِ الظلامِ" و" أعداءِ إرادةِ اللهِ" سبحانهُ وتعالى في تعميرِ الكونِ، وَعَيْشِ أهلِهِ أخوةً متحابينَ بسلامٍ وأمان.

 عزيزي القارئ، لعلكَ عشتَ شيئاً من قصةِ صناعةِ" أدبِ الحريةِ"، ولعلكَ سَتَعيْ دونَ إشارةٍ أو تنبيهٍ كيفَ خرجتْ" رُباعِيَّةُ العِشْقِ" التي حاكَها مَجْدَلِيٌّ عاشِقٌ في غياهبِ السجن إبداعاً فكَّ القيود، وكيفَ تَمَكَّنَ سِرّاً بعيداً عن صَلَفِ عيونِ السَّجّانِ من إِتْمامِ فصولِها، وكيف استطاعَ تأمينَها لِتصلَ إلينا بعدَ أن اقتحمت أسيجةً وأسواراً بِيدٍ حُرَّةٍ تُلْقِفُها إلى أَيْدٍ مِثلِها؟!.

أقول:

لك عزيزي القارئَ أنْ تتخيَّلَ كيف فكَّت الكلماتُ قيودَ سجنِ راويتنا رأفت حمدونة، وكيف انبرى- بكلِّ كيانهِ متحرراً من قبضة الجلاد- ينقشُ ما يجودُ بهِ لسانُهُ رُباعِيَّتَهُ التي أرادَ أنْ يُثبتَ من خلالِ أحداثِها وشخوصِها استحالةَ تكميمِ الأفواهِ الحُرَّة، وأنَّهُ لا يُمْكنُ للطّاغية-ِ أيّاً كان جبروتُهُ- أنْ يمنعَ أنفاسَ الكلمةِ بزفيرِها الحارِّ من الانطلاقِ لتحكيَ روايةً عَجِزَ الظالمُ المستبدُّ عن إفشالِها.

ولِيبرهنَ بما لا يَدَعُ مجالاً للشكّ أنَّ قيدَ السَّجّانِ وبطشَهُ- لا محالة- آفِل، وأنَّ النورَ سيبددُ الظلام، وأنَّ الظلمَ لا يَدوم؛ فإرادةُ الشعوبِ التي تنشدُ الحريةَ لابدَّ أنْ تُتَوَّجَ بتأييدِِ اللهِ I ونصرِهِ، شاءَ مَنْ شاءَ وَأَبى مَنْ أَبى.

 

وإنَّ لكَ- عزيزي القارئ- أَنْ تتغنى بـ" رُباعِيَّةِ العِشْقِ"- كما يحلو لي تسميتُها- ؛ لأنها سَتُذَكِّرُكَ- بلا رَيْبٍ- بأدبِ الأدباءِ الثوارِ الذين خاضوا تجاربَ الثورةِ والنضالِ والمُعاناةِ والحِرْمانِ والتَّعذيبِ فكتبوا الأغنيةَ الوطنيةَ نشيداً وقصيدةً وملحمةً وزجلاً وقصةً وروايةً وخاطرةً وسيرةً ذاتيةً وغيرَ ذلك.

فأنتَ إذا ما هَمَمْتَ بقراءتِها واحدةً بعد الأخرى سترى نفسكَ تعيشُ قصةَ الشَّعبِ الفلسطينيِّ في العصرِ الحديثِ وقد تكالبتْ عليهِ قوى الشرِّ والاستعباد، حيث جَسَّدَ فيها ما حلَّ بشعبِهِ من مآسٍ ونكباتٍ متتالية، لا ينهض من واحدةٍ حتى يقع فيما هو أصعبُ منه، وأجادَ التعبيرَ عن بطولاتِ أبناءِ فلسطينَ وتضحياتِهِم، وإقدامهم على كلِّ ما من شأنهِ أنْ يُسهمَ في خدمةِ قضيتِهم، وحققَ لهم تطلعاتِهم في الحريةِ والنصر.

وبالجملةِ فإنَّ الكاتبَ في رواياتِهِ الأربعةِ قد استطاعَ- بِحَقٍّ- التَّعبيرَ عن همومِ شعبِهِ المتنوعةِ، ومحطاتِ نضالهِ المتسلسلةِ من خلالِ عنايةٍ واضحةٍ بتسلسلِ الأجيال.

فـ" عاشق من جنين" تحكي معركةَ هذهِ البلدةِ الأبيةِ في" انتفاضةِ الأقصى"، وكيفَ استعصى أهلُها أحفادُ القسّامِ في وجهِ قواتِ الاحتلال.

 و" الشَّتات" تُشكِّلُ عنواناً للتَّشردِ الفلسطيني، حيثُ تدورُ أحداثُها في فلسطينَ والأردن-: هذا البلد العربيّ الشَّقيق الذي تقاسمَ وكثيراً من العائلاتِ الفلسطينيةِ لقمةَ عيشِهِ- وذلك من خلالِ عائلةٍ فلسطينيةٍ-  اتّخذَ منها كاتبنا عنواناً لمأساةِ الترحالِ القهريِّ للفلسطينيين؛ فهذه العائلةُ يهاجرُ والدها من مدينةِ المجدلِ إلى القدسِ-: هذه البلدةُ المقدسةُ التي عانى أَهلُها الأمَرَّينِ فتعرَّضوا للتنكيلِ والقهرِ لِيضطروا للرَّحيلِ عنْها-، وينجبُ ولداً يسمّيهِ" نَصْراً".

وعندما يكبُرُ يهاجرُ هذا الفارسُ إلى الأردن، ولكنه - رغبةً في النضالِ- يعود إلى القدسِ التي يتزوج فيها بأخرى- بعد أنْ انقطع خبرُ الوصْلِ بينه وبين زوجتهِ التي رفضتْ العودةَ معه- يُنجبُ" نصرٌ" في القدسِ منها ابنه" رفيقاً"- الذي سيغدو مناضلاً كوالِدِهِ فيشاركُ في المقاومة، ويصابُ في إحدى المعارك لينتقلَ إلى المستشفى الذي يلتقي فيهِ أختَهُ الطبيبةَ" انتصار" التي تَتَعرَّ فُ عليهِ من خلالِ ملَفِّهِ الطِّبّي.

و" قَلْبي والمُخَيَّم" تحكي وقائعَ معركةٍ من المعاركِ التي دارت رحاها في معسكرِ الثورةِ والصُّمودِ: معسكر جباليا، وهو المُخَيَّمُ الذي شهدَ جانباً من نضالِ الكاتبِ وطفولتهِ؛ لذا فليسَ غريباً أنْ يحتويَ العنوانُ على كلمة" قلب" مُضافةً إلى ياءِ المتكلِّم، كنايةً- فيما أَرى- عن تَعلُّقِهِ بالمخيمِ رمزِ النضالِ الفلسطينيِّ، وتعبيراً عن توحدهِ في شعبهِ.

و" لنْ يموتَ الحُلُمُ" تحكي كفاحَ أهلِ حدودِ الوطن في رفح: بوابةِ فلسطينَ الجنوبيةِ، وهي تعبيرٌ واضحٌ عن تمسُّكِ الشعبِ الفلسطينيِّ بأرضِهِ وثَوابِتِهِ الوطنية.

وهكذا نَجدُ كاتبَنا وهو في زنزانتهِ مُرْتَبطٌ رغم معاناتهِ الذاتيةِ بأهلِ وَطَنهِ، يَتَتَبَّعُ أخبارهم وينفعلُ بها ليرسُمَ من خلالِ وجدانِ الثائرِ الأديبِ لوحاتٍ فنيةً تُعبِّرُ عَنْ مَواقفِهم البُطولِيَّةِ التي يُسَرُّ بها.

إِنَّ كاتِبَنا يَعْرِفُ- بِلا شَكٍّ- ما للكلمةِ البليغةِ الهادفةِ من أثرٍ قويٍّ في الحِفاظِ على الذّاكِرَةِ، وكذلكَ يَعيْ بِحِسِّ الثائرِ الواعي وخِبْرةِ تجاربهِ النِّضاليةِ ما تُولِّدُهُ رسالةُ الكلمةِ الحكيمةِ منْ طاقاتٍ دافِعَةٍٍ لا يُمْكِنُ نُكْرانُ تأثيرِها الإيجابيِّ في إِلهابِ مَشاعرِ الجماهيرِ المُتَعطِّشَةِ إلى الحُرِّيَّةِ والاستقلال ودَفْعهِا بِعَزيمةٍ صَلْبةٍ نَحْوَ الهَدَفِ المَنْشودِ.

وهو الأمرُ الذي نَلْمَسُهُ جَلِيّاً في وسائلِ الإعلامِ المتنوعةِ حيثُ تتخذُ من الكلمةِ سلاحاً فَتّاكاً تَستعينُ بهِ لخدمةِ مَنْ تنتصِرُ لهم؛ فتهجمُ على الأعداءِ رادَّةً عليهم بِما يُفشِلُ حُروبَهُمُ الدّعائيةِ المُغْرِضةِ، وتنفخُ في أهلِها ما يُعزِّزُ صمودَهم وتَصَدِّيَهُمْ لأعدائِهِم.

وهو الأمرُ الذي تؤيدُهُ بِوُضوحٍ مَقولَةُ صلاحِ الدينِ الأيوبيِّ حينَ تَوَجَّهَ إلى جندِهِ- بعد تحقيقِهِم للانتصاراتِ التي ستبقى الأمةُ العربيةُ والإسلاميَّةُ تَتغنّى بِها حتى يَرِثَ اللهُ I الأرضَ ومَنْ عَليها- مُعزِّزاً مكانةَ الكلمةِ، لِيُخْبِرَهُمْ أنهُ ما انتصرَ بسيوفِهِمْ بل بقلمِ كاتبِهِ القاضي الفاضل عبد الرحيم العسقلانيِّ. 

وعلى هذا فليسَ غريباً أنْ يَهُبَّ الأديبُ السَّجينُ ليشاركَ قَومَهُ من خلالِ قلمِهِ الثائرِ لوناً فعّالاً من ألوانِ النضالِ الوطنيِّ الهادف، حيثُ نراهُ في رواياتهِ الأربعةِ يَذْكُرُ الأحداثَ والوقائعَ ليتخذَ منها إشاراتٍ تاريخيةً ينتقلُ فيها من حَدَثٍ إلى آخَرَ، ومن ثورةٍ إلى أخرى، ومن جيلٍ إلى جيل، كلُّ ذلك بأسلوبِ الرِّوائيِّ المُفْتَنِّ الذي يَشُدُّ قارئَهُ بتسلسلِ حكايتهِ وترابطِ سَرْدِها في لغةٍ سَلِسَةٍ مأنوسةٍ.

وإذا كان لنا أن نقفَ عند بعضِ أمورٍ في هذهِ الرُّباعِيَّةِ فإني أشيرُ إلى ما يلي:

* يَلْمَسُ النّاقدُ براعةَ الكاتبِ في اختيارِ أسماءِ شخوصِ رواياتِهِ؛ إذْ يتوجَّبُ على الأديبِ أنْ يراعيَ في اختيارهِ لأسماءِ عملِهِ الفنِّيِّ مراعاتَها لمضامينِ الأدوارِ الذي تقومُ بأدائِهِ، فلا يُسمّي إنساناً بـ" صابر" مثلاً، وهو يؤدي دوراً يظهرُ فيهِ متسرِّعاً لا يصبرُ على شيء.

        ومن مظاهر توفيقِ كاتبنا في اختيارِ أسمائهِ تسميتُهُ للشَّهيد بـ" محمود" دلالةً على حَمْدِهِ لِنِعَمِ اللهِ عليه في الجنة، و" إبراهيم" دلالةً على الحِلْمِ  وصوابِ رأيِ الشهيدِ في الطريقِ الذي اختارَهُ لِنَفْسِهِ، و" خالد" دلالةً على خلودِ ذكرِ الشهيدِ في الحياةِ الدّنيا، وعيشهِ الحياةَ حياةً دائمةً في جناتِ الخُلد، و" نَصْر" دلالةً على الهدَفِ الذي يصبو إليهِ الشهيد، وهو الظَّفَرُ بإحدى الحسنيينِ: النصرِ أو الشهادة. وكذلك تأمّل تسميتَهُ لرفيقِ دربِ النضال بـ" رفيق" الذي رضعَ من والده الشهيدِ دم الثورةِ والنضال.

 

 

ولِتعزيزِ رغبةِ أبناء الشعبِ الفلسطينيِّ تلْحظُ تسميةَ" لطيفةَ"- التي رفضت العودةَ مع زوجها" نصر"،- بل تسميةَ كاتبنا لمولودتِها بـ" انتصار"؛ تخليداً لذكرى الزوج، وإنْ شئتَ فقل: انتصاراً لفورانِ دمِ والدِها الثائرِ فيها، وتَهيئةً للدَّوْرِ الذي ستؤديهِ هذهِ الفتاةُ المناضلةُ عندما نراها تَحْزِمُ أمتعتها لتعودَ إلى القدسِ لاحقةً بِرَكْبِ قُدْوَتِها، وسائرةً على دَربِهِ في النِّضالِ الطِّبِّيِّ.

وكذلكَ لم يكن اختيارُهُ لاسمِ الزوجة" لطيفة" بعيداً عن هذا الافتنانِ في اختيارِ أسماء شخوصِ رواياتِهِ؛ فهي- وإنْ أَبَتِ الرجوعَ معَ زوجِها نصر- كانت ذاتً لُطْفٍ في حنانها إليهِ؛ حيثُ اشتقت من اسمهِ اسم ابنته، ولعلَّ في اختيارِ كاتبنا لهذا الاسمِ ما يدلل على مراجعةِ" لطيفة" لنفسِها، وأنها رأت في عودةِ زوجِها الذي رفضت مشاركتَهُ الرجوعَ انتصاراً لرغبتهِ الجامحةِ بل رغبةِ أبناءِ الشعبِ الفلسطينيِّ جميعِهم في تحقيقِ النصر.

وكذلك كانَ الرجلُ مُوفَّقاً في اختيارِ اسمِ" تهاني" الزوجةِ الأخرى؛ دلالةً واضحةً على قبولِها للزواجِ مِنْهُ بِنَفْسٍ هانئةٍ مطمئنةٍ بل هَنائِها بِصُحْبَتِهِ في يومِ الشهادةٍ، وانتقالِها لِتَحْيا مَعَهُ الحياةَ الأبديَّةَ واحدةً من الحورِ العينِ إلى الجنة.

وهو الحالُ ذاتُهُ في انتقاءِ اسمِ " محبوبة" اسماً لِزوجةِ صديقِهِ ورفيقِهِِ في يومِ الشَّهادةِ" إبراهيم"، هذه الحاجَّةُ التي كانت تُساعِدُهما في كثيرٍ من متطلباتِ النضال، وكانت محبوبةً من أهلِ قريتِها، وكانت مُحِبَّةً لِمُهمَّتِها في تربيةِ" رفيق".

كما نلمسُ دقتَهُ في اختيارِ المصطلحِ الدالِّ على المضامينِ التي يُؤْمِن بها، ومن ذلك تسميتُهُ لـ" وزيرِ الدفاعِ الإسرائيلي" بـ" وزير الحرب"، ولـ" إسرائيل" بـ" دولة الاحتلال"، ولِما يُسَمّيهِ أعداءُ الكفاحِ من أجلِ الحرية " الإرهاب" بـ" المقاومة".

وكذلك نَلْحَظُ استعمالَهُ لِلُغَةِ المسجونين، حيث يُسَمّونَ الجواسيس بـ" العصافير"، و" البُرش" وهو الفراش الذي يفترشه المساجين، و" غُرَف العار" التي يتصيد بها العملاءُ المساجينَ لإجبارهم على الاعترافِ أمامَ المُحقِّقينَ من أجهزةِ المخابرات الإسرائيلية.        

وفي هذا المجالِ أيضاً نرى تنبهَهُ إلى ما أسميهِ مصطلحاً لُغَوِيّاً بـ" تزويرِ الدلالة" التي يلجأ إليها المستعمرون لخدمةِ أغراضهم في التحكم بالآخَرين، فيلفتُ إلى قلبهم للدلالة في كلمة" الإرهابي" ودلالتهم بها على رجالِ المقاومة مُنَبِّهاً على أنها دلالةٌ خاطئةٌ يستعملها المستعمرون وأذنابُهم.

   * يلحَظُ القارئُ حديثَ راويتِنا عن بعض القيم والعادات الفلسطينية، ومن ذلك تَحدُّثُهُ عن إصرارِ الفلسطينيينَ على مواصلةِ التعليمِ وتَشَبُّثِهِمِ بهِ أيّاً كانت الصِّعابُ أو المعوقاتُ التي تواجههم، وإشارتُهُ إلى عنايتِهِم صِغاراً وكباراً بمتابعةِ النِّشراتِ الإخباريةِ وانشغالِهِم بتحليلها  واستنباطِ دلالاتِها.

   * يدركُ القارئُ جيداً إشارةَ أديبِنا إلى صورِ التكافلِ الاجتماعيِّ والمُروءةِ الفلسطينيةِ كوقوفِ أهلِ فلسطينَ صفّاً واحداً في زفافِ الشَّهيدِ إلى بارئهِ، وعزائِهِم لأهلهِ، ومساندتِهِمْ لهم، وللجرحى وأهاليهم، وفقراءِ الشعبِ.

   * يلمسُ المتتبعُ لرُباعيَّةِ رأفت حمدونة أنهُ وهو الأسيرُ المُخضرَمُ- الذي قضى في سجنِهِ أكثرَ من عقدٍ من ربيعِ شبابِهِ- لم ينسَ التَّحدُّثَ عن قضيةِ الأسرى، والإشارةَ إلى أثرِ السجنِ في تخريجِ الرجالِ الأشاوِس، وصقلِ شخصيتِهِم النضالية والسياسيةِ والفكريةِ.

        وصدَدَ حديثنا عن الأسرى نراهُ- ومن واقع حرصِهِ على أقرانهِ المناضلين- يُحذِّرُ من العملاء والخونة-: هؤلاءِ الذين باعوا ضمائرَهم بثمنٍ بَخْسٍ في أسواقِ النَّخاسة-، ويكشفُ عن أدوارهم الخطيرة في الإيقاعِ بالثوارِ في مخالبِ الأعداء، ووسائلهم الدّنيئةِ في  إسقاطِ البسطاءِ في أوكار الخِزْيِ والخيانةِِ.  

   * لم يَفُتْ كاتبنا التغني بوَحدةِ شعبِهِ الفلسطينيِّ وخاصةً في الشَّدائدِ والمُلِمّات، فنجده يترفَّعُ عن الفئويةِ الحزبيةِ، لا فرقَ عنده بين حزبٍ وآخَر، أو فصيلٍ وآخَر، ونراهُ يُبْرِزُ جوانِبَ مُشْرِقَةً من مظاهرِ التَّوَحُّدِ بين أبناءِ الفصائلِ الوطنيِّةِ والإسلاميَّةِ في السجنِ والعملِ الوطنيِّ بصفةٍ عامة. 

* وبالجملةِ فإنَّ القارئَ لأديبِنا الراويةِ رأفت حمدونة يلمسُ أثرَ قُرْبِهِ من مجتمعِهِ الفلسطيني؛ الأمر الذي يتضحُ بجلاءٍ في استلهامِهِ للمثلِ الشعبيِّ الفلسطينيِّ تأييداً لمضمونه، مثل:" يسلم فمك يا شيخ"، و" لا يحك جلدك إلا ظفرك"، و" عندما يلاقي الأعور عينه"، و" معك قرش تسوى قرش".

 وكذلك في استلهامهِ لفكاهة الشعب الفلسطيني في بعض المواقفِ الاجتماعيةِ، مثل:" عيشوا من خير الله وخير جمعة".

 وكذلك يستمتعُ بترابطِ أسلوبهِ، ومناسبةِ لغتهِ  لمضامينِ رواياته، إذ يتضحُ في ألفاظِهِ وتراكيبِهِ ومضامينِهِ أثرُ حياةِ نضالهِ وسجنهِ، على النحو الذي سبقت الإشارةُ إلى جوانبَ منهُ في السطورِ السابقة.

وبعد،

فإنني أرى أن من المهمِّ نشرَ هذهِ الرباعيَّةِ لِتَطَّلعَ عليها الأجيالُ الفلسطينيةُ والعربيةُ؛ فهي تُسجِّلُ بقلمِ روائيٍّ بارعٍ جوانبَ مهمةً من تاريخِ النِّضالِ الفلسطيني، أرى من المهمِّ للذاكرةِ الفلسطينيةِ والعربيةِ الاحتفاظَ بها وتوارثَها جيلاً بعد جيل.

وفَّقَ اللهُ راويتنا رأفت إلى المزيدِ من الإبداعِ الروائيِّ الهادف، والارتقاء بفنِّ الروايةِ الفلسطيني، فكتاباته في هذا المجال تنبئُ عن شخصيةٍ مبدعةٍ يمكنُ أن توجدَ لها مكاناً لا بأسَ بهِ بين كبارِ الأدباءِ.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

للاطلاع على الرواية الأولى من الرباعية

عاشق من جنين

أنقر هنا

 http://www.alasra.ps/index.php?maa=ViewBook&bookid=101

للاطلاع على الرواية الثانية من الرباعية

الشتات

http://www.alasra.ps/index.php?maa=ViewBook&bookid=102

أنقر هنا

للاطلاع على الرواية الثالثة من الرباعية

قلبي والمخيم

http://www.alasra.ps/index.php?maa=ViewBook&bookid=103

أنقر هنا

للاطلاع على الرواية الرابعة من الرباعية

لن يموت الحلم

http://www.alasra.ps/index.php?maa=ViewBook&bookid=104

أنقر هنا

--------------------

هذا الكتاب يعبر عن رأي كاتبه

 

 

السابقأعلى الصفحة

 

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ